فصل: كتاب البيوع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار **


بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَابُ الْبُيُوعِ

1411 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

الْبَيْعُ قِسْمَانِ‏:‏ إمَّا بَيْعُ سِلْعَةٍ حَاضِرَةٍ مَرْئِيَّةٍ مُقَلَّبَةٍ بِسِلْعَةٍ كَذَلِكَ، أَوْ بِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا غَائِبَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَوْصُوفَةٍ، أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِدَرَاهِمَ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ حَاضِرٌ مَقْبُوضٌ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ‏.‏ وَالْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ بَيْعُ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا غَائِبَةٍ مَعْرُوفَةٍ أَوْ مَوْصُوفَةٍ بِمِثْلِهَا، أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِدَرَاهِمَ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ حَاضِرٌ مَقْبُوضٌ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ‏.‏ أَمَّا بَيْعُ الْحَاضِرِ الْمَرْئِيِّ الْمُقَلَّبِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ حَاضِرَةٍ مَقْبُوضَةٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ‏:‏ فَمُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ‏.‏

وَأَمَّا بَيْعُ سِلْعَةٍ غَائِبَةٍ بِعَيْنِهَا مَرْئِيَّةٍ مَوْصُوفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَفِيهِ خِلاَفٌ فَأَحَدُ قَوْلِيِّ الشَّافِعِيِّ‏:‏ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ جُمْلَةً وَقَالَ مَرَّةً‏:‏ هُوَ جَائِزٌ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ مَرَّةً‏:‏ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَجَوَازِ النَّقْدِ فِيهِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ إذَا وُجِدَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَيْهَا بِلاَ خِيَارٍ فِي ذَلِكَ‏.‏ وَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ الْغَائِبَاتِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ النَّقْدَ فِيهَا جُمْلَةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ‏:‏ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَأَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ النَّقْدَ فِي الضِّيَاعِ وَالدُّورِ قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ

وَأَمَّا الْعُرُوض فَإِنَّهُ أَجَازَ النَّقْدَ فِيهِ إنْ كَانَ قَرِيبًا، وَلاَ يَجُوزُ إنْ كَانَ بَعِيدًا‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ بَيْعُ الْغَائِبَاتِ جَائِزٌ مَوْصُوفَةً وَغَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، وَالنَّقْدُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ إِلاَّ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إذَا رَأَى مَا اشْتَرَى، فَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ، وَأَنْ يُمْضِيَهُ سَوَاءٌ وَجَدَهُ كَمَا وُصِفَ لَهُ، أَوْ وَجَدَهُ بِخِلاَفِ مَا وُصِفَ لَهُ‏.‏ وَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إمْضَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَا اشْتَرَى‏.‏ وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ مَالَهُ مِنْ الْخِيَارِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَمْضَى الْبَيْعَ وَالْتَزَمَهُ‏:‏ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ بِالْخِيَارِ كَمَا كَانَ فَإِذَا رَأَى وَجْهَ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَى وَهِيَ غَائِبَةٌ وَلَمْ يُقَلِّبْ سَائِرَهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ وَسَقَطَ خِيَارُهُ، وَلاَ يَرُدُّهَا إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَبْدِ سَوَاءً سَوَاءً‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ اشْتَرَى دَابَّةً غَائِبَةً فَرَأَى عَجُزَهَا لَزِمَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَرَ سَائِرَهَا، وَلاَ يَرُدُّهَا إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ حَاشَا بَنِي آدَمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ اشْتَرَى ثِيَابًا غَائِبَةً أَوْ حَاضِرَةً مَطْوِيَّةً فَرَأَى ظُهُورَهَا وَمَوَاضِعَ طَيِّهَا وَلَمْ يَنْشُرْهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ وَسَقَطَ خِيَارُهُ، وَلاَ يَرُدُّهَا إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ اشْتَرَى ثِيَابًا هَرَوِيَّةً فِي جِرَابٍ أَوْ ثِيَابًا زُطِّيَّةً فِي عِدْلٍ، أَوْ سَمْنًا، فِي زُقَاقٍ، أَوْ زَيْتًا كَذَلِكَ، أَوْ حِنْطَةً فِي غِرَارَةً، أَوْ عُرُوضًا مِمَّا لاَ يُكَالُ، وَلاَ يُوزَنُ، أَوْ حَيَوَانًا وَلَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ‏:‏ فَإِنَّ لَهُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَرَى كُلَّ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَلَوْ رَأَى جَمِيعَ الثِّيَابِ إِلاَّ وَاحِدًا مِنْهَا أَوْ جَمِيعَ الدَّوَابِّ إِلاَّ وَاحِدًا مِنْهَا فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ إنْ شَاءَ، وَسَوَاءٌ وَجَدَ كُلَّ مَا رَأَى كَمَا وُصِفَ لَهُ بِخِلاَفِ مَا وُصِفَ لَهُ، إِلاَّ السَّمْنَ وَالزَّيْتَ، وَالْحِنْطَةَ، فَإِنَّهُ إنْ رَأَى بَعْضَ ذَلِكَ فَكَانَ مَا لَمْ يَرَ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى‏:‏ فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَسَقَطَ خِيَارُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنْ ابْتَاعَ دَارًا فَرَآهَا مِنْ خَارِجِهَا وَلَمْ يَرَهَا مِنْ دَاخِلٍ‏:‏ فَقَدْ لَزِمَتْهُ وَسَقَطَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَلاَ يَرُدُّهَا إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ

وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ‏:‏ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ إِلاَّ حَتَّى يَرَى مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا‏.‏ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ‏:‏ لَمْسُ الأَعْمَى لِبَابِ الدَّارِ وَلِحَائِطِهَا‏:‏ يُسْقِطُ خِيَارَهُ وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ، وَلاَ يَرُدُّهَا إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ‏.‏ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ‏:‏ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ إذَا رَأَى مَا ابْتَاعَ إِلاَّ بِمَحْضَرِ الْبَائِعِ، فَلَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ شِرَاءً وَاحِدً غَائِبًا فَرَأَيَاهُ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَأَجَازَهُ الآخَرُ فَلاَ يَجُوزُ الرَّدُّ إِلاَّ أَنْ يَرُدَّاهُ مَعًا‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَإِنْ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَقْبِضَ لَهُ مَا اشْتَرَى فَرَأَى الرَّسُولُ الشَّيْءَ الْمَبِيعَ وَقَبَضَهُ فَالْمُشْتَرِي بَاقٍ عَلَى خِيَارِهِ، فَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلاً فَرَأَى الْوَكِيلُ الشَّيْءَ الْمَبِيعَ وَقَبَضَهُ فَقَدْ سَقَطَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وقال أبو حنيفة مَرَّةً‏:‏ الْخِيَارُ أَيْضًا لِلْبَائِعِ إذَا بَاعَ مَا لَمْ يَرَ كَمَا لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ وَفِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَهُوَ أَنَّ عُثْمَانَ بَاعَ مِنْ طَلْحَةَ رضي الله عنهما أَرْضًا بِالْكُوفَةِ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ‏:‏ إنَّك قَدْ غَبَنْت، فَقَالَ عُثْمَانُ‏:‏ لِي الْخِيَارُ لأََنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَ، وَقَالَ طَلْحَةُ‏:‏ بَلْ لِي الْخِيَارُ لأََنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَ‏:‏ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، فَقَضَى‏:‏ أَنَّ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ لاَ لِعُثْمَانَ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ‏:‏ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي مَعًا كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَالْمُغِيرَةِ، قَالَ إسْمَاعِيلُ‏:‏ عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ‏:‏ عَنْ الْحَسَنِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ‏:‏ عَنْ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ فِيمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ، قَالُوا‏:‏ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ‏:‏ هُوَ بِالْخِيَارِ وَإِنْ وَجَدَهُ كَمَا شَرَطَ لَهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَكْحُول،ٍ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالنَّقْدُ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ جَائِزٌ‏.‏ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ‏:‏ إذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَرَهُ وَنُعِتَ لَهُ فَوَافَقَ النَّعْتَ وَجَبَ فِي عِتْقِهِ‏.‏ قَالَ الْحَجَّاجُ‏:‏ وَحَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ‏:‏ إذَا ابْتَاعَ الْبَيْعَ وَلَمْ يَرَهُ فَوَصَفَهُ لَهُ الْبَائِعُ فَجَاءَ عَلَى الْوَصْفِ فَهُوَ لَهُ‏.‏ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ هُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ‏.‏ قَالَ أَيُّوبُ‏:‏ وَلاَ أَعْلَمُ رَجُلاً اشْتَرَى بَيْعًا لَمْ يَرَهُ فَوَصَفَهُ لَهُ الْبَائِعُ فَوَجَدَهُ عَلَى مَا وَصَفَهُ لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ إِلاَّ هُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ فِيمَنْ اشْتَرَى الْعِدْلَ مِنْ الْبُرِّ فَنَظَرَ بَعْضُ التُّجَّارِ إلَى بَعْضِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ عُوَارًا فِيمَا لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ رَآهُ بِالأَمْسِ وَلَمْ يَرَهُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ، قَالاَ جَمِيعًا‏:‏ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَرَاهُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا كُلُّهُ مَا نَعْلَمُهُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ‏.‏

فأما أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا فَأَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لاَ تُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ نَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ مِمَّا يَرَى مِنْ الرَّقِيقِ، وَمِمَّا يَرَى مِنْ الدَّوَابِّ، وَمِمَّا يَرَى مِنْ الثِّيَابِ الزُّطِّيَّةِ فِي الْوِعَاءِ، وَمَا يَرَى مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي عِدْلٍ، وَمَا يَرَى مِنْ السَّمْنِ، وَالزَّيْتِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالدُّورِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَسَاوِسُ لاَ حَظَّ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَقْلِ، وَلاَ لَهَا مَجَازٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلاَ السُّنَنِ، وَلاَ الرِّوَايَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ لاَ جَلِيٍّ، وَلاَ خَفِيٍّ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ حَظٌّ مِنْ السَّدَادِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الْقَوْلُ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلاَ مَالِكٍ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً سَوَاءً، وَلاَ نَعْلَمُهُمَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَمَا لَهُمْ شُبْهَةٌ أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ادَّعَى الْعَمَلَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لأََنَّهُمَا عَنْهُ قَوْلاَنِ كَمَا ذَكَرْنَا كِلاَهُمَا مُخَالِفٌ لِصَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَدْ خَالَفَ الْعَمَلَ فِي قَوْلِهِ الآخَرِ، وَخِلاَفُ الْمَرْءِ لِمَا يَرَاهُ حُجَّةً قَاطِعَةً فِي الدِّينِ عَظِيمٌ جِدًّا، وَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى كِلَيْهِمَا‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَإِنَّ تَحْدِيدَهُ جَوَازَ النَّقْدِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَرِيبًا وَمَنْعَهُ مِنْ النَّقْدِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعِيدًا وَهُوَ لَمْ يَحُدَّ مِقْدَارَ الْبُعْدِ الَّذِي يُحَرَّمُ فِيهِ النَّقْدُ مِنْ الْقُرْبِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ النَّقْدُ عَجَبٌ جِدًّا وَأَيُّ عَجَبٍ أَعْجَبُ مِمَّنْ يُحَرِّمُ وَيُحَلِّلُ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُ لِمَنْ يَتْبَعُهُ الْعَمَلَ الْمُحَرَّمَ لِيَجْتَنِبَهُ مِنْ الْمُحَلَّلِ لِيَأْتِيَهُ‏.‏

وَاحْتَجَّ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّقْدِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بِأَنْ قَالَ‏:‏ إنْ نَقَدَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ وَجَدَهُ عَلَى خِلاَفِ مَا وُصِفَ لَهُ فَرَدَّ الْبَيْعَ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ انْتَفَعَ بِالثَّمَنِ مُدَّةً فَصَارَ ذَلِكَ سَلَفًا جَرَّ مَنْفَعَةً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا الأَحْتِجَاجُ أَفْسَدُ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي احْتَجَّ لَهُ‏.‏ وَنَقُولُ لَهُمْ‏:‏ نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَمَا صَارَ قَطُّ سَلَفًا جَرَّ مَنْفَعَةَ بَلْ هُوَ بَيْعٌ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَلاَ فَرْقَ‏.‏ ثُمَّ أَيْنَ وَجَدْتُمْ الْمَنْعَ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجَدْتُمْ ذَلِكَ أَمْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ فِي أَيِّ قَوْلِ صَاحِبٍ ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ سَلَفٌ إِلاَّ وَهُوَ يَجُرُّ مَنْفَعَةً لِلْمُسْتَسْلِفِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَا اسْتَسْلَفَهُ، فَمَا سَمِعْنَا بِأَبْرَدَ، وَلاَ بِأَغَثَّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوا لَوَجَبَ بِذَلِكَ إبْطَالُ جَمِيعِ الْبُيُوعِ كُلِّهَا؛ لأََنَّهُ لاَ بَيْعَ فِي الْعَالَمِ إِلاَّ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِ؛ لأََنَّهُ لاَ بَيْعَ إِلاَّ وَمُمْكِنُ أَنْ يُسْتَحَقَّ فَيُرَدَّ، أَوْ يُوجَدَ فِيهِ عَيْبٌ فَيُرَدَّ بِهِ، فَهَلاَّ مَنَعُوا النَّقْدَ فِي كُلِّ بَيْعٍ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لأََنَّهُ إذَا رَدَّ صَارَ الْبَائِعُ قَدْ رَدَّ إلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ بَعْدَ أَنْ انْتَفَعَ بِهِ فَيَصِيرُ سَلَفًا جَرَّ مَنْفَعَةً وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ ذُو وَرَعٍ أَنْ يُغْرِ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ هَذَا الأَحْتِجَاجِ الْفَاسِدِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ فَإِنَّ أَصْحَابَهُ احْتَجُّوا لَهُ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ الْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، لاَ نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا أَصْلاً، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لأََنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ إذَا وُصِفَ عَنْ رُؤْيَةٍ، وَخِبْرَةٍ، وَمَعْرِفَةٍ، وَقَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِمَا اشْتَرَى، فَأَيْنَ الْغَرَرُ‏.‏ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ قَدْ تَهْلَكُ السِّلْعَةُ قَبْلَ حِينِ الْبَيْعِ فَيَقَعُ الْبَيْعُ فَاسِدًا

قلنا‏:‏ وَقَدْ تُسْتَحَقُّ السِّلْعَةُ فَيَقَعُ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلاَ فَرْقَ فَأَبْطَلُوا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْغَرَرِ كُلَّ بَيْعٍ فِي الأَرْضِ، فَلاَ غَرَرَ هَهُنَا أَصْلاً، إِلاَّ كَالْغَرَرِ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ كُلِّهَا، وَلاَ فَرْقَ‏.‏

وَأَمَّا الْمُنَابَذَةُ، وَالْمُلاَمَسَةُ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْت عُبَيْدَ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ‏:‏ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُلاَمَسَةَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ‏:‏ أَبِيعُك ثَوْبِي بِثَوْبِك، وَلاَ يَنْظُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ الآخَرِ وَلَكِنْ يَلْمِسُهُ لَمْسًا وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَنْبِذُ مَا مَعِي وَتَنْبِذُ مَا مَعَك لِيَشْتَرِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ، وَلاَ يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمْ مَعَ الآخَرِ، وَنَحْوٌ مِنْ ذَا ‏"‏‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيم بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُلاَمَسَةُ لُبْسُ الثَّوْبِ لاَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَعَنْ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُنَابَذَةُ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوبه إلى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا حَرَامٌ بِلاَ شَكٍّ، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهما، وَهُمَا الْحُجَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاللُّغَةِ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَيْسَ هَذَا بَيْعَ غَائِبٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ بَيْعُ حَاضِرٍ فَظَهَرَ تَمْوِيهُ مَنْ احْتَجَّ مِنْهُمْ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ إِلاَّ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ هُمَا حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إجَازَتِهِ بَيْعَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ غَيْرَ مَوْصُوفَيْنِ، وَلاَ مَرْئِيَّيْنِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَمِمَّا يُبْطِلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ يَتَبَايَعُونَ الضِّيَاعَ بِالصِّفَةِ؛ وَهِيَ فِي الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ، قَدْ بَايَعَ عُثْمَانُ ابْنَ عُمَرَ، رضي الله عنهم، مَالاً لِعُثْمَانَ بِخَيْبَرَ بِمَالٍ لأَبْنِ عُمَرَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ‏.‏ فَإِنْ احْتَجُّوا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك‏.‏

قلنا‏:‏ نَعَمْ، وَالْغَائِبُ هُوَ عِنْدَ بَائِعِهِ لاَ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُ؛ لأََنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فِي صِدْقِ الْقَائِلِ‏:‏ عِنْدِي ضِيَاعٌ، وَعِنْدِي دُورٌ، وَعِنْدِي رَقِيقٌ وَمَتَاعٌ غَائِبٌ وَحَاضِرٌ إذَا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا لَيْسَ عِنْدَ الْمَرْءِ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ‏.‏ وَالْبُرْهَانُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‏}‏‏.‏

وَقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏ فَبَيْعُ الْغَائِبِ بَيْعٌ دَاخِلٌ فِيمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي التِّجَارَةِ الَّتِي يَتَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ إِلاَّ بَيْعًا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ‏.‏ وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يُحَرِّمُ عَلَيْنَا بَيْعًا مِنْ الْبُيُوعِ فَيُجْمِلُ لَنَا إبَاحَةَ الْبَيْعِ جُمْلَةً، وَلاَ يُبَيِّنُهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَأْمُورِ بِالْبَيَانِ، هَذَا أَمْرٌ قَدَّمْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏.‏ وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَمَا أَحَلَّهُ لَنَا، وَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا، إِلاَّ بِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ، وَمَا نَعْلَمُ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ الْمَوْصُوفَاتِ سَلَفًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فَأَيْنَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ آنِفًا‏.‏ قلنا‏:‏ إنَّهُمَا لَمْ يَمْنَعَا مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا مَنَعَا مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي يَوْمَ الشِّرَاءِ وَقَدْ يَرَاهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَيَغِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَشْتَرِطَا حُضُورَهُ فِي حِينِ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا لَمْ يَقُلْ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا، وَبَقِيَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ جُمْلَةً عَلَى مَا رُوِّينَا عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَأَحَدُ قَوْلِيِّ الشَّافِعِيِّ، فَوَجَدْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ أَثَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ اشْتَرَى بَيْعًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَنْظُرَ إلَيْهِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ‏:‏ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ إذَا وَجَدَهُ كَمَا وُصِفَ لَهُ، وَظَاهِرُهُ قَطْعُ الْخِيَارِ بِالنَّظَرِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ وَهَذَا مِمَّا تَرَكَهُ الْمَالِكِيُّونَ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ؛ لأََنَّهُمْ لاَ يَجْعَلُونَ لَهُمْ خِيَارًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ أَصْلاً‏.‏ وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَكْحُولٍ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ‏.‏ وَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْيَمَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ، وَمُرْسَلٌ مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لأََنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَهُ رَدَّهُ إنْ وَجَدَهُ بِخِلاَفِ مَا وُصِفَ لَهُ‏.‏

1412 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

فَإِنْ وَجَدَ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ الْغَائِبَةِ مَا اشْتَرَى كَمَا وُصِفَ لَهُ فَالْبَيْعُ لَهُ لاَزِمٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِتَجْدِيدِ صِفَةٍ أُخْرَى بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا‏.‏

برهان ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ اشْتَرَى شِرَاءً صَحِيحًا إذَا وَجَدَ الصِّفَةَ كَمَا اشْتَرَى كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، فَإِنْ وَجَدَ الصِّفَةَ بِخِلاَفِ مَا عُقِدَ الأَبْتِيَاعُ عَلَيْهِ فَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ تِلْكَ السِّلْعَةَ الَّتِي وَجَدَ؛ لأََنَّهُ اشْتَرَى سِلْعَةً بِصِفَةِ كَذَا، لاَ سِلْعَةً بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَدَ، فَالَّتِي وَجَدَ غَيْرَ الَّتِي اشْتَرَى بِلاَ شَكٍّ مِنْ أَحَدٍ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا فَلَيْسَتْ لَهُ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فَأَلْزِمُوا الْبَائِعَ إحْضَارَ سِلْعَةٍ بِالصِّفَةِ الَّتِي بَاعَ

قلنا‏:‏ لاَ يَحِلُّ هَذَا؛ لأََنَّهُ إنَّمَا بَاعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً لاَ صِفَةً مَضْمُونَةً، فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُهُ إحْضَارَ مَا لَمْ يَبِعْ فَصَحَّ أَنَّ عَقْدَهُ فَاسِدٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ‏.‏

1413 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

فَإِنْ بِيعَ شَيْءٌ مِنْ الْغَائِبَاتِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا عَرَفَهُ الْبَائِعُ لاَ بِرُؤْيَةٍ، وَلاَ بِصِفَةِ مَنْ يُصَدَّقُ مِمَّنْ رَأَى مَا بَاعَهُ، وَلاَ مِمَّا عَرَّفَهُ لِلْمُشْتَرِي بِرُؤْيَةٍ، أَوْ بِصِفَةِ مَنْ يُصَدَّقُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لاَ خِيَارَ فِي جَوَازِهِ أَصْلاً‏.‏ وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الْمَرْءِ مَا وَصَفَهُ لَهُ الْبَائِعُ صَدَّقَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ‏.‏ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَرْءِ مَا وَصَفَهُ لَهُ الْمُشْتَرِي صَدَّقَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَالْمَبِيعُ لاَزِمٌ، وَإِنْ وَجَدَ بِخِلاَفِهَا، فَالْمَبِيعُ بَاطِلٌ، وَلاَ بُدَّ‏.‏ وَأَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمَجْهُولَةِ غَيْرِ الْمَوْصُوفَةِ، وَجَعَلُوا فِيهَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ وَصْفِهِ‏:‏ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، أَوْ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ لِقَوْلِهِمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، قَالُوا‏:‏ فَفِي هَذَا إبَاحَةُ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَهُوَ فِي أَكْمَامِهِ بَعْدُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَلاَ تُدْرَى صِفَتُهُ‏.‏

قال علي‏:‏ وهذا مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ وَأَوْهَمُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِلاَّ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَلاَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فَاعْجَبُوا لِجُرْأَةِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ؛ إذْ احْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَخَالَفُوهُ فِيمَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ، فَهُمْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الْحَبِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ، فَيَا لَضَلاَلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ

قال أبو محمد‏:‏ وَعَجَبٌ آخَرُ‏:‏ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ فَأَقْحَمُوا فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ أَثَرٌ مِنْ إبَاحَةِ بَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ أَنْ يَشْتَدَّ، ثُمَّ لَمْ يَقْنَعُوا بِهَذِهِ الطَّامَّةِ حَتَّى أَوْجَبُوا بِهَذَا الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ لَهُ ذِكْرٌ، وَلاَ إشَارَةٌ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ‏:‏ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ الَّتِي لاَ تُعْرَفُ صِفَاتُهَا، وَلاَ عَرَفَهَا الْبَائِعُ، وَلاَ الْمُشْتَرِي، وَلاَ وَصَفَهَا لَهُمَا أَحَدٌ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَقَضُوا ذَلِكَ كَكَرَّةِ الطَّرْفِ فَحَرَّمُوا بَيْعَ لَحْمِ الْكَبْشِ قَبْلَ ذَبْحِهِ، وَالنَّوَى دُونَ التَّمْرِ قَبْلَ أَكْلِهِ، وَبَيْعَ الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ قَبْلَ عَصْرِهِ، وَبَيْعَ الأَلْبَانِ فِي الضُّرُوعِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ كُلُّهُ مَجْهُولٌ لاَ تُدْرَى صِفَتُهُ، وَهَذَا مُوقٍ وَتَلاَعُبٍ بِالدِّينِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَنَحْنُ نُجِيزُ بَيْعَ الْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ كَمَا هُوَ فِي أَكْمَامِهِ بِأَكْمَامِهِ، وَبَيْعَ الْكَبْشِ حَيًّا وَمَذْبُوحًا كُلِّهِ لَحْمِهِ مَعَ جِلْدِهِ، وَبَيْعَ الشَّاةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ اللَّبَنِ، وَبَيْعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ؛ لأََنَّهُ كُلَّهُ ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ، وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ دُونَ أَكْمَامِهِ؛ لأََنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ صِفَتَهُ، وَلاَ بَيْعُ اللَّحْمِ دُونَ الْجِلْدِ، وَلاَ النَّوَى دُونَ التَّمْرِ، وَلاَ اللَّبَنِ دُونَ الشَّاةِ كَذَلِكَ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلاَ يَخْلُو بَيْعُ كُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُهُ مُشْتَرَطًا عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا، أَوْ لاَ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَطًا عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي‏:‏ فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ وَإِجَارَةٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَحِلُّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي بِضَرُورَةِ الْحِسِّ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ بِمَعْلُومٍ لاَ بِمَجْهُولٍ، فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُشْتَرَطًا عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ حَقًّا؛ لأََنَّهُ لاَ يَصِلُ إلَى أَخْذِ مَا اشْتَرَاهُ

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَالْبُرْهَانُ عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ مَا لَمْ يُعْرَفْ بِرُؤْيَةٍ، وَلاَ بِصِفَةٍ‏:‏ صِحَّةُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا عَيْنُ الْغَرَرِ؛ لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا اشْتَرَى أَوْ بَاعَ‏.‏ وَقَوْلُ اللَّهِ؛ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏ وَلاَ يُمْكِنُ أَصْلاً وُقُوعُ التَّرَاضِي عَلَى مَا لاَ يُدْرَى قَدْرُهُ، وَلاَ صِفَاتُهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَ صِفَةِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَأَجَزْنَا الْبَيْعَ بِذَلِكَ وَبَيْنَ صِفَةِ غَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُجِزْهُ إِلاَّ مِمَّنْ يُصَدِّقُهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ، فَلأََنَّ صِفَةَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ صِفَةَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ عَلَيْهَا وَقَعَ الْبَيْعُ، وَبِهَا تَرَاضَيَا، فَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ صَحِيحًا عَلَى حَقٍّ وَعَلَى مَا يَصِحُّ بِهِ التَّرَاضِي وَإِلَّا فَلاَ‏.‏

وَأَمَّا إذَا وَصَفَهُ لَهُمَا غَيْرُهُمَا مِمَّنْ لاَ يُصَدِّقُهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ فَإِنَّ الْبَيْعَ هَهُنَا لَمْ يَقَعْ عَلَى صِفَةٍ أَصْلاً، فَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَجْهُولٍ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا وَهَذَا حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ‏.‏ فَإِنْ وَصَفَهُ مَنْ صَدَّقَهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ، فَالتَّصْدِيقُ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَإِنَّمَا اشْتَرَى مَا عَلِمَ، أَوْ بَاعَ الْبَائِعُ مَا عَلِمَ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالتَّرَاضِي صَحِيحٌ‏.‏ فَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ كَذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةٍ، وَإِنْ وَجَدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى صِحَّةٍ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ قَدْ اسْتَحَالَ عَمَّا عَرَفَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

1414 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

وَجَائِزٌ بَيْعُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الْمَطْوِيِّ، أَوْ فِي جِرَابِهِ، أَوْ الثِّيَابِ الْكَبِيرَةِ كَذَلِكَ، إذَا وَصَفَ كُلَّ ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَ فَالْبَيْعُ لاَزِمٌ، وَإِلَّا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَاحِدِ، وَالْكَثِيرِ، خَطَأٌ، وَلَيْسَ إِلاَّ حَرَامٌ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ، أَوْ حَلاَلٌ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَلاَلٌ وَهَذَا بِعَيْنِهِ هَوَّلُوا وَشَنَّعُوا عَلَى الْحَنَفِيِّينَ فِي إبَاحَتِهِمْ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ وَتَحْرِيمِهِمْ كَثِيرَهُ، وَلاَ يُقْبَلُ مِثْلُ هَذَا إِلاَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ أَمْرُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَسْهُلُ نَشْرُهُ وَتَقْلِيبُهُ وَطَيُّهُ، وَهَذَا يَصْعُبُ فِي الْكَثِيرِ‏.‏ فَقُلْنَا لَهُمْ‏:‏ وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أَنْ تَكُونَ صُعُوبَةُ الْعَمَلِ تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْبُيُوعَ الْمُحَرَّمَةَ

ثم نقول لَهُمْ‏:‏ مَا تَقُولُونَ فِي ثَوْبَيْنِ مُدْرَجَيْنِ فِي جِرَابٍ أَوْ جِرَابَيْنِ فَإِنْ أَبَاحُوا ذَلِكَ، سَأَلْنَاهُمْ عَنْ الثَّلاَثَةِ، ثُمَّ عَنْ الأَرْبَعَةِ، ثُمَّ نَزِيدُهُمْ هَكَذَا، وَاحِدًا فَوَاحِدًا فَإِنْ حَرَّمُوا سَأَلْنَاهُمْ عَنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَحْلِيلِ مَا أَحَلُّوا مِنْ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، وَعَنْ الدَّلِيلِ عَلَى صُعُوبَةِ مَا جَعَلُوهُ لِصُعُوبَتِهِ حَلاَلاً، وَعَلَى سُهُولَةِ مَا جَعَلُوهُ لِسُهُولَتِهِ حَرَامًا وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَرُبَّ ثِيَابٍ يَكُونُ نَشْرُهَا وَطَيُّهَا أَسْهَلَ مِنْ نَشْرِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَطَيِّهِ، هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ ضَرُورَةً، كَالْمَرْوِيِّ الْمَجْلُوبِ مِنْ بَغْدَادَ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى إعَادَةِ طَيِّهِ بَعْدَ نَشْرِهِ إِلاَّ وَاحِدٌ بَيْنَ أُلُوفٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَوُجُوهِ صِحَّةِ التَّرَاضِي بِعِلْمِهَا بِالصِّفَةِ، وَارْتِفَاعِ الْغَرَرِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ عَنْ الْجَهَالَةِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

1415 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُتَبَايِعَيْنِ لِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَنْ يُشْهِدَا عَلَى تَبَايُعِهِمَا رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ مِنْ الْعُدُولِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدَا عُدُولاً سَقَطَ فَرْضُ الْإِشْهَادِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْإِشْهَادِ فَقَدْ عَصَيَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبَيْعُ تَامٌّ‏.‏ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفَرْضٌ عَلَيْهِمَا مَعَ الْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكْتُبَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكْتُبَاهُ، فَقَدْ عَصَيَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالْبَيْعُ تَامٌّ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى كَاتِبٍ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا فَرْضُ الْكِتَابِ‏.‏ برهان ذَلِكَ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدِ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَنْ لاَ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ، وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ‏}‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فَهَذِهِ أَوَامِرُ مُغَلَّظَةٌ مُؤَكَّدَةٌ لاَ تَحْتَمِلُ تَأْوِيلاً أَمَرَ بِالْكِتَابِ، فِي الْمُدَايَنَةِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَبِالْإِشْهَادِ فِي ذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ الْمُدَارَةِ، كَمَا أَمَرَ الشُّهَدَاءَ أَنْ لاَ يَأْبَوْا أَمْرًا مُسْتَوِيًا، فَمِنْ أَيْنَ صَارَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَحَدُ الأَوَامِرِ فَرْضًا وَالآخَرُ هَمَلاً وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكَاتِبَ إنْ ضَارَّ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْكِتَابِ مُضَارَّةٌ، وَأَنَّ امْتِنَاعَ الشَّاهِدِ مِنْ الشَّهَادَةِ إذْ دُعِيَ فُسُوقٌ ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى أَشَدَّ تَأْكِيدٍ وَنَهَانَا أَنْ نَسْأَمَ كِتَابَ مَا أَمَرَنَا بِكِتَابِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا‏.‏ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقُومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى مِنْ أَنْ لاَ نَرْتَابَ، وَأَسْقَطَ الْجُنَاحَ فِي تَرْكِ الْكِتَابِ خَاصَّةً دُونَ الْإِشْهَادِ فِي التِّجَارَةِ الْمُدَارَةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ الْجُنَاحَ فِي تَرْكِ الْكِتَابِ فِيمَا كَانَ دَيْنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏.‏ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ‏:‏ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ فِرَاسٍ الْخَارِفِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ‏:‏ وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ، هُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ‏:‏ تُشْهِدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَشْتَرِيه وَتَبِيعُهُ وَلَوْ كَانَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِرُبْعِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏‏.‏ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْفَتَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الإدفوي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ النَّحَّاسِ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا شُجَاعٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ ‏"‏ أَشْهِدْ إذَا بِعْت وَإِذَا اشْتَرَيْت وَلَوْ عَلَى دُسْتُجَةِ بَقْلٍ قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ‏:‏ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ‏:‏ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إذَا بَاعَ وَاشْتَرَى إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَكَذَا إنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ وَيُشْهِدَ إذَا وَجَدَ كَاتِبًا وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَغَيْرِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلَفٍ عَنْ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَأَوْجَبَ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ وَكُلُّ هَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا‏.‏ وَذَهَبَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ، وَلاَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ، الْمَأْمُورُ بِهِ‏:‏ وَاجِبًا، وَلاَ يَلْزَمُ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ‏:‏ رُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَا قَبْلَهَا

قال أبو محمد‏:‏ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّهَا ‏[‏ إنَّمَا ‏]‏ نَسَخَتْ، الأَمْرَ بِالرَّهْنِ؛ لأََنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهَا مُتَّصِلاً بِهَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ إنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ مَا كُتِبَ قَبْلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلاَ كُلَّ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِذْ لاَ شَكَّ مِنْ هَذَا‏:‏ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهَا نَسَخَتْ الأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ وَالْكِتَابِ بِالدَّعْوَى الْبَعِيدَةِ الْفَاسِدَةِ بِلاَ برهان، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الأَمْرَ بِكُلِّ ذَلِكَ‏:‏ نَدْبٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلاَبَةَ، وَصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، وَابْنِ سِيرِينَ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ دَعْوَى النَّسْخِ جُمْلَةً لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِبُرْهَانٍ مُتَيَقَّنٍ، لأََنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا وَرَدَ لِيُؤْتَمَرَ لَهُ وَيُطَاعَ بِالْعَمَلِ بِهِ، لاَ لِتَرْكِهِ، وَالنَّسْخُ يُوجِبُ التَّرْكَ، فَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ‏:‏ هَذَا لاَ تَلْزَمُنِي طَاعَتُهُ إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ عَنْ رَسُولِهِ عليه السلام بِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ‏.‏

وَكَذَلِكَ دَعْوَى النَّدْبِ بَاطِلٌ أَيْضًا إِلاَّ بِبُرْهَانٍ آخَرَ مِنْ النَّصِّ كَذَلِكَ؛ لأََنَّ مَعْنَى النَّدْبِ إنْ شِئْت فَافْعَلْ وَإِنْ شِئْت فَلاَ تَفْعَلْ، وَلاَ يُفْهَمُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي لَفْظَةِ افْعَلْ لاَ تَفْعَلْ إنْ شِئْت إِلاَّ بِبُرْهَانٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، فَبَطَلَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ‏.‏ وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ وَبَيْنَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ‏}‏ وَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيُّونَ فِي ذَلِكَ‏:‏ هُوَ فَرْضٌ، وَقَالُوا هَهُنَا‏:‏ هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلاَ

برهان‏.‏

وَكَذَلِكَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ‏}‏ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّونَ‏:‏ إنَّهُ فَرْضٌ، وَقَالُوا هَهُنَا‏:‏ هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلاَ دَلِيلٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ فَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ‏:‏ هَذَا فَرْضٌ، وَلاَ يُقَامُ بِمَكَّةَ حَدٌّ، وَقَالُوا هَهُنَا‏:‏ هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلاَ حُجَّةٍ‏.‏ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَمْرِهِ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ، وَالْكِتَابِ، وَبَيْنَ أَمْرِهِ تَعَالَى بِمَا أَمَرَ فِي كَفَّارَةِ الأَيْمَانِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَحُكْمِ الْإِيلاَءِ، وَحُكْمِ اللِّعَانِ، وَسَائِرِ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ عِضِينَ فَنُوجِبُ بَعْضًا وَنُلْغِي بَعْضًا‏.‏

فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏}

قلنا‏:‏ هَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إسْقَاطِ وُجُوبِ الأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ، وَالْكِتَابِ، بِالدَّعْوَى بِلاَ برهان‏.‏ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ‏:‏ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَعْوَى عَارِيَّةٌ مِنْ الْبُرْهَانِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ مُطْرَحٌ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏ وَمِنْ أَطْرِفْ شَيْءٍ مُبَادَرَتُهُمْ إذَا ادَّعَوْا فِي شَيْءٍ مِنْ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَدْبٌ ‏.‏

فَقُلْنَا لَهُمْ‏:‏ مَا بُرْهَانُكُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى قَالُوا‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا‏}‏‏.‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشَرُوا فِي الأَرْضِ‏}‏‏.‏

فَقُلْنَا لَهُمْ‏:‏ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ دِينٍ وَجَدْتُمْ أَمْ فِي أَيِّ عَقْلٍ‏:‏ أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ أَنَّهُ نَدْبٌ وَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ سَائِرُ أَوَامِرِهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَعَلَى أَنَّهَا نَدْبٌ فَمَا سُمِعَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا الأَحْتِجَاجِ الْفَاسِدِ إذْ قَصَدُوا بِهِ هَدْمَ الْقُرْآنِ بِلاَ

برهان‏.‏ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ فِعْلِهِمْ هَذَا هَهُنَا وَبَيْنَ مَنْ قَصْد إلَى أَيِّ آيَةٍ شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ‏:‏ هِيَ مَنْسُوخَةٌ فَإِذَا قِيلَ لَهُ‏:‏ مَا بُرْهَانُك عَلَى ذَلِكَ قَالَ‏:‏ نَسْخُ اللَّهِ تَعَالَى الأَسْتِقْبَالَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَنَسْخُهُ لأَِعْدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا سَنَةً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ وُجُودَ النَّسْخِ فِي بَعْضِ الأَوَامِرِ، أَوْ كَوْنَهُ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ‏:‏ إذَا جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِبَيَانِ ذَلِكَ

وَأَمَّا بِالدَّعْوَى فَلاَ‏.‏ فَإِذَا صَحَّ فِي أَمْرٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ، أَوْ مَخْصُوصٌ، بِنَصٍّ آخَرَ

قلنا بِذَلِكَ وَلَمْ نَتَعَدَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ إلَى مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَمُقْتَضَاهُ

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ‏:‏ أَنَّ عَمَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعْطِيَهُ الثَّمَنَ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يُسَاوِمُونَ الأَعْرَابِيَّ بِالْفَرَسِ، وَزِيدَ عَلَى السَّوْمِ، فَنَادَى الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلَّا بِعْتُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ قَالَ الأَعْرَابِيُّ‏:‏ وَاَللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ فَقَالَ خُزَيْمَةُ‏:‏ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ بِمَ تَشْهَدُ قَالَ‏:‏ بِتَصْدِيقِكَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوُهُ وَزَادَ فِيهِ‏:‏ فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ كَذَبَ فَلاَ تُبَارِكْ لَهُ فِيهَا فَأَصْبَحَتْ شَاصِيَةً بِرِجْلِهَا فَقَالُوا‏:‏ فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ابْتَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ‏:‏

أَوَّلُهَا‏:‏ أَنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ‏:‏ أَنَّ الأَمْرَ تَأَخَّرَ مِقْدَارَ مُدَّةٍ يُمْكِنُ فِيهَا الْإِشْهَادُ، فَلَمْ يُشْهِدْ عليه السلام، وَإِنَّمَا فِيهِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ مِنْهُ الْفَرَسَ ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُ لِيُوَفِّيَهُ الثَّمَنَ فَأَسْرَعَ عليه السلام وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ وَالْبَيْعُ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ فَفَارَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتِمَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ تَمَّ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَصِحَّتِهِ، لاَ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ الْخَبَرُ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ ثُمَّ صَحَّ فِيهِ‏:‏ أَنَّهُ عليه السلام تَرَكَ الْإِشْهَادَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ أَبَدًا، فَلَيْسَ فِيهِ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ وَنَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا وَجَبَ بِنُزُولِ الآيَةِ لاَ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ يَقِينِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِظَنٍّ كَاذِبٍ لاَ يَحِلُّ الْقَطْعُ بِهِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ بِخِلاَفِ هَذَا الْخَبَرِ، لأََنَّ جَمِيعَهُمْ يَقُولُ‏:‏ لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقَيْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ حَكَمَ عليه السلام لِنَفْسِهِ، فَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَرْكُهُمْ الْحُكْمَ بِخَبَرٍ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ أَثَرٌ، وَلاَ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ‏.‏

فَإِنْ قَالُوا‏:‏ أَخَذْنَا بِالْمُرْسَلِ فِي أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهَا‏.‏ قلنا‏:‏ وَمَا الَّذِي جَعَلَ الْمُرْسَلَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الْمُرْسَلِ‏:‏ أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بِرَدِّهَا، بَلْ قَدْ يَهَبُهَا عليه السلام لَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لاَ يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مَا لاَ تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ فَيُعْطِيهِ إيَّاهُ إِلاَّ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ فَهَذَا حَسَنٌ وَإِعْطَاءٌ حَلاَلٌ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ لِكَذِبِهِ، وَلاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَصْلاً لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَطْلَقَ يَدَ الْفَاسِقِ عَلَى حَرَامٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ حَرَامًا إذْ كَانَ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ عَمْدًا وَظُلْمًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الإِسْلاَمِ‏.‏ وَعَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ الثَّابِتِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لأََنَّهُ بِزَعْمِهِمْ خِلاَفُ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَرَدُّوا الْخَبَرَ الثَّابِتَ فِي تَغْرِيبِ الزَّانِي سَنَةً؛ لأََنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا‏:‏ لاَ نَأْخُذُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَفَعَلُوا هَذَا كُلُّهُمْ فِي جَلْدِ الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ، ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ هَهُنَا بِالأَخْذِ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ لاَ يَصِحُّ، مُخَالِفٍ بِزَعْمِهِمْ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْهَذْرِ وَالتَّخْلِيطِ فَأَتَوْا بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ صِحَاحٍ، كَمَوْتِهِ عليه السلام وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي ثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَكَابْتِيَاعِهِ الْبِكْرَ مِنْ عُمَرَ، وَالْجَمَلَ مِنْ جَابِرٍ، وَابْتِيَاعِ بَرِيرَةَ، وَابْتِيَاعِ صَفِيَّةَ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدَيْنِ، وَالثَّوْبَ بِالثَّوْبَيْنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ‏.‏ وَكُلُّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ، قَالُوا‏:‏ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْإِشْهَادِ وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لأََنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُشْهِدْ، وَلاَ أَنَّهُ أَشْهَدَ‏.‏ وَوَجَدْنَا أَكْثَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ ثَمَنٍ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ؛ لأََنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْإِشْهَادِ، وَلَيْسَ تَرْكُ ذِكْرِ جَمِيعِ الأَحْكَامِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَخْبَارِ بِمُسْقِطٍ لَهَا، كَمَا أَنَّ قوله تعالى‏:‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، بَلْ النُّصُوصُ كُلُّهَا مَضْمُومٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، مَأْخُوذٌ بِمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي غَيْرٍ مِنْهَا وَمَا عَدَا هَذَا فَفَسَادٌ فِي الْعَقْلِ، وَإِفْسَادٌ لِلدِّينِ، وَدَعَاوَى فِي غَايَةِ الْبُطْلاَنِ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَإِنَّهُمْ مَهْمَا خَالَفُونَا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ، وَالْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُمَا فِعْلٌ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْإِشْهَادِ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ دَلِيلاً عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ اخْتِيَارِهِ؛ لأََنَّهُ عليه السلام لاَ يَتْرُكُ الأَفْضَلَ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِ لِلأَدْنَى‏.‏

وَمِنْ عَجَائِبِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ يَعْنِي الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ السُّنَّةَ أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَقَالُوا‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفَرُّقَ‏.‏ ثُمَّ أَبْطَلُوا حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ بِأَخْبَارٍ أُخَرَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْإِشْهَادِ، وَهَذَا بَابٌ يَبْطُلُ بِهِ لَوْ صَحَّ جَمِيعُ الدِّينِ أَوَّلِهِ عَنْ آخِرِهِ؛ لأََنَّهُمْ لاَ يَعْدَمُونَ نُصُوصًا أُخَرَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ الأَحَادِيثِ فَيُبْطِلُونَ لِذَلِكَ أَحْكَامَهَا، وَهَكَذَا أَبَدًا كُلَّمَا وَرَدَ نَصٌّ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَائِرُ الأَحْكَامِ وَجَبَ بُطْلاَنُ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ النَّصِّ أَيْضًا؛ لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَيْضًا فِي نَصٍّ آخَرَ وَهَذِهِ طَرِيقٌ مَنْ سَلَكَهَا فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ أَثْبَتَ فَسَادَ دِينِهِ وَقِلَّةَ حَيَائِهِ وَضَعْفَ عَقْلِهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ‏.‏ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ‏.‏ قلنا‏:‏ هَبْكُمْ مَوَّهْتُمْ بِهَذَا فِي أَخْبَارِ الآحَادِ أَتَرَوْنَ هَذَا يَسُوغُ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَهَلَّا قُلْتُمْ هَذَا لأََنْفُسِكُمْ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ‏:‏ لاَ يَتِمُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ لِلْمَبِيعِ وَهَذَا أَمْرٌ تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى، وَلاَ يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَفِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ‏:‏ لاَ يَتِمُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى، وَلاَ يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَفِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ بِعُهْدَةِ الرَّقِيقِ فِي السَّنَةِ وَالثَّلاَثِ، وَبِالْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ، وَهِيَ أُمُورٌ تَكْثُرُ بِهَا الْبَلْوَى، وَلاَ يَعْرِفُهَا غَيْرُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنْكُمْ فَظَهَرَ التَّحَكُّمُ بِالْبَاطِلِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَاسْتِدْلاَلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ وَإِنَّمَا قلنا‏:‏ إنَّهُ إنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ، وَالْكِتَابَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَالْبَيْعُ تَامٌّ فَالْمَعْصِيَةُ لِخِلاَفِهِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَأَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ فَلأََنَّ الْإِشْهَادَ وَالْكِتَابَ عَمَلاَنِ غَيْرَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَصِحَّتِهِ فَإِذَا تَمَّ الْبَيْعُ لَمْ تُبْطِلْهُ مَعْصِيَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَلِكُلِّ عَمَلٍ حُكْمُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ

1416 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، أَوْ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، أَوْ بِلَفْظٍ يُعَبَّرُ بِهِ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ عَنْ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً غَيْرَ مَقْبُوضَيْنِ لَكِنْ حَالَّيْنِ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏:‏ جَازَ أَيْضًا بِلَفْظِ الدَّيْنِ أَوْ الْمُدَايَنَةِ، وَلاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَلاَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَلاَ بِشَيْءٍ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا أَصْلاً‏.‏ برهان ذَلِكَ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏‏.‏

وَقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏

وَقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ‏}‏‏.‏

فَصَحَّ أَنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ، فَمَتَى أُخِذَ مَالٌ بِغَيْرِ الأَسْمِ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَخْذَهُ كَانَ بَاطِلاً بِنَصِّ الْقُرْآنِ‏.‏ وَصِفَةُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَاحِدَةٌ وَالْعَمَلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الأَسْمُ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ‏:‏ أَحَدُهُمَا حَلاَلٌ طَيِّبٌ، وَالآخَرُ حَرَامٌ خَبِيثٌ، كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏‏.‏

فَصَحَّ أَنَّ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ سِيَّمَا أَسْمَاءُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ فِيهَا الْإِحْدَاثُ، وَلاَ تُعْلَمُ إِلاَّ بِالنُّصُوصِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ مِنَّا وَمِنْ خُصُومِنَا فِي أَنَّ امْرَءًا لَوْ قَالَ لِلآخَرِ‏:‏ أَقْرِضْنِي هَذَا الدِّينَارَ وَأَقْضِيك دِينَارًا إلَى شَهْرِ كَذَا، وَلَمْ يَحِدَّ وَقْتًا فَإِنَّهُ حَسَنٌ، وَأَجْرٌ، وَبِرٌّ‏.‏ وَعِنْدَنَا إنْ قَضَاهُ دِينَارَيْنِ أَوْ نِصْفَ دِينَارٍ فَقَطْ وَرَضِيَ كِلاَهُمَا فَحَسَنٌ‏.‏ وَلَوْ قَالَ لَهُ‏:‏ بِعْنِي هَذَا الدِّينَارَ بِدِينَارٍ إلَى شَهْرٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَجَلاً، فَإِنَّهُ رِبًا، وَإِثْمٌ، وَحَرَامٌ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْعَمَلُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الأَسْمُ فَقَطْ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لأَمْرَأَةٍ‏:‏ أَبِيحِي لِي جِمَاعَك مَتَى شِئْت فَفَعَلَتْ، وَرَضِيَ وَلِيُّهَا، لَكَانَ ذَلِكَ زِنًا إنْ وَقَعَ يُبِيحُ الدَّمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ‏.‏ وَلَوْ قَالَ لَهَا‏:‏ أَنْكِحِينِي نَفْسَك فَفَعَلَتْ، وَرَضِيَ وَلِيُّهَا لَكَانَ حَلاَلاً، وَحَسَنًا، وَبِرًّا، وَهَكَذَا عِنْدَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ‏.‏ وَأَمَّا لَفْظُ الشِّرَى، فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏[‏ رضي الله عنهما ‏]‏ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا سَمْحًا إذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى‏.‏

1417 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

وَكُلُّ مُتَبَايِعَيْنِ صَرْفًا أَوْ غَيْرَهُ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَبَدًا وَإِنْ تَقَابَضَا السِّلْعَةَ وَالثَّمَنَ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَاقَدَا فِيهِ الْبَيْعَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالُ ذَلِكَ الْعَقْدِ أَحَبَّ الآخَرُ أَمْ كَرِهَ وَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ دَهْرَهُمَا إِلاَّ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ لاَ تُبَالِ أَيُّهُمَا كَانَ الْقَائِلُ بَعْدَ تَمَامِ التَّعَاقُدِ‏:‏ اخْتَرْ أَنْ تُمْضِيَ الْبَيْعَ، أَوْ أَنْ تُبْطِلَهُ فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَدْ أَمْضَيْته فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا تَفَرَّقَا أَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَيْسَ لَهُمَا، وَلاَ لأََحَدِهِمَا فَسْخُهُ إِلاَّ بِعَيْبٍ، وَمَتَى مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَالْمَبِيعُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَمَا كَانَ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ، يَنْفُذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ الَّذِي هُوَ عَلَى مِلْكِهِ لاَ حُكْمُ الآخَرِ‏.‏

برهان ذَلِكَ‏:‏ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ اخْتَرْ وَرُبَّمَا قَالَ‏:‏ أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ الْوَضَّاحِ عَنْ إسْمَاعِيلَ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخِيَارَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ‏:‏ اخْتَرْ، لاَ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى خِيَارِ مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ، لِ، أَنَّهُ قَالَ عليه السلام‏:‏ إنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَهَذَا خِلاَفُ حُكْمِ الْبَيْعِ الْمَعْقُودِ عَلَى خِيَارِ مُدَّةٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونَ خِيَارًا‏.‏

وَهَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا‏.‏ وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ عَنْ إسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا الْحَدِيثُ يَرْفَعُ كُلَّ إشْكَالٍ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ إجْمَالٍ، وَيُبْطِلُ التَّأْوِيلاَتِ الْمَكْذُوبَةَ الَّتِي شَغَبَ بِهَا الْمُخَالِفُونَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ فِي أَلْوَاحِي قَالَ‏:‏ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ الْبَيْعَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ‏.‏ قَالَ نَافِعٌ‏:‏ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا ابْتَاعَ الْبَيْعَ فَأَرَادَ أَنْ يَجِبَ لَهُ‏:‏ مَشَى قَلِيلاً ثُمَّ رَجَعَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ هُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قَالَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا‏.‏ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بِإِسْنَادِهِ‏.‏ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ‏:‏ غَزَوْنَا غَزْوَةً لَنَا فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا لِغُلاَمٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيلُ قَامَ إلَى فَرَسِهِ لِيُسَرِّجَهُ فَنَدِمَ فَأَتَى الرَّجُلُ لِيَأْخُذَهُ بِالْبَيْعِ فَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ بَيْنِي وَبَيْنَك أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالاَ لَهُ‏:‏ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ‏:‏ أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا‏.‏ قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ‏:‏ قَالَ جَمِيلُ بْنُ مُرَّةَ‏:‏ قَالَ أَبُو بَرْزَةَ‏:‏ مَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أَبُو الْوَضِيءِ هُوَ عَبَّادُ بْنُ نَسِيبٍ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا بَرْزَةَ، فَهَؤُلاَءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُمْ الأَئِمَّةُ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ‏.‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِ بْنِ نَبَاتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ الْقَلَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّوَّافُ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحِ بْنِ شَيْخِ بْنِ عُمَيْرٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ‏:‏ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَحَاكَمَا إلَيْهِ فِي دَارٍ لِلْعَبَّاسِ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ أَرَادَ عُمَرُ أَخْذَهَا لِيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَأَبَى الْعَبَّاسُ، فَقَالَ لَهُمَا أُبَيٌّ‏:‏ لَمَّا أُمِرَ سُلَيْمَانُ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ أَرْضُهُ لِرَجُلٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا اشْتَرَاهَا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ الَّذِي أَخَذْت مِنِّي خَيْرٌ أَمْ الَّذِي أَعْطَيْتنِي قَالَ سُلَيْمَانُ‏:‏ بَلْ الَّذِي أَخَذْت مِنْك، قَالَ‏:‏ فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ الْبَيْعَ، فَرَدَّهُ، فَزَادَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيزَهُ، فَلَمْ يَزُلْ يَزِيدُهُ وَيَشْتَرِي مِنْهُ، فَيَسْأَلُهُ فَيُخَيِّرُهُ، فَلاَ يُجِيزُ الْبَيْعَ، حَتَّى اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِحُكْمِهِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ، فَاحْتَكَمَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَتَعَاظَمَهُ سُلَيْمَانُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ‏:‏ إنْ كُنْت إنَّمَا تُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِك فَلاَ تُعْطِهِ، وَإِنْ كُنْت إنَّمَا تُعْطِيه مِنْ رِزْقِنَا فَأُعْطِهِ حَتَّى يَرْضَى بِهَا، فَقَضَى بِهَا لِلْعَبَّاسِ‏.‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ بِعْت مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالاً بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْت عَلَى عَقِبَيَّ حَتَّى خَرَجْت مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَيْضًا‏:‏ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ‏:‏ كُنَّا إذَا تَبَايَعْنَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقْ الْمُتَبَايِعَانِ فَتَبَايَعْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَبِعْته مَالاً لِي بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا بَايَعْته طَفِقْت أَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيَّ الْقَهْقَرَى خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي عُثْمَانُ الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ أُفَارِقَهُ‏.‏ فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ بِأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُهُمْ، وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ لأََنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُرَادَّهُ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبَ عُثْمَانَ مَا خَافَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيُخْبِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ‏.‏

وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا‏:‏ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وطَاوُوس

كَمَا رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَهُ بِفَرَسٍ لَهُ فَلَمَّا بَايَعَهُ خَيَّرَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اخْتَرْ فَخَيَّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ‏:‏ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ‏:‏ هَذَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ‏:‏ فَهَذَا عُمَرُ، وَالْعَبَّاسُ، يَسْمَعَانِ أُبَيًّا يَقْضِي بِتَصْوِيبِ رَدِّ الْبَيْعِ بَعْدَ عَقْدِهِ فَلاَ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَصَحَّ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَائِلُونَ بِذَلِكَ وَمَعَهُمْ عُثْمَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالصَّحَابَةُ جُمْلَةً، رضي الله عنهم‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلَ سَمِعْت‏:‏ طَاوُوسًا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ‏:‏ مَا التَّخْيِيرُ إِلاَّ بَعْدَ الْبَيْعِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ سَمِعْت أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ أَنَّهُ شَهِدَ شُرَيْحًا اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلاَنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا دَارًا مِنْ الآخَرِ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، فَأَوْجَبَهَا لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ فَقَالَ‏:‏ لاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا، فَقَالَ الْبَائِعُ‏:‏ قَدْ بِعْتُك وَأَوْجَبْت لَك، فَاخْتَصَمْنَا إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ‏:‏ هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ‏:‏ وَشَهِدْت الشَّعْبِيَّ يَقْضِي بِهَذَا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى بِرْذَوْنًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَقَضَى الشَّعْبِيُّ‏:‏ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو الضُّحَى‏:‏ أَنَّ شُرَيْحًا أُتِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَرَجَعَ الشَّعْبِيُّ إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ‏.‏

وَرُوِّينَا أَيْضًا‏:‏ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ شَهِدَ شُرَيْحًا يَقْضِي بَيْنَ الْمُخْتَصِمَيْنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ بَيْعًا فَقَالَ‏:‏ إنِّي لَمْ أَرْضَهُ، وَقَالَ الآخَرُ‏:‏ بَلْ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَالَ شُرَيْحٌ‏:‏ بَيِّنَتُكُمَا أَنَّكُمَا تَصَادَرْتُمَا عَنْ رِضًا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوْ خِيَارٍ أَوْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ مَا تَصَادَرْتُمَا عَنْ رِضًا بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلاَ خِيَارٍ‏:‏

وَهُوَ قَوْلُ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏.‏ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ‏:‏ هُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ‏.‏

وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ‏.‏

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي أَبِي‏:‏ بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ لَيْسَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ مَوْطُوءٌ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي مَشْهُورًا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إِلاَّ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ قَالَ‏:‏ كُلُّ بَيْعٍ فَالْمُتَبَايِعَانِ فِيهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، إِلاَّ بِيُوعَا ثَلاَثَةً‏:‏ الْمَغْنَمَ، وَالشُّرَكَاءَ فِي الْمِيرَاثِ يَتَقَاوَمُونَهُ، وَالشُّرَكَاءَ فِي التِّجَارَةِ يَتَقَاوَمُونَهَا‏.‏ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ‏:‏ وَحَدُّ التَّفَرُّقِ أَنْ يَغِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لاَ يَرَاهُ وقال أحمد‏:‏ كَمَا

قلنا، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ التَّخْيِيرَ، وَلاَ يَعْرِفُ إِلاَّ التَّفَرُّقَ بِالأَبْدَانِ فَقَطْ‏.‏ وَهَذَا الشَّعْبِيُّ قَدْ فَسَخَ قَضَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى الْحَقِّ، فَشَذَّ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَمَنْ قَلَّدَهُمَا، وَقَالاَ‏:‏ الْبَيْعُ يَتِمُّ بِالْكَلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَخَالَفُوا السُّنَنَ الثَّابِتَةَ، وَالصَّحَابَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ مُخَالِفٌ أَصْلاً، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ سَلَفًا إِلاَّ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ‏:‏

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ إذَا وَجَبَتْ الصَّفْقَةُ فَلاَ خِيَارَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَرِوَايَةٌ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَكَفَى بِهِ سُقُوطًا عَنْ الْحَكَمِ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إذَا كَلَّمَ الرَّجُلُ بِالْبَيْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالصَّحِيحُ عَنْ شُرَيْحٍ هُوَ مُوَافَقَةُ الْحَقِّ‏:‏ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى، وَابْنِ سِيرِينَ عَنْهُ‏.‏ وَلَعَمْرِي؛ إنَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لَيُخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ عَنَى كُلَّ صَفْقَةٍ غَيْرَ الْبَيْعِ، لَكِنْ الْإِجَارَةَ، وَالنِّكَاحَ، وَالْهِبَاتِ، فَهَذَا مُمْكِنٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ أَصْلاً فَحَصَلُوا بِلاَ سَلَفٍ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا‏:‏ صَحِيحٌ وَمَا قلنا‏:‏ إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلاَ قَالَ هُوَ‏:‏ إنَّهُ لاَزِمٌ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ إنَّهُ جَائِزٌ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَمَوَّهُوا بِتَمْوِيهَاتٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ‏:‏ مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ مَعْنَى التَّفَرُّقِ أَيْ بِالْكَلاَمِ ‏.‏

فَقُلْنَا‏:‏ لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا وَمُخَالِفًا لِقَوْلِكُمْ؛ لأََنَّ قَوْلَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ آخُذُهُ بِعَشَرَةٍ، فَيَقُولُ الآخَرُ‏:‏ لاَ، وَلَكِنْ بِعِشْرِينَ لاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّهُمَا مُتَفَرِّقَانِ بِالْكَلاَمِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الآخَرُ‏:‏ نَعَمْ قَدْ بِعْتُكَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالآنَ اتَّفَقَا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا فَالآنَ وَجَبَ الْخِيَارُ لَهُمَا إذْ لَمْ يَتَفَرَّقَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ فَاذْهَبُوا كَيْفَ شِئْتُمْ مَنْ عَارَضَ الْحَقَّ بَلَحَ وَافْتَضَحَ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَنَقُولُ لَهُمْ‏:‏ قَوْلُكُمْ‏:‏ التَّفَرُّقُ بِالْكَلاَمِ كَذِبٌ، دَعْوَى بِلاَ برهان، لاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِمَا فِي الدِّينِ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَرِوَايَةُ اللَّيْثِ‏.‏ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي أَوْرَدْنَا رَافِعَةٌ لِكُلِّ شَغَبٍ، وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ التَّفَرُّقُ عَنْ الْمَكَانِ بِالأَبْدَانِ، وَلاَ بُدَّ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ مَعْنَى الْمُتَبَايِعَيْنِ هَهُنَا‏:‏ إنَّمَا هُمَا الْمُتَسَاوِمَانِ، كَمَا سُمِّيَ الذَّبِيحُ وَلَمْ يُذْبَحْ وَقَالَ‏:‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏‏:‏ إنَّمَا أَرَادَ تَقَارَبْنَ بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ عليه السلام مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إنَّمَا هُوَ مَا بَيْنَ قَوْلِ أَحَدِهِمَا‏:‏ قَدْ بِعْتُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ‏:‏ قَدْ قَبِلْت ذَلِكَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهِ‏:‏ قَدْ ابْتَعْت سِلْعَتَك هَذِهِ بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ‏:‏ قَدْ بِعْتُكهَا بِمَا قُلْت‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إنَّمَا هُوَ مَا بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ بِعْنِي سِلْعَتَك بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ‏:‏ قَدْ فَعَلْت، وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ اشْتَرِ مِنِّي سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارٍ، فَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ‏:‏ قَدْ فَعَلْت فَجَوَابُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا وَاضِحٌ مُخْتَصَرٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ كَذَبَ قَائِلُ هَذَا وَأَفَكَ وَأَثِمَ؛ لأََنَّهُ حَرَّفَ كَلاَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِلاَ برهان أَصْلاً، لَكِنْ مُطَارَفَةً وَمُجَاهَرَةً بِالدَّعْوَى الْبَاطِلِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذِهِ الأَقْوَالُ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهُ عليه السلام‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ‏:‏ كَمَا سُمِّيَ الذَّبِيحُ وَلَمْ يُذْبَحْ فَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ ذَبِيحًا، وَلاَ صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَطُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُطْلَقٌ عَامِّيٌّ لاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ مَنْ أَطْلَقَ مُسَامَحَةً، أَوْ لأََنَّهُ حَمَلَ الْخَلِيلُ عليه السلام السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَهَذَا فِعْلٌ يُسَمَّى مِنْ فَاعِلِهِ ذَبْحًا، وَمَا نُبَالِي عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ؛ لأََنَّهَا لَمْ يَأْتِ بِهَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَلاَ يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ أَصْلاً‏.‏

وَأَمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ فَصَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَبَ مَنْ قَالَ‏:‏ إنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْمُقَارَبَةَ، حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا وَلَوْ كَانَ مَا ظَنُّوهُ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ وَالرَّجْعَةُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي قُرْبِ بُلُوغِ الأَجَلِ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ وَتَأْوِيلُ الآيَةِ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِهَا بِلاَ كَذِبٍ، وَلاَ تَزَيُّدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى بِلاَ شَكٍّ بُلُوغَ الْمُطَلَّقَاتِ أَجَلَ الْعِدَّةِ بِكَوْنِهِنَّ فِيهَا مِنْ دُخُولِهِنَّ إيَّاهَا إلَى إثْرِ الطَّلاَقِ إلَى خُرُوجِهِنَّ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ كُلُّهَا لِلزَّوْجِ فِيهَا الرَّجْعَةُ وَالْإِمْسَاكُ بِلاَ خِلاَفٍ، أَوْ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الطَّلاَقِ‏.‏ وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا أَطْلَقُوا فِيهِ الْبَاطِلَ لَكَانَ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ إذَا وُجِدَ كَلاَمٌ قَدْ صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ وَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ كَلاَمٍ عَنْ ظَاهِرِهِ بِلاَ دَلِيلٍ، وَفِي هَذَا إفْسَادُ التَّفَاهُمِ، وَالْمَعْقُولِ، وَالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، فَكَيْفَ وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قَالَ‏:‏ كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَاضِحٌ لِهَذَا الْكَذِبِ كُلِّهِ، وَمُبْطِلٌ لِتَخْصِيصِ بَعْضِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْعٍ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ هَذَا الأَسْمُ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ هَذَا التَّفْرِيقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ هُوَ مِثْلُ التَّفْرِيقِ الْمَذْكُورِ فِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ‏}‏‏.‏

فَقُلْنَا‏:‏ نَعَمْ، بِلاَ شَكٍّ، وَذَلِكَ التَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الآيَةِ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ بِالأَبْدَانِ، وَلاَ بُدَّ، وَالتَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ أَيْضًا تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ بِالأَبْدَانِ، وَلاَ بُدَّ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ‏:‏ إنَّ التَّفَرُّقَ الْمُرَاعَى فِيمَا يَحْرُمُ بِهِ الصَّرْفُ أَوْ يَصِحُّ إنَّمَا هُوَ تَفَرُّقُ الأَبْدَانِ، فَهَلاَّ قُلْتُمْ عَلَى هَذَا هَهُنَا‏:‏ إنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ أَيْضًا تَفَرُّقُ الأَبْدَانِ، لَوْلاَ التَّحَكُّمُ الْبَارِدُ حَيْثُ تَهْوُونَ‏.‏ وَمَوَّهُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏ فَأَبَاحَ تَعَالَى الأَكْلَ بَعْدَ التَّرَاضِي، قَالُوا‏:‏ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ الَّذِي أَتَانَا بِهَذِهِ الآيَةِ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِهِ نَدْرِي‏:‏ مَا هِيَ التِّجَارَةُ الْمُبَاحَةُ لَنَا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ التَّرَاضِي النَّاقِلُ لِلْمِلْكِ مِنْ التَّرَاضِي الَّذِي لاَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ وَلَوْلاَهُ لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا‏:‏ أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بَيْعًا، وَلاَ هُوَ تِجَارَةً، وَلاَ هُوَ تَرَاضِيًا، وَلاَ يَنْقُلُ مِلْكًا إِلاَّ حَتَّى يَسْتَضِيفَ إلَيْهِ التَّفَرُّقَ عَنْ مَوْضِعِهِمَا، أَوْ التَّخْيِيرَ، فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ، وَالتِّجَارَةُ، وَالتَّرَاضِي، لاَ مَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ بِآرَائِهِمْ بِلاَ برهان، لَكِنْ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ‏.‏ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏ وَهَذَا حَقٌّ إِلاَّ أَنَّ الَّذِي أَمَرَنَا بِهَذَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُوَ تَعَالَى الآمِرُ لِرَسُولِهِ عليه السلام أَنْ يُخْبِرَنَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّعَاقُدُ، وَلاَ يَتِمُّ، وَلاَ يَكُونُ عَقْدًا إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنْ مَوْضِعِهِمَا أَوْ بِأَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، وَإِلَّا فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْعَقْدِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ أَحَدًا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَقْدٍ عَقَدَهُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ حَرَامٌ الْوَفَاءُ بِهَا، كَمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ‏.‏ نَعَمْ، وَأَكْثَرُ الْعُقُودِ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا، كَمَنْ عَقَدَ أَنْ يَشْتَرِيَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ، أَوْ أَنْ يُغَنِّيَ، أَوْ أَنْ يَزْفِنَ أَوْ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا‏.‏ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ أَصْلاً، إِلاَّ عَقْدًا أَتَى النَّصُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ، وَهُمْ يَقُولُونَ يَعْنِي الْحَنَفِيِّينَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ آخَرَ شَيْئًا غَائِبًا وَتَعَاقَدَا إسْقَاطَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَلْزَمُ‏.‏ وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ‏:‏ مَنْ ابْتَاعَ ثَمَرَةً وَاشْتَرَطَ أَنْ لاَ يَقُومَ بِجَائِحَةٍ، وَعَقَدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَلْزَمُهُ، فَأَيْنَ احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏‏.‏ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ هَذِهِ عُقُودٌ قَامَتْ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا قلنا‏:‏ وَعَقْدُ الْبَيْعِ عَقْدٌ قَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بَعْدَ التَّخْيِيرِ، بِخِلاَفِ الأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي خَصَّصْتُمْ بِهَا مَا خَصَّصْتُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ‏.‏ وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ وَإِنَّ الْحَيَاءَ لَقَلِيلٌ فِي وَجْهِ مَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِوُجُوهٍ‏:‏ أَوَّلِهَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الآيَةِ فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الأَحْتِجَاجَ بِأَنَّهُمْ قَدْ عَصَوْا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَخَالَفُوهَا، وَلَمْ يَرَوْهَا حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الآيَةِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلاَنِ التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ، وَلاَ ذُكِرَ مِنْهُ أَصْلاً‏.‏ وَالثَّالِثِ‏:‏ أَنَّ نَصَّ الآيَةِ إنَّمَا هُوَ إيجَابُ الْإِشْهَادِ إذَا تَبَايَعْنَا، وَاَلَّذِي جَاءَنَا بِهَذِهِ الآيَةِ وَلَوْلاَهُ لَمْ نَدْرِ مَا الْمَبِيعُ الْمُبَاحُ مِنْ الْمُحَرَّمِ أَلْبَتَّةَ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ لاَ بَيْعَ أَصْلاً إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ عَنْ مَوْضِعِهِمَا أَوْ التَّخْيِيرِ‏.‏ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، أَوْ التَّخْيِيرِ الَّذِي لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا أَصْلاً إِلاَّ بَعْدَ أَحَدِهِمَا وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الْمُخَالِفِينَ ثُمَّ مَوَّهُوا بِإِيرَادِ أَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ وَغَيْرِ ثَابِتَةٍ، مِثْلِ قَوْلِهِ عليه السلام‏:‏ إذَا ابْتَعْت بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الآيَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ؛ لأََنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَإِلَّا فَلَمْ يَبْتَعْ الْمُبْتَاعُ أَصْلاً، وَلاَ بَاعَ الْبَائِعُ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَمِثْلِ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ‏.‏ وَمِثْلِ مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ‏.‏ وَمِثْلِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ‏.‏ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ‏.‏ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ جَاءَ فِيهَا ذِكْرُ الْبَيْعِ، وَالْقَوْلُ فِيهَا كُلِّهَا كَمَا قلنا آنِفًا‏:‏ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الأَحْكَامِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِمَا صَحَّ مِنْهَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ وَحَكَمَ وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا كَانَا مَعًا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبًّا لِمَنْ عَصَاهُ‏.‏ وَالْعَجَبُ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الأَخْبَارِ هُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِي نُصُوصِهَا، فَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَلِكَ حَتَّى أَضَافُوا إلَى ذَلِكَ غُرُورَ مَنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي أَنْ أَوْهَمُوهُمْ مَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً‏.‏ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فِي إبْطَالِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا فِي إبَاحَةِ كُلِّ بَيْعٍ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مِنْ الرِّبَا، وَالْغَرَرِ، وَالْحَصَاةِ، وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ عَمَلٌ وَاحِدٌ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ‏.‏

وَمِنْ عَجَائِبِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلَوْلاَ أَنَّ الْقَوْمَ مُسْتَكْثِرُونَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَالْخَدِيعَةِ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ اغْتَرَّ بِهِمْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّطْوِيلُ بِلاَ مَعْنًى‏.‏ وَنَعَمْ، الْخَبَرُ صَحِيحٌ وَمَا اشْتَرَى قَطُّ أَبَاهُ مَنْ لَمْ يُفَارِقْ بَائِعَهُ بِبَدَنِهِ، وَلاَ خَيَّرَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلاَ مَلَّكَهُ قَطُّ، بَلْ هُوَ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ كَمَا كَانَ حَتَّى يُخَيِّرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يُفَارِقَهُ بِبَدَنِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلاَ بِنَصِّ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏ وَذَكَرُوا أَيْضًا‏:‏ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَهَذَا خَبَرٌ مَكْذُوبٌ؛ لأََنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ سَاقِطٌ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، أَوْ مُرْسَلٌ عَنْ عَطَاءٍ‏.‏ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ؛ لأََنَّ شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَتْ كُلَّ شَرْطٍ بِلاَ خِلاَفٍ، بَلْ إنَّمَا هِيَ الشُّرُوطُ الْمَأْمُورُ بِهَا، أَوْ الْمُبَاحَةُ بِأَسْمَائِهَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ مَا أَوْهَمُوا بِهِ لَكَانَ شَرْطُ الزِّنَى، وَالْقِيَادَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا‏:‏ شُرُوطًا لَوَازِمَ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الضَّلاَلِ‏.‏ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ‏:‏ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ فَشَرْطُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِلْبَيْعِ أَوْ التَّخْيِيرُ، وَإِلَّا فَلاَ شَرْطَ هُنَالِكَ يَلْزَمُ أَصْلاً‏.‏

وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ بَيْعًا عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِلاَ خِيَارٍ أَنَّ الْخِيَارَ سَاقِطٌ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى هَذَا الْجُنُونِ لاَ، وَلاَ كَرَامَةَ بَلْ لَوْ أَنَّ مُتَبَايِعَيْنِ عَقَدَا بَيْعَهُمَا عَلَى إسْقَاطِ الْخِيَارِ الْوَاجِبِ لَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ التَّخْيِيرِ لَكَانَ شَرْطًا مَلْعُونًا، وَعَقْدًا فَاسِدًا، وَحُكْمَ ضَلاَلٍ لأََنَّهُمَا اشْتَرَطَا إبْطَالَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏ وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِأَنْ قَالُوا‏:‏ لَمَّا كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَعَقْدُ الطَّلاَقِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ، وَالْخُلْعُ، وَالْعِتْقُ، وَالْكِتَابَةُ تَصِحُّ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهَا التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ وَجَبَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأَِجْمَاعِهِمْ مَعَنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرُوا لَهُ أَحْكَامٌ وَأَعْمَالٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِهَا، لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ، فَالْبَيْعُ يَنْتَقِلُ فِيهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَثَمَنِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرُوا، وَالنِّكَاحُ فِيهِ إبَاحَةُ فَرْجٍ كَانَ مُحَرَّمًا بِغَيْرِ مِلْكِ رَقَبَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ أَصْلاً، وَلاَ تَأْجِيلٌ‏.‏ وَهُمْ يُجِيزُونَ الْخِيَارَ الْمُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ وَالتَّأْجِيلِ، وَلاَ يَرَوْنَ قِيَاسَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي ذَلِكَ جَائِزًا، وَالطَّلاَقُ تَحْرِيمُ فَرْجٍ مُحَلَّلٍ إمَّا فِي وَقْتِهِ، وَأَمَّا إلَى مُدَّةٍ بِغَيْرِ نَقْلِ مِلْكٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ اشْتِرَاطٌ بَعْدَ إيقَاعِهِ أَصْلاً، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةُ إبَاحَةُ مَنَافِعَ بِعِوَضٍ لاَ تُمَلَّكُ بِهِ الرَّقَبَةُ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ فِي الْحُرِّ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَهِيَ إلَى أَجَلٍ، وَلاَ بُدَّ، إمَّا مَعْلُومٍ، وإمَّا مَجْهُولٍ إنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مَحْدُودٍ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ‏.‏ وَالْخُلْعُ طَلاَقٌ بِمَالٍ لاَ يَجُوزُ فِيهِ عِنْدَهُمْ خِيَارٌ مُشْتَرَطٌ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ، وَالْكِتَابَةُ فَظَهَرَ سُخْفُ قِيَاسِهِمْ هَذَا وَأَنَّهُ هَوَسٌ وَتَخْلِيطٌ‏.‏ وَكَمْ قِصَّةٍ لَهُمْ فِي التَّخْيِيرِ فِي الطَّلاَقِ أَوْجَبُوا فِيهِ الْخِيَارَ مَا دَامَا فِي مَجْلِسِهِمَا وَقَطَعُوهُ بِالتَّفَرُّقِ بِأَبْدَانِهِمَا حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ قَطُّ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَلاَ قِيَاسٌ شُبِّهَ بِهِ، لَكِنْ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ ثُمَّ أَبْطَلُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّلاَمَةِ مِمَّا ابْتَلاَهُمْ بِهِ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ‏.‏

قال علي‏:‏ وهذا كَلاَمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ نُنْكِرُ هَذَا إذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَدْ وَجَدْنَا النَّقْدَ وَتَرْكَ، الأَجَلِ يُفْسِدُ السَّلَمَ عِنْدَهُمْ، وَيُصَحِّحُ الْبُيُوعَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الرِّبَا حَتَّى لاَ تَصِحَّ إِلاَّ بِهِ‏.‏ فَكَيْفَ وَالْمَعْنَى فِيمَا رَامُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ لَمْ يَمْلِكَا شَيْئًا، وَلاَ تَبَايَعَا أَصْلاً قَبْلَ التَّقَابُضِ، وَكُلُّ مُتَبَايِعَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ أَصْلاً قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ مُتَصَارِفَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُتَصَارِفَيْنِ فَإِنْ تَفَرَّقَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا بِأَبْدَانِهِمْ قَبْلَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ، فَمَنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ تَمَّ لَهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْقِدْ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ فَلَيْسَ هَهُنَا شَيْءٌ يَتِمُّ لَهُ بِالتَّفَرُّقِ‏.‏ وَقَالُوا أَيْضًا‏:‏ مُتَعَقِّبِينَ لِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَادِّينَ عَلَيْهِ‏:‏ الْمُتَبَايِعَانِ إنَّمَا يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ مَا دَامَا فِي حَالِ الْعَقْدِ لاَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَالْمُتَضَارَبِينَ وَالْمُتَقَاتَلِينَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِعَيْنِ مُتَفَاسِخَيْنِ مَعًا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا كَلاَمُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ، وَلاَ عِلْمَ، وَلاَ دِينَ، وَلاَ حَيَاءَ؛ لأََنَّهُ سَفْسَطَةٌ بَارِدَةٌ، وَنَعَمْ، فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ إِلاَّ فِي حِينِ تَعَاقُدِهِمَا لَكِنَّ عَقْدَهُمَا بِذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَمَرَ مَنْ لاَ يُحَرِّمُ دَمَ أَحَدٍ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهِ، أَوْ بِجِزْيَةٍ يَغْرَمُهَا إنْ كَانَ كِتَابِيًّا وَهُوَ صَاغِرٌ‏.‏ وَمِنْ طَرِيفِ نَوَادِرِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا الْخَبَرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ‏"‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَالأَسْتِقَالَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَصِحَّةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ وَلَسْنَا مِمَّنْ يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ بِمَا لاَ يَصِحُّ، وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا، إِلاَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَارَقَةِ خَوْفَ الأَسْتِقَالَةِ فَقَطْ فَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ؛ لأََنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُفَارَقَةِ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ، وَلَيْسَتْ الأَسْتِقَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا ظَنَّ هَؤُلاَءِ الْجُهَّالُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَسْخُ النَّادِمِ مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ رَضِيَ الآخَرُ أَمْ كَرِهَ لأََنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ اسْتَقَلْت مِنْ عِلَّتِي، وَاسْتَقَلْت مَا فَاتَ عَنِّي‏:‏ إذَا اسْتَدْرَكَهُ‏.‏ وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا هَذَا وَعَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ وَكَذِبِهِ هُوَ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِالأَبْدَانِ لاَ تَمْنَعُ مِنْ الأَسْتِقَالَةِ الَّتِي حَمَلُوا الْخَبَرَ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ أَبَدًا، وَلَوْ بَعْدَ عَشْرَاتِ أَعْوَامٍ، فَكَانَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ حَقِيقَةَ، وَلاَ فَائِدَةَ‏.‏ فَصَحَّ أَنَّهَا الأَسْتِقَالَةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْهَا الْمُفَارَقَةُ بِلاَ شَكٍّ، وَهِيَ التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ الْمُوجِبُ لِلْبَيْعِ، الْمَانِعُ مِنْ فَسْخِهِ، وَلاَ بُدَّ، وَلاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا، وَلاَ يَحْتَمِلُ لَفْظُ الْخَبَرِ مَعْنًى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏ فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ ثِقْلاً عَلَيْهِمْ عَلَى ثِقْلٍ، لأََنَّهُمْ صَحَّحُوهُ وَخَالَفُوا مَا فِيهِ، وَأَبَاحُوا لَهُ مُفَارَقَتَهُ خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَمْ يَخْشَ‏.‏

قال علي‏:‏ هذا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَمُبْدِي تَخَاذُلَ عِلْمِهِمْ وَقِلَّةَ فَهْمِهِمْ وَنَحْنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نَذْكُرُ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً لَهُمْ، وَنُبَيِّنُ حَسْمَ التَّعَلُّقِ بِهِ لِمَنْ عَسَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ‏:‏ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ‏:‏ بِعْنِيهِ قَالَ‏:‏ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ قَالُوا فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَ تَفَرُّقَ فِيهِ وَهِبَةٌ لِمَا ابْتَاعَ عليه السلام قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِلاَ شَكٍّ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ‏:‏

أَوَّلُهَا أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفَرُّقٌ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ السُّكُوتُ عَنْهُ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهِ؛ لأََنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَقْتَضِيه، وَلاَ بُدَّ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَمَنٌ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ أَصْلاً؛ لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ‏.‏ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ لاَ بُدَّ مِنْ الثَّمَنِ بِلاَ شَكٍّ؛ لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِهِ‏.‏ قلنا‏:‏ وَلاَ بُدَّ مِنْ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَكُونُ بَيْعًا، وَلاَ يَصِحُّ أَصْلاً إِلاَّ بِأَحَدِهِمَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي إسْقَاطِ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ؛ لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ أَصْلاً، وَهَذِهِ هِبَةٌ لِمَا اُبْتِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلاَفِ رَأْي الْحَنَفِيِّينَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْإِشْهَادِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ‏.‏ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْبَيْعِ تَخْيِيرٌ، وَلاَ إشْهَادٌ أَصْلاً وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ وَبَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَّابٌ أَفِكٌ يَتَبَوَّأُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لِكَذِبِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَنَحْنُ نَقُولُ‏:‏ إنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ كَانَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَإِنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حِينَ الأَمْرِ بِهِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقْطَعُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُخَالِفُ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ أُمَّتَهُ، هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا أَوْ أَجَازَ كَوْنَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ عليه السلام لَوْ نَسَخَ مَا أَمَرَنَا بِهِ لَبَيَّنَهُ حَتَّى لاَ يَشُكَّ عَالِمٌ بِسُنَّتِهِ فِي أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ‏.‏

وَلَوْ جَازَ غَيْرُ هَذَا وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ لَكَانَ دِينُ الإِسْلاَمِ فَاسِدًا لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا أَوْجَبَ رَبُّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، إنَّ هَذَا لَهُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ الَّذِي يُكَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وَ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ وَ‏{‏قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ‏}‏، وَالدِّينُ كُلُّهُ رُشْدٌ وَخِلاَفُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ غَيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ كُلَّ ذَلِكَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبًا، وَالرَّسُولُ عليه السلام لَمْ يُبَيِّنْ، وَلَمْ يُبَلِّغْ وَالدِّينُ ذَاهِبًا فَاسِدًا وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ مِمَّنْ أَجَازَ كَوْنَهُ‏.‏ وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ إنَّ الرَّاوِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ لاَ يَرَى الْبَيْعَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِمْ أَعْلَمُ بِمَا رُوِيَ‏.‏ وَسَقَطَ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ لاَ يَدْرِيَانِ مَتَى يَنْقَطِعُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا كَلاَمٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ‏:‏ أَحَدُهَا أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ التَّخْيِيرِ‏:‏ لَيْسَ بَيْعًا أَصْلاً لاَ بَيْعَ غَرَرٍ، وَلاَ بَيْعَ سَلاَمَةٍ، كَمَا قَالَ عليه السلام‏:‏ إنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَا مَعًا فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ‏.‏ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا‏:‏ مِنْ أَنَّ لَهُمَا خِيَارًا لاَ يَدْرِيَانِ مَتَى يَنْقَطِعُ، بَلْ أَيُّهُمَا شَاءَ قَطْعَهُ قَطَعَهُ فِي الْوَقْتِ، بِأَنْ يُخَيِّرَ صَاحِبَهُ‏.‏ فأما يُمْضِيَهُ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَيَنْقَطِعُ الْخِيَارُ، وَأَمَّا يَفْسَخُهُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَتَمَادِيهِ، أَوْ بِأَنْ يَقُومَ فَيُفَارِقَ صَاحِبَهُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ فَظَهَرَ بِرَدِّ هَذَا الأَعْتِرَاضِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّأْيِ السَّخِيفِ، وَالْعَقْلِ الْهَجِينِ‏.‏ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ غَرَرًا شَيْءٌ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأََنَّهُ لاَ يَأْمُرُ بِمَا نَهَى عَنْهُ مَعًا حَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَازَهُ هَؤُلاَءِ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ اللَّبَنَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِي ضُرُوعِ الْغَنَمِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ‏.‏ وَبَيْعِ الْجَزَرِ الْمُغَيَّبِ فِي الأَرْضِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ إنْسِيٌّ، وَلاَ عَرَفَ صِفَتَهُ، وَلاَ أَهُوَ جَزَرٌ أَمْ هُوَ مَعْفُونٌ مُسَوَّسٌ لاَ خَيْرَ فِيهِ وَبَيْعِ أَحَدِ ثَوْبَيْنِ لاَ يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ الْمُشْتَرَى‏.‏ وَالْمَقَاثِي الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ، وَالْغَائِبِ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ، وَلاَ عُرِفَ فَهَذَا هُوَ الْغَرَرُ الْمُحَرَّمُ الْمَفْسُوخُ الْبَاطِلُ حَقًّا‏.‏

فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ الْيَمَامِيِّ عَنْ أَبِي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا بِخِيَارٍ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا؛ لأََنَّهُ عَلَيْهِمْ لَوْ صَحَّ، وَالتَّفَرُّقُ مِنْ الْبَيْعِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا‏:‏ إمَّا بِتَفَرُّقِ الأَبْدَانِ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَيَتَفَرَّقَانِ مِنْهُ حِينَئِذٍ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْهُ بِفَسْخِهِ وَإِبْطَالِهِ‏:‏ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا فَكَيْفَ وَأَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ ضَعِيفٌ لاَ نَرْضَى الأَحْتِجَاجَ بِرِوَايَتِهِ أَصْلاً وَإِنْ كَانَتْ لَنَا‏.‏ وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ تَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ دِينِهِ وَضَعْفِ عَقْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ مَعْنَى مَا لَمْ يَفْتَرِقَا‏:‏ إنَّمَا أَرَادَ مَا لَمْ يَتَّفِقَا، كَمَا يُقَالُ لِلْقَوْمِ‏:‏ عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمْ أَيْ عَلَى مَاذَا اتَّفَقْتُمْ فَأَرَادَ عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمَا عَنْ كَلاَمِكُمَا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ‏:‏

أَوَّلُهَا‏:‏ أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةً بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَنْ لَكُمْ بِصَرْفِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَقُولَ‏:‏ هَذَا هُوَ السَّفْسَطَةُ بِعَيْنِهِ، وَرَدُّ الْكَلاَمِ إلَى ضِدِّهِ أَبَدًا، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا حَقِيقَةً، وَلاَ يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ عَنْ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ‏.‏ وَهَذِهِ سَبِيلُ الرَّوَافِضِ، إذْ يَقُولُونَ‏:‏ إنَّ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ إنَّمَا هُمَا إنْسَانَانِ بِعَيْنِهِمَا، وَأَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إنَّمَا هِيَ فُلاَنَةُ بِعَيْنِهَا‏.‏ وَالثَّالِثِ‏:‏ أَنْ نَقُولَ لَهُمْ‏:‏ فَكَيْفَ، وَلَوْ جَازَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَكَانَ مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ مُكَذِّبًا لِهَذَا التَّأْوِيلِ الْكَاذِبِ الْمُدَّعَى بِلاَ دَلِيلٍ، وَمُبَيِّنًا أَنَّ التَّفَرُّقَ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الْبَيْعُ لاَ يَكُونُ أَلْبَتَّةَ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ، إِلاَّ بَعْدَ التَّبَايُعِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ كَمَا ظَنَّ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّهُ فِي حَالِ التَّبَايُعِ وَمَعَ آخِرِ كَلاَمِهِمَا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ رِوَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُهُمْ بِعَجَبٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ زَادُوا فِي الْكَذِبِ، فَأَتَوْا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ قَالَ‏:‏ الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ‏.‏

وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ‏:‏ إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ، وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ‏:‏ الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ، وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ شَرْطُهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا، وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحَيَاءِ‏:‏ الأَحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي مُعَارَضَةِ السُّنَنِ، وَكُلُّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ‏:‏ أَوَّلِهَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَصِحُّ؛ لأََنَّهَا مُرْسَلاَتٌ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ مَالِكٌ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَمَا أَدْرَاك مَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ لَيْتَ شِعْرِي أَبِهَذَا يَحْتَجُّونَ إذَا وَقَفُوا فِي عَرْصَةِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَاذُك اللَّهُمَّ مِنْ التَّلاَعُبِ بِالدِّينِ‏.‏ ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلَّقٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالُ مَا حَكَمَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لاَ بَيْعَ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ‏.‏ وَكَلاَمُ عُمَرَ هَذَا لَوْ سَمِعْنَاهُ مِنْ عُمَرَ لَمَا كَانَ خِلاَفًا لِقَوْلِنَا؛ لأََنَّ الصَّفْقَةَ مَا صَحَّ مِنْ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ، وَالْخِيَارَ مَا صَحَّ مِنْ الْبَيْعِ بِالتَّخْيِيرِ، كَمَا قَالَ عليه السلام، وَحَكَمَ أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْبَيِّعَيْنِ إِلاَّ بِأَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَكَيْفَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا نَصًّا

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ‏:‏ أَقْبَلْت أَقُولُ‏:‏ مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرِنَا ذَهَبَك ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِيك وَرِقَك فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ كَلًّا وَاَللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ دِرْهَمَهُ‏.‏ فَهَذَا عُمَرُ يُبِيحُ لَهُ رَدَّ الذَّهَبِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَتَرْكِ الصَّفْقَةِ‏.‏

فإن قيل‏:‏ لَمْ يَكُنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا‏.‏ قلنا‏:‏ هَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّ هَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ، صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي وَأَخَذَ ذَهَبَهُ فَقَلَّبَهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ‏:‏ حَتَّى يَأْتِيَنِي خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ وَاَللَّهِ لاَ تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَهُ‏.‏ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الصَّرْفَ قَدْ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا‏.‏

فَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ وَبِحَضْرَتِهِ طَلْحَةُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ يَرَوْنَ فَسْخَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ‏.‏ ثُمَّ لَوْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَا ادَّعَوْهُ مَا كَانَ فِي قَوْلِهِ حُجَّةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَلَيْهِ، وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ وَمَعَهُ السُّنَّةُ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ أَوَّلُ ذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عُمَرَ كَمَا تَرَى ‏"‏ وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ ‏"‏ وَهُمْ يُبْطِلُونَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا‏.‏ وَنَسُوا خِلاَفَهُمْ لِعُمَرَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ‏.‏ وَأَخْذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الرَّقِيقِ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارًا‏.‏ وَإِيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي نَاضِّ الْيَتِيمِ‏.‏ وَتَرْكِهِ فِي الْخَرْصِ فِي النَّخْلِ مَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ وَالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَزِيدَ مِنْ مِائَةِ قَضِيَّةٍ فَصَارَ هَهُنَا الظَّنُّ الْكَاذِبُ فِي الرِّوَايَةِ الْكَاذِبَةِ عَنْ عُمَرَ‏:‏ حُجَّةً فِي رَدِّ السُّنَنِ‏.‏ فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ نَفْسَهَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ‏:‏ إنَّهُ لَيْسَ بَيْعٌ إِلاَّ عَنْ صَفْقَةِ وَتَخَايُرٍ هَكَذَا بِوَاوِ الْعَطْفِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، وَمُوجِبٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرَ الْبَيْعَ إِلاَّ مَا جَمَعَ الْعَقْدَ، وَالتَّخْيِيرُ سِوَى الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَبْلُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، فَظَهَرَ فَسَادُ تَعَلُّقِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ‏.‏ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ عَنْهُ‏:‏ مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ‏:‏ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِمْ؛ لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْخَبَرِ‏:‏ فَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ مِنْ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ‏:‏ بَلْ إنْ كَانَ غَائِبًا غِيبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ‏.‏ فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ، وَيُجَاهِرُ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةَ وَمَا فِي كَلاَمِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا شَيْءٌ يُخَالِفُ مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ‏.‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ، إنَّمَا أَرَادَ الْبَيْعَ التَّامَّ بِلاَ شَكٍّ‏.‏ وَمِنْ قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ‏:‏ إنَّهُ لاَ بَيْعَ يَتِمُّ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بِالتَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ فَظَهَرَ عَظِيمُ فُحْشِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَظِيمُ تَنَاقُضِهِمْ فِيهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ‏:‏ بَلْ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ إذَا وَافَقَهُمْ‏.‏ وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخِيَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ طَاوُوس أَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ إِلاَّ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ الرَّاوِي أَعْلَمُ بِمَا رَوَى‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا قَاسِمٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَالتَّخْيِيرُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَغْبِنَ مُسْلِمًا‏.‏ فَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ، مُبْطِلاَنِ لِقَوْلِهِمْ الْخَبِيثِ الْمُعَارِضِ لِلسُّنَنِ، فَأَيْنَ هُمْ عَنْهُ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا مَا لاَ يَفْعَلُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَقْتِهِ

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسُّخْفِ قَالَ‏:‏ هَذَا خَبَرٌ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ شَتَّى فَهُوَ مُضْطَرِبٌ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ وَقَدْ كَذَبَ بَلْ أَلْفَاظُهُ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ مَنْقُولَةٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخْتَلِفًا أَصْلاً، لَكِنَّهَا أَلْفَاظٌ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا أُمِرَ عليه السلام بِبَيَانِ وَحَيِّ رَبِّهِ تَعَالَى‏.‏

1418 - مَسْأَلَةٌ‏:‏

فإن قيل‏:‏ فَهَلاَّ أَوْجَبْتُمْ التَّخْيِيرَ فِي الْبَيْعِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لِمَا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ مَا هَوِيَ أَوْ يَتَخَايَرَانِ ثَلاَثَ مِرَارٍ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَنَا حَيَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ هَمَّامٌ‏:‏ وَجَدْت فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيَمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ عَنْ هَمَّامٍ أَيْضًا

قلنا‏:‏ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مُرْسَلَةٌ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلاَّ حَدِيثُ الْعَقِيقَةِ وَحْدَهُ‏.‏

وَأَمَّا رِوَايَةُ هَمَّامٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلاَ رَوَاهَا، وَلاَ أَسْنَدَهَا، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ، وَلاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ‏.‏ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ‏:‏ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏.‏ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ‏:‏ ثَلاَثَ مِرَارٍ‏.‏ وَقَدْ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدِ الْخَيْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ النَّجِيرَمِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَهَمَّامٌ، كِلاَهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ إنَّهُ سَمِعَ صَالِحًا أَبَا الْخَلِيلِ يُحَدِّث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا‏.‏ قَالَ أَبُو دَاوُد‏:‏ وَحَدِيثُ هَمَّامٍ مِثْلُ هَذَا فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَثَبَتَ هَمَّامٌ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَمْ يَقُلْ إذْ وَجَدَهَا فِي كِتَابِهِ‏:‏ إنَّهَا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَوَاللَّهِ لَوْ ثَبَتَ هَمَّامٌ عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَتِهِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ لَقُلْنَا بِهَا؛ لأََنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ زِيَادَةً‏.‏