فصل: تفسير الآيات (15- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (10- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [10- 14].
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قال ابن جرير: أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
{وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي: أوقد عليها فأحميت. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي: قربت للمتقين.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار، أي: تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و{عَلِمَتْ} جواب لجميع ما سبق من الشروط.

.تفسير الآيات (15- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [15- 21].
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي: الرواجع من النجوم، من خنَس إذا رجع وتأخر. قال الزمخشريّ: بينا ترى النجم في آخر البرج، إذ كرّ راجعاً إلى أوله.
{الْجَوَارِ} جمع جارية، من الجري {الْكُنَّسِ} أي: الغيّب التي تدخل في بروجها، في رأي العين، من: كنس الوحش إذا دخل كناسهُ وهو بيتهُ المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صار بالغلبة في الاستعمال حقيقة.
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أدبر ولم يبق إلا اليسير، وذلك وقت السحر.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي: أقبل وتَبيّن، أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته، تشبيهاً بمن نفس عنه كربه. قال الإمام: أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ ليُنوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدرها، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام، مع نعتها في القسم بما يبعدها عن مراتب الألوهية من الخنوس والكنوس، تقريعاً لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أرباباً. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.
وجواب القسم قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني روح القدس الذي ينفث في روعِه صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام. والضمير إما للبعث والجزاء، المفهوم من قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن {ذِي قُوَّةٍ} أي: على تحمُّل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى.
{مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى {أَمِينٍ} أي: على وحيه تعالى ورسالته.

.تفسير الآيات (22- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [22- 25].
{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أي: ليس ممن يتكلم عن جنَّة ويهذي هذيان المجانين.
{بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37]، وهذا نفي لما كان يبهتهُ به أعداؤه، صلى الله عليه وسلم، حسداً ولؤماً.
قال الشهاب: وفي قوله {صَاحِبُكُم} تكذيب لهم بألطف وجه؛ إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحُهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً، فلا يَسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحتريّ في قوله:
إذا مَحَاسِني الَّلاتي أَدِلُّ بها ** كانت ذُنوبي فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرُ

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.
قال ابن كثير: والظاهر- والله أعلم- أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم 13- 15]، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له، هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان، لا على ظن وحسبان، وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه.
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: ببخيل.
قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم، أي: لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيبُ السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: {بظنين} بالظاء، أي: ما هو بمهتم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ؛ لأن عقله صُفّي عن شوب الوهم. والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يُتهم فيه، كما قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فعرفتُ أنهُ لم يكن ليدَع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
تنبيه:
قال ابن جرير: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقه وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك {بِضَنِينٍ} بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّلهُ: وما محمد- على ما علَّمهُ الله من وحيه وتنزيله- ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. انتهى. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين:
أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموهُ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
وثانيهما: قوله:
{عَلَى الْغَيْبِ} ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنه يقال: فلان ضنين بكذا، وقلما يقال: على كذا.
وقال الشهاب: قال في النشر: هو بالضاد في جميع المصاحف، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة، أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى، زيادة يسيرة، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة. ولابد مما ذكره أبو عبيدة، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى.
قال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي: من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، وهو نفي لقولهم: إنه كهانة.

.تفسير الآيات (26- 29):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [26- 29].
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أي: أي: مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟ لا جَرَم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه، فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب، بما لايضبط ولم يتقرّب إليه بوجه، كمن سلك طريقاً يبعدهُ عن سمت مقصد، فيقاٍل: أين تذهب.
قال الزمخشريّ: استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيّات الطريق: أين تذهب؟ مُثلت حالهم بحاله، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.
{إِنْ هُوَ} أي: القرآن المتلوّ عليكم {إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي: تذكرة وعظة لهم.
قال الإمام: موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع. وقوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أن يَسْتَقِيمَ} بدل من {الْعَالَمِين} أي: إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه، أما من أعرض ونأى، فمن أين تنفعهُ الذكرى، وقد زادهُ الران عمى؟
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: وما تشاؤون شيئاً من فعالكم، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدرهُ الله عز وجل، فهو خاضع لسلطان مشيئته، مقهور تحت تدبيره وإرادته.

.سورة الانفطار:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [1- 5].
{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} أي: انشقت كما في آية {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25]، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أي: تساقطت. والانتثار استعارة لإزالة الكواكب، حيث شبهت بجواهر قُطِعَ سلكها. وهي مصرحة أو مكنية.
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي: فتح بعضها إلى بعض، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي: بحثت وأخرج موتاها.
قال الشهاب: يعني أزيل التراب التي ملئت به وكان حتى على موتاها، فانفتحت وخرج من دفن فيها. وهذا معنى البعثرة، وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته، فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معاً، كما هنا. وقد يتجوزّ به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات. والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته. وَثَمّ لما فيها، فكانت مجازاً عما ذكر. ثم قال: وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصاراً، ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتاً. وأصله: بعث، وأثير أي: حرك وأخرج، وله نظائر كبسمل وحقول ودمعز، أي: قال: بسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأدام اللهُ عزَّه. فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معاً. ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة، كما توهمه أبو حيان، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة، كما فصله في المزهر نقلاً عن أئمة اللغة.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ} أي: لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ {وَأَخَّرَتْ} أي: تركت من خير أو شر، أو المعنى: ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه، وما أخرت: أي: قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير، وجدان الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.

.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [6- 8].
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي: شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته، وذكر {الْكَرِيمِ} للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي: جعلك سويّاً متساوي الأعضاء والقوة. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء، فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به {فَعَدَلَكَ} أي: جعلك معتدلا متناسب الخلق، معتدل القامة، لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزتَ بها على سائر الحيوان {فِي أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} أي: في أي: صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. فـ: {أي} استفهامية، والمجرور متعلق بـ: {رَكَّبَكَ}، و{مَا} زائدة وجملة {شَاء} صفة {صُورَةٍ} والقصد أن ما خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لجدير بأن يُتّقى بأسه ويحذر بطشُه ويرهب أشدَّ ترهيب.
تنبيه:
قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحاً في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية، على الأسباب ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بد. ولكن تغالطه نفسُه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهم فاسد فهمِه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه. قال: كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته. وهذا جهل قبيح، وإنما غره بربه الغرور، وهو الشيطان ونفسُه الأمارة بالسوء وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ {الْكَرِيمِ} وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه، ووضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.
وفي مثل هذا الغرور يجب- كما قال الغزاليّ- على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوِّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. و: إنه مع أنه كريم، خلّد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها، فمن هذه سنته في عباده- وقد خوفني عقابه- فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهو تمنن وغرور، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات، و{يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] يخافون على أنفسهم، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه مالم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟!
ثم قال: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، ولا يتفكر فيه متفكِِّر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه، وإن كان مؤمناً بما فيه. وترى الناس يهذَّونه هذّاً: يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه، وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.