فصل: الفصل الْخَامِسُ: حُكْمُ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***


الباب الثَّانِي‏:‏ فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ وَمُؤْذِيهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَذِكْرِ اسْتِتَابَتِهِ، وَوِرَاثَتِهِ

الفصل الْأَوَّلُ‏:‏ فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ سَبٌّ، وَأَذًى فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرْنَا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ فَاعِلِ ذَلِكَ وَقَائِلِهِ، أَوْ تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَرَّرْنَا الْحُجَجَ عَلَيْهِ‏.‏

وَبَعْدُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ قَتْلُهُ حَدًّا لَا كُفْرًا إِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُمْ تَوْبَتُهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ اسْتِقَالَتُهُ، وَلَا فَيْأَتُهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ وَمُسِرِّ الْكُفْرِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى هَذَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ، أَوْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّبِّ، وَتَابَ مِنْهُ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ قُتِلَ بِالسَّبِّ، لِأَنَّهُ هُوَ حَدُّهُ‏.‏ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي مِثْلِهِ، وَأَمَّا مَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ فَتَوْبَتُهُ تَنْفَعُهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ ‏:‏ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ تَابَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ تُزِلْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ الْقَتْلَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي الزِّنْدِيقِ إِذَا جَاءَ تَائِبًا، فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ‏:‏

قَالَ‏:‏ مِنْ شُيُوخِنَا مَنْ قَالَ‏:‏ اقْتُلْهُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا اعْتَرَفَ خِفْنَا أَنَّهُ خَشِيَ الظُّهُورَ عَلَيْهِ فَبَادَرَ لِذَلِكَ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، لِأَنِّي أَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّتِهَا بِمَجِيئِهِ، فَكَأَنَّنَا وَقَفْنَا عَلَى بَاطِنِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَسَرَّتْهُ الْبَيِّنَةُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ وَهَذَا قَوْلُ أَصْبَغَ ، وَمَسْأَلَةُ سَابِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى، لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْخِلَافُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأُمَّتِهِ بِسَبِّهِ لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ‏.‏

وَالزِّنْدِيقُ إِذَا تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَحْمَدَ، لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْبَلُ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ‏.‏

وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ يُسْتَتَابُ‏.‏

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ ‏:‏ وَلَمْ يَزُلِ الْقَتْلُ عَنِ الْمُسْلِمِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ سَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ شَيْئًا حَدُّهُ عِنْدَنَا الْقَتْلُ لَا عَفْوَ فِيهِ لِأَحَدٍ، كَالزِّنْدِيقِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ ظَاهِرٍ إِلَى ظَاهِرٍ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ نَصْرٍ مُحْتَجًّا لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ تَوْبَتِهِ‏:‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَشْهُورِ الْقَوْلِ بِاسْتِتَابَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ، وَالْبَشَرُ جِنْسٌ تَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ إِلَّا مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِنُبُوَّتِهِ، وَالْبَارِئُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَايِبِ قَطْعًا، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسٍ تَلْحَقُ الْمَعَرَّةُ بِجِنْسِهِ، وَلَيْسَ سَبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالِارْتِدَادِ الْمَقْبُولِ فِيهِ التَّوْبَةُ، لِأَنَّ الِارْتِدَادَ مَعْنًى يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُرْتَدُّ، لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ‏.‏ وَمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّقَ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَكَانَ كَالْمُرْتَدِّ يُقْتَلُ حِينَ ارْتِدَادِهِ أَوْ يُقْذَفُ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ حَدَّ الْقَتْلِ، وَالْقَذْفِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ إِذَا قُبِلَتْ لَا تُسْقِطُ ذُنُوبَهُ مِنْ زِنًا وَسَرِقَةٍ وَغَيْرهَا، وَلَمْ يُقْتَلْ سَابُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُفْرِهِ، لَكِنْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَزَوَالِ الْمَعَرَّةِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ يُرِيدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏:‏ لِأَنَّ سَبَّهُ لَمْ يَكُنْ بِكَلِمَةٍ تَقْتَضِي الْكُفْرَ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى الْإِزْرَاءِ، وَالِاسْتِخْفَافِ، أَوْ لِأَنَّ بِتَوْبَتِهِ وَإِظْهَارِ إِنَابَتِهِ ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْكُفْرِ ظَاهِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ، وَبَقِيَ حُكْمُ السَّبِّ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْقَابِسِيُّ ‏:‏ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ، لِأَنَّ السَّبَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُرْتَدِّ‏.‏ وَكَلَامُ شُيُوخِنَا هَؤُلَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِقَتْلِهِ، حَدًّا لَا كُفْرًا، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ رِدَّةٌ، قَالُوا‏:‏ وَيُسْتَتَابُ مِنْهَا، فَإِنْ تَابَ نُكِّلَ، وَإِنْ أَبَى قُتِلَ، فَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ مُطْلَقًا فِي هَذَا الْوَجْهِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏:‏ أَشْهَرُ، وَأَظْهَرُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَنَحْنُ نَبْسُطُ الْكَلَامَ فِيهِ، فَنَقُولُ‏:‏

مَنْ لَمْ يَرَهُ رِدَّةً فَهُوَ يُوجِبُ الْقَتْلَ فِيهِ حَدًّا، وَإِنَّمَا نَقُولُ ذَلِكَ مَعَ فَصْلَيْنِ‏:‏ إِمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، أَوْ إِظْهَارِهِ الْإِقْلَاعَ وَالتَّوْبَةَ عَنْهُ، فَنَقْتُلُهُ حَدًّا لِثَبَاتِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْقِيرِهِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَأَجْرَيْنَا حُكْمَهُ فِي مِيرَاثِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ أَوْ تَابَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَكَيْفَ تُثْبِتُونَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ، وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَا تَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ مِنَ الِاسْتِتَابَةِ وَتَوَابِعِهَا‏!‏

قُلْنَا‏:‏ نَحْنُ وَإِنْ أَثْبَتْنَا لَهُ حُكْمَ الْكَافِرِ فَلَا نَقْطَعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لِإِقْرَارِهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ وَإِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ زَعَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ وَهَلًا وَمَعْصِيَةً، وَأَنَّهُ مُقْلِعٌ عَنْ ذَلِكَ نَادِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ خَصَائِصُهُ، كَقَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ سَبَّهُ مُعْتَقِدًا اسْتِحْلَالَهُ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ بِذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سَبَّهُ فِي نَفْسِهِ كَفَرَ، كَتَكْذِيبِهِ أَوْ تَكْفِيرِهِ، وَنَحْوِهُ، فَهَذَا مِمَّا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَيُقْتَلُ، وَإِنْ تَابَ مِنْهُ، لِأَنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَنَقْتُلُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ حَدًّا؛ لِقَوْلِهِ وَمُتَقَدِّمِ كُفْرِهِ، وَأَمْرُهُ بَعْدُ إِلَى اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى صِحَّةِ إِقْلَاعِهِ، الْعَالِمِ بِسِرِّهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُظْهِرِ التَّوْبَةَ، وَاعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَصَمَّمَ عَلَيْهِ فَهَذَا كَافِرٌ بِقَوْلِهِ، وَبِاسْتِحْلَالِهِ هَتْكَ حُرْمَةِ اللَّهِ وَحُرْمَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ‏.‏

فَعَلَى هَذِهِ التَّفْصِيلَاتِ خُذْ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ، وَنَزِّلْ مُخْتَلَفَ عِبَارَاتِهِمْ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهَا، وَأَجْرِ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُوَارَثَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى تَرْتِيبِهَا تَتَّضِحُ لَكَ مَقَاصِدُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

الفصل الثَّانِي‏:‏ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ

إِذَا قُلْنَا بِالِاسْتِتَابَةِ حَيْثُ تَصِحُّ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ، إِذْ لَا فَرْقَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وُجُوبِهَا وَصُورَتِهَا وَمُدَّتِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ‏.‏

وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ عُمَرَ فِي الِاسْتِتَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ‏.‏

وَذَهَبُ طَاوُسٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْحَسَنُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَذَكَرَهُ عَنْ مُعَاذٍ، وَأَنْكَرَهُ سُحْنُونٌ عَنْ مُعَاذٍ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، قَالُوا‏:‏ وَتَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرَأُ الْقَتْلَ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»‏.‏

وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ ‏:‏ إِنْ كَانَ مِمَّنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُسْتَتَبْ، وَيُسْتَتَابُ الْإِسْلَامِيُّ‏.‏

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْمُرْتَدَّةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَتُسْتَرَقُّ، وَقَالَهُ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏:‏ لَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ فِي الرِّدَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ ‏:‏ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالذَّكُرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ‏.‏

وَأَمَّا مُدَّتُهَا فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُحْبَسُ فِيهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ ، وَاسْتَحْسَنَهُ مَالِكٌ ، وَقَالَ‏:‏ لَا يَأْتِي الِاسْتِظْهَارُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ‏.‏‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ ‏:‏ يُرِيدُ فِي الِاسْتِينَاءِ ثَلَاثًا‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا‏:‏ الَّذِي آخُذُ بِهِ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلُ عُمَرَ‏:‏ يُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي تَأْخِيرِهِ ثَلَاثًا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ ‏:‏ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ‏؟‏، وَاسْتَحْسَنَ الِاسْتِتَابَةَ وَالِاسْتِينَاءَ ثَلَاثًا أَصْحَابُ الرَّأْيِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ اسْتَتَابَ امْرَأَةً فَلَمْ تَتُبْ فَقَتَلَهَا، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً، فَقَالَ‏:‏ إِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ مَكَانَهُ‏.‏ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمُزَنِيُّ‏.‏

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ‏:‏ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ يُسْتَتَابُ شَهْرَيْنِ‏.‏ وَقَالَ النَّخَعِيُّ ‏:‏ يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَبِهِ أَخَذَ الثَّوْرِيُّ مَا رُجِيَتْ تَوْبَتُهُ‏.‏ وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثِ جُمَعٍ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ جُمُعَةٍ مَرَّةً‏.‏

وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ ‏:‏ يُدْعَى الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَبَى ضُرِبَتْ عُنُقُهُ‏.‏

وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا هَلْ يُهَدَّدُ أَوْ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ لِيَتُوبَ أَمْ لَا‏؟‏ فَقَالَ مَالِكٌ ‏:‏ مَا عَلِمْتُ فِي الِاسْتِتَابَةِ تَجْوِيعًا، وَلَا تَعْطِيشًا، وَيُؤْتَى مِنَ الطَّعَامِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ‏.‏

وَقَالَ أَصْبَغُ ‏:‏ يُخَوَّفُ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ بِالْقَتْلِ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ‏.‏

وَفِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الطَّابِثِيِّ‏:‏ يُوعَظُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَيُذَكَّرُ بِالْجَنَّةِ، وَيُخَوَّفُ بِالنَّارِ‏.‏

قَالَ أَصْبَغُ ‏:‏ وَأَيُّ الْمَوَاضِعِ حُبِسَ فِيهَا مِنَ السُّجُونِ مَعَ النَّاسِ أَوْ وَحْدَهُ إِذَا اسْتُوثِقَ مِنْهُ سَوَاءٌ، وَيُوقَفُ مَالُهُ إِذَا خِيفَ أَنْ يُتْلِفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُطْعَمُ مِنْهُ وَيُسْقَى‏.‏

وَكَذَلِكَ يُسْتَتَابُ كُلَّمَا رَجَعَ، وَارْتَدَّ أَبَدًا، وَقَدِ اسْتَتَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْهَانَ الَّذِي ارْتَدَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ خَمْسًا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ‏:‏ يُسْتَتَابُ أَبَدًا كُلَّمَا رَجَعَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ‏.‏

وَقَالَ إِسْحَاقُ ‏:‏ يُقْتَلُ فِي الرَّابِعَةِ‏.‏

وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ‏:‏ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الرَّابِعَةِ قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَإِنْ تَابَ ضُرِبَ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَيْهِ خُشُوعُ التَّوْبَةِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ‏:‏ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَدَبًا إِذَا رَجَعَ‏.‏ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالْكُوفِيِّ ‏.‏

الفصل الثَّالِثُ‏:‏ هَذَا حُكْمُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ ثُبُوتُهُ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ عُدُولٍ لَمْ يُدْفَعْ فِيهِمْ

فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ أَوِ اللَّفِيفُ مِنَ النَّاسِ، أَوْ ثَبَتَ قَوْلُهُ لَكِنِ احْتُمِلَ، وَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا‏.‏

وَكَذَلِكَ إِنْ تَابَ عَلَى الْقَوْلِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ فَهَذَا يُدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلُ، وَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ بِقَدْرِ شُهْرَةِ حَالِهِ، وَقُوَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَضَعْفِهَا وَكَثْرَةِ السَّمَاعِ عَنْهُ، وَصُورَةِ حَالِهِ مِنَ التُّهْمَةِ فِي الدِّينِ، وَالنِّبْرِ بِالسَّفَهِ، وَالْمُجُونِ، فَمَنْ قَوِيَ أَمْرُهُ أَذَاقَهُ مِنْ شَدِيدِ النَّكَالِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي السَّجْنِ، وَالشَّدِّ فِي الْقُيُودِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ لِمَا لَا يَمْنَعُهُ الْقِيَامُ لِضَرُورَتِهِ، وَلَا يُقْعِدُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، لَكِنْ وُقِفَ عَنْ قَتْلِهِ لِمَعْنًى أَوْجَبَهُ، وَتُرُبِّصَ بِهِ لِإِشْكَالٍ وَعَائِقٍ اقْتَضَاهُ أَمْرُهُ، وَحَالَاتُ الشِّدَّةِ فِي نَكَالِهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِهِ‏.‏

وَقَدْ رَوَى الْوَلِيدُ عَنْ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا رِدَّةٌ، فَإِذَا تَابَ نُكِّلَ‏.‏

وَلِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ، مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ‏:‏ إِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ سُحْنُونٌ ‏.‏

وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ عُدِّلَ أَحَدُهُمَا بِالْأَدَبِ الْمُوجِعِ وَالتَّنْكِيلِ وَالسَّجْنِ الطَّوِيلِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ‏.‏

وَقَالَ الْقَابِسِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا‏:‏ وَمَنْ كَانَ أَقْصَى أَمْرِهِ الْقَتْلَ فَعَاقَ عَائِقٌ أَشْكَلَ فِي الْقَتْلِ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُطْلَقَ مِنَ السِّجْنِ، وَيُسْتَطَالُ سِجْنُهُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُدَّةِ مَا عَسَى أَنْ يُقِيمَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ مَا يُطِيقُ‏.‏

وَقَالَ فِي مِثْلِهِ مِمَّنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ‏:‏ يُشَدُّ فِي الْقُيُودِ شَدًّا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ حَتَّى يُنْظَرَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا‏:‏ وَلَا تُهْرَاقُ الدِّمَاءُ إِلَّا بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ، وَفِي الْأَدَبِ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنِ نَكَالٌ لِلسُّفَهَاءِ، وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً شَدِيدَةً، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ سِوَى شَاهِدَيْنِ، فَأُثْبِتَ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا أَوْ جَرْحَتِهِمَا مَا أَسْقَطَهُمَا عَنْهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَأَمْرُهُ أَخَفُّ لِسُقُوطِ الْحُكْمِ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ التَّبْرِيزِ فَأَسْقَطَهُمَا بِعَدَاوَةٍ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا فَلَا يَدْفَعُ الظَّنُّ صِدْقَهُمَا، وَلِلْحَاكِمِ هُنَا فِي تَنْكِيلِهِ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ‏.‏ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِرْشَادِ‏.‏

الفصل الرَّابِعُ‏:‏ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ

هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا صَرَّحَ بِسَبِّهِ أَوْ عَرَّضَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَلَا خِلَافَ عِنْدِنَا فِي قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، لِأَنَّا لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ أَوِ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيَّ ، وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ لَا يُقْتَلُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ وَيُعَذَّرُ‏.‏

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَلَى قَتْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 12‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَشْبَاهِهِ، وَلِأَنَّا لَمْ نُعَاهِدْهُمْ، وَلَمْ نُعْطِهِمُ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَهُمْ، فَإِذَا أَتَوْا مَا لَمْ يُعْطَوْا عَلَيْهِ الْعَهْدَ، وَلَا الذِّمَّةَ فَقَدْ نَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ، وَصَارُوا كُفَّارًا يُقْتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِمَّتَهُمْ لَا تُسْقِطُ حُدُودَ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ، مِنَ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْقَتْلِ لِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا عِنْدَهُمْ فَكَذَلِكَ سَبُّهُمُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُونَ بِهِ‏.‏

وَوَرَدَتْ لِأَصْحَابِنَا ظَوَاهِرُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ إِذَا ذَكَرَهُ الذِّمِّيُّ بِالْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ، سَتَقِفُ عَلَيْهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَابْنِ سُحْنُونٍ بَعْدُ‏.‏

وَحَكَى أَبُو الْمُصْعَبِ الْخِلَافَ فِيهَا عَنْ أَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ‏.‏ وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقِيلَ‏:‏ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بَاطِنَةَ الْكَافِرِ فِي بُغْضِهِ لَهُ، وَتَنَقُّصِهِ بِقَلْبِهِ، لَكِنَّا مَنَعْنَاهُ مِنْ إِظْهَارِهِ، فَلَمْ يَزِدْنَا مَا أَظْهَرَهُ إِلَّا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ، فَإِذَا رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْأَوَّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قَبْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وَالْمُسْلِمُ بِخِلَافِهِ، إِذْ كَانَ ظَنُّنَا بِبَاطِنِهِ حُكْمَ ظَاهِرِهِ وَخِلَافَ مَا بَدَا مِنْهُ الْآنَ فَلَمْ نَقْبَلْ بَعْدُ رُجُوعَهُ، وَلَا اسْتَنَمْنَا إِلَى بَاطِنِهِ، إِذْ قَدْ بَدَتْ سَرَائِرُهُ، وَمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لَا يُسْقِطُهَا شَيْءٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يُسْقِطُ إِسْلَامُ الذِّمِّيِّ السَّابِّ قَتْلَهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ عَلَيْهِ، لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَتَهُ، وَقَصْدِهِ إِلْحَاقَ النَّقِيصَةَ وَالْمَعَرَّةَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالَّذِي يُسْقِطُهُ، كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ إِسْلَامِهِ مِنْ قَتْلٍ وَقَذْفٍ، وَإِذَا كُنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَةَ الْمُسْلِمِ فَإِنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَةَ الْكَافِرِ أَوْلَى‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ، وَالْمَبْسُوطِ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَأَصْبَغَ فِيمَنْ شَتَمَ نَبِيَّنَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ سُحْنُونٍ ‏.‏

وَقَالَ سُحْنُونٌ ، وَأَصْبَغُ ‏:‏ لَا يُقَالُ لَهُ أَسْلِمْ، وَلَا لَا تُسْلِمْ، وَلَكِنْ إِنْ أَسْلَمَ فَذَلِكَ لَهُ تَوْبَةٌ‏.‏

وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ‏.‏

وَرُوِيَ لَنَا عَنْ مَالِكٍ ‏:‏ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ‏.‏

وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَاهِبًا تَنَاوَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ فَهَلَّا قَتَلْتُمُوهُ‏!‏‏.‏

وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَمِّيٍّ قَالَ‏:‏ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْنَا، إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا نَبِيُّنَا مُوسَى أَوْ عِيسَى، وَنَحْوُ هَذَا‏:‏ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَرَّهُمْ عَلَى مِثْلِهِ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ سَبَّهُ فَقَالَ‏:‏ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوْ لَمْ يُرْسَلْ، أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَإِنَّمَا شَيْءٌ تَقَوَّلَهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا فَيُقْتَلُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ وَإِذَا قَالَ النَّصْرَانِيُّ‏:‏ دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَإِنَّمَا دِينُكُمْ دِينُ الْحَمِيرِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقَبِيحِ أَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ كَذَلِكَ يُعْطِيكُمُ اللَّهُ، فَفِي هَذَا الْأَدَبُ الْمُوجِعُ وَالسِّجْنُ الطَّوِيلُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَمَّا إِنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَتْمًا يُعْرَفُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ، قَالَهُ مَالِكٌ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَمْ يَقُلْ يُسْتَتَابُ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ عِنْدِي إِنْ أَسْلَمَ طَائِعًا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ فِي سُؤَالَاتِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ فِي الْيَهُودِيِّ يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ، إِذَا تَشَهَّدَ‏:‏ كَذَبْتَ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ مَعَ السِّجْنِ الطَّوِيلِ‏.‏

وَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ سُحْنُونٍ عَنْهُ‏:‏ مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ كَفَرُوا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ ‏:‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لِمَ قَتَلْتَهُ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ دِينِهِ سَبُّهُ وَتَكْذِيبُهُ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِأَنَّا لَمْ نُعْطِهِمُ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا عَلَى قَتْلِنَا، وَأَخْذِ أَمْوَالِنَا، فَإِذَا قَتَلَ وَاحِدًا مِنَّا قَتَلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دِينِهِ اسْتِحْلَالُهُ، فَكَذَلِكَ إِظْهَارُهُ لِسَبِّ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ سُحْنُونٌ ‏:‏ كَمَا لَوْ بَذَلَ لَنَا أَهْلُ الْحَرْبِ الْجِزْيَةَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى سَبِّهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ‏.‏

كَذَلِكَ يَنْتَقِضُ عَهْدُ مَنْ سَبَّ مِنْهُمْ، وَيَحِلُّ لَنَا دَمُهُ فَكَمَا لَمْ يُحْصِنِ الْإِسْلَامُ مَنْ سَبَّهُ مِنَ الْقَتْلِ كَذَلِكَ لَا تُحْصِنُهُ الذِّمَّةُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُحْنُونٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَبِيهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَا خَفَّفَ عُقُوبَتَهُمْ فِيهِ مِمَّا بِهِ كَفَرُوا، فَتَأَمَّلْهُ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنِ الْمَدَنِيِّينَ فِي ذَلِكَ، فَحَكَى أَبُو الْمُصْعَبِ الزُّهْرِيُّ ، قَالَ‏:‏ أُتِيتُ بِنَصْرَانِيٍّ قَالَ‏:‏ وَالَّذِي اصْطَفَى عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ، فَاخْتُلِفَ عَلَيَّ فِيهِ، فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ، أَوْ عَاشَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَأَمَرْتُ مَنْ جَرَّ بِرِجْلِهِ، وَطُرِحَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، فَأَكَلَتْهُ الْكِلَابُ‏.‏

وَسُئِلَ أَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ نَصْرَانِيٍّ قَالَ‏:‏ عِيسَى خَلَقَ مُحَمَّدًا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يُقْتَلُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ سَأَلْنَا مَالِكًا عَنْ نَصْرَانِيٍّ بِمِصْرَ شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مِسْكِينٌ مُحَمَّدٌ، يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، مَا لَهُ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَهُ‏!‏ إِذْ كَانَتِ الْكِلَابُ تَأْكُلُ سَاقَيْهِ، لَوْ قَتَلُوهُ اسْتَرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ ‏:‏ أَرَى أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَقَدْ كِدْتُ أَلَّا أَتَكَلَّمَ فِيهَا بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَسَعُنِي الصَّمْتُ‏.‏

قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَبْسُوطَةِ ‏:‏ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُحْرِقَهُ بِالنَّارِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ ثُمَّ حَرَقَ جُثَّتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ حَيًّا إِذَا تَهَافَتُوا فِي سَبِّهِ‏.‏

وَلَقَدْ كُتِبَ إِلَى مَالِكٍ مِنْ مِصْرَ وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمُتَقَدِّمَةَ، قَالَ‏:‏ فَأَمَرَنِي مَالِكٌ ، فَكَتَبْتُ بِأَنْ يُقْتَلَ، وَأَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، فَكَتَبْتُ، ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَكْتُبُ‏:‏ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَحَقِيقٌ بِذَلِكَ، وَمَا أَوَّلَاهُ بِهِ‏.‏ فَكَتَبْتُهُ بِيَدِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا أَنْكَرَهُ، وَلَا عَابَهُ، وَنَفَذَتِ الصَّحِيفَةُ بِذَلِكَ فَقُتِلَ، وَحُرِقَ‏.‏

وَأَفْتَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، وَابْنُ لُبَابَةَ فِي جَمَاعَةِ سَلَفِ أَصْحَابِنَا الْأَنْدَلُسِيِّينَ بِقَتْلِ نَصْرَانِيَّةٍ اسْتَهَلَّتْ بِنَفْيِ الرُّبُوبِيَّةِ وَنُبُوَّةِ عِيسَى لِلَّهِ وَبِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ فِي النُّبُوَّةِ، وَبِقَبُولِ إِسْلَامِهَا وَدَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهَا بِهِ‏.‏

وَبِهِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الْقَابِسِيُّ ، وَابْنُ الْكَاتِبِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَلَّابِ فِي كِتَابِهِ‏:‏ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ وَلَا يُسْتَتَابُ‏.‏

وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الذِّمِّيِّ يَسُبُّ ثُمَّ يُسْلِمُ رِوَايَتَيْنِ فِي دَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ ‏:‏ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَشِبْهُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُسْقِطُهُ عَنِ الذِّمِّيِّ إِسْلَامُهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ حُدُودُ اللَّهِ‏.‏

فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَحَقٌّ لِلْعِبَادِ، كَانَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ حَدَّ الْقَذْفِ‏.‏

وَلَكِنِ انْظُرْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ‏؟‏ هَلْ حَدُّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، أَمْ هَلْ يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ، وَيُحَدُّ ثَمَانِينَ‏؟‏ فَتَأَمَّلْهُ‏.‏

الفصل السَّادِسُ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏:‏ فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغُسْلِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ سُحْنُونٌ إِلَى أَنَّهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ‏.‏

وَقَالَ أَصْبَغُ ‏:‏ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَ مُسْتَسِرًّا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُظْهِرًا لَهُ مُسْتَهِلًّا بِهِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُسْتَتَابُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ ‏:‏ إِنْ قُتِلَ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ فِي مِيرَاثِهِ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ مِنْ إِقْرَارِهِ يَعْنِي لِوَرَثَتِهِ، وَالْقَتْلُ حَدٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي شَيْءٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالسَّبِّ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَقُتِلَ، إِذْ هُوَ حَدُّهُ‏.‏ وَحُكْمُهُ فِي مِيرَاثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَلَوْ أَقَرَّ بِالسَّبِّ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ، وَأَبَى التَّوْبَةَ مِنْهُ، فَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُكَفَّنُ، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ، وَيُوَارَى كَمَا يُفْعَلُ بِالْكُفَّارِ‏.‏

وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْمُجَاهِرِ الْمُتَمَادِي بَيِّنٌ لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهِ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ غَيْرُ تَائِبٍ وَلَا مُقْلِعٍ‏.‏

وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ أَصْبَغَ ، وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِ ابْنِ سُحْنُونٍ فِي الزِّنْدِيقِ يَتَمَادَى عَلَى قَوْلِهِ‏.‏

وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ ، وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ فِيمَنْ أَعْلَنَ كُفْرَهُ مِثْلُهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ وَصَايَاهُ وَلَا عِتْقُهُ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ ، قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَاتَ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ ‏:‏ وَإِنَّمَا يُخْتَلَفُ فِي مِيرَاثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَسْتَهِلُّ بِالتَّوْبَةِ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ، فَأَمَّا الْمُتَمَادِي فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُورَثُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ تُعَدَّلْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَمْ تُقْبَلْ‏:‏ إِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ فِيمَنْ كَذَّبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْلَنَ دِينًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ الْإِسْلَامَ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَقَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ ‏:‏ إِنَّ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ رَبِيعَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ‏.‏ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَكَمُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَقِيلَ ذَلِكَ فِيمَا كَسَبَهُ قَبْلَ ارْتِدَادِهِ، وَمَا كَسَبَهُ فِي الِارْتِدَادِ فَلِلْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَتَفْصِيلُ أَبِي الْحَسَنِ فِي بَاقِي جَوَابِهِ حَسَنٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ أَصْبَغَ ، وَخِلَافُ قَوْلِ سُحْنُونٍ ، وَاخْتِلَافُهُمَا عَلَى قَوْلَيْ مَالِكٍ فِي مِيرَاثِ الزِّنْدِيقِ، فَمَرَّةً وَرَّثَهُ وَرَثَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَنْكَرَهَا، أَوِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ‏.‏

وَقَالَهُ أَصْبَغُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِهِ أَوْ تَوْبَتِهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ ، وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لِدَمِهِ‏.‏

وَقَالَ بِهِ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَالْمُغِيرَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَمُحَمَّدٌ وَسُحْنُونٌ‏.‏

وَذَهَبَ ابْنُ قَاسِمٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، وَتَابَ فَقُتِلَ فَلَا يُورَثُ‏.‏ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ وُرِّثَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَسَرَّ كُفْرًا فَإِنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِوِرَاثَةِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقْتَلُ، هَلْ يَرِثُهُ أَهْلُ دِينِهِ أَمِ الْمُسْلِمُونَ‏؟‏

فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ مِنْ فَيْئِهِمْ، لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَاخْتِصَارُهُ‏.‏

الباب الثَّالِثُ‏:‏ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَلَائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَآلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجَهُ وَصَحْبَهُ

الفصل الْأَوَّلُ‏:‏ حُكْمُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَتَابَتِهِ

لَا خِلَافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ حَلَّالُ الدَّمِ‏.‏ وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِتَابَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ سُحْنُونٍ ، وَمُحَمَّدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى ‏:‏ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِارْتِدَادِهِ إِلَى دِينٍ دَانَ بِهِ، وَأَظْهَرَهُ فَيُسْتَتَابُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ لَمْ يُسْتَتَبْ‏.‏

وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطَةِ مُطَرِّفٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ‏:‏ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالسَّبِّ حَتَّى يُسْتَتَابَ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا، وَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِتَابَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالرِّدَّةِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ نَصْرٍ عَنِ الْمَذْهَبِ‏.‏

وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ لَعَنَ رَجُلًا، وَلَعَنَ اللَّهَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَلْعَنَ الشَّيْطَانَ فَزَلَّ لِسَانِي، فَقَالَ‏:‏ يُقْتَلُ بِظَاهِرِ كُفْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ‏.‏

وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْذُورٌ‏.‏

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ قُرْطُبَةَ فِي مَسْأَلَةِ هَارُونَ بْنِ حَبِيبٍ أَخِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَقِيهِ، وَكَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ كَثِيرَ التَّبَرُّمِ، وَكَانَ قَدْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِشَهَادَاتٍ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ اسْتِلَالِهِ مِنْ مَرَضٍ‏:‏ لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ أَسْتَوْجِبْ هَذَا كُلَّهُ‏.‏

فَأَفْتَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ، وَأَنَّ مُضَمَّنَ قَوْلِهِ تَجْوِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَظَلُّمٌ مِنْهُ، وَالتَّعْرِيضُ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ‏.‏

وَأَفْتَى أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْقَاضِي بِطَرْحِ الْقَتْلِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ رَأَى عَلَيْهِ التَّثْقِيلَ فِي الْحَبْسِ وَالشِّدَّةَ فِي الْأَدَبِ؛ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ إِلَى التَّشَكِّي، فَوَجَّهَ مَنْ قَالَ فِي سَابِّ اللَّهِ بِالِاسْتِتَابَةِ أَنَّهُ كُفْرٌ، وَرِدَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَشْبَهَ قَصْدَ الْكُفْرِ بِغَيْرِ سَبِّ اللَّهِ، وَإِظْهَارَ الِانْتِقَالِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ‏.‏

وَوَجْهُ تَرْكِ اسْتِتَابَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلُ اتَّهَمْنَاهُ، وَظَنَنَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لَهُ، إِذْ لَا يَتَسَاهَلُ فِي هَذَا أَحَدٌ، فَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الزِّنْدِيقِ، وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَإِذَا انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ، وَأَظْهَرَ السَّبَّ بِمَعْنَى الِارْتِدَادِ فَهَذَا قَدْ أَعْلَمَ أَنَّهُ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ الْمُتَمَسِّكِ بِهِ، وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ‏:‏ يُسْتَتَابُ عَلَى مَشْهُورِ مَذَاهِبِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي فُصُولِهِ‏.‏

الفصل الثَّانِي‏:‏ حُكْمُ إِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى

وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ، وَلَا الرِّدَّةِ، وَقَصَدَ الْكُفْرَ، وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ، مِنْ تَشْبِيهٍ أَوْ نَعْتٍ بِجَارِحَةٍ أَوْ نَفْيِ صِفَةِ كَمَالٍ، فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي تَكْفِيرِ قَائِلِهِ، وَمُعْتَقِدِهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قِتَالِهِمْ إِذَا تَحَيَّزُوا فِئَةً، وَأَنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُنْفَرِدِ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِهِ تَرْكُ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَتَرْكُ قَتْلِهِمْ وَالْمُبَالَغَةُ فِي عُقُوبَتِهِمْ، وَإِطَالَةُ سِجْنِهِمْ، حَتَّى يَظْهَرَ إِقْلَاعُهُمْ، وَتَسْتَبِينَ تَوْبَتُهُمْ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِصَبِيغٍ‏.‏

وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فِي الْخَوَارِجِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ ، وَقَوْلُ سُحْنُونٍ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَمَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَدِّهِ وَعَمِّهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْقَدَرِيَّةِ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا‏.‏

وَقَالَ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنِ الْإِبَاضِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَشِبْهِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالتَّحْرِيفِ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ‏:‏ يُسْتَتَابُونَ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَوْ أَسَرُّوهُ‏.‏ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، وَمِيرَاثُهُمْ لِوَرَثَتِهِمْ‏.‏

وَقَالَ مِثْلَهُ أَيْضًا ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ، وَغَيْرِهِمْ، قَالَ‏:‏ وَاسْتِتَابَتُهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ‏:‏ اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِثْلُهُ لَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْإِبَاضِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ‏:‏ وَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا قُتِلُوا لِرَأْيِهِمُ السُّوءِ، وَبِهَذَا عَمِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

وَابْنُ حَبِيبٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَرَى تَكْفِيرَهُمْ وَتَكْفِيرَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ سُحْنُونٍ مِثْلُهُ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ، أَنَّهُ كَافِرٌ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ ، فَأَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ الشَّامِيِّينَ‏:‏ أَبِي مُسْهِرٍ، وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطِرِيِّ الْكُفْرَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ شُووِرَ فِي زَوَاجِ الْقَدَرِيِّ، فَقَالَ‏:‏ لَا تُزَوِّجْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 221‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا‏:‏ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ وَقَالَ‏:‏ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ‏:‏ يَدٍ أَوْ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ، قُطِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ‏.‏ وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ‏:‏ كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ يُجْلَدُ، وَيُوجَعُ ضَرْبًا، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ التِّنِّيسِيِّ عَنْهُ‏:‏ يُقْتَلُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْنَكَانِيُّ ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ‏:‏ جَوَابُهُ مُخْتَلِفٌ، يُقْتَلُ الْمُسْتَبْصِرُ الدَّاعِيَةُ‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ‏.‏

وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ ‏:‏ لَا يُسْتَتَابُ الْقَدَرِيُّ‏.‏

وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ تَكْفِيرُهُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ لَهِيعَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْدِيُّ وَوَكِيعٌ وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ وَهُشَيْمٌ وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ فِي آخَرِينَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِمْ، وَفِي الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَأَصْحَابِ الْبِدَعِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْوَاقِفَةِ، وَالشَّاكَّةِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ‏.‏

وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِتَرْكِ تَكْفِيرِهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَاحْتَجُّوا بِتَوْرِيثِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَثَةَ أَهْلِ حَرُورَاءَ، وَمَنْ عُرِفَ بِالْقَدَرِ مِمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَرْيِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ‏:‏ وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَدَرِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ‏:‏ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، لِأَنَّهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُحَارِبِ‏:‏ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ قَتَلَهُ، وَفَسَادُ الْمُحَارِبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُ أَيْضًا فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنْ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَفَسَادُ أَهْلِ الْبِدَعِ مُعْظَمُهُ عَلَى الدِّينِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا بِمَا يَلْقَوْنَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدَاوَةِ‏.‏

الفصل الثَّالِثُ‏:‏ حُكْمُ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ

فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ‏.‏

قَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ السَّلَفِ فِي إِكْفَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِمَّنْ قَالَ قَوْلًا يُؤَدِّيهِ مَسَاقُهُ إِلَى كُفْرٍ هُوَ إِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ لَا يَقُولُ بِمَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَعَلَى اخْتِلَافِهِمُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَ التَّكْفِيرَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاهُ وَلَمْ يَرَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ سَوَادِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالُوا‏:‏ هُمْ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ ضْلَّالٌ، وَنُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْكُمُ لَهُمْ بِأَحْكَامِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ سُحْنُونٌ ‏:‏ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُمْ، قَالَ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، الْمُغَيَّرَةِ وَابْنِ كِنَانَةَ وَأَشْهَبَ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَذَنْبُهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَاضْطَرَبَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، وَوَقَفُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ أَوْ ضِدِّهِ‏.‏ وَاخْتِلَافُ قَوْلَيْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَتَوَقُّفُهُ عَنْ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مِنْهُ، وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِمَامُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، وَالْحَقِّ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهَا مِنَ الْمُعْوِصَاتِ، إِذَا الْقَوْمُ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا قَالُوا قَوُلًا يُؤَدِّي إِلَيْهِ‏.‏

وَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى نَحْوِ اضْطِرَابِ قَوْلِ إِمَامِهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَتَّى قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ‏:‏ إِنَّهُمْ عَلَى رَأْيِ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا الصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتِهِمْ‏.‏

وَيُخْتَلَفُ فِي مُوَارَثَتِهِمْ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ نُوَرِّثُ مَيِّتَهُمْ وَرَثَتَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْثَرُ مَيْلِهِ إِلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ، وَكَذَلِكَ اضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَكْثَرُ قَوْلِهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَأَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى‏.‏

وَقَالَ مَرَّةً‏:‏ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوِ الْمَسِيحُ أَوْ بَعْضُ مَنْ يَلْقَاهُ فِي الطُّرُقِ، فَلَيْسَ بِعَارِفٍ بِهِ، وَهُوَ كَافِرٌ‏.‏

وَلِمِثْلِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي أَجْوِبَتِهِ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْحَقِّ، وَكَانَ سَأَلَهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتَذَرَ لَهُ بِأَنَّ الْغَلَطَ فِيهَا يَصْعُبُ، لِأَنَّ إِدْخَالَ كَافِرٍ فِي الْمِلَّةِ، أَوْ إِخْرَاجَ مُسْلِمٍ عَنْهَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ‏:‏ الَّذِي يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنَ التَّكْفِيرِ فِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ اسْتِبَاحَةَ دِمَاءِ الْمُصَلِّينَ الْمُوَحِّدِينَ خَطَأٌ، وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي سَفْكِ مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «فَإِذَا قَالُوهَا يَعْنِي الشَّهَادَةَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»‏.‏

فَالْعِصْمَةُ مَقْطُوعٌ بِهَا مَعَ الشَّهَادَةِ، وَلَا تَرْتَفِعُ وَيُسْتَبَاحُ خِلَافُهَا إِلَّا بِقَاطِعٍ، وَلَا قَاطِعَ مِنْ شَرْعٍ وَلَا قِيَاسٍ عَلَيْهِ‏.‏ وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ مُعَرَّضَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي التَّصْرِيحِ بِكُفْرِ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ لَا سَهْمَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَسْمِيَتُهُ الرَّافِضَةَ بِالشِّرْكِ، وَإِطْلَاقُ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يَقُولُ بِالتَّكْفِيرِ، وَقَدْ يُجِيبُ الْآخَرُ عَنْهَا بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي غَيْرِ الْكَفَرَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيطِ، وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَإِشْرَاكٌ دُونَ إِشْرَاكٍ‏.‏

وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الرِّيَاءِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالزُّورِ وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ‏.‏

وَإِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَلَا يُقْطَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الْخَوَارِجِ‏:‏ هُمْ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْكُفَّارِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ شَرُّ قَبِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ قَتْلَ عَادٍ‏.‏

وَظَاهِرُ هَذَا الْكُفْرُ لَا سِيَّمَا مَعَ تَشْبِيهِهِمْ بِعَادٍ، فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَكْفِيرَهُمْ، فَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ‏:‏ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَغْيِهِمْ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِهِ مِنَ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ‏:‏ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَقَتْلُهُمْ هَاهُنَا حَدٌّ لَا كُفْرٌ‏.‏

وَذِكْرُ عَادٍ تَشْبِيهٌ لِلْقَتْلِ وَحِلِّهِ لَا لِلْمَقْتُولِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ‏.‏ وَيُعَارِضُهُ بِقَوْلِ خَالِدٍ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ «لَعَلَّهُ يُصَلِّي»‏.‏

فَإِنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ»‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ»‏.‏

وَبِقَوْلِهِ‏:‏ «سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ‏.‏

أَجَابَهُ الْآخَرُونَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ‏:‏ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ، وَلَا تَعْمَلُ بِهِ جَوَارِحُهُمْ، وَعَارَضُوهُمْ بِقَوْلِهِ، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ‏.‏ وَهَذَا يَقْتَضِي التَّشَكُّكَ فِي حَالِهِ‏.‏

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ»، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ هَذِهِ، وَتَحْرِيرُ أَبِي سَعِيدٍ الرِّوَايَةَ، وَإِتْقَانُهُ اللَّفْظَ‏.‏

أَجَابَهُمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْعِبَارَةَ‏:‏ بِفِي لَا تَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِكَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ، بِخِلَافِ لَفْظَةِ مِنَ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْعِيضِ‏.‏ وَكَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَلِيٍّ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي، وَسَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرُوفُ الْمَعَانِي مُشْتَرَكَةٌ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ بِـ ‏[‏فِي‏]‏، وَلَا عَلَى إِدْخَالِهِمْ فِيهَا بِـ ‏[‏مِنْ‏]‏، لَكِنَّ أَبَا سَعِيدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَجَادَ مَا شَاءَ فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ‏.‏ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ، وَتَحْقِيقِهِمْ لِلْمَعَانِي، وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَتَحْرِيرِهِمْ لَهَا، وَتَوَقِّيهِمْ فِي الرِّوَايَةِ ‏,‏ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ‏.‏

وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفِرَقِ فِيهَا مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ سَخِيفَةٌ، أَقْرَبُهَا قَوْلُ جَهْمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ شَبِيبٍ‏:‏ إِنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ الْجَهْلُ بِهِ، لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ ‏:‏ إِنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لِلَّهِ بِخَلْقِهِ، وَتَجْوِيرًا لَهُ فِي فِعْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ‏.‏

وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ‏:‏ إِنْ كَانَ مِمَّنْ عَرَّفَ الْأَصْلَ، وَبَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَ فِيمَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَفَاسِقٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَصْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ غَيْرُ كَافِرٍ‏.‏

وَذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ إِلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ، وَفَارَقَ فِي ذَلِكَ فِرَقَ الْأُمَّةِ، إِذْ أَجْمَعُوا سِوَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ عَاصٍ فَاسِقٌ‏.‏ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْفِيرِهِ‏.‏

وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ مِثْلَ قَوْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيِّ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ‏.‏

وَقَالَ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ الْجَاحِظُ وَثُمَامَةُ، فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ، وَمُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَالُ‏.‏

وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ مِنْ هَذَا الْمَنْحَى فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةِ‏.‏

وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلَّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ‏:‏ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمَنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ وَالتَّوْقِيفَ أَوْ شَكَّ فِيهِ‏.‏ وَالتَّكْذِيبُ أَوِ الشَّكُّ فِيهِ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ‏.‏

الفصل الرَّابِعُ‏:‏ فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ، وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ

اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْفَصْلِ وَكَشْفَ اللَّبْسِ فِيهِ مَوْرِدُهُ الشَّرْعُ، وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَالْفَصْلُ الْبَيِّنُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَقَالَةٍ صَرَّحَتْ بِنَفْيِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ عِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ، أَوْ مَعَ اللَّهِ فَهُوَ كُفْرٌ، كَمَقَالَةِ الدَّهْرِيَّةِ، وَسَائِرِ فِرَقِ أَصْحَابِ الِاثْنَيْنِ مِنَ الدِّيصَانِيَّةِ وَالْمَانَوِيَّةِ، وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الشَّمْسِ أَوِ النُّجُومِ أَوِ النَّارِ أَوْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْقَرَامِطَةُ وَأَصْحَابُ الْحُلُولِ وَالتَّنَاسُخِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَالطَّيَّارَةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِإِلَهِيَّةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ غَيْرُ قَدِيمٍ، وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ أَوْ مُصَوَّرٌ، أَوِ ادَّعَى لَهُ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً أَوْ وَالِدًا، أَوْ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ شَيْءٍ أَوْ كَائِنٌ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ شَيْئًا قَدِيمًا غَيْرَهُ، أَوْ أَنَّ ثَمَّ صَانِعًا لِلْعَالَمِ سِوَاهُ، أَوْ مُدَبِّرًا غَيْرَهُ، فَذَلِكَ كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِ الْإِلَهِيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالطَّبَائِعِيِّينَ‏.‏ وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مُجَالَسَةَ

اللَّهِ وَالْعُرُوجَ إِلَيْهِ وَمُكَالَمَتَهُ، أَوْ حُلُولَهُ فِي أَحَدِ الْأَشْخَاصِ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالنَّصَارَى وَالْقَرَامِطَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ عَلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ، أَوْ قَالَ بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ وَانْتِقَالِهَا أَبَدَ الْآبَادِ فِي الْأَشْخَاصِ وَتَعْذِيبِهَا أَوْ تَنُعُمِّهَا فِيهَا بِحَسَبِ زَكَائِهَا وَخُبْثِهَا‏.‏ وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ جَحَدَ النُّبُوَّةَ مِنْ أَصْلِهَا عُمُومًا، أَوْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا، أَوْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبَ، كَالْبَرَاهِمَةِ وَمُعْظَمِ الْيَهُودِ وَالْأُرُوسِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى، وَالْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَكَالْمُعَطِّلَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْعَنْبَرِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَشْرَكُوا فِي كُفْرٍ آخَرَ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ دَانَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْكَذِبَ فِيمَا أَتَوْا بِهِ، ادَّعَى فِي ذَلِكَ الْمَصْلَحَةَ بِزَعْمِهِ أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ، كَالْمُتَفَلْسِفِينَ وَبَعْضِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ ظَوَاهِرَ الشَّرْعِ وَأَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا كَانَ وَيَكُونُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَالْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهَا وَمَفْهُومِ خِطَابِهَا، وَإِنَّمَا خَاطَبُوا بِهَا الْخَلْقَ عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ، إِذْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّصْرِيحُ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ، فَمُضَمَّنُ مَقَالَاتِهِمْ إِبْطَالُ الشَّرَائِعِ وَتَعْطِيلُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالِارْتِيَابُ فِيمَا أَتَوْا بِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَمُّدَ الْكَذِبَ فِيمَا بَلَّغَهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ أَوْ شَكَّ فِي صِدْقِهِ أَوْ سَبَّهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَزْرَى عَلَيْهِمْ أَوْ آذَاهُمْ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ حَارَبَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْقُدَمَاءِ فِي أَنَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ نَذِيرًا أَوْ نَبِيًّا مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّودِ‏.‏ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ إِذْ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُوصَفَ أَنْبِيَاءُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِصِفَاتِهِمُ الْمَذْمُومَةِ‏.‏ وَفِيهِ مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْمُنِيفِ مَا فِيهِ، مَعَ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَكْذِيبِ قَائِلِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَبِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ قَالَ‏:‏ كَانَ أَسْوَدَ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ، وَلَيْسَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ وَالْحِجَازِ، أَوْ لَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ نَفْيٌ لَهُ، وَتَكْذِيبٌ بِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى نُبُوَّةَ أَحَدٍ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ، كَالْعِيسَوِيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ رِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَالْخُرَّمِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَوَاتُرِ الرُّسُلِ، وَكَأَكْثَرِ الرَّافِضَةِ الْقَائِلِينَ بِمُشَارَكَةِ عَلِيٍّ فِي الرِّسَالَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ إِمَامٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْحُجَّةِ، وَكَالْبَزِيغِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ مِنْهُمُ الْقَائِلِينَ بِنُبُوَّةِ بَزِيعٍ وَبَيَانٍ وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ‏.‏ أَوْ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ، أَوْ جَوَّزَ اكْتِسَابَهَا وَالْبُلُوغَ بِصَفَاءِ الْقَلْبِ إِلَى مَرْتَبَتِهَا كَالْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ، أَوْ أَنَّهُ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَدْخُلُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَيُعَانِقُ الْحُورَ الْعِينَ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ مُكَذِّبُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ‏.‏ وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَنَّهُ أُرْسِلَ كَافَّةً لِلنَّاسِ‏.‏

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حَمْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ مَفْهُومَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دُونَ تَأْوِيلٍ، وَلَا تَخْصِيصٍ، فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا قَطْعًا إِجْمَاعًا وَسَمْعًا‏.‏

وَكَذَلِكَ، وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ دَافَعَ نَصَّ الْكِتَابِ، أَوْ خَصَّ حَدِيثًا مُجْمَعًا عَلَى نَقْلِهِ مَقْطُوعًا بِهِ، مُجْمَعًا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَتَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ بِإِبْطَالِ الرَّجْمِ، وَلِهَذَا نُكَفِّرُ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِلَلِ، أَوْ وَقَفَ فِيهِمْ أَوْ شَكَّ أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ، وَاعْتَقَدَهُ، وَاعْتَقَدَ إِبْطَالَ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَاهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ قَائِلٍ قَالَ قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ وَتَكْفِيرِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، كَقَوْلِ الْكُمَيْلِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ بِتَكْفِيرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَمْ تُقَدِّمْ عَلِيًّا‏.‏ وَكَفَّرَتْ عَلِيًّا، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، وَيَطْلُبْ حَقَّهُ فِي التَّقْدِيمِ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ كَفَرُوا مِنْ وُجُوهٍ، لِأَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشَّرِيعَةَ بِأَسْرِهَا، إِذْ قَدِ انْقَطَعَ نَقْلُهَا، وَنَقْلُ الْقُرْآنِ إِذْ نَاقِلُوهُ كَفَرَةٌ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَإِلَى هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَشَارَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ كَفَّرَ الصَّحَابَةَ‏.‏

ثُمَّ كَفَرُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسَبِّهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ، لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ بِكُلِّ فِعْلٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ، كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالصَّلِيبِ وَالنَّارِ، وَالسَّعْيِ إِلَى الْكَنَائِسِ، وَالْبِيَعِ مَعَ أَهْلِهَا وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ‏:‏ مِنْ شَدِّ الزَّنَانِيرِ، وَفَحْصِ الرُّءُوسِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ صَرَّحَ فَاعِلُهَا بِالْإِسْلَامِ‏.‏

وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنِ اسْتَحَلَّ الْقَتْلَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ الزِّنَا مِمَّا حَرَمَ اللَّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ، كَأَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَبَعْضِ غُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ، وَأَنْكَرَ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَمَا عُرِفَ يَقِينًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ، وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ الْمُتَّصِلُ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْخَمْسِ الصَّلَوَاتِ أَوْ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وَسَجَدَاتِهَا، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَوْنَهَا خَمْسًا، وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ لَا أَعْلَمُهُ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ جَلِيٌّ، وَالْخَبَرُ بِهِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ وَاحِدٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنَ الْخَوَارِجِ‏:‏ إِنَّ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّ الْفَرَائِضَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ أُمِرُوا بِوِلَايَتِهِمْ، وَالْخَبَائِثُ وَالْمَحَارِمُ أَسْمَاءُ رِجَالٍ أُمِرُوا بِالْبَرَاءِ مِنْهُمْ‏.‏

وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ‏:‏ إِنَّ الْعِبَادَةَ وَطُولَ الْمُجَاهِدَةِ إِذَا صَفَتْ نُفُوسُهُمْ أَفْضَتْ بِهِمْ إِلَى إِسْقَاطِهَا وَإِبَاحَةِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُمْ وَرَفْعِ عَهْدِ الشَّرَائِعِ عَنْهُمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِنْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ مَكَّةَ أَوِ الْبَيْتَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ، أَوْ قَالَ‏:‏ الْحَجُّ وَاجِبٌ فِي الْقُرْآنِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ هِيَ مَكَّةُ وَالْبَيْتُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، لَا أَدْرِي هِيَ تِلْكَ أَوْ غَيْرُهَا، وَلَعَلَّ النَّاقِلِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَرَّهَا بِهَذِهِ التَّفَاسِيرِ غَلِطُوا وَوَهِمُوا، فَهَذَا وَمِثْلُهُ لَا مِرْيَةَ فِي تَكْفِيرِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ يُخَالِطُ الْمُسْلِمِينَ، وَامْتَدَّتْ صُحْبَتُهُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ سَبِيلُكَ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ هَذَا الَّذِي لَمْ تَعْلَمْهُ بَعْدَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَجِدُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا، كَافَّةً عَنْ كَافَّةٍ إِلَى مُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كَمَا قِيلَ لَكَ وَأَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ هِيَ مَكَّةُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي فِيهَا هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْقِبْلَةُ الَّتِي صَلَّى لَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَحَجُّوا إِلَيْهَا، وَطَافُوا بِهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ هِيَ صِفَةُ عِبَادَةِ الْحَجِّ وَالْمُرَادُ بِهِ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَأَنَّ صِفَاتِ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ الَّتِي فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَحَ مُرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَأَبَانَ حُدُودَهَا، فَيَقَعُ لَكَ الْعِلْمُ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ، وَلَا تَرْتَابُ بِذَلِكَ بَعْدُ، وَالْمُرْتَابُ فِي ذَلِكَ، أَوِ الْمُنْكِرُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَصُحْبَةِ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقٍ، لَا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ‏:‏ لَا أَدْرِي وَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ، بَلْ ظَاهِرُهُ التَّسَتُّرُ عَنِ التَّكْذِيبِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا جَوَّزَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْوَهْمَ وَالْغَلَطَ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ قَوْلُ الرَّسُولِ وَفِعْلُهُ، وَتَفْسِيرُ مُرَادِ اللَّهِ بِهِ أَدْخَلَ الِاسْتِرَابَةَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ هُمُ النَّاقِلُونَ لَهَا وَلِلْقُرْآنِ وَانْحَلَّتْ عُرَى الدِّينِ كَرَّةً، وَمَنْ قَالَ هَذَا كَافِرٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ الْقُرْآنَ أَوْ حَرْفًا مِنْهُ، أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ زَادَ فِيهِ، كَفِعْلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ، كَقَوْلِ هِشَامٍ الْفُوطِيِّ وَمَعْمَرٍ الصَّيْمَرِيِّ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَسُولِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حُكْمٍ، وَلَا مَحَالَةَ فِي كُفْرِهِمَا بِذَلِكَ الْقَوْلِ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَكْفِيرُهُمَا بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ لَهُ، أَوْ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ، لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا كُلِّهِ وَتَصْرِيحَ الْقُرْآنِ بِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا نَصَّ فِيهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي أَيْدِي النَّاسِ وَمَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ جَاهِلًا بِهِ، وَلَا قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَاحْتَجَّ لِإِنْكَارِهِ إِمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ عِنْدَهُ، وَلَا بَلَغَهُ الْعِلْمُ بِهِ، أَوْ لِتَجْوِيزِهِ الْوَهْمَ عَلَى نَاقِلِيهِ، فَنُكَفِّرُهُ بِالطَّرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ تَسَتَّرَ بِدَعْوَاهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ أَوِ الْبَعْثَ أَوِ الْحِسَابَ أَوِ الْقِيَامَةَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مَعْنًى غَيْرُ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّهَا لَذَّاتٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَمَعَانٍ بَاطِنَةٌ، كَقَوْلِ النَّصَارَى وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ مَعْنَى الْقِيَامَةِ الْمَوْتُ أَوْ فَنَاءٌ مَحْضٌ وَانْتِقَاضُ هَيْئَةِ الْأَفْلَاكِ وَتَحْلِيلُ الْعَالَمِ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّ الْأَئِمَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالسِّيَرِ وَالْبِلَادِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى إِبْطَالِ شَرِيعَةٍ، وَلَا تُفْضِي إِلَى إِنْكَارِ قَاعِدَةٍ مِنَ الدِّينِ، كَإِنْكَارِ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ مُؤْتَةَ، أَوْ وُجُودِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ، مِمَّا عُلِمَ بِالنَّقْلِ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ فِي إِنْكَارِهِ جَحْدُ شَرِيعَةٍ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْفِيرِهِ بِجَحْدِ ذَلِكَ، وَإِنْكَارِ وُقُوعِ الْعِلْمِ لَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُبَاهَتَةِ، كَإِنْكَارِ هِشَامٍ وَعِبَادٍ وَقْعَةَ الْجَمَلِ، وَمُحَارَبَةَ عَلِيٍّ مَنْ خَالَفَهُ‏.‏

فَأَمَّا إِنْ ضَعَّفَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تُهْمَةِ النَّاقِلِينَ، وَوَهَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ، فَنُكَفِّرُهُ بِذَلِكَ لِسَرَيَانِهِ إِلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ‏.‏

فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَيْسَ طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الشَّارِعِ فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالنُّظَّارِ فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الصَّحِيحَ الْجَامِعَ لِشُرُوطِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عُمُومًا‏.‏

وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 115‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ»‏.‏ وَحَكُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ‏.‏

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوُقُوفِ عَنِ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَقْلِهِ الْعُلَمَاءُ‏.‏

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْكَائِنَ عَنْ نَظَرٍ، كَتَكْفِيرِ النَّظَّامِ بِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ، لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ هَذَا مُخَالِفٌ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ بِهِ، خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ‏:‏ الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِقَوْلٍ وَلَا رَأْيٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ، فَإِنْ عَصَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ نَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، أَوْ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ كَفَرَ، لَيْسَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، لَكِنْ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْكُفْرِ، فَالْكُفْرُ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ‏:‏ أَحُدُهَا‏:‏ الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَأْتِيَ فِعْلًا أَوْ يَقُولَ قَوْلًا يُخْبِرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَالْمَشْيِ إِلَى الْكَنَائِسِ بِالْتِزَامِ الزِّنَّارِ مَعَ أَصْحَابِهَا فِي أَعْيَادِهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى‏.‏

قَالَ‏:‏ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا جَهْلًا بِاللَّهِ فَهُمَا عِلْمٌ أَنَّ فَاعِلَهُمَا كَافِرٌ مُنْسَلِخٌ مِنَ الْإِيمَانِ فَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةِ، أَوْ جَحَدَهَا مُسْتَبْصِرًا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ‏:‏ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ تَعَالَى، فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّتُنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ تَعَالَى الْوَصْفَ بِهَا، وَأَعْرَاهُ عَنْهَا‏.‏

وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ سُحْنُونٍ ‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَهُوَ لَا يُكَفِّرُ الْمُتَأَوِّلِينَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ‏.‏

فَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَاهُنَا، فَكَفَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَرَّةً‏.‏

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنِ اسْمِ الْإِيمَانِ وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ اعْتِقَادًا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ، وَيَرَاهُ دِينًا وَشَرْعًا، وَإِنَّمَا نُكَفِّرُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَهُ حَقٌّ‏.‏

وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ السَّوْدَاءِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهَا التَّوْحِيدَ لَا غَيْرَ وَبِحَدِيثِ الْقَائِلِ‏:‏ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ‏:‏ لَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ

‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ «فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ»‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَلَوْ بُوحِثَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنِ الصِّفَاتِ، وَكُوشِفُوا عَنْهَا لَمَا وُجِدَ مَنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا الْأَقَلُّ‏.‏

وَقَدْ أَجَابَ الْآخَرُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا أَنَّ قَدَرَ بِمَعْنَى قَدَّرَ، وَلَا يَكُونُ شَكُّهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَائِهِ، بَلْ فِي نَفْسِ الْبَعْثِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِشَرْعٍ، وَلَعَلَّهُ وَرَدَ عِنْدَهُمْ بِهِ شَرْعٌ يُقْطَعُ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ الشَّكُّ بِهِ حِينَئِذٍ فِيهِ كُفْرًا‏.‏

فَأَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ فَهُوَ مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ، أَوْ يَكُونُ قَدَرَ بِمَعْنَى ضَيَّقَ، وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ إِزْرَاءٌ عَلَيْهَا وَغَضَبًا لِعِصْيَانِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ قَالَ مَا قَالَهُ، وَهُوَ غَيْرُ عَاقِلٍ لِكَلَامِهِ، وَلَا ضَابِطٍ لِلَفْظِهِ مِمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَعِ وَالْخَشْيَةِ الَّتِي أَذْهَبَتْ لُبَّهُ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كَانَ هَذَا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ، وَحَيْثُ يَنْفَعُ مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هَذَا مِنْ مَجَازِ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي صُورَتُهُ الشَّكُّ، وَمَعْنَاهُ التَّحْقِيقُ، وَهُوَ يُسَمَّى تَجَاهُلَ الْعَارِفِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هَدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏سَبَأٍ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْوَصْفَ، وَنَفَى الصِّفَةَ فَقَالَ‏:‏ أَقُولُ عَالِمٌ، وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَمُتَكَلِّمٌ، وَلَكِنْ لَا كَلَامَ لَهُ‏.‏ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ‏:‏ فَمَنْ قَالَ بِالْمَآلِ لِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ، وَيَسُوقُهُ إِلَيْهِ مَذْهَبُهُ كَفَّرَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْعِلْمَ انْتَفَى وَصْفُ عَالِمٍ، إِذْ لَا يُوصَفُ بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ عِلْمٌ فَكَأَنَّهُمْ صَرَّحُوا عِنْدَهُ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ قَوْلُهُمْ‏.‏ وَهَكَذَا عِنْدَ هَذَا سَائِرُ فِرَقِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَمَنْ لَمْ يَرَ أَخْذَهُمْ بِمَآلِ قَوْلِهِمْ، وَلَا أَلْزَمَهُمْ مُوجِبَ مَذْهَبِهِمْ، لَمْ يَرَ إِكْفَارَهُمْ، قَالَ‏:‏ لِأَنَّهُمْ إِذَا وُقِّفُوا عَلَى هَذَا قَالُوا‏:‏ لَا نَقُولُ لَيْسَ بِعَالَمٍ، وَنَحْنُ نَنْتَفِي مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَآلِ الَّذِي أَلْزَمْتُوهُ لَنَا، وَنَعْتَقِدُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ، بَلْ نَقُولُ‏:‏ إِنَّ قَوْلَنَا لَا يَئُولُ إِلَيْهِ عَلَى مَا أَصَّلْنَاهُ‏.‏

فَعَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِكْفَارِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَإِذَا فَهِمْتَهُ اتَّضَحَ لَكَ الْمُوجِبُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَالصَّوَابُ تَرْكُ إِكْفَارِهِمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَتْمِ عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ وَإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي قِصَاصِهِمْ وَوِرَاثَاتِهِمْ وَمُنَاكَحَاتِهِمْ وَدِيَاتِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ مُعَامَلَاتِهِمْ، لَكِنَّهُمْ يُغَلَّظُ عَلَيْهِمْ بِوَجِيعِ الْأَدَبِ وَشَدِيدِ الزَّجْرِ وَالْهَجْرِ، حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ‏.‏

وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِيهِمْ، فَقَدْ كَانَ نَشَأَ عَلَى زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَبَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنَ الْقَدَرِ وَرَأْيِ الْخَوَارِجِ وَالِاعْتِزَالِ، فَمَا أَزَاحُو لَهُمْ قَبْرًا، وَلَا قَطَعُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثًا، لَكِنَّهُمْ هَجَرُوهُمْ وَأَدَّبُوهُمْ بِالضَّرْبِ وَالنَّفْيِ وَالْقَتْلِ عَلَى قَدْرِ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فُسَّاقٌ ضُلَّالٌ عُصَاةٌ أَصْحَابُ كَبَائِرَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ بِكُفْرِهِمْ مِنْهُمْ خِلَافًا لِمَنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْمَخْلُوقِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَالتَّوَلُّدِ وَشِبْهِهَا مِنَ الدَّقَائِقِ فَالْمَنْعُ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا أَوْضَحُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْهَا‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَصُورَةِ الْخِلَافِ فِي هَذَا مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

الفصل الْخَامِسُ‏:‏ حُكْمُ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَمِّيٍّ تَنَاوَلَ مِنْ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَحَاجَّ فِيهِ، فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَطَلَبَهُ فَهَرَبَ‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ، وَالْمَبْسُوطَةِ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَابْنِ سُحْنُونٍ ‏:‏ مَنْ شَتَمَ اللَّهَ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏ قَالَ فِي الْمَبْسُوطَةِ ‏:‏ طَوْعًا‏.‏

قَالَ أَصْبَغُ ‏:‏ لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي بِهِ كَفَرُوا هُوَ دِينُهُمْ، وَعَلَيْهِ عُوهِدُوا مِنْ دَعْوَى الصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ‏.‏

وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا مِنَ الْفِرْيَةِ وَالشَّتْمِ فَلَمْ يُعَاهِدُوا عَلَيْهِ، فَهُوَ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ‏:‏ وَمَنْ شَتَمَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي كِتَابِهِ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي الْمَبْسُوطَةِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ‏:‏ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

وَقَالَ مُطَرِّفٌ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ ‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ ‏:‏ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ كَفَرَ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ الْجَلَّابِ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَابْنِ لُبَابَةَ، وَشُيُوخِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَفُتْيَاهُمْ بِقَتْلِهَا لِسَبِّهَا، بِالْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَتْ بِهِ اللَّهَ وَالنَّبِيَّ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَحْوُ الْقَوْلِ الْآخَرِ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ بِالْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ سَبِّ اللَّهِ وَسَبِّ نَبِيِّهِ، لِأَنَّا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى أَلَّا يُظْهِرُوا لَنَا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ، وَأَلَّا يُسْمِعُونَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمَتَى فَعَلُوا شَيْئًا مِنْهُ فَهُوَ نَقْضٌ لِعَهْدِهِمْ‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا تَزَنْدَقَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأَصْبَغُ ‏:‏ لَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ ‏:‏ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ دِينٌ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَا تُؤْخَذُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ‏.‏

الفصل السَّادِسُ‏:‏ حُكْمُ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ

هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ، وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ‏.‏

فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الرِّسَالَةِ أَوِ النَّافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهُ أَوْ رَبَّهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ لَيْسَ رَبٌّ، أَوِ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُعْقَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي سُكْرِهِ أَوْ غَمْرَةِ جُنُونِهِ فَلَا خِلَافَ فِي كُفْرِ قَائِلِ ذَلِكَ، وَمُدَّعِيهِ مَعَ سَلَامَةِ عَقْلِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، لَكِنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَنْفَعُهُ إِنَابَتُهُ، وَتُنْجِيهِ مِنَ الْقَتْلِ فَيْئَتُهُ، لَكِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ عَظِيمِ النَّكَالِ، وَلَا يُرَفَّهُ عَنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِمِثْلِهِ عَنْ قَوْلِهِ، وَلَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ لِكُفْرِهِ أَوَجَهْلِهِ، إِلَّا مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَعُرِفَ اسْتِهَانَتُهُ بِمَا أَتَى بِهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ طَوِيَّتِهِ وَكَذِبِ تَوْبَتِهِ، وَصَارَ كَالزِّنْدِيقِ الَّذِي لَا نَأْمَنُ بَاطِنَهُ، وَلَا نَقْبَلُ رُجُوعَهُ‏.‏ وَحُكْمُ السَّكْرَانِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الصَّاحِي‏.‏

وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ غَمْرَتِهِ وَذَهَابِ مَيْزِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا نَظَرَ فِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ مَيْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَقْلُهُ، وَسَقَطَ تَكْلِيفُهُ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ، كَمَا يُؤَدَّبُ عَلَى قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، وَيُوَالَى أَدَبُهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُفَّ عَنْهُ، كَمَا تُؤَدَّبُ الْبَهِيمَةُ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ حَتَّى تُرَاضَ‏.‏

وَقَدْ أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَنِ ادَّعَى لَهُ الْإِلَهِيَّةَ، وَقَدْ قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَارِثَ الْمُتَنَبِّي وَصَلَبَهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ بِأَشْبَاهِهِمْ‏.‏

وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ وَقْتِهِمْ عَلَى صَوَابِ فِعْلِهِمْ، وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ كَافِرٌ‏.‏

وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ أَيَّامَ الْمُقْتَدِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَاضِي قُضَاتِهَا أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَتْلِ الْحَلَّاجِ وَصَلْبِهِ، لِدَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ وَالْقَوْلِ بِالْحُلُولِ، وَقَوْلِهِ‏:‏ أَنَا الْحَقُّ، مَعَ تَمَسُّكِهِ فِي الظَّاهِرِ بِالشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا تَوْبَتَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ حَكَمُوا فِي ابْنِ أَبِي الْفَرَاقِيدِ، وَكَانَ عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِ الْحَلَّاجِ بَعْدَ هَذَا أَيَّامِ الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَقَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ يَوْمَئِذٍ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيُّ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي الْمَبْسُوطِ ‏:‏ مَنْ تَنَبَّأَ قُتِلَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ‏:‏ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُهُ أَوْ رَبُّهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ لَيْسَ لِي رَبٌّ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ، وَمُحَمَّدٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ تَنَبَّأَ يُسْتَتَابُ أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ أَعْلَنَهُ، وَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ‏.‏

وَقَالَ سُحْنُونٌ ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَهُ أَشْهَبُ فِي يَهُودِيٍّ تَنَبَّأَ، وَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَيْنَا إِنْ كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ لَعَنَ بَارِئَهُ، وَادَّعَى أَنَّ لِسَانَهُ زَلَّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ لَعْنَ الشَّيْطَانِ يُقْتَلُ بِكُفْرِهِ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ‏.‏

وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي سَكْرَانَ قَالَ‏:‏ أَنَا اللَّهُ، أَنَا اللَّهُ، إِنْ تَابَ أُدِّبَ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ طُولِبَ مُطَالَبَةَ الزِّنْدِيقِ، لِأَنَّ هَذَا كُفْرُ الْمُتَلَاعِبِينَ‏.‏

الفصل السَّابِعُ‏:‏ حُكْمُ مَنْ تَعَرَّضَ بِسَاقِطِ الْقَوْلِ، وَسَخِيفِ اللَّفْظِ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ قَصْدٍ

وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُخْفِ اللَّفْظِ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ كَلَامَهُ، وَأَهْمَلَ لِسَانَهُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ بِعَظَمَةِ رَبِّهِ، وَجَلَالَةِ مَوْلَاهُ، أَوْ تَمَثَّلَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِبَعْضِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَلَكُوتِهِ، أَوْ نَزَعَ مِنَ الْكَلَامِ لِمَخْلُوقٍ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا فِي حَقِّ خَالِقِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْكُفْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ، وَلَا عَامِدٍ لِلْإِلْحَادِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ هَذَا مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ، دَلَّ عَلَى تَلَاعُبِهِ بِدِينِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ وَجَهْلِهِ بِعَظِيمِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَهَذَا كُفْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَا أَوْرَدَهُ يُوجِبُ الِاسْتِخْفَافَ وَالتَّنَقُّصَ لِرَبِّهِ‏.‏

وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَصْبَغُ بْنُ خَلِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عَجَبٍ، وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا، فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ، فَقَالَ‏:‏ بَدَأَ الْخَرَّازُ يَرُشُّ جُلُودَهُ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَا‏:‏ أَبُو زَيْدٍ صَاحِبُ الثَّمَانِيَةِ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَهْبٍ، وَأَبَانُ بْنُ عِيسَى، قَدْ تَوَقَّفُوا عَنْ سَفْكِ دَمِهِ، وَأَشَارُوا إِلَى أَنَّهُ عَبَثٌ مِنَ الْقَوْلِ يَكْفِي فِيهِ الْأَدَبُ‏.‏

وَأَفْتَى بِمِثْلِهِ الْقَاضِي حِينَئِذٍ مُوسَى بْنُ زِيَادٍ، فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ‏:‏ دَمُهُ فِي عُنُقِي، أَيُشْتَمُ رَبٌّ عَبَدْنَاهُ، ثُمَّ لَا نَنْتَصِرُ لَهُ، إِنَّا إِذًا لَعَبِيدُ سُوءٍ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِعَابِدِينَ وَبَكَى، وَرُفِعَ الْمَجْلِسُ إِلَى الْأَمِيرِ بِهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ‏.‏

وَكَانَتْ عَجَبُ عَمَّةَ هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْ حَظَايَاهُ، وَأُعْلِمَ بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ وَصَاحِبِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَصُلِبَ بِحَضْرَةِ الْفَقِيهَيْنِ، وَعُزِلَ الْقَاضِي لِتُهْمَتِهِ بِالْمُدَاهَنَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَوَبَّخَ بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ وَسَبَّهُمْ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الْهِنَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْفَلْتَةُ الشَّارِدَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ تَنَقُّصًا وَإِزْرَاءً فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا وَصُورَةِ حَالِ قَائِلِهَا وَشَرْحِ سَبَبِهَا وَمُقَارِنِهَا‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ رَجُلٍ نَادَى رَجُلًا بِاسْمِهِ، فَأَجَابَهُ‏:‏ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ‏.‏

قَالَ‏:‏ إِنْ كَانَ جَاهِلًا، أَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَفَهٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ وَشَرْحُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ يُزْجَرُ وَيُعَلَّمُ، وَالسَّفِيهُ يُؤَدَّبُ، وَلَوْ قَالَهَا عَلَى اعْتِقَادِ إِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ رَبِّهِ لَكَفَرَ‏.‏ هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ‏.‏

وَقَدْ أَسْرَفَ كَثِيرٌ مِنْ سُخَفَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمُتَّهِمِيهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاسْتَخَفُّوا عَظِيمَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ، فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِمَا نُنَزِّهُ كِتَابَنَا وَلِسَانَنَا، وَأَقْلَامَنَا عَنْ ذِكْرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّا قَصَدْنَا نَصَّ مَسَائِلَ حَكَيْنَاهَا مَا ذَكَرْنَا شَيْئًا مِمَّا يَثْقُلُ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِمَّا حَكَيْنَاهُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ‏.‏

فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَأَغَالِيطِ اللِّسَانِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ‏:‏

رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَا *** قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا

أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَا

فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِنْ كَلَامِ الْجُهَّالِ‏.‏

وَمَنْ لَمْ يُقَوِّمْهُ ثِقَافُ تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَلَّمَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ جَاهِلٍ يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَزَجْرُهُ وَالْإِغْلَاظُ لَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَابِيُّ ‏:‏ وَهَذَا تَهَوُّرٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ‏.‏

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولَ‏:‏ أَخْزَى اللَّهُ الْكَلْبَ، وَفَعَلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ مَشَايِخِنَا قَلَّمَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِطَاعَتِهِ‏.‏ وَكَانَ يَقُولُ لِلْإِنْسَانِ‏:‏ جُزِيتَ خَيْرًا‏.‏ وَقَلَّمَا يَقُولُ‏:‏ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، إِعْظَامًا لِاسْمِهِ تَعَالَى أَنْ يُمْتَهَنَ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الثِّقَةُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ كَانَ يَعِيبُ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ كَثْرَةَ خَوْضِهِمْ فِيهِ تَعَالَى وَفِي ذِكْرِ صِفَاتِهِ، إِجْلَالًا لِاسْمِهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ يَتَمَنْدَلُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَيُنَزِّلُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ تَنْزِيلَهُ فِي بَابِ سَابِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي فَصَّلْنَاهَا‏.‏ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ‏.‏

الفصل الثَّامِنُ‏:‏ حُكْمُ سَبِّ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ

وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ، وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَوْ أَنْكَرَهُمْ وَجَحَدَهُمْ، حُكْمُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَسَاقِ مَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 150‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏- إِلَى قَوْلِهِ-‏:‏ ‏{‏لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 285‏]‏‏.‏

قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ، وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَأَصْبَغُ ، وَسُحْنُونٌ فِيمَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ أَوْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْ تَنَقَّصَهُ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ‏.‏ وَمَنْ سَبَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

وَرَوَى سُحْنُونٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ ‏:‏ مَنْ سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ كَفَرَ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْأَصْلِ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي بِقُرْطُبَةَ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ‏:‏ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ قُتِلَ‏.‏

وَقَالَ سُحْنُونٌ ‏:‏ مَنْ شَتَمَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ‏.‏

وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنْ سُحْنُونٍ ‏.‏ وَهَذَا قَوْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ بِعَلِيٍّ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَصْلِهِمْ‏:‏ مَنْ كَذَّبَ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ تَنَقَّصَ أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ بَرِئَ مِنْهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي الَّذِي قَالَ لِآخَرَ، كَأَنَّهُ وَجْهُ مَالِكٍ الْغَضْبَانِ لَوْ عُرِفَ أَنَّهُ قَصَدَ ذَمَّ الْمَلَكِ قُتِلَ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ بِمَا قُلْنَاهُ عَلَى جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ مِمَّنْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمُشْتَهِرِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَمَالِكٍ ، وَخَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَجَهَنَّمَ وَالزَّبَانِيَةِ، وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ سُمِّيَ فِيهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَعِزْرَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَرِضْوَانَ وَالْحَفَظَةِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ بِهِمَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتِ الْأَخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ، وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ، كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَخَالِدِ بْنِ سِنَانَ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيُّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَزَرَادُشْتَ الَّذِي يَدَّعِي الْمَجُوسُ الْمُؤَرِّخُونَ نُبُوَّتَهُ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ قَدَّمْنَاهُ؛ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَالِ الْمَنْقُولِ فِيهِمْ، لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ‏.‏

وَأَمَّا إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِمْ أَوْ كَوْنِ الْآخَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا حَرَجَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ، إِذْ لَيْسَ لَهُمُ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا‏.‏

وَقَدْ كَرِهَ السَّلَفُ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَيْفَ لِلْعَامَّةِ‏.‏

الفصل التَّاسِعُ‏:‏ حُكْمُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ سَبَّهُمَا أَوْ جَحَدَهُ، أَوْ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ آيَةً أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صُرِّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِجْمَاعٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 41- 42‏]‏‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ‏]‏، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ «الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ»، تُؤُوِّلَ بِمَعْنَى الشَّكِّ، وَبِمَعْنَى الْجِدَالِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ جَحَدَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حَلَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ»، وَكَذَلِكَ إِنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَكُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ، أَوْ كَفَرَ بِهَا أَوْ لَعَنَهَا أَوْ سَبَّهَا أَوِ اسْتَخَفَّ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ‏.‏

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏]‏ إِلَى آخِرِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏النَّاسِ‏:‏ 1‏]‏ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ، أَوْ بَدَّلَهُ بِحَرْفٍ آخَرَ مَكَانَهُ أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا مِمَّا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ عَامِدًا لِكُلِّ هَذَا أَنَّهُ كَافِرٌ‏.‏

وَلِهَذَا رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِالْفِرْيَةِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ، لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِمَا فِيهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا يُقْتَلُ، وَقَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يُضْرَبُ عُنُقُهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ‏.‏

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَذَّبَ بِحَرْفٍ مِنْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ مَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلَيِلًا، لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّهُ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الْحَدَّادِ ‏:‏ جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ التَّوْحِيدَ مُتَّفِقُونَ أَنَّ الْجَحْدَ لِحَرْفٍ مِنَ التَّنْزِيلِ كُفْرٌ‏.‏

وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا قَرَأَ عِنْدَهُ رَجُلٌ لَمْ يَقُلْ لَهُ لَيْسَ كَمَا قَرَأْتَ، وَيَقُولُ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَأَقْرَأُ كَذَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ‏:‏ أَرَاهُ سَمِعَ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ‏.‏

وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ كُلِّهِ، وَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَمَّنْ خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَحَلَفَ لَهُ بِالتَّوْرَاةِ، فَقَالَ الْآخَرُ لَعَنَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَاهِدٌ، ثُمَّ شَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ فَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا لَعَنْتُ تَوْرَاةَ الْيَهُودِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ‏:‏ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَالثَّانِي عَلَّقَ الْأَمْرَ بِصِفَةٍ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، إِذْ لَعَلَّهُ لَا يَرَى الْيَهُودَ مُتَمَسِّكِينَ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِتَبْدِيلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ‏.‏

وَلَوِ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى لَعْنِ التَّوْرَاةِ مُجَرَّدًا لَضَاقَ التَّأْوِيلُ‏.‏

وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شَنْبُوذَ الْمُقْرِئِ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَصَدِّرِينَ بِهَا مَعَ ابْنِ مُجَاهِدٍ، لِقِرَاءَتِهِ، وَإِقْرَائِهِ بِشَوَاذَّ مِنَ الْحُرُوفِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ، وَعَقَدُوا عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَالتَّوْبَةِ عَنْهُ سِجِلًّا أَشْهَدَ فِيهِ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فِيمَنْ أَفْتَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ بِالْأَدَبِ فِيمَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ‏:‏ لَعَنَ اللَّهُ مُعَلِّمَكَ، وَمَا عَلَّمَكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَرَدْتُ سُوءَ الْأَدَبِ، وَلَمْ أُرِدِ الْقُرْآنَ‏.‏

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ‏:‏ وَأَمَّا مَنْ لَعَنَ الْمُصْحَفَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ‏.‏

الفصل الْعَاشِرُ‏:‏ الْحُكْمُ فِي سَبِّ آلِ الْبَيْتِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْأَصْحَابِ

وَسَبُّ آلِ بَيْتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنَقُّصُهُمْ حَرَامٌ مَلْعُونٌ فَاعِلُهُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ أَبِي رَابِطَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمِنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ»‏.‏

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا»‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّهُ يَجِيءُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ، وَلَا تُصَلُّوا مَعَهُمْ، وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا تُجَالِسُوهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ»‏.‏

وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاضْرِبُوهُ»‏.‏

وَقَدْ أَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَبَّهُمْ وَأَذَاهُمْ يُؤْذِيهِ، وَأَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ، فَقَالَ‏:‏ «لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا تُؤْذُونِي فِي عَائِشَةَ»‏.‏

وَقَالَ فِي فَاطِمَةَ‏:‏ «بِضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا»‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ وَالْأَدَبُ الْمُوجِعُ ‏,‏ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ، وَمَنْ شَتَمَ أَصْحَابَهُ أُدِّبَ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ مَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ قُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا مِنْ مُشَاتَمَةِ النَّاسِ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ‏:‏ مَنْ غَلَا مِنَ الشِّيعَةِ إِلَى بُغْضِ عُثْمَانَ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ أُدِّبَ أَدَبًا شَدِيدًا، وَمَنْ زَادَ إِلَى بُغْضِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَيُكَرَّرُ ضَرْبُهُ، وَيُطَالُ سِجْنُهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ الْقَتْلُ إِلَّا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ سُحْنُونٌ ‏:‏ مَنْ كَفَّرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ عَلِيًّا أَوْ عُثْمَانَ أَوْ غَيْرَهُمَا يُوجَعُ ضَرْبًا‏.‏

وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ سُحْنُونٍ ‏:‏ مَنْ قَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ‏:‏ إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ قُتِلَ ‏,‏ وَمَنْ شَتَمَ غَيْرَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ نُكِّلَ النَّكَالَ الشَّدِيدَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ ‏:‏ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ‏.‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ لِمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ عَنْهُ‏:‏ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 17‏]‏، فَمَنْ عَادَ لِمِثْلِهِ فَقَدْ كَفَرَ‏.‏

وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الصَّقَلِّيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبَ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ سَبَّحَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 26‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ‏.‏

وَذَكَرَ تَعَالَى مَا نَسَبَهُ الْمُنَافِقُونَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 16‏]‏ سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهَا مِنَ السُّوءِ، كَمَا سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهِ مِنَ السُّوءِ‏.‏

وَهَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي قَتْلِ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ‏.‏

وَمَعْنَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَظَّمَ سَبَّهَا كَمَا عَظَّمَ سَبَّهُ، وَكَانَ سَبُّهَا سَبًّا لِنَبِيِّهِ، وَقَرَنَ سَبَّ نَبِيِّهِ، وَأَذَاهُ بِأَذَاهُ تَعَالَى، وَكَانَ حُكْمُ مُؤْذِيهِ تَعَالَى الْقَتْلَ كَانَ مُؤْذِي نَبِيِّهِ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ‏.‏

وَشَتَمَ رَجُلٌ عَائِشَةَ بِالْكُوفَةِ، فَقُدِّمَ إِلَى مُوسَى بْنِ عِيسَى الْعَبَّاسِيِّ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ حَضَرَ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى‏:‏ أَنَا، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ، وَحَلَقَ رَأَسَهُ، وَأَسْلَمَهُ إِلَى الْحَجَّامِينَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ نَذَرَ قَطْعَ لِسَانِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، إِذْ شَتَمَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ دَعُونِي أَقْطَعْ لِسَانَهُ حَتَّى لَا يَشْتُمَ أَحَدٌ بَعْدُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِأَعْرَابِيٍّ يَهْجُو الْأَنْصَارَ، فَقَالَ‏:‏ لَوْلَا أَنَّ لَهُ صُحْبَةً لَكَفَيْتُكُمُوهُ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ ‏:‏ مَنِ انْتَقَصَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ، قَدْ قَسَمَ اللَّهُ الْفَيْءَ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 8‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 9‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَنْصَارُ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 10‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ فَمَنْ تَنَقَّصَهُمْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ ‏:‏ مَنْ قَالَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ ابْنُ زَانِيَةٍ، وَأُمُّهُ مَسْلَمَةٌ حُدَّ عِنْدِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا حَدَّيْنِ‏:‏ حَدًّا لَهُ وَحَدًّا لِأُمِّهِ، وَلَا أَجْعَلُهُ كَقَاذِفِ الْجَمَاعَةِ فِي كَلِمَةٍ لِفَضْلِ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاجْلِدُوهُ» قَالَ‏:‏ وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ أَحَدِهِمْ، وَهِيَ كَافِرَةٌ حُدَّ حَدَّ الْفِرْيَةِ، لِأَنَّهُ سَبٌّ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ هَذَا الصَّحَابِيِّ حَيًّا قَامَ بِمَا يَجِبُ لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ قَامَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ قَبُولُ قِيَامِهِ، قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ هَذَا كَحُقُوقِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ لِحُرْمَةِ هَؤُلَاءِ بِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، كَانَ وَلِيَّ الْقِيَامِ بِهِ، قَالَ‏:‏ وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهَا قَوْلَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبِّ حَلِيلَتِهِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، يُجْلَدُ حَدَّ الْمُفْتَرِي، قَالَ‏:‏ وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ‏.‏

وَرَوَى أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ فِيمَنِ انْتَسَبَ إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَيُشْهَرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَأَفْتَى أَبُو الْمُطَرِّفِ الشَّعْبِيُّ فَقِيهُ مَالِقَةَ فِي رَجُلٍ أَنْكَرَ تَحْلِيفَ امْرَأَةٍ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ‏:‏ لَوْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَا حُلِّفَتْ إِلَّا بِالنَّهَارِ، وَصَوَّبَ قَوْلَهُ بَعْضُ الْمُتَّسِمِينَ بِالْفِقْهِ، فَقَالَ أَبُو الْمُطَرِّفِ ‏:‏ ذِكْرُ هَذَا لِابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي مِثْلِ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالسِّجْنَ الطَّوِيلَ‏.‏

وَالْفَقِيهُ الَّذِي صَوَّبَ قَوْلَهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْفِسْقِ مِنَ اسْمِ الْفِقْهِ، فَيُتَقَدَّمُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُزْجَرُ وَلَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَهِيَ جُرْحَةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَيُبْغَضُ فِي اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ فِي رَجُلٍ قَالَ‏:‏ لَوْ شَهِدَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏:‏ أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ شَهَادَتَهُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ غَيْرَ هَذَا فَيُضْرَبُ ضَرْبًا يَبْلُغُ بِهِ حَدَّ الْمَوْتِ، وَذَكَرُوهَا رِوَايَةً‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ هُنَا انْتَهَى الْقَوْلُ بِنَا فِيمَا حَرَّرْنَاهُ، وَانْتَجَزَ الْغَرَضُ الَّذِي انْتَحَيْنَاهُ، وَاسْتَوْفَى الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطْنَاهُ، مِمَّا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُ لِلْمُرِيدِ مَقْنَعٌ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مَنْهَجٌ إِلَى بُغْيَتِهِ وَمَنْزَعٌ‏.‏

وَقَدْ سَفَرْتُ فِيهِ عَنْ نُكَتٍ تُسْتَغْرَبُ وَتُسْتَبْدَعُ، وَكَرَعْتُ فِي مَشَارِبَ مِنَ التَّحْقِيقِ لَمْ يُورَدْ لَهَا قَبْلُ فِي أَكْثَرِ التَّصَانِيفِ مَشْرَعٌ، وَأَوْدَعْتُهُ غَيْرَ مَا فَصْلٍ وَدِدْتُ لَوْ وَجَدْتُ مَنْ بَسَطَ قَبْلِي الْكَلَامَ فِيهِ، أَوْ مُقْتَدًى يُفِيدُنِيهِ عَنْ كِتَابِهِ أَوْ فِيهِ، لِأَكْتَفِيَ بِمَا أَرْوِيهِ عَمَّا أَرْوِيهِ‏.‏

وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى جَزِيلُ الضَّرَاعَةِ فِي الْمِنَّةِ بِقَبُولِ مَا مِنْهُ لِوَجْهِهِ، وَالْعَفْوِ عَمَّا تَخَلَّلَهُ مِنْ تَزَيُّنٍ، وَتَصَنُّعٍ لِغَيْرِهِ، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا ذَلِكَ بِجَمِيلِ كَرَمِهِ وَعَفْوِهِ لِمَا أَوْدَعْنَاهُ مِنْ شَرَفِ مُصْطَفَاهْ وَأَمِينِ وَحْيِهِ، وَأَسْهَرْنَا بِهِ جُفُونَنَا لِتَتَبُّعِ فَضَائِلِهِ، وَأَعْمَلْنَا فِيهِ خَوَاطِرَنَا مِنْ إِبْرَازِ خَصَائِصِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَيَحْمِيَ أَعْرَاضَنَا عَنْ نَارِهِ الْمُوقَدَةِ لِحِمَايَتِنَا كَرِيمَ عِرْضِهِ، وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ لَا يُذَادُ إِذَا ذِيدَ الْمُبَدِّلُ عَنْ حَوْضِهِ، وَيَجْعَلَهُ لَنَا وَلِمَنْ تَهَمَّمَ بِاكْتِتَابِهِ وَاكْتِسَابِهِ سَبَبًا يَصِلُنَا بِأَسْبَابِهِ، وَذَخِيرَةً نَجِدُهَا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا نَحُوزُ بِهَا رِضَاهُ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ، وَيَخُصَّنَا بِخِصِّيصَى زُمْرَةِ نَبِيِّنَا وَجَمَاعَتِهِ، وَيَحْشُرَنَا فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ وَأَهْلِ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِهِ، وَنَحْمَدُهُ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَى إِلَيْهِ مِنْ جَمْعِهِ وَأَلْهَمَ وَفَتَحَ الْبَصِيرَةَ لِدَرْكِ حَقَائِقِ مَا أَوْدَعْنَاهُ وَفَهَّمَ، وَنَسْتَعِيذُهُ جَلَّ اسْمُهُ مِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَعَمَلٍ لَا يُرْفَعُ، فَهُوَ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يُخَيِّبُ مَنْ أَمَّلَهُ، وَلَا يُنْتَصَرُ مَنْ خَذَلَهُ، وَلَا يَرُدُّ دَعْوَةَ الْقَاصِدِينَ، وَلَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ، وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏