فصل: فصل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **


 علم التجويد

هو‏:‏ علم باحث عن تحسين تلاوة القرآن العظيم من جهة مخارج الحروف، وصفاتها، وترتيل النظم المبين، بإعطاء حقها من الوصل، والوقف، والمد، والقصر، والروم، والإدغام، والإظهار، والإخفاء، والإمالة، والتحقيق، والتفخيم، والتشديد، والتخفيف، والقلب، والتسهيل، إلى غير ذلك‏.‏وموضوعه، وغايته، ونفعه ظاهر‏.‏

وهذا العلم نتيجة فنون القراءة، وثمرتها، وهو كالموسيقى من جهة أن العلم لا يكفي فيه، بل هو‏:‏ عبارة عن ملكة حاصلة عن تمرن امرؤ بمكة، وتدربه بالتلقف عن أفواه معلميه، ولذلك لم يذكره أبو الخير، واكتفى عنه بذكر القراءة، وفروعه، والتجويد أعم من القراءة‏.‏

وأول من صنف في التجويد موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقاني، البغدادي، المقري، المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ذكره ابن الجزري، ومن المصنفات فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏الدر اليتيم‏)‏‏)‏ و ‏(‏‏(‏شرحه‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏الرعاية‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏غاية المراد المقدمة الجزرية‏)‏‏)‏، وشروحها واضحة‏.‏

 علم تحسين الحروف

سيأتي تحقيقه في علم الخط، هكذا في‏:‏ ‏(‏‏(‏الكشف‏)‏‏)‏، قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ هو علم يعرف منه تحسين تلك النقوش، وما يتعلق به من كيفية استعمال أدوات الكتابة، وتمييز حسنها عن رديها، وأسباب الحسن في الحروف آلة، واستعمالاً، وترتيباً، ومبنى هذا الفن ‏(‏2/ 145‏)‏ الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة، وتختلف صورها بحسب الإلف، والعادة، والمزاج بل بحسب كل شخص، ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه‏.‏ انتهى‏.‏

 علم تدبير المنزل

هو‏:‏ قسم من ثلاثة أقسام الحكمة العملية‏.‏

وعرفوه‏:‏ بأنه علم يعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان، وزوجته، وأولاده، وخدامه، وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال، ووجه الصواب فيها‏.‏

وموضعه‏:‏ أحوال الأشخاص المذكورة، من حيث الانتظام، ونفعه عظيم، لا يخفى على أحد حتى العوام‏:‏ لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبينهم، ويتفرع على اعتدالها، كسب السعادة الآجلة، والعاجلة‏.‏

والأخصر‏:‏ أن يقال‏:‏ هو علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل‏.‏

وفائدته‏:‏ أن يعرف كيفية المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل المنزل‏.‏

واعلم‏:‏ أنه ليس المراد بالمنزل في هذا المقام البيت المتخذ من الأحجار، والأشجار، بل المراد التآلف المخصوص الذي يكون بين الزوج، والزوجة، والوالد، والولد، والخادم، والمخدوم، والمتمول، والمال، سواء كانوا من أهل المدر، أو أهل الوبر‏.‏

وأما سبب الاحتياج إليه‏:‏ فكون الإنسان مدنياً بالطبع، وكتب علم الأخلاق متكفلة ببيان مسائل هذا الفن، وقواعده، وأشهر كتب هذا العلم كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏بردوش‏)‏‏)‏، وفي هذا العلم كتب كثيرة غير هذا‏.‏ ‏(‏2/ 146‏)‏

 علم ترتيب حروف التهجي

سيأتي بيانه في الخط قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ هو علم يبحث فيه عن كيفية ترتيب حروف التهجي في الكتابة، هذا التريب المعهود فيما بيننا، واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط، وإزالة التباسها بالنقط، واختلاف تلك النقط بكونها تحتانية في البعض، وفوقانية في الآخر، ومثناة، أو مثلثة، كذلك إلى غير ذلك، مما يتعلق بهذا الشأن‏.‏

وموضوع هذا العلم، ومباديه، وغرضه، وغايته، ومنفعته ظاهرة، ولابن الجني، والجزري رسالة في هذا الباب، وكذا أورد القلقشندي ما فيه كفاية في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏صبح الأعشى‏)‏‏)‏‏.‏

 علم ترتيب العساكر

هو‏:‏ علم باحث عن قود الجيوش، وترتيبهم، ونصب الرؤساء لضبط أحوالهم، وتهيئة أرزاقهم، وتمييز الشجاع عن الجبان، واستمالة قلوبهم بالإحسان إليهم فوق الإحسان إلى الضعفاء من الأقران، وتهيئة آلات القتال، وألبسة الحروب، والسلاح‏.‏

ومن آداب قود العساكر أن يأمر كلاً منهم بالزهد، والصلاح ليفوز بالخير، والفلاح، يأمرهم أن لا يظلموا أحداً، ولا ينقضوا عهداً، ولا يهملوا ركناً من أركان الشريعة، فإن إهمالها إلى استئصال الدولة ذريعة، أي ذريعة، هذا تلخيص ما ذكره أبو الخير، وجعله من فروع الحكمة العملية، لكنه على الوجه الذي ذكره مندرج في علم سياسة الملوك، بل الأمور المذكورة من مسائل ذلك العلم‏.‏

فأقول‏:‏ ينبغي أن يكون موضوع هذا العلم ما ذكره الحكماء في كتب الثعلبي الحربية، فهو علم يبحث فيه عن ترتيب الصفوف يوم الزحف، وخواص أشكال التعابي، وأحوال ترتيب الرجال، والغرض منه، والغاية، لا يخفى على كل أحد‏.‏ ‏(‏2/ 147‏)‏

وقالوا‏:‏ إن الرجال كالأشباح، والتعابي، كالأرواح، فإذا حلت الأرواح الأشباح، حصلت الحياة‏.‏

وقد أجرى الله سنته أن كل عسكر مرتب التعابي منصور‏.‏

وقد صنف فيه بعض الكبار رسائل ظفرت ببعضها، - ولله الحمد -، وسيأتي في علم التعابي، وأنه‏:‏ هو ترتيب العساكر كما عرفه به ذلك الفاضل، وفي‏:‏ ‏(‏‏(‏كتاب الأحكام السلطانية‏)‏‏)‏ للماوردي ما يكفي في هذا الباب‏.‏

 علم الترسل

من فروع علم الإنشاء، لأن هذا بطريق جزئي، وذلك بطريق كلي‏.‏

وهو‏:‏ علم تذكر فيه أحوال الكاتب، والمكتوب، والمكتوب إليه من حيث الآدب، والاصطلاحات الخاصة الملائمة لكل طائفة طائعة، ومن حيث العبارات التي يجب الاحتراز عنها، مثل‏:‏ الاحتراز عن الدعاء للمخدرات، بقولهم‏:‏ أدام الله - سبحانه وتعالى - حراستها المكان لفظ الحر، والأست، وعن ذكر لفظ القيام، كقولهم‏:‏ إلى قيام الساعة، وأمثال ذلك‏.‏

وموضوعه، وغايته، وغرضه، ظاهرة للمتأمل‏.‏

ومباديه‏:‏ أكثرها بديهية، وبعضها أمور استحسانية، كذا في ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ومن الكتب المصنفة فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏مصطلح الكتاب‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏بلغة الدواوين‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏الحساب‏)‏‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏

وله استمداد من الحكمة العملية، وفيه كتب كثيرة مذكورة في علم الإنشاء، فلا حاجة إلى التعرض لها‏.‏

 علم تركيب الأشكال

يعني أشكال بسائط الحروف، وسيأتي بيانه في علم الخط‏.‏ ‏(‏2/ 148‏)‏

وهو‏:‏ علم يبحث فيه عن التراكيب بين أشكال بسائط الحروف مطلقا، لا من حيث دلالتها على الألفاظ، بل من حيث حسنها في السطور، فكما أن للحروف حسناً حال بساطتها، فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها، من تناسب الشكل، والنقط، وتناسب خلال الكلمات، والسطور‏.‏

وموضوع هذا العلم، وأغراضه، وغاياته ظاهرة‏.‏

ومباديه أمور استحسانية، يرجع كلها، أو جلها إلى غاية النسبة الطبيعية في الأشكال‏.‏

وله استمداد من الهندسة، وفي هذا الفن رسالة لابن جني، ووضع القلقشندي في هذا العلم باباً مستقلاً في كتابه‏:‏ ‏(‏‏(‏صبح الأعشى‏)‏‏)‏‏.‏

 علم تركيب المداد

هو‏:‏ علم يبحث فيه عن تركيب أنواع المداد، من السواد، والحمرة، والصفرة، وسائر الألوان، مثل‏:‏ الذهب، واللازورد، والياقوت، والزمرد، والسواد البراق، ويسمونه‏:‏ المداد الطاؤسي، إلى غير ذلك من الألوان العجيبة اللطيفة، كذا في ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏، وذكره أبو الخير في الشعبة الخامسة من فروع العلم الطبيعي، ولا يخفى أنه من قبيل تكثير السواد، وتضييع القرطاس، والمداد، لأنه أمر صناعي جزئي، لا يعد مثله علماً، وإلا لبلغ العلوم إلى ألوف‏.‏

 علم تسطيح الكرة

هو‏:‏ علم يتعرف منه كيفية إيجاد الآلات الشعاعية، كذا في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏‏)‏‏.‏

وقال في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشف الظنون‏)‏‏)‏‏:‏ كيفية نقل الكرة إلى السطح، مع حفظ الخطوط ‏(‏2/ 149‏)‏، والدوائر المرسومة على الكرة، وكيفية نقل تلك الدوائر عن الدائرة إلى الخط، وتصور هذا العلم عسير جداً يقرب من خرق العادة، لكن عملها باليد كثيراً ما يتولاه الناس، ولا عسر فيه مثل عسر التصور‏.‏ انتهى ما ذكره أبو الخير‏.‏

وقد جعله من فروع علم الهيئة، وهو‏:‏ من فروع علم الهندسة، ودعوى عسر التصور ليست على اطلاقها، بل هو بالنسبة إلى من لم يمارس في علم الهندسة‏.‏ انتهى‏.‏

ومنفعته‏:‏ الإرتياض بعلم هذه الآلات، وعملها، وكيفية، انتزاعها من أمور ذهنية، مطابقة للأوضاع الخارجية، والتوصل بها إلى استخراج المطالب الفلكية‏.‏

ومن الكتب المصنفة فيه‏:‏ كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏تسطيح الكرة‏)‏‏)‏ لبطليموس، و‏:‏ ‏(‏‏(‏الكامل‏)‏‏)‏ للفرغاني و‏:‏ ‏(‏‏(‏الاستيعاب‏)‏‏)‏ للبيروتي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏الدستور، والرجيح في قواعد التسطيح‏)‏‏)‏ لتقي الدين، و‏:‏ ‏(‏‏(‏آلات التقويم‏)‏‏)‏ للمراكشي - رحمهما الله تعالى‏.‏

 علم تشبيه القرآن واستعاراته

ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير، وقال‏:‏ التشبيه نوع من أشرف أنواع البلاغة‏.‏ انتهى‏.‏

فهو إذا من مباحث علم البيان كما لا يخفى‏.‏

 علم التشريح

هو‏:‏ علم باحث عن كيفية إجراء البدن، وترتيبها من العروق، والأعصاب، والغضاريف، والعظام، واللحم، وغير ذلك من أحوال كل عضو منه‏.‏

وموضوعه‏:‏ أعضاء بدن الإنسان، والغرض، والمنفعة‏.‏

والفائدة ظاهرة، وكتب التشريح أكثر من أن تحصى، ولا أنفع من تصنيف ابن سينا، والإمام الرازي، ورسالة لابن الهمام، ومختصر نافع، في هذا الباب‏.‏ انتهى ما ذكره في ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏.‏ ومثله ذكر أبو الخير، وجعله من فروع علم الطبيعي، والرسالة ‏(‏2/ 150‏)‏ المذكورة ليست لابن الهمام، وإنما هي لابن جماعة، وقد قرأها ابن الهمام عليه‏.‏

وقال ابن صدر الدين‏:‏ هو علم بتفاصيل أعضاء الحيوان، وكيفية نضدها، وما أودع فيها من عجائب الفطرة، وآثار القدرة، ولهذا قيل‏:‏ من لم يعرف الهيئة، والتشريح فهو عنين في معرفة الله تعالى‏.‏ انتهى‏.‏

وأكثر كتب الطب متكفلة ببيان هذا العلم، سوى ما فيه من التصانيف المستقلة المصورة‏.‏

 علم التصحيف

وهذا من أنواع علم البديع حقيقة، لكن بعض الأدباء توغل فيه، وأفرده بالتصنيف، وجعله من فروعه‏.‏

وموضوعه‏:‏ الكلمات المصحفة التي وردت عن البلغاء، وبهذا الإعتبار يكون من فروع المحاضرات‏.‏

وفائدته، وغرضه، ومنفعته، ظاهرة غير خافية على أهل البصائر‏.‏

قال عبد الرحمن البسطامي‏:‏ أول من تكلم في التصحيف الإمام علي - كرم الله وجهه -، ومن كلامه في ذلك‏:‏ خراب البصرة بالريح بالراء، والحاء، المهملتين بينهما آخر الحروف، قال الحافظ الذهبي‏:‏ ما علم تصحيف هذه الكلمة إلا بعد المائتين من الهجرة، يعني خراب البصرة بالزنج، بالزاي، والنون، والجيم‏.‏

وللإمام في هذا العلم، صنائع بديعة‏.‏

ومن أمثلة التصحيف، قولهم‏:‏ متى يعود، إشارة إلى رجل اسمه مسعود، وقس عليه نظائره‏.‏

قال الأرنيقي‏:‏ ومن بدائع التصحيف، ما نقشه نجم السائس على خاتم لابن أستاذه، واسمه يحيى، وكان يهواه، وهو هذا نجم، غسق، بختي، يريد نجم عشق يحيى‏.‏

ومن بديع كلام علي - كرم الله وجهه - كل عنب الكرم يعطيه، يعني كل عيب ‏(‏2/ 151‏)‏ الكرم يغطيه‏.‏

ومن أمثلة التصحيف، قولهم في المستنصرية‏:‏ جنة، والمستنصرية‏:‏ اسم موضع، وأراد به المس، تضربه حية‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وفي كتب أصول الحديث أبحاث مستقلة، لذلك مع أمثلة للتصحيف‏.‏

ومن الكتب المصنفة فيه‏:‏ كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏التصحيف‏)‏‏)‏ للإمام أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري الأديب، المتوفى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، الذي جمع فيه فأوعب‏.‏

 علم التصرف بالاسم الأعظم

ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير، قال‏:‏ وهذا العلم قلما وصل إليه أحد من الناس، خلا الأنبياء، والأولياء، ولهذا لم يصنفوا في شأنه تصنيفاً يعين هذا الاسم، لأن كشفه على آحاد الناس لا يحل أصلا، إذ فيه فساد العالم، وارتفاع نظام بني آدم‏.‏ انتهى‏.‏

ومن التصانيف المفردة فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏جواب من استفهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ وتفصيل هذا العلم في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الدر للنظيم في خواص القرآن العظيم‏)‏‏)‏ للإمام اليافعي، وغير ذلك من كتب المشائخ‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ولكن لا يعتمد عليها لما اختص به الأنبياء - عليهم السلام‏.‏

 علم التصريف

هو علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية لمفردات كلام العرب، من حيث صورها، وهيئاتها، كالإعلال، والإدغام، أي المفردات الموضوعة بالوضع النوعي، ومدلولاتها، والهيئات الأصلية العامة للمفردات، والهيئات التغيرية، كبيان المعتلات قبل الإعلال، وبعد الإعلال، وكيفية تغيرها عن هيئاتها الأصلية على الوجه ‏(‏2/ 152‏)‏ الكلي بالمقاييس الكلية، كصيغ الماضي، والمضارع، ومعانيهما، ومدلولاتهما‏.‏

وموضوعه‏:‏ الصيغ المخصوصة من الحيثية المذكورة‏.‏

وغرضه‏:‏ تحصيل ملكة يعرف بها ما ذكر من الأحوال‏.‏

وغايته‏:‏ الاحتراز عن الخطأ من تلك الجهات‏.‏

ومباديه‏:‏ مقدمات مستنبطة من تتبع استعمال العرب‏.‏

وأول من دون علم التصريف‏:‏ أبو عثمان المازني، وكان قبيل ذلك مندرجاً في النحو ذكره أبو الخير‏.‏

وكتب التصريف كثيرة، معظمها ما ذكره كاتب الجلبي، في هذا المحل، ولا نطول بذكرها، وسيأتي ذكر هذا العلم في باب الصاد‏.‏

علم التصرف بالحروف والأسماء

قال أبو الخير، وهذا علم شريف، يتوصل بالمداومة عليه على شرائط معينة، ورياضة خاصة، إلى ما يناسب تلك الحروف، أو الأسماء من الخواص، قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ هذا علم لا يتوصل إليه إلا برياضة، ومجاهدة، مراعياً لقواعد الشريعة حتى ينفتح له باب الملكوت، فيتصرف في روحانيات تلك الحروف، ويتوصل بها إلى مقاصدهم الدنيوية، والأخروية‏.‏ انتهى‏.‏

وموضوعه، وغايته، ظاهرة، وقيل‏:‏ تحت هذا العلم مائة وثمانية وأربعون علماً، وكتب الشيخ أحمد البوني، والبسطامي، مشهورة في هذا العلم‏.‏ انتهى‏.‏

وقد جعله أبو الخير من فروع علم التفسير، وسيأتي تفصيله في علم الحروف مع كتبها‏.‏

 علم التصوف

هو‏:‏ علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال، من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم، بقدر الطاقة البشرية‏.‏ ‏(‏2/ 153‏)‏

وأما التعبير عن هذه الدرجات، والمقامات كما هو حقه، فغير ممكن، لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات‏.‏

وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلاً عن قوى بدنه، فليس بممكن أن توضع لها الألفاظ، فضلاً عن أن يعبر عنها بالألفاظ‏.‏

فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام، والموهومات، لا تدرك بالخياليات، والتخيلات، لا تدرك بالحواس، كذلك ما من شأنه أن يعاين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين‏.‏

فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان، دون أن يطلبه بالبيان، فإنه طور وراء طور العقل‏.‏

علم التصوف علم ليس يعرفه ** إلا أخو فطنة بالحق معروف

وليس يعرفه من ليس يشهده ** وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف

هذا ما ذكره ابن صدر الدين‏.‏

وأما أبو الخير، فإنه جعل الطرف الثاني من كتابه في العلوم المتعلقة بالتصفية، التي هي ثمرة العمل بالعلم‏.‏

ولهذا العلم أيضاً ثمرة تسمى‏:‏ علوم المكاشفة، لا يكشف عنها العبارة، غير الإشارة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى، فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة‏)‏‏)‏‏.‏

فرتب هذا الطرف في مقدمة، ودوحة لها شعب، وثمرة، وقال‏:‏ الدوحة في علوم الباطن، لها أربع شعب‏:‏ العبادات، والعادات، والمهلكات، والمنجيات، فلخص فيه ‏(‏2/ 154‏)‏ كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإحياء‏)‏‏)‏ للغزالي، ولم يذكر الثمرة، فكأنه لم يذكر التصوف المعروف بين أهله‏.‏

قال القشيري‏:‏ اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة‏.‏

ولما أدركهم أهل العصر الثاني، سمي من صحب الصحابة‏:‏ بالتابعين‏.‏ ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب‏.‏

فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين‏:‏ الزهاد، والعباد‏.‏

ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله - سبحانه وتعالى -، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف‏.‏ واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة‏.‏ انتهى‏.‏

وأول من سمي بالصوفي‏:‏ أبو هاشم الصوفي، المتوفى سنة خمس ومائة‏.‏

واعلم‏:‏ أن الإشراقيين من الحكماء الإلهيين، كالصوفيين في المشرب، والاصطلاح، خصوصاً المتأخرين منهم، إلا ما يخالف مذهبهم مذهب أهل الإسلام، ولا يبعد أن يؤخذ هذا الاصطلاح من اصطلاحهم، كما لا يخفى على من تتبع كتب حكمة الإشراق، وفي هذا الفن كتب غير محصورة، ذكرها في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشف الظنون‏)‏‏)‏، على ترتيبه إجمالا، ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان‏)‏‏)‏، رد فيه على المتصوفة رداً لطيفاً، وهو سفر نافع جداً‏.‏

 فصل

قال عبد الرحمن بن خلدون‏:‏ هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة‏.‏

وأصله‏:‏ أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة، وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم طريقة الحق، والهداية‏.‏ ‏(‏2/ 155‏)‏

وأصلها‏:‏ العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا، وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة، ومال، وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة، والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني، وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة، باسم‏:‏ الصوفية، والمتصوفة‏.‏

وقال القشيري - رحمه الله -‏:‏ ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية، ولا قياس، والظاهر إنه لقب، ومن قال‏:‏ اشتقاقه من الصفا، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال‏:‏ وكذلك من الصوف، لأنهم لم يختصوا بلبسه، قلت‏:‏ والأظهر إن قيل‏:‏ بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب، إلى لبس الصوف، فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد، والانفراد عن الخلق، والإقبال على العبادة، اختصوا بمآخذ مدركة لهم، وذلك أن الإنسان بما هو إنسان، إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان‏:‏ إدراك للعلوم، والمعارف، من اليقين، والظن، والشك، والوهم وإدراك للأحوال القائمة، من الفرح، والحزن، والقبض، والبسط، والرضاء، والغضب، والصبر، والشكر، وأمثال ذلك‏.‏ فالروح العاقل، والمتصرف في البدن، تنشأ من إدراكات، وإرادات، وأحوال، وهي التي يميز بها الإنسان، وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح، والحزن، عن إدراك المؤلم، أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء، وكذلك المريد في مجاهدته، لا بد وأن ينشأ عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة، وتلك الحالة‏:‏ إما أن تكون نوع عبادة فترسخ، وتصير مقاماً للمريد، وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس، من حزن، وسرور، ونشاط، أو كسل، أو غير ذلك من المقامات‏.‏

ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد، والمعرفة، التي هي الغاية المطلوبة للسعادة‏.‏ ‏(‏2/ 156‏)‏

قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏‏)‏، فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة، والإخلاص، ويتقدمها الإيمان، ويصاحبها، وتنشأ عن الأحوال، والصفات، نتائج، وثمرات، ثم تنشأ عنها أخرى، وأخرى إلى مقام التوحيد، والعرفان، وإذا وقع تقصير في النتيجة، أو خلل، فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله‏.‏

وكذلك في الخواطر النفسانية، والواردات القلبية، فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله، وينظر في حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري، وقصورها من الخلل فيها كذلك، والمريد يجد ذلك بذوقه، ويحاسب نفسه عن أسبابه، ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة، وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع‏.‏

إنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء، والأمثال، وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق، والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير، أولا، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال، والتروك، والكلام في هذه الأذواق، والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاماً، ويترقى منها إلى غيرها، ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه، فلهذا أختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه، وصار علم الشريعة على صنفين‏:‏ صنف مخصوص الفقهاء، وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات، والعادات، والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة، ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق، والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك، فلما كتبت العلوم، ودونت، وألف الفقهاء في الفقة، وأصوله، ‏(‏2/ 157‏)‏ والكلام، والتفسير، وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم، فمنهم من كتب في الورع، ومحاسبة النفس، على الاقتداء في الأخذ، والترك، كما فعله القشيري في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الرسالة‏)‏‏)‏، والسهروردي في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏عوارف المعارف‏)‏‏)‏، وأمثالهم، وجمع الغزالي - رحمه الله - بين الأمرين في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإحياء‏)‏‏)‏، فدون فيه أحكام الورع، والاقتداء، ثم بين آداب القوم، وسننهم، وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم، وصار علم التصوف في الملة علماً مدوناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب، من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، وغير ذلك‏.‏

ثم إن هذه المجاهدة، والخلوة، والذكر، يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والإطلاع على علم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب هذا الكشف‏:‏ أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه، وتجدد نشوه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو، وتزيد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس، والعلوم اللدنية، والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة‏.‏

وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم، وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرفون بهممهم، وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم، فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف، ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء، لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم -، على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم تقع لهم بها عناية، وفي فضائل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، - رضي الله عنهم - كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل ‏(‏2/ 158‏)‏ الطريقة ممن اشتملت‏:‏ ‏(‏‏(‏رسالة القشيري‏)‏‏)‏ على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم‏.‏

ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب، والمدارك التي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك، باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية، وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها التي لها من ذاتها بتمام نشوتها، وتغذيتها، فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ، وأنهم اكتشفوا ذوات الوجود، وتصوروا حقائقها كلها، من العرش إلى الطش، هكذا قال الغزالي في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإحياء‏)‏‏)‏، بعد أن ذكر صورة الرياضة‏.‏

ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة‏:‏ لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع، والخلوة، وإن لم تكن هناك استقامة كالسحرة، والنصارى، وغيرهم من المرتاضين، وليس مراده إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة، ومثاله أن المرآة الصقلية إذا كانت محدبة، أو مقعرة، وحوذي بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيه معرجاً على غير صورته، وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً، فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من، الأحوال، ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية، والسفلية، وحقائق الملك، والروح، والعرش، والكرسي، وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم، ومواجدهم في ذلك، وأهل القيابين منكر عليهم، ومسلم لهم، وليس البرهان، والدليل بنافع في هذه الطريق رداً، وقبولاً، إذ هي من قبيل الوجدانيات، وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود، وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر، والاصطلاحات، والعلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في‏:‏ ‏(‏‏(‏الديباجة‏)‏‏)‏ التي كتبها في صدر ذلك الشرح، فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل، وترتيبه‏:‏ أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية، وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير، ويسمون هذا الصدور بالتجلي، وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه، وهو ‏(‏2/ 159‏)‏ يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد، والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود، وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعاني، والحضرة الكمالية، والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات، واللوح، والقلم، وحقائق الأنبياء، والرسل أجمعين‏.‏

والكمال من أهل الملة المحمدية، وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية، ويصدر عن هذه الحقائق، حقائق أخرى في الحضرة البهائية، وهي مرتبة المثال، ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب‏.‏

هذا في عالم الرتق، فإذا تجلت فهي في عالم الفتق، ويسمى هذا المذهب‏:‏ مذهب أهل التجلي، والمظاهر، والحضرات، وهو كلام يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه، لغموضه، وانغلاقه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة، والوجدان، وصاحب الدليل، وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب، وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول‏:‏ بالوحدة المطلقة، وهو رأي أغرب من الأول في تعقله، وتفاريعه، يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات، وصورها، وموادها، والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتها لها في نفسها قوة، بها كان وجودها، ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدنية، فيها قوى العناصر، بميولها، وزيادة القوة المعدنية، ثم القوة الحيوانية، ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية، وزيادة، وكذا الذوات الروحانية، والقوة الجامعة للكل، من غير تفصيل هي‏:‏ القوة الإلهية، التي انبثت في جميع الموجودات، كلية، وجزئية، وجمعتها، وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور، ولا من جهة الخفاء، ولا من ‏(‏2/ 160‏)‏ جهة الصورة، ولا من جهة المادة، فالكل واحد، وهو نفس الذات الإلهية، وهي في الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفصل لها، كالإنسانية مع الحيوانية، ألا ترى أنها مندرجة فيها، وكائنة بكونها، فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود، كما ذكرناه، وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال، وهم في هذا كله يفرون من التركيب، والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم، والخيال‏.‏

والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة، شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان‏:‏ من أن وجودها مشروطة بالضوء، فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه، وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل والموجودات المعقولة، والمتوهمة أيضاً، مشروطة بوجود المدرك العقلي، فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري، فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة، لم يكن هناك تفصيل الوجود، بل هو بسيط واحد، فالحر، والبرد، والصلابة، واللين بل والأرض، والماء، والنار، والسماء، والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها، لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود، وإنما هو في المدرك فقط، فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد، وهو أنا، لا غيره، ويعتبرون ذلك بحال النائم، فإنه إذا نام، وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوس، وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال‏.‏

قالوا‏:‏ فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدر فقد مدركة، فقد التفصيل، وهذا هو معنى قولهم‏:‏ الموهم لا الوهم، الذي هو من جملة المدارك البشرية‏.‏

وهذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان، وهو في غاية السقوط، لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه، وإليه يقيناً، مع غيبته عن أعيننا، وبوجود السماء المظلة، والكواكب، وسائر الأشياء الغائبة عنا‏.‏ ‏(‏2/ 161‏)‏

والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين، يقولون‏:‏ إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع، ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق، ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع، وهي عقبة صعبة، لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها، فتخسر صفقته، فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة‏.‏

ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول، والوحدة، كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏المقامات‏)‏‏)‏، له، وغيره، وتبعهم ابن العربي، وابن سبعين، وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي، في قصائدهم‏.‏

وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضاً بالحلول، وإلاهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، معناه‏:‏ رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن يساويه أحد في مقامه في المعرفة، حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان‏.‏

وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإشارات‏)‏‏)‏، في فصول التصوف منها، فقال‏:‏ جل جناب الحق أن يكون شرحه لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به‏.‏

ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في‏:‏ ‏(‏‏(‏النقباء‏)‏‏)‏ حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف، ليجعلوه أصلاً لطريقتهم، وتخليهم رفعوه إلى علي - رضي الله عنه - وهو من هذا المعنى أيضاً، وإلا فعلي - رضي الله عنه - لم يختص ‏(‏2/ 162‏)‏ من بين الصحابة بتخلية، ولا طريقة، في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء، يؤثر عنه في الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين، والزهد، والمجاهدة، يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شجنوا كتبهم به في ذلك، مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي، أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة، والرافضة، ومذاهبهم في كتبهم، - والله يهدي إلى الحق -‏.‏

ثم إن كثيراً من الفقهاء، وأهل الفتيا، انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات، وأمثالها، وشملوا بالنكير، وسائر ما وقع لهم في الطريقة، والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم في أربعة مواضع‏:‏ أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق، والمواجد، ومحاسبة النفس على الأعمال، لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاماً، ويترقى منه إلى غيره كما قلناه‏.‏

وثانيها‏:‏ الكلام في الكشف، والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل‏:‏ الصفات الربانية، والعرش، والكرسي، والملائكة، والوحي، والنبوة، والروح، وحقائق كل موجود غائب، أو شاهد، وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها، وتكونها كما مر‏.‏

وثالثها‏:‏ التصرفات في العوالم، والأكوان بأنواع الكرامات‏.‏

ورابعها‏:‏ ألفاظ موهمة الظاهر، صدرت من كثير من أئمة القوم، يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحيات تستشكل ظواهرها، فمنكر، ومحسن، ومتأول‏.‏

فأما الكلام في المجاهدات، والمقامات، وما يحصل من الأذواق، والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقيق بها هو عين السعادة‏.‏ ‏(‏2/ 163‏)‏

وأما الكلام في كرامات القوم، وأخبارهم بالمغيبات، وتصرفهم في الكائنات، فأمر صحيح غير منكر، وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها، فليس ذلك من الحق، وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة، فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو‏:‏ دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به، قالوا‏:‏ ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور‏:‏ لأن دلالة المعجرة على الصدق عقلية، فإن صفة نفسها التصديق، فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها، وهو محال، هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع مكابرة، وقد وقع للصحابة، وأكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور‏.‏

وأما الكلام في الكشف، وإعطاء حقائق العلويات، وترتيب صدور الكائنات، فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم، وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثر من المحسوسات، فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه، ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، - فأكرم بها سعادة -‏.‏

وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطيحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم، حتى ينطقوا عنهما بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور ‏(‏2/ 164‏)‏ معذور، فمن علم منهم فضله، واقتداؤه، حمل على القصد الجميل من هذا، وإن العبارة عن المواجد صعبة‏:‏ لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله، ومن لم يعلم فضله، ولا اشتهر، فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه، وأما من تكلم بمثلها، وهو حاضر في حسه، ولم يملكه الحال، فمؤاخذ أيضاً، ولهذا أفتى الفقهاء، وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج‏:‏ لأنه تكلم في حضور، وهو مالك لحاله - والله أعلم -‏.‏

وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع، والاقتداء ما استطاعوا، ومن عرض له شيء من ذلك عرض عنه، ولم يحفل به، بل يفرون منه، ويرون أنه من العوائق، والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان، وعلم الله أوسع، وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك، فلا ينطقون بشيء مما يدركون، بل حظروا الخوض في ذلك، ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه، والوقوف عنده، بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع، والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها‏.‏

وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد - والله الموفق للصواب -‏.‏ انتهى كلام ابن خلدون - رحمه الله -‏.‏

وما ذكر من كرامات الأولياء، فهو حق يدل عليه القرآن، والسنة، وما ذكر من التصرفات في العوالم، والأخبار عن المغيبات، ففيه نظر، وتفصيل، ذكر في محله، فليعلم، - والله أعلم‏.‏

 علم التعابي العددية في الحروب

هو‏:‏ علم يتعرف منه كيفية ترتيب العساكر في الحروب، وكيفية تسوية صفوفها أزواجاً، وأفراداً، وتعيين أعداد الصفوف، وأعداد الرجال في كل صف ‏(‏2/ 165‏)‏ منها، وهيئة الصفوف‏:‏ إما على التدوير، أو التثليث، أو التربيع، إلى غير ذلك حسبما تقتضيه الأحوال، وبينوا أن في رعاية ترتيب المذكور ظفر بالمرام، ونصرة على الأعداء، ولا يكون مغلوباً أبداً بإذن الله - سبحانه وتعالى - إلا أن العلماء أخفوا هذا العلم، وضنوا به عن الأغيار‏.‏

وللشيخ عبد الرحمن من السادة الحرفية، تصنيف في هذا العلم لكن ضن بعض الضن، إلا أن من وقف على أسرار الخواص الحرفية، والعددية، لا تخفى عليه خافية‏.‏

هذا ما ذكره أبو الخير، وجعله من فروع علم العدد، وذكر علم ترتيب العسكر من فروع الحكمة العملية، كما مر‏.‏ وفيه من الخلط، والتكرار، ولو بتغاير الاعتبار ما لا يخفى‏.‏

وعبارة‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ هكذا قالوا أن للهيئات المخصوصة، وخصوصيات الأعداد حسبما يقتضيه الحال تأثيراً عظيماً في قهر العدو، والغلبة على الخصم، وهذا العلم مما اختص به سادات الحرفية، وأرباب الكشف، والشهود من الصوفية الواقفين على أسرار الآيات القرآنية‏.‏

ومن يخطب الحسناء من غير أهلها ** بعيد عليه أن يفوز بوصلها

والعلماء أخفوا هذا العلم، ولم يبرزوه، ولم يظهروه، إلا لبعض من الكاملين من أرباب العفة، والتقوى لما أن في إظهاره فساداً عظيماً، كما لا يخفى، ومن أراد الوقوف على هذا العلم، فعليه خدمة السادات الصوفية، حتى يستأهل للمكاشفات القرآنية، والأسرار الفرقانية، وإلا فهو عن مثل هذا العلم بمعزل، ومن الوصول إلى هذا المقصد بألف منزل، ولله در الإمام الشافعي، حيث قال‏:‏

كيف الوصول إلى سعاد ودونها ** قلل الجبال ودونهن حتوف

الرجل حافية ومالي مركب ** والكف صفر والطريق مخوف‏.‏ ‏(‏2/ 166‏)‏

ولعبد الرحمن الأنطاكي رسالة لطيفة في هذا العلم، لكن ضن ببيان أسراره كل الضنة‏.‏ انتهى‏.‏

 علم تعبير الرؤيا

هو‏:‏ علم يتعرف منه المناسبة بين التبخيلات النفسانية، والأمور الغيبية، لينتقل من الأولى إلى الثانية، وليستدل بذلك على الأحوال النفسانية في الخارج، أو على الأحوال الخارجية في الآفاق، ومنفعته‏:‏ البشرى، أو الإنذار بما يروه‏.‏

هذا ما ذكره الأرنيقي، وأبو الخير، وأورده في فروع العلم الطبيعي، وذكر فيه أيضاً، ماهية الرؤيا وأقسامها، وكذا فعل ابن صدر الدين، لكني لست في صدد بيان ذلك، فهو مبين في كتب هذا الفن‏.‏

وقال في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏‏)‏‏:‏ هو علم يتعرف منه الاستدلال من المتخيلات الجملية على ما شاهدته النفس حالة النوم من عالم الغيب، فخيلته القوة المتخيلة مثالاً يدل عليه في عالم الشهادة، وقد جاء أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، وهذه النسبة تعرفها من مدة الرسالة، ومدة الوحي قبلها مناماً، وربما طابقت الرؤيا مدلولها دون تأويل، وربما اتصل الخيال بالحس، كالاحتلام، ويختلف مأخذ التأويل بحسب الأشخاص، وأحوالهم ومنفعته البشرى بما يرد على الإنسان من خير‏.‏ والإنذار بما يتوقعه من شر، والاطلاع على الحوادث في العالم قبل وقوعها‏.‏ انتهى‏.‏

وأما الكتب المصنفة في التعبير، فكثيرة جداً منها‏:‏ ‏(‏‏(‏الآثار الرابعة في أسرار الواقعة‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏أرجوزة العبير‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏أصول دانيال‏)‏‏)‏، و تعبير ابن المقري، و أبي سهل المسيحي، وأرسطو، وأفلاطون، وإقليدس، وبطليموس، والجاحظ، وجالينوس، و‏:‏ ‏(‏‏(‏التعبير المنيف والتأويل الشريف‏)‏‏)‏، ‏(‏2/ 167‏)‏ لمحمد بن قطب الدين الرومي الأرنيقي، المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة، ذكر فيه أقوال المعبرين، ثم عبر على اصطلاح أهل السلوك، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تعبير نامج‏)‏‏)‏ لأبي طاهر إبراهيم بن يحيى الحنبلي المعبر، المتوفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأيضاً ليحيى الفتاحي النيسابوري الشاعر فارسي منظوم، و‏:‏ ‏(‏‏(‏حواب وخيال‏)‏‏)‏، للشيخ بير محمد اللكهنوي فارسي مختصر منثور‏.‏

قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ والذي تمهر في علم التعبير من السلف هو محمد بن سيرين، ومن عجائب تعبيراته أنه رأى رجل يختم على أفواه الرجال، والنساء، وفروج هؤلاء، فعبرها ابن سيرين‏:‏ بأنك مؤذن أذنت في رمضان، قبل طلوع الفجر، وكان كذلك‏.‏

ويحكى أن رجلاً سأله أنه رأى أنه يدخل الزيت في الزيتون، فقال ابن سيرين‏:‏ إن صدقت فالتي تحتك أمك فاضطرب الرجل فتفحص عنها، فكانت أمه لأنها سبيت بعد أبيه، فاشتراها ابنها‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن خلدون - رحمه الله -‏:‏ هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة، عندما صارت العلوم صنائع، وكتب الناس فيها‏.‏

وأما الرؤيا، والتعبير لها‏:‏ فقد كان موجوداً في السلف، كما هو في الخلف، وربما كان في الملوك، والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام، وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق، ولا بد من تعبيرها، فلقد كان يوسف الصديق - عليه السلام - يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن المجيد، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب‏.‏ ‏(‏2/ 168‏)‏

وقال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏)‏‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له،‏)‏‏)‏، وأول ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا‏)‏‏)‏ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين، وإعزازه‏.‏

وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب، فهو‏:‏ أن الروح القلبي، وهو‏:‏ البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي، ينتشر في الشريانات، ومع الدم في سائر البدن، وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية، وإحساسها، فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس، وتصرف القوى الظاهرة، وغشى سطح البدن، ما يغشاه من برد الليل، انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي، فيستجم بذلك لمعاودة فعله، فتعطلت الحواس الظاهرة كلها، وذلك هو معنى النوم‏.‏

ثم إن هذا الروح القلبي هو ‏(‏2/ 167‏)‏‏:‏ مطية للروح العاقل من الإنسان، والروح العاقل مدرك الجميع في ما عالم الأمر بذاته، إذ حقيقته، وذاته عين الإدراك، وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية، ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن، وقواه، وحواسه فلو قد خلا من هذا الحجاب، وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته، وهو‏:‏ عين الإدراك، فيعقل كل مدرك، فإذا تجرد عن بعضها، خفت شواغله، فلا بد من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له، وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها، وهي الشاغل الأعظم، فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه، وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه، رجع إلى بدنه، إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية‏.‏

والمدارك الجسمانية للعلم، إنما هي الدماغية، والمتصرف منها هو الخيال، فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صوراً خيالية، ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر، والاستدلال، وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى ‏(‏2/ 169‏)‏ نفسانية، عقلية، فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول، والخيال واسطة بينهما، ولذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال، فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي، والخيال أيضاً واسطة، هذه حقيقة الرؤيا‏.‏

ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة، وأضغاث الأحلام الكاذبة، فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم‏.‏

لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك، فهو‏:‏ رؤيا، وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة، التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة، فهي‏:‏ أضغاث أحلام‏.‏

وأما معنى التعبير، فاعلم أن الروح العقلي، إذا أدرك مدركه، وألقاه إلى الخيال، فصوره، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء، كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر، أو يدرك العداوة، فيصورها الخيال في صورة الحية، فإذا استيقظ، وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر، أو الحية، فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة، وأن المدرك وراءها، وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك، فيقول مثلاً‏:‏ هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه به السلطان، وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها، وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية، وأمثال ذلك، ومن الرؤيا ما يكون صحيحا، لا يفتقر إلى تعبير لجلائها، ووضوحها، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك، وشبهه‏.‏

ولهذا وقع في الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏الرؤيا ثلاث رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان‏)‏‏)‏، فالرؤيا التي من الله هي الصريحة‏:‏ التي لا تفتقر إلى تأويل، والتي من الملك‏:‏ هي الرؤيا الصادقة‏:‏ التي تفتقر إلى التعبير، والرؤيا التي من الشيطان‏:‏ هي الأضغاث‏.‏

واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى أليه الروح مدركة، فإنما يصوره في القوالب ‏(‏2/ 170‏)‏ المعتادة للحس، ما لم يكن الحس أدركه قط، فلا يصور فيه، فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر، ولا العدو بالحية، ولا النساء بالأواني، لأنه لم يدرك شيئاً من هذه، وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها، ومناسبها، من جنس مداركه، التي هي المسموعات، والمشمومات، وليتحفظ المعبر من مثل هذا، فربما اختلط به التعبير، وفسد قانونه‏.‏

ثم إن علم التعبير‏:‏ علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه، وتأويله كما يقولون‏:‏ البحر يدل على السلطان، وفي موضع آخر يقولون‏:‏ البحر يدل على الغيظ، وفي موضع آخر يقولون‏:‏ البحر يدل على الهم والأمر الفادح‏.‏

ومثل ما يقولون‏:‏ الحية تدل على العدو، وفي موضع آخر يقولون‏:‏ هي كاتم سر، وفي موضع آخر يقولون‏:‏ تدل على الحياة، وأمثال ذلك، فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن، التي تعين من هذه القوانين، ما هو أليف بالرؤيا‏.‏

وتلك القرائن منها‏:‏ في اليقظة، ومنها‏:‏ في النوم، ومنها‏:‏ ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية، التي خلقت فيه، - وكل ميسر لما خلق -‏.‏

ولم يزل هذا العلم متناقلاً بين السلف، وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء، وكتب عنه في ذلك القوانين، وتناقلها الناس لهذا العهد، وألف الكرماني فيه من بعده، ثم ألف المتكلمون المتأخرون، وأكثروا، والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل‏:‏ ‏(‏‏(‏الممتع‏)‏‏)‏، وغيره، وكتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإشارة‏)‏‏)‏ للسالمي، وهو‏:‏ علم مضيء بنور النبوة للمناسبة بينهما، كما وقع في الصحيح، - والله علام الغيوب -‏.‏ انتهى‏.‏

 علم التعديل

هو‏:‏ علم يتعرف منه كيفية تفاوت الليل، والنهار، وتداخل الساعات فيهما عند ‏(‏2/ 171‏)‏ تفاوتها في الصيف، والشتاء، ونفع هذا العلم عظيم‏.‏ انتهى كلام أبي الخير‏.‏

وقد أورده من فروع علم الهندسة، ولعل ما ذكره هو‏:‏ التعديلات المستعملة في الدستور الموضوع لاستخراج التقويم من الزيج، وفيه جدول تعديل الأيام، وفي الزيج جداول لهذا العلم، ولا يخفى على الأهل أنه إن كان مراده هذا المعنى فهو‏:‏ من مسائل علم الزيج، والتقويم، لكن يأباه تعريفه بكيفية تفاوت الليل، والنهار، فإن ذلك العمل لتعديل حركات الكواكب‏.‏

وأما التعديل بالمعنى الذي ذكره فلم ير في كتب الهندسة، ولم يسمع مثله مسئلة فضلاً عن كونه علماً، ولو قال‏:‏ هو مسئلة من مسائل علم التقويم يعرف بالحساب الإسطرلاب، لكان له وجه وجيه‏.‏

 علم تعلق القلب

هذا علم ربما يظهره بعض المتبتلين لمن في عقله خفة حتى يظنون أنه يعرف الاسم الأعظم، أو أن الجن تطيعه، وربما أداه انفعاله إلى مرض، ونحوه، أو مطاوعة ذلك المتبتل فيما قصده كذا في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏.‏

وأورده من جملة العلوم المتفرعة على السحر، وهذا كما ترى شعبة من علم أهل الحيل، ولا وجه لإفراده‏.‏

 علم تعمير المساكن

ويسمى بعلم عقود الأبنية كما سيأتي في باب العين والمساكن‏:‏ حماية للناس عن تأثيرات الجو، وهي أقوى الوسائط في تغيير عوارض الأهوية‏.‏

والكلام عليها منحصر في طرفين‏:‏

الأول‏:‏ في اختيار الأماكن‏.‏ ‏(‏2/ 172‏)‏

الثاني‏:‏ في اختيار مؤن العمارة، وطرق عمارة المساكن بها، وما يتعلق بذلك من الاحتراسات‏.‏

والأول‏:‏ له مراتب‏:‏ وهي درجة ارتفاع الأماكن وهي تختلف باختلاف الأشخاص، وعيوب البقعة، وجيرة الغابات، والبحور، والأنهار، والبلاد‏.‏

والثاني‏:‏ له مراتب أيضاً، وهي علو البيوت، وسفلها، وفتحاتها، وقياس البيوت، واحتراسات تخص حفظ الصحة في البيوت‏.‏

والمساكن أنواع

منها‏:‏ الحمام، والكلام على الاستحمام البارد، والحار، وعلى الأشياء التابعة له يطول‏.‏

ومنها‏:‏ المحال التي ترتب فيها العمارات‏.‏

ومنها‏:‏ المراحيض‏.‏

ومنها‏:‏ مقابر الموتى‏.‏

ومنها‏:‏ الأماكن العمومية، وهي العمارات الحاوية لأناس كثيرين مثل‏:‏ المارستان، والسجون، والمعابد، والمدارس، والربط، ودواوين الحكم، ومجمع الناس، وبيوت العساكر، وكتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏قانون الصحة، المسمى بالمنحة في سياسة الصحة‏)‏‏)‏، للحكيم الماهر محمد الهراوي، تكفل لبيان الكلام على تلك الأماكن، وهذه المساكن على أحسن أسلوب، وأبدع وضع وفيه ما يكفي لإدراك حقائق صحة الهواء، والمسكن، والملبس، والسفن، وغير ذلك‏.‏

 علم التفسير أي تفسير القرآن

هو‏:‏ علم باحث عن معنى نظم القرآن، بحسب الطاقة البشرية، وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية‏.‏

ومباديه‏:‏ العلوم العربية، وأصول الكلام، وأصول الفقه، والجدل، وغير ذلك من العلوم الجمة‏.‏ ‏(‏2/ 173‏)‏

والغرض منه‏:‏ معرفة معاني النظم بقدر الطاقة البشرية‏.‏

وفائدته‏:‏ حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة، والاتعاظ بما فيه من القصص، والعبر، والاتصاف بما تضمنه من مكارم الأخلاق، إلى غير ذلك من الفوائد، التي لا يمكن تعدادها، لأنه بحر لا تنقضي عجائبه، - وسبحانه من أنزله، وأرشد به عباده -‏.‏

وموضوعه‏:‏ كلام الله - سبحانه وتعالى -، الذي هو‏:‏ منبع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة‏.‏

وغايته‏:‏ التوصل إلى فهم معاني القرآن، واستنباط حكمه، ليفاز به إلى السعادة الدنيوية، والأخروية، وشرف العلم، وجلالته باعتبار شرف، موضوعه، وغايته فهو أشرف العلوم، وأعظمها، هذا ما ذكره أبو الخير، وابن صدر الدين، والأرنيقي‏.‏

قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏‏)‏‏:‏ علم التفسير‏:‏ علم يعرف به نزول الآيات، وشؤونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها، ومدنيها، ومحكمها، ومتشابهها، وناسخها، ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها، ومقيدها، ومجملها، ومفسرها، وحلالها، وحرامها، ووعدها، ووعيدها، وأمرها، ونهيها، وامتثالها، وغيرها‏.‏

قال أبوحيان‏:‏ التفسير‏:‏ علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها، التي يحمل عليه حالة التركيب، وتتمات ذلك‏.‏

وقال الزركشي‏:‏ التفسير‏:‏ علم يفهم به كتاب الله، المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه، وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات‏.‏

وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم‏:‏ اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى، إنما خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه، وأنزل كتابه على ‏(‏2/ 174‏)‏ لغتهم، وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة، وهي‏:‏ أن كل من وضع من البشر كتاب، فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة‏:‏

أحدها‏:‏ كمال فضيلة المصنف، فإنه بقوته العلمية بجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عسر فهم مراده، فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة، من ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له‏.‏

وثانيها‏:‏ إغفاله بعض متممات المسئلة، أو شروطها اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المتروك، ومراتبه‏.‏

وثالثها‏:‏ احتمال اللفظ لمعان مختلفة، كما في المجاز، والاشتراك، ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف، وترجيحه، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو، والغلط، أو تكرار الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك، وإذا تقرر هذا فنقول‏:‏ إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه أما دقائق باطنه، فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث، والنظر، مع سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر كسؤالهم لما نزل‏:‏ ‏{‏ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏، فقالوا‏:‏ وأينا لم يظلم نفسه، ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك، واستدل عليه أن الشرك لظلم عظيم، وغير ذلك مما سألوا عنه - صلى الله عليه وسلم -، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه مع أحكام الظاهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد احتياجاً إلى التفسير‏.‏

وأما شرفه‏:‏ فلا يخفى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏‏.‏

وقال الأصبهاني‏:‏ شرفه من وجوه‏:‏ ‏(‏2/ 175‏)‏

أحدها‏:‏ من جهة الموضوع‏:‏ فإن موضوعه كلام الله تعالى، الذي ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة‏.‏

وثانيها‏:‏ من جهة الغرض‏:‏ فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية، التي هي الغاية القصوى‏.‏

وثالثها‏:‏ من جهة شدة الحاجة‏:‏ فإن كل كمال ديني، أو دنيوي، مفتقر إلى العلوم الشرعية، والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى‏.‏

واختلف الناس في تفسير القرآن‏:‏ هل يجوز لكل أحد الخوض فيه‏؟‏ فقال قوم‏:‏ لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وأن كان عالماً، أديباً، متسعاً في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ومنهم من قال‏:‏ يجوز تفسيره لمن كان جامعاً للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علماً‏:‏ اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، وعلم القراءات‏:‏ لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات، يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض، وأصول الدين‏:‏ أي الكلام، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه، بحسب ما أنزلت فيه، والناسخ، والمنسوخ، ليعلم المحكم من غيره، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المبهم، والمجمل، وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم‏)‏‏)‏‏.‏

قال البغوي، والكواشي، وغيرهما‏:‏ التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها، تحتملها الآية غير مخالف للكتاب، والسنة، غير محظور على العلماء بالتفسير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏، قيل‏:‏ شباباً، وشيوخاً‏.‏

وقيل‏:‏ أغنياء، وفقراء‏.‏

وقيل‏:‏ نشاطا أو غير نشاط ‏(‏2/ 176‏)‏

وقيل‏:‏ أصحاء، ومرضى، وكل ذلك سائغ، والآية تحتمله‏.‏

وأما التأويل المخالف للآية، والشرخ، فمحظور لأنه تأويل الجاهلين، مثل تأويل الروافض، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مرج البحرين يلتقيان‏}‏ أنهما علي، وفاطمة، ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏، يعني الحسن، والحسين‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر العلامة الفناري في‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الفاتحة‏)‏‏)‏، فصلاً مفيداً في تعريف هذا العلم، ولا بأس بإيراده، اذ هو مشتمل على لطائف التعريف‏.‏

قال قطب الدين الرازي في شرحه لـ‏:‏ ‏(‏‏(‏الكشاف‏)‏‏)‏‏:‏ هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المجيد، ويرد عليه أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ‏:‏ كمباحث القراءات، وناسخية الألفاظ، ومنسوخيتها، وأسباب نزولها، وترتيب نزولها، إلى غير ذلك، فلا يجمعها أحد‏.‏

وأيضاً يدخل فيه البحث في الفقه الأكبر، والأصغر عما يثبت بالكتاب، فإنه بحث عن مراد الله تعالى من قرآنه، فلا يمنعه أحد، فكان الشارح التفتازاني، إنما عدل عنه لذلك إلى قوله‏:‏ هو العلم الباحث عن أحوال الألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث الدلالة على مراد الله، وترد على مختاره أيضاً وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن البحث المتعلق بألفاظ القرآن ربما لا يكون بحيث يؤثر في المعنى المراد بالدلالة، والبيان‏:‏ كمباحث علم القراءة عن أمثال التفخيم، والإمالة إلى ما لا يحصى، فإن علم القراءة جزء من علم التفسير، أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب، والفرائض من الفقه‏.‏

وقد خرج بقيد الحيثية، ولم يجمعه، فإن قيل‏:‏ أراد تعريفه بعد إفراز علم القراءة‏.‏

قلنا‏:‏ فلا يناسب الشرح المشروح للبحث في التفسير عما لا يتغير به المعنى في مواضع لا تحصى‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد بالمراد إن كان المراد بمطلق الكلام، فقد دخل العلوم الأدبية ‏(‏2/ 177‏)‏، وإن كان مراد الله تعالى بكلامه‏.‏

فإن أريد مراده في نفس الأمر، فلا يفيده بحث التفسير، لأن‏:‏ طريقه غالباً‏:‏ إما رواية الآحاد، أو الدراية بطريق العربية، وكلاهما ظني، كما عرف، ولأن فهم كل أحد بقدر استعداده، ولذلك أوصى المشائخ - رحمهم الله - في الإيمان أن يقال‏:‏ آمنت بالله، وبما جاء من عنده، على مراده، وآمنت برسول الله، وبما قاله، على مراده، ولا يعين بما ذكره أهل التفسير، ويكرر ذلك على الهدي في تأويلاته‏.‏

وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المفسر، ففيه خرازة من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ كون علم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر، بل إلى كل أحد شيئاً آخر، وهذا مثل ما اعترض على حد الفقه لصاحب‏:‏ ‏(‏‏(‏التنقيح‏)‏‏)‏، وظن وروده، وإلا فإني أجيب عنه بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية، بل في جزئياتها المختلفة باختلاف القوابل‏.‏

وأيضاً ذكر الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير‏:‏ ‏(‏‏(‏مالك يوم الدين‏)‏‏)‏‏:‏ أن جميع المعاني المفسر بها لفظ القرآن رواية، أو دراية صحيحتين، مراد الله - سبحانه وتعالى - لكن بحسب المراتب، والقوابل لا في حق كل أحد‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ إلى ما في نفس الأمر على ما عرف، فلا بد لصرفها عنه من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى -‏.‏

الثالث‏:‏ أن عبارة العلم الباحث في المتعارف ينصرف إلى الأصول، والقواعد، أو ملكتها، وليس لعلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات، إلا في مواضع نادرة، فلا يتناول غير تلك المواضع إلا بالعناية، فالأولى‏:‏ أن يقال علم التفسير معرفة أحوال كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يعلم، أو يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى - بقدر الطاقة الإنسانية، فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها‏.‏ انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص‏.‏

ثم أورد فصولاً في تقسيم هذا الحد إلى تفسير، وتأويل، وبيان الحاجة إليه، وجواز الخوض فيهما، ومعرفة وجوههما المسماة بطوناً، أو ظهراً، أو بطناً، فمن أراد الإطلاع على حقائق علم التفسير فعليه بمطالعته، ولا ينبؤه مثل خبير‏.‏

ثم إن أبا الخير أطال في ذكر‏:‏ ‏(‏‏(‏طبقات المفسرين‏)‏‏)‏، ونحن أشرنا إلى من ليس لهم تصنيف فيه من مفسري الصحابة، والتابعين إشارة جمالية، والباقي مذكور عند ذكر كتابه‏.‏

أما المفسرون من الصحابة فمنهم‏:‏ الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -‏.‏

ثم اعلم أن الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة في ندرة جداً، والسبب فيه تقدم وفاتهم، وأما علي رضي الله عنه فروي عنه الكثير، وروي عن ابن مسعود أنه قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر، وبطن، وإن علياً - رضي الله عنه - عنده من الظاهر، والباطن‏.‏وأما ابن مسعود فروي عنه، أكثر مما روي عن علي، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين‏.‏

وأما ابن عباس، المتوفى سنة ثمان وستين بالطائف، فهو‏:‏ ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ورئيس المفسرين، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه‏.‏

ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مسلم الكوفي، المتوفى سنة عشرين ومائة، عن عطاء بن السائب‏.‏ ‏(‏2/ 179‏)‏

وطريق ابن إسحاق صاحب‏:‏ ‏(‏‏(‏السير‏)‏‏)‏‏.‏

وأوهى طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح، والكلبي‏:‏ هو أبو النصر محمد بن السائب، المتوفى بالكوفة، سنة ست وأربعين ومائة، فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير، المتوفى سنة ست وثمانين ومائة، فهي سلسلة الكذب، وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي، المتوفى سنة خمسين ومائة، إلا أن الكلبي يفضل عليه، لما في مقاتل من المذاهب الردية، وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي، المتوفى سنة اثنتين مائة عن ابن عباس منقطعة، فإن الضحاك لم يلقه، وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وإن كان من رواية جرير عن الضحاك، فأشد ضعفا لأن جريراً شديد الضعف متروك، وإنما أخرج عنه ابن مردويه، وأبو الشيخ ابن حبان دون ابن جرير‏.‏وأما أبي ابن كعب، المتوفى سنة عشرين، على خلاف فيه فعن نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه، وهذا إسناد صحيح، وهو أحد الأربعة الذي جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أقرأ الصحابة، وسيد القراء‏.‏

ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك بن النضر، المتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين‏.‏

وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على خلاف، المتوفى بالمدينة سنة سبع وخمسين‏.‏وعبد الله بن عمر بن الخطاب، المتوفى بمكة المكرمة سنة ثلاث وسبعين‏.‏

وجابر بن عبد الله الأنصاري، المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين‏.‏

وأبو موسى عبد الرحمن بن قيس الأشرعي، المتوفى سنة أربع وأربعين‏.‏

وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، المتوفى سنة ثلاث وستين، وهو أحد ‏(‏2/ 180‏)‏ العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم في آخر عهد الصحابة‏.‏

وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم -، المتوفى سنة خمس وأربعين‏.‏

وأما المفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم‏:‏ علماء مكة المكرمة - شرفها الله تعالى -‏.‏

ومنهم‏:‏ مجاهد بن جبر المكي، المتوفى سنة ثلاث ومائة، قال‏:‏ عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واعتمد على تفسيره الشافعي، والبخاري‏.‏

وسعيد بن جبير، المتوفى سنة أربع وتسعين‏.‏

وعكرمة مولى ابن عباس، المتوفى بمكة سنة خمس ومائة‏.‏

وطاووس بن كيسان اليماني، المتوفى بمكة سنة ست ومائة‏.‏

وعطاء بن أبي رباح المكي، المتوفى سنة أربع عشرة ومائة‏.‏

ومنهم أصحاب ابن مسعود، وهم علماء الكوفة‏:‏

كعلقمة بن قيس، المتوفى سنة اثنتين ومائة‏.‏

والأسود بن يزيد، المتوفى سنة خمس وسبعين‏.‏

وإبراهيم النخعي، المتوفى سنة خمس وتسعين‏.‏

والشعبي، المتوفى سنة خمس ومائة‏.‏

ومنهم‏:‏ أصحاب زيد بن أسلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس‏.‏

ومنهم‏:‏ الحسن البصري، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة، وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائة، وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، المتوفى سنة تسعين، والضحاك بن مزاحم، وعطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة بن دعامة السدوسي، المتوفى سنة عشرة ومائة، والربيع بن أنس، والسدي‏.‏

ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة، والتابعين، كسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن ‏(‏2/ 181‏)‏ هارون، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي إياس، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد لله بن حميد، و أبي بكر بن أبي شيبة، وآخرين‏.‏

ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم‏:‏ عبد الرزاق علي، بن أبي طلحة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وأبو الشيخ ابن حبان، وابن المنذر في آخرين‏.‏

ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل‏:‏ أبي أسحق الزجاج، و أبي علي الفارسي‏.‏

وأما أبو بكر النقاش، وأبو جعفر النحاس، فكثيراً ما استدرك الناس عليهما، ومثل مكي بن أبي طالب، و أبي العباس المهدوي‏.‏

ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراً، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظاناً أن له أصلاً غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن هم القدوة في هذا الباب‏.‏

ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم، ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن، واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه، وكان القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء‏.‏

فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب، وتكثير الأوجه المحتملة فيه، وإن كانت بعيدة، وينقل قواعد النحو، ومسائله، وفروعه، وخلافياته كـ‏:‏ ‏(‏‏(‏الزجاج‏)‏‏)‏ و‏:‏ ‏(‏‏(‏الواحدي‏)‏‏)‏ في البسيط، و أبي حيان في‏:‏ ‏(‏‏(‏البحر‏)‏‏)‏ و‏:‏ ‏(‏‏(‏النهر‏)‏‏)‏‏.‏

والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها، والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة، أو باطلة، ومنهم الثعلبي‏.‏

والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعاً، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع ‏(‏2/ 182‏)‏ الفقهية التي لا تعلو لها بالآية أصلاً، والجواب عن الأدلة للمخالفين كالقرطبي‏.‏

وصاحب العلوم العقلية خصوصاً الإمام فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء، والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب، قال أبو حيان في‏:‏ ‏(‏‏(‏البحر‏)‏‏)‏‏:‏ جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء فيه‏:‏ كل شيء إلا التفسير، وللمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات، وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعاً له فيه أدنى مجال سارع إليه، كما نقل عن البلقيني أنه قال‏:‏ استخرجت من‏:‏ ‏(‏‏(‏الكشاف‏)‏‏)‏ اعتزالا بالمناقيش منها أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن زحزح عن النار، وأدخل الجنة فقد فاز‏)‏‏)‏، أي فوز أعظم من دخول الجنة أشار به إلى عدم الرؤية، والملحد لا تسأل عن كفره، وإلحاده في آيات الله تعالى، وافترائه على الله تعالى، ما لم يقله كقول بعضهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هي إلا فتنتك‏)‏‏)‏، وما علي العباد أضر من ربهم، وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب أبي طالب المكي‏.‏

ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند، ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية، والقواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه‏:‏ ‏(‏‏(‏العجائب، والغرائب‏)‏‏)‏، ضمنه أقوالاً هي‏:‏ عجائب عند العوام، وغرائب عما عهد عن السلف، بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها، ولا ذكرها إلا للتحذير من ذلك قول من قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏)‏‏)‏، إنه الحب، والعشق، ومن ذلك قولهم في‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن شر غاسق إذا وقب‏)‏‏)‏ إنه الذكر إذا قام وقولهم‏:‏ ‏(‏‏(‏من ذا الذي يشفع عنده‏)‏‏)‏ معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس، ويشف من الشفاء جواب من وع أمر من الوعي‏.‏

وسئل البلقيني عمن فسر بهذا‏؟‏ فأفتى بأنه ملحد‏.‏ ‏(‏2/ 183‏)‏

وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير‏.‏

قال ابن الصلاح في فتاواه‏:‏ وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال‏:‏ صنف السلمي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر‏.‏

قال النسفي في‏:‏ ‏(‏‏(‏عقائده‏)‏‏)‏‏:‏ النصوص تحمل على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاداً‏.‏

وقال التفتازاني في‏:‏‏(‏‏(‏شرحه‏)‏‏)‏‏:‏ سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعلمها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية‏.‏

وقال‏:‏ وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها، وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان، ومحض العرفان‏.‏

وقال تاج الدين عطاء الله في‏:‏ ‏(‏‏(‏لطائف المنن‏)‏‏)‏‏:‏ اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى -، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية، والحديث لمن فتح الله تعالى قلبه‏.‏

وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏لكل آية ظهر، وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل‏:‏ هذا إحالة كلام الله - تعالى - وكلام رسوله، فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قال‏:‏ لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك، بل يفسرون الظواهر على ظواهرها مراداً بها موضوعاتها‏.‏ انتهى‏.‏

قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏‏)‏‏:‏ أما الظهر، والبطن، ففي معناهما أوجه، ثم ذكرها قال‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ لكل آية ستون ألف فهم، فهذا يدل على أن في فهم المعاني من القرآن مجالاً متسعاً وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي ‏(‏2/ 184‏)‏ الإدراك فيه بالنقل، والسماع، لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع اللغط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم، والاستنباط، ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر، بل لا بد منه أولاً إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، وإن شئت الزيادة، فارجع إلى‏:‏ ‏(‏‏(‏الإتقان‏)‏‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏

قال صاحب ‏(‏‏(‏مفتاح السعادة‏)‏‏)‏‏:‏ الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام - وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى - وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية، مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه، ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية الموافقة للقواعد الشرعية، والأحاديث النبوية مراد الله - سبحانه وتعالى -‏.‏

ومن جملة ما علم من الشرائع أن مراد الله - سبحانه - من القرآن لا ينحصر في هذا القدر، لما قد ثبت في الأحاديث أن لكل آية ظهراً، وبطناً، وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطي فهماً، وعلماً من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية، وأن لا يخالف القواعد الشرعية، ولا يباين إعجاز القرآن، ولا يناقض النصوص الواقعة فيها، فإن وجد فيه هذه الشرائط، فلا يطعن فيه، وألا فهو بمعزل عن القبول‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليماً من القادح، وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمشاهدات الكشفية، فهم القدوة في هذه المسالك، ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك، ثم ذكر ما وجب على المفسر من آداب‏.‏

وقال‏:‏ ثم اعلم أن العلماء، كما بينوا في التفسير شرائط، بينوا في المفسر أيضاً شرائط، لا يحل التعاطي لمن عري عنها، وهو فيها راجل، وهي‏:‏ أن يعرف خمسة عشر علماً على وجه الإتقان، والكمال‏:‏ اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق ‏(‏2/ 185‏)‏، والمعنى، والبيان، والبديع، والقراءات، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ، والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المجمل، والمبهم، وعلم الموهبة، وهو‏:‏ علم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمن عمل بما علم، وهذه العلوم التي لا مندوحة للمفسر عنها، وإلا فعلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم‏.‏

ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ علم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته، ومعرفة حقائق أسمائه، وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه‏.‏

والثاني‏:‏ ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب، واختص به، فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام، أو لمن أذن له، قيل‏:‏ وأوائل السور من هذا القسم، وقيل‏:‏ من الأول، والثالث علوم علمها الله تعالى نبيه، مما أودع كتابه من المعاني الجلية، والخفية، وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين‏:‏

منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع‏:‏ كأسباب النزول، والناسخ، والمنسوخ، والقرآن، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن

ومنه ما يؤخذ بطريق النظر، والاستنباط من الألفاظ، وهو قسمان‏:‏

قسم اختلفوا في جوازه، وهو‏:‏ تأويل الآيات المتشابهات‏.‏

وقسم اتفقوا عليه، وهو‏:‏ استنباط الأحكام الأصلية، والفرعية، والإعرابية‏:‏ لأن مبناها على الأقيسة، وكذلك فنون البلاغة، وضروب المواعظ، والحكم، والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك، وما عدا هذه الأمور، هو التفسير بالرأي الذي نهى عنه، وفيه خمسة أنواع‏:‏

الأول‏:‏ التفسير من غير حصول العلوم، التي يجوز معها‏.‏

التفسير الثاني‏:‏ تفسير المتشابه الذي لا يعلمه ألا الله - سبحانه وتعالى -‏.‏ ‏(‏2/ 186‏)‏

الثالث‏:‏ التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا، والتفسير تابعاً له، فيرد إليه بأي طريق أمكن، وإن كان ضعيفاً‏.‏

والرابع‏:‏ التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى -، كذا على القطع من غير دليل‏.‏

الخامس‏:‏ التفسير بالاستحسان، والهوى‏.‏

وإذا عرفت هذه الفوائد، وإن أطنبنا فيها لكونه رأس العلوم، ورئيسها، فاعلم أن كتب التفاسير كثيرة، ذكرنا منها في كتابنا‏:‏ ‏(‏‏(‏الإكسير في أصول التفسير‏)‏‏)‏، ما هو مسطور في‏:‏ ‏(‏‏(‏كشف الظنون‏)‏، وزدنا عليه أشياء على ترتيب حروف الهجاء‏.‏

قال في‏:‏ ‏(‏‏(‏مدينة العلوم‏)‏‏)‏‏:‏ والكتب المصنفة في التفسير ثلاثة أنواع‏:‏ وجيز، ووسيط، وبسيط‏.‏

ومن الكتب الوجيزة فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏زاد المسيرة‏)‏‏)‏ لابن الجوزي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏الوجيز‏)‏‏)‏، للواحدي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الواضح‏)‏‏)‏ للرازي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الجلالين‏)‏‏)‏ إذ عمل نصفه الآخر جلال الدين المحلى، وكمله جلال الدين السيوطي، والشهير لأبي حيان‏.‏

ومن الكتب المتوسطة‏:‏ ‏(‏‏(‏الوسيط‏)‏‏)‏ للواحدي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الماتريدي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير التيسير‏)‏‏)‏ لنجم الدين النسفي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الكشاف‏)‏‏)‏ للزمخشري، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الطيبي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير البغوي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الكواشي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير البيضاوي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير القرطبي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير سراج الدين الهندي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير مدارك التنزيل‏)‏‏)‏ لأبي البركات النسفي‏.‏

ومن الكتب المبسوطة‏:‏ ‏(‏‏(‏البسيط‏)‏‏)‏ للواحدي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الراغب‏)‏‏)‏ للأصفهاني، وتفسير أبي حيان المسمى بـ‏:‏ ‏(‏‏(‏البحر‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏التفسير الكبير‏)‏‏)‏ للرازي، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير العلامي‏)‏‏)‏، ورأيته في أربعين مجلداً، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير ابن عطية الدمشقي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الخرقي‏)‏‏)‏، نسبة إلى بائع الخرق، والثياب، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الحوفي‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير القشيري‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير ابن عقيل‏)‏‏)‏، وتفسير السيوطي المسمى بـ‏:‏ ‏(‏‏(‏الدر المنثور في التفسير المأثور‏)‏‏)‏، و‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسير الطبري‏)‏‏)‏، ومن التفاسير‏:‏ ‏(‏‏(‏إعراب القرآن‏)‏‏)‏ للسفاقسي‏.‏ انتهى‏.‏ ‏(‏2/ 187‏)‏

قلت‏:‏ ومن الحسن التفاسير المؤلفة في هذا الزمان الأخير تفسير شيخنا الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة بصنعاء اليمن محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية المسمى بـ‏:‏ ‏(‏‏(‏فتح القدير الجامع بين فني الرواية، والدراية من علم التفسير‏)‏‏)‏، ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى بـ‏:‏ ‏(‏‏(‏فتح البيان في مقاصد القرآن‏)‏‏)‏، وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال، وكان المصروف في وليمة، طبعه عشرين ألف ربية، وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب، والعجم، ورزق القبول من علماء الكتاب، والسنة القاطنين ببلد الله الحرام، ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام -، ومحدثي اليمن، وصنعاء، والقدس، والمغرب، وغير هؤلاء - ولله الحمد كل الحمد على ذلك -‏.‏

 فصل

قال ابن خلدون في‏:‏ ‏(‏‏(‏بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات‏)‏‏)‏‏.‏

أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته، وتراكيبه، وكان ينزل جملاً جملاً، وآيات آيات، لبيان التوحيد، والفروض الدينية، بحسب الوقائع منها‏:‏ ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها‏:‏ ما هو في أحكام الجوارح، ومنها‏:‏ ما يتقدم، ومنها‏:‏ ما يتأخر، ويكون ناسخاً له، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه، فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات، ومقتضى الحال منها منقولاً عنه كما علم من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا جاء نصر الله، والفتح‏)‏‏)‏‏:‏ أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمثال ذلك، ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم، ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول، والسلف، حتى صارت المعارف علوماً، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة، والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري، والواقدي، والثعالبي، وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار‏.‏ ‏(‏2/ 188‏)‏

ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة، وأحكام الإعراب، والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب، لا يرجع فيها إلى نقل، ولا كتاب فتنوسي ذلك، وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب، وعلى منهاج بلاغتهم، وصار التفسير على صنفين‏:‏ تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي‏:‏ معرفة الناسخ، والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة، والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك، وأوعوا، إلا أن كتبهم، ومنقولاتهم تشتمل على الغث، والسمين، والمقبول، والمردود، والسبب في ذلك‏:‏ أن العرب لم يكونوا أهل كتاب، ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة، والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية، التي يحتاطون لها، مثل‏:‏ أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان، والملاحم، وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل‏:‏ كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام، فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل، ويتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم، وعظمة أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين، والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ لما رجع الناس إلى التحقيق، والتمحيض ‏(‏2/ 189‏)‏

وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب، والأندلس حسن المنحى‏.‏

وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر، مشهور بالمشرق‏.‏

والصنف الآخر من التفسير، وهو‏:‏ ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة، والإعراب، والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد، والأساليب، وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات، وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان، وعلومه صناعة، نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً، ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الكشاف‏)‏‏)‏ للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرض له في أي في القرآن من طرق البلاغة، فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه، وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه، فيما يتعلق باللسان، والبلاغة، وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية، محسناً للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان، ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشري، هذا وتتبع ألفاظه، وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها، وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة، - وفوق كل ذي علم عليم -‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

 فصل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏2/ 190‏)‏

‏(‏‏(‏ستكون فتن قيل‏:‏ وما المخرج منها‏؟‏ قال‏:‏ كتاب الله‏:‏ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم‏)‏‏)‏، أخرجه الترمذي، وغيره‏.‏

وقال أبو مسعود‏:‏ ‏(‏‏(‏من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خير الأولين، والآخرين‏)‏‏)‏، أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال البيهقي‏:‏ أراد به أصول العلم‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ ما سمعت حديثاً إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم -على وجهه، إلا وجدت مصداقه في كتاب الله، أخرجه ابن أبي حاتم

وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -‏:‏ أنزل في هذا القرآن كل علم، وميز لنا فيه كل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذرة، والخردلة، والبعوضة‏)‏‏)‏، أخرجه أبو الشيخ في كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏العظمة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو ما فهمه من القرآن، قلت‏:‏ ويؤيد قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه‏)‏‏)‏، رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة - رضي الله عنها -‏.‏

وقال الشافعي أيضاً‏:‏ ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، لا يقال‏:‏ إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة، لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة، لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع من القرآن، وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه، ولهذا نهى عن التقليد، وجميع السنة شرح للقرآن، وتفسير للفرقان‏.‏

قال الشافعي مرة بمكة المكرمة‏:‏ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله‏.‏

فقيل له‏:‏ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور‏.‏

فقال‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏، ‏(‏2/ 191‏)‏ ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر، وعمر‏)‏‏)‏، ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور، ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات، وغيرهن، واستدلاله بالآية الكريمة المذكورة، وهي معروفة، رواها البخاري‏.‏

ونحوه حكاية المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بالقرآن وهي‏:‏

أنها قال عبد الله بن المبارك‏:‏ خرجت قاصداً بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام -، فبينما أنا سائر في الطريق، وإذا بسواد، فمررت به، وإذا هي عجوز عليها درع من صوف، وخمار من صوف، فقلت‏:‏ السلام عليك، ورحمة الله، وبركاته، فقالت‏:‏ ‏{‏سلام قولاً من رب رحيم‏}‏، فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المكان‏؟‏

فقالت‏:‏ ‏{‏من يضلل الله فلا هادي له‏}‏، فقلت أنها ضالة عن الطريق، فقلت‏:‏ أين تريدين‏:‏

فقالت‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏}‏، فعلمت أنها قضت حجها، وتريد بيت المقدس، فقلت‏:‏ أنت مذ كم في هذا المكان‏؟‏

فقالت‏:‏ ‏{‏ثلاث ليال سوياً‏}‏، فقلت أما أرفعك طعاماً‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏، فقلت لها ليس هذا شهر رمضان‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏ومن تطوع خيراً، فإن الله شاكر عليم‏}‏، فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏، فقلت لها لم لا تكلميني مثل ما أكلمك به، فقالت‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏، فقلت لها‏:‏ من أي الناس أنت‏؟‏

فقالت‏:‏ ‏{‏ولاتقفو ما ليس لك به علم إن السمع، والبصر، والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏، فقلت لها‏:‏ قد أخطأت فاجعلني في حل‏.‏ ‏(‏2/ 192‏)‏ فقالت‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏}‏، قلت لها‏:‏ هل لك أن أحملك على ناقتي، وتلحقي القافلة‏.‏

قالت‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير يعلمه الله‏}‏ فأنخت مطيتي لها‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏، فغضضت بصري عنها، فقلت‏:‏ اركبي، فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها، ومزقت ثيابها‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏، فقلت لها‏:‏ اصبري حتى أعقلها‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏، فشددت لها الناقة، وقلت لها‏:‏ اركبي، فلما ركبت،

قالت‏:‏ ‏{‏سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا إلى ربنا لمنقلبون‏}‏، فأخذت بزمام الناقة، وجعلت أسعى، وأصيح طرباً‏.‏

فقالت لي‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيتك، وغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير‏}‏، فجعلت أمشي، وأترنم بالشعر‏.‏

فقالت‏:‏ ‏{‏واقرأوا ما تيسر من القرآن‏}‏ فقلت‏:‏ ليس هو بحرام‏.‏

قالت‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏، فطرقت عنها ساعة، فقلت لها‏:‏ هل لك ربع‏؟‏

قالت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏، فسكت عنها، ولم أكملها، حتى أدركت بها القافلة، فقلت‏:‏ لها هذه القافلة، فمن لك فيها‏؟‏

فقالت‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏، فعلمت أن لها أولاداً، ومالاً، فقلت لها‏:‏ ما شأنهم في الحاج‏؟‏

قالت‏:‏ ‏{‏وعلامات وبالنجم هم يهتدون‏}‏، فعلمت أنهم أدلاء الركب، فقصدت بي القبابات، والعمارات، فقلت‏:‏ من لك فيها‏؟‏

فقالت‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏، ‏{‏وكلم الله موسى تكليماً‏}‏، ‏(‏2/ 193‏)‏، ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏}‏ فناديت‏:‏ يا إبراهيم، يا موسى، يا، يحيى فجاءوني بالتلبية، فإذا هم شبان كأنهم الأقمار، قد أقبلوا، فلما استقر بهم الجلوس، قالت لهم‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف‏}‏، فقام أحدهم فاشترى طعاماً، فقدموه بين يدي، وقالت‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية‏}‏، فقلت لهم‏:‏ طعامكم هذا علي حرام، حتى تخبروني بامرأتكم هذه، فقالوا‏:‏ هذه لها أربعون سنة ما تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها، فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء -‏.‏ انتهت الحكاية، وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله، حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وستين سنة من قوله تعالى في سورة المنافقين‏:‏ ‏{‏ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها‏}‏، فإنها رأس ثلاث وستين، وعقبها بالتغابن، ليظهر التغابن في فقده‏.‏

قال المرسي‏:‏ جمع القرآن، وعلوم الأولين، والآخرين، بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة، وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، حتى قال‏:‏ لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتقال أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة، والتابعون من علومه، وسائر فنونه، فنوعوا علمه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتزم قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعدد كلماته، وآياته، وسوره، وأجزائه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته ‏(‏2/ 194‏)‏، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهات، والآيات المتماثلات، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه، فسموا‏:‏ القراء‏.‏

واعتنى النحاة بالمعرب منه، والمبني، من الأسماء، والأفعال، والحروف العاملة، وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء، وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم، والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة‏.‏

واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين، والمعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره‏.‏

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية، والنظرية، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله، ووجوده، وبقائه، وقدمه، وقدرته، وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بـ‏:‏ أصول الدين‏.‏

وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، وإن منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغات من الحقيقة، والمجاز، وتكلموا في التخصيص، والإضمار، والنص، والظاهر، والمجمل، والمحكم، والمتشابه، والأمر، والنهي، والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال، والاستقراء وسموا هذا الفن‏:‏ أصول الفقه‏.‏

وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر، فيما فيه من الحلال، والحرام، وسائر الأحكام، فابتنوا أصوله، وفروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسموه بـ‏:‏ علم الفروع، وبـ‏:‏ الفقه أيضاً‏.‏

وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأمم الخالية، ونقلوا ‏(‏2/ 195‏)‏ أخبارهم، ودونوا آثارهم، ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا أول الأشياء، حتى سموا ذلك بالتاريخ، والقصص‏.‏

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم، والأمثال، والمواعظ، التي ترقق قلوب الرجال، وتكاد تدكدك شوامخ الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد، والوعيد، والتحذير، والتبشير، وذكر الموت، والمعاد، والنشر، والحشر، والحساب، والعقاب، والجنة، والنار، فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك‏:‏ الخطباء، والوعاظ‏.‏

واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤياه الشمس، والقمر، والنجوم ساجدة، وسموه‏:‏ تعبير الرؤيا‏.‏

واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فمن الحكم، والأمثال‏.‏

ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطبتهم، وعرف عادمهم، الذي أشار إليه القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏‏.‏

وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام، وأربابها، وغير ذلك‏:‏ علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف، والثلث، والربع، والسدس، والثمن، حساب الفرائض، ومسائل العول، واستخرجوا منها أحكام الوصايا‏.‏

ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومنازله، والنجوم، والبروج، غير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت‏.‏

ونظر الكتاب، والشعراء، إلى ما فيه من جلالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ، والمقاطع، والمخالص، والتلوين في الخطاب، والإطناب، والإيجاز، وغير ‏(‏2/ 196‏)‏ ذلك، فاستنبطوا منه المعاني، والبيان، والبديع‏.‏

ونظر فيه أرباب الإشارات، وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان، ودقائق، جعلوا لها أعلاماً اصطلحوا عليها من الفناء، والبقاء، والحضور، والخوف، والهيبة، والأنس، والوحشة، والقبض، والبسط، وما أشبه ذلك‏.‏

هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخر مثل‏:‏ الطب، والجلد، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك‏.‏

أما الطب‏:‏ فمداره على حفظ نظام الصحة، واستحكام القوة، وغير ذلك، وإنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏وكان بين ذلك قواماً‏}‏، وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاطه، وحدوث الشفاء للبدن بعد إعلاله في قوله‏:‏ ‏{‏شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس‏}‏، ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب‏:‏ ‏{‏وشفاء لما في الصدور‏}‏‏.‏

وأما الهيئة‏:‏ ففي تضاعيف سور من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات، والأرض، وما بث في العالم العلوي، والسفلي من المخلوقات‏.‏

وأما الهندسة‏:‏ ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انطقوا إلى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب‏}‏، فإن فيه القاعدة الهندسية، وهي‏:‏ أن الشكل المثلث لا ظل له‏.‏

وأما الجدل‏:‏ فقد حوت آياته من البراهين، والمقدمات، والنتائج، والقول بالموجب، والمعارضة، وغير ذلك شيئاً كثيراً، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم‏.‏

وأما الجبر، والمقابلة‏:‏ فقد قيل‏:‏ أن أوائل السور فيها ذكر مدد أعوام، وأيام، وتواريخ أمم سابقة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ هذه الدنيا، وما مضى، وما بقي مضروب بعضها في بعض‏.‏

وأما النجامة‏:‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏أو أثارة من علم‏}‏، فقد فسره ابن عباس بذلك، وفيه أصول الصنائع، وأسماء الآلات، التي تدعو الضرورة إليها، فمن الصنائع‏:‏ الخياطة في قوله‏:‏ ‏{‏وطفقا يخصفان‏}‏ ‏(‏2/ 197‏)‏، والحدادة في قوله‏:‏ ‏{‏آتوني زبر الحديد‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وألنا له الحديد‏}‏‏.‏

والبناء في آيات

والنجارة‏:‏ ‏{‏أن اصنع الفلك‏}‏‏.‏

والغزل‏:‏ ‏{‏نقضت غزلها‏}‏‏.‏

والنسج‏:‏ ‏{‏كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً‏}‏‏.‏

والفلاحة‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تحرثون‏}‏، وفي آيات أخر

والضية في آيات‏.‏

والغوص‏:‏ ‏{‏كل بناء وغواص‏}‏، ‏{‏وتخرجون منه حلية‏}‏‏.‏

والصياغة‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً‏}‏‏.‏

والزجاجة‏:‏ ‏{‏صرح ممرد من قوارير‏}‏، و‏:‏ ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏‏.‏

والفخارة‏:‏ ‏{‏فأوقد لي يا هامان على الطين‏}‏‏.‏

والملاحة‏:‏ ‏{‏أما السفينة‏}‏ الآية‏.‏

والكتابة‏:‏ ‏{‏علم بالقلم‏}‏، وفي آيات أخر‏.‏

والخبز، والعجن‏:‏ ‏{‏احمل فوق رأسي خبزاً‏}‏‏.‏

والطبخ‏:‏ ‏{‏فجاء بعجل حنيذ‏}‏‏.‏

والغسل، والقصارة‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ وقال الحواريون، وهم القصارون‏.‏

والجزارة‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏‏.‏

والبيع، والشراء في آيات كثيرة‏.‏

والصبغ صبغة الله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله صبغة‏}‏ و‏:‏ ‏{‏بيض‏}‏ و‏:‏ ‏{‏حمر‏}‏‏.‏

والحجارة‏:‏ ‏{‏تنحتون الجبال بيوتاً‏}

والكيالة، والوزن في آيات كثيرة‏.‏

والرمي‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت‏}‏، ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏‏.‏

وفيه من أسماء الآلات، وضرب المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، وجميع ما وقع، ويقع في الكائنات، ما يحقق معنى قوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏‏.‏ انتهى كلام المرسي ملخصاً مع زيادات‏.‏ ‏(‏2/ 198‏)‏

قال السيوطي في‏:‏ ‏(‏‏(‏الإكليل‏)‏‏)‏‏:‏ وأنا أقول‏:‏ قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء‏.‏

أما أنواع العلوم، فليس منها باب، ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه علم عجائب المخلوقات، وملكوت السموات، والأرض، وما في الأفق الأعلى، وتحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل، والملائكة، وعيون أخبار الأمم السابقة‏:‏ كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة‏.‏

وفي الولد الذي سماه عبد الحارث، ورفع إدريس، وغرق قوم نوح‏.‏

وقصة عاد الأولى والثانية، وقوم تبع، ويونس، وأصحاب الرس، وثمود، والناقة، وقوم لوط، وقوم شعيب الأولين والآخرين، فإنه أرسل مرتين‏.‏

وقصة موسى في ولادته، وإلقائه في اليم، وقتله القبطي، ومسيره إلى مدين، وتزوجه ابنة شعيب، وكلامه تعالى بجانب الطور، ومجيئه إلى فرعون، وخروجه، وإغراق عدوه، وقصة العجل، والقوم الذين خرج بهم، وأخذتهم الصاعقة، وقصة القتيل، وذبح البقرة، وقصته في قتل الجبارين، وقصته مع الخضر، والقوم ساروا في سرب من الأرض إلى الصين‏.‏

وقصة طالوت، وداود مع جالوت، وفتنته، وقصة سليمان، وخبره مع ملكة سبأ، وفتنته، وقصة القوم الذي خرجوا فراراً من الطاعون، فأماتهم الله، ثم أحياهم، وقصة إبراهيم في مجادلة قومه، ومناظرة نمرود، وقصة وضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة، وبنائه البيت، وقصة الذبيح، وقصة يوسف، وما أبسطها، وأحسنها قصصاً‏.‏

وقصة مريم، وولادتها عيسى، وإرساله، ورفعه، وقصة زكريا، وابنه يحيى، وقصة أيوب، وذي الكفل، وقصة ذي القرنين، ومسيره إلى مطلع الشمس، ومغربها، وبناء السد، وقصة أهل الكهف، وقصة أصحاب الرقيم، وقصة بخت نصر، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة، وقصة أصحاب الجنة، وقصة مؤمن آل يس، وقصة أصحاب الفيل، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء‏.‏ انتهى‏.‏

وبقيت قصص لم يشر إليها السيوطي منها‏:‏ قصة قتل قابيل أخاه هابيل، وقصة دفن هابيل بدلالة الغراب، وقصة وصية يعقوب بنيه، إلى غير ذلك، قال‏:‏ وفيه ‏(‏2/ 199‏)‏ من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، وبعثه، وهجرته‏.‏

ومن غزواته‏:‏ غزوة بدر في سورة الأنفال، وأحد في آل عمران، وبدر الصغرى فيها، والخندق في الأحزاب، والنضير في الحشر، والحديبية في الفتح، وتبوك في براءة، وحجة الوداع في المائدة‏.‏

ونكاحة زينب بنت جحش، وتحريم سرية، وتظاهر أزواجه عليه، وقصة الإفك، وقصة الإسراء، وانشقاق القمر، وسحر اليهود‏.‏

وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته، وكيفية الموت، وقبض الروح، وما يفعل بها بعد عودها إلى السماء، وفتح الباب للمؤمنة، وإلقاء الكافرة، وعذاب القبر، والسؤال فيه، ومقر الأرواح، وأشراط الساعة الكبرى العشرة، وهي‏:‏ نزول عيسى، وخروج الدجال، ويأجوج، ومأجوج، والدابة، والدخان، ورفع القرآن، وطلوع الشمس من مغربها، وغلق باب التوبة، والخسف وأحوال البعث‏:‏ من نفخ الصور للفزع، وللصعق، وللقيام، والحشر، والنشر، وأهوال الموقف، وشدة الشمس، وظل العرش، والصراط، والميزان، والحوض، والحساب لقوم، ونجاه آخرين‏.‏

ومنه‏:‏ شهادة الأعضاء، وإيتاء الكتب بالأيمان، والشمائل، وخلف الظهر، والشفاعة أي بالإذن، والجنة، وأبوابها، وما فيها من الأنهار، والأشجار، والثمار، والحلي، والأواني، والدرجات، ورؤية الله تعالى‏.‏

والنار، وما فيها من الأودية، وأنواع العقاب وأصناف العذاب، والزقوم ‏(‏2/ 200‏)‏، والحميم، إلى غير ذلك، مما لو بسط لجاء في مجلدات‏.‏

وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى، كما ورد في الحديث، وفيه من أسمائه مطلقاً ألف اسم وفيه‏:‏ من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أي سبعون اسما، ذكرها السيوطي في آخر‏:‏ ‏(‏‏(‏الإكليل‏)‏‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ شعب الإيمان البضع، والسبعون‏.‏

وفيه‏:‏ شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر، وفيه‏:‏ أنواع الكبائر، وكثير من الصغائر، وفيه تصديق كل حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال الحسن البصري‏:‏ أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها‏:‏ التوارة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان المفصل، ثم أودع علوم الفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة‏.‏ أخرجه البيهقي‏.‏

قلت‏:‏ ولذلك كانت قراءتها في كل ركعة من الصلاة، وإن كان مأموماً واجبة عند أهل المعرفة بالحق، وكانت السبع المثاني، والقرآن العظيم، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها، ما خلا ما صرح بوضعها أهل النقد من علم الحديث، وقد فسرها جماعة من أهل العلم مفردة بالتأليف، وأبسطوا القول فيها، وأجملوا، واستنبط الفخر الرازي الإمام منها عشرة آلاف مسئلة، كما صرح بذلك في أول‏:‏ ‏(‏‏(‏تفسيره الكبير‏)‏‏)‏، وكل ذلك يدل على عظم مرتبة الكتاب العزيز، ورفعة شأن الفرقان الكريم، قال الشافعي - رحمه الله -‏:‏ جميع ما تقول الأئمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن‏.‏

قلت‏:‏ ولذا كان الحديث، والقرآن أصلي الشرع لا ثالث لهما، وقول الأصوليين أن أدلة الشرع، وأصوله أربعة‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، تسامح ظاهر كيف وهما كفيلان لحكم كل ما حدث في العالم، ويحدث فيه إلى يوم ‏(‏2/ 201‏)‏ القيامة، دلت على ذلك آيات من الكتاب العزيز، وآثار من السنة المطهرة، وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر، وهم الذين قال فيهم رسول - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‏)‏‏)‏، الحديث قال بعض السلف‏:‏ ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا وهو في القرآن، أو فيه أصله قرب، أو بعد فهم من فهم، وعمي منه من عمي، وكذا كل ما حكم، أو قضى به‏.‏ انتهى‏.‏

فإذا كانت السنة شرحاً للكتاب، فماذا يقال من فضل الكتاب نفسه، وكفى له شرفاً أنه كلام ربنا الخلاق، الرزاق، المنعم بلا استحقاق أنزله حكماً، عدلاً، جامعاً للعلوم، والفضائل كلها، والفنون بأسرها، والفواضل، والمحاسن، والمكارم، والمحامد، والمناقب، والمراتب بقلها، وكثرها، لا يساويه كتاب، ولا يوازيه خطاب، وهذه جملة القول فيه

وقد أكثر الناس التصنيف في أنواع علوم القرآن، وتفاسيرها، وألف الشيخ الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - في جملة من أنواعه‏:‏ كأسباب النزول، والمعرب، والمبهمات، ومواطن الورود، وغير ذلك، وما من كتاب منها إلا وقد فاق الكتب المؤلفة في نوعه ببديع اختصاره، وحسن تحريره، وكثرة جمعه‏.‏

وقد أفرد الناس في أحكامه كتباً‏:‏ كالقاضي إسماعيل، والبكر بن العلاء، وأبي بكر الرزاي، والكيا الهراسي، وأبي بكر بن العربي، وابن الفرس، والموزعي، وغيرهم، وكل منهم أفاد، وأجاد، وجمع فأبدع، وأوعى‏.‏

وللسيوطي في ذلك كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏الإكليل في استنباط التنزيل‏)‏‏)‏، أورد فيه كل ما استنبط منه، واستدل به عليه من مسئلة فقهية، أو أصولية، أو اعتقادية، فاشدد بذلك الكتاب يديك، وعض عليه بناجذيك‏.‏

وألفت أنا في الأحكام خاصة كتاب‏:‏ ‏(‏‏(‏نيل المرام من تفسير آيات الأحكام‏)‏‏)‏، وبالجملة فعلوم الكتاب لا تحصى، وتفاسيره لا تستقصى، وفنونه لا تتناهى، وبركاته لا ‏(‏2/ 202‏)‏ تقف عند حد، وأنواره لا ترسم برسم، ولا تحد بحد‏.‏

وإذا تقرر ذلك عرفت أن العلوم التي ذكرناها في هذا الكتاب، كلها موجودة في ذلك الكتاب دلالة، وإشارة، منطوقاً، أو مفهوماً، مفسراً، أو مجملاً، ولا يعرفها إلا من رسخ قدمه في الكمال، وسبح فهمه في بحار العلم بالتفصيل، والإجمال، -- ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏-

 علم تقاسيم العلوم

هو‏:‏ علم يبحث فيه عن التدرج، من أعم الموضوعات إلى أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم، ولما كان أعم العلوم موضوعاً العلم الإلهي جعل تقسيم العلوم من فروعه، ويمكن التدرج فيه من الأخص إلى الأعم على عكس ما ذكر لكن، الأول أسهل، وأيسر‏.‏

وموضوع هذا العلم، وغايته، والغرض منه، ومنفعته كلها لا يخفى على أحد‏.‏

وصنف ابن سينا في هذا العلم رسالة، وهذا الكتاب الذي نحن بصدد تنقيحه، وتهذيبه عظيم النفع في هذا الباب - إن شاء الله تعالى -، وتقدم الكلام على هذه التقاسيم في القسم الأول من هذا الكتاب على وجه التفصيل‏.‏

 علم تلفيق الحديث

هو‏:‏ علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتنافية ظاهراً، إما بتخصيص العام تارة، أو بتقييد المطلق أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة، إلى غير ذلك من وجوه التأويل، وكثيراً ما يورده شراح الأحاديث أثناء شروحهم، إلا أن بعضا من العلماء قد اعتنى بذلك، فدونوه على حده، ذكره أبو الخير من فروع علم الحديث، والتصانيف في هذا الفن قليلة ‏(‏2/203‏)‏