فصل: تَعْرِيفُ الْحَصْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي كِنَايَاتِهِ وَتَعْرِيضِهِ:

هُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَعَرَّفَهَا أَهْلُ الْبَيَانِ بِأَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِالشَّيْءِ إِلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي اللُّزُومِ، فَيَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى الْمَلْزُومِ.
وَأَنْكَرَ وُقُوعَهَا فِي الْقُرْآنِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ. وَلِلْكِنَايَةِ أَسَالِيبُ فِي الْقُرْآنِ.
أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، نَحْو: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الْأَعْرَاف: 189]، كِنَايَةٌ عَنْ آدَمَ.
ثَانِيهَا: تَرْكُ اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ، نَحْو: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23]، فَكَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ أَجْمَلُ مِنْهُ؛ لِهَذَا لَمْ تُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ امْرَأَةٌ بِاسْمِهَا إِلَّا مَرْيَمَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ مَرْيَمُ بِاسْمِهَا عَلَى خِلَافِ عَادَةِ الْفُصَحَاءِ لِنُكْتَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأَشْرَافَ لَا يَذْكُرُونَ حَرَائِرَهُمْ فِي مَلَإٍ وَلَا يَبْتَذِلُونَ أَسْمَاءَهُنَّ، بَلْ يُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْفَرْشِ وَالْعِيَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْإِمَاءَ لَمْ يُكَنُّوا عَنْهُنَّ وَلَمْ يَصُونُوا أَسْمَاءَهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ، فَلَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ مَا قَالُوا صَرَّحَ اللَّهُ بِاسْمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لَهَا، وَتَأْكِيدًا لِأَنَّ عِيسَى لَا أَبَ لَهُ وَإِلَّا لَنُسِبَ إِلَيْهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّصْرِيحُ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهُ كَكِنَايَةِ اللَّهِ عَنِ الْجِمَاعِ بِالْمُلَامِسَةِ وَالْمُبَاشِرَةِ وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَالدُّخُولِ، وَالسِّرِّ فِي قَوْلِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [الْبَقَرَة: 235]، وَالْغَشَيَانِ فِي قَوْلِه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الْأَعْرَاف: 189]، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي مَا شَاءَ، وَإِنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ، وَكَنَّى عَنْ طَلَبِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ فِي قَوْلِه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يُوسُفَ: 23]، وَعَنْهُ: أَوْ عَنِ الْمُعَانَقَةِ بِاللِّبَاسِ فِي قَوْلِه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 187]، وَبِالْحَرْثِ فِي قَوْلِه: {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 223].
وَكَنَّى عَنِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ بِالْغَائِطِ فِي قَوْلِه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [الْمَائِدَة: 6]، وَأَصْلُهُ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ. وَكَنَّى عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَة: 75]، وَكَنَّى عَنِ الْأَسْتَاهِ بِالْأَدْبَارِ فِي قَوْلِه: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 27]، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي أَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي.
وَأَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ التَّصْرِيحَ بِالْفَرْجِ فِي قَوْلِه: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التَّحْرِيم: 12]، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَرْجُ الْقَمِيصِ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ أَلْطَفُ الْكِنَايَاتِ وَأَحْسَنُهَا؛ أَيْ: لَمْ يَعْلَقْ ثَوْبُهَا بِرِيبَةٍ فَهِيَ طَاهِرَةُ الثَّوْبِ، كَمَا يُقَالُ نَقِيُّ الثَّوْبِ وَعَفِيفُ الذَّيْلِ، كِنَايَةً عَنِ الْعِفَّةِ، وَمِنْهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّر: 4]، وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ نَفْخَ جِبْرِيلَ وَقْعَ فِي فَرْجِهَا، وَإِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا.
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الْمُمْتَحِنَة: 12]، قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كِنَايَةٍ، وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَجَازِ الْمَجَازِ.
رَابِعُهَا: قَصْدُ الْبَلَاغَةِ وَالْمُبَالَغَةِ، نَحْو: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزُّخْرُف: 18]، كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ يَنْشَأْنَ فِي التَّرَفُّهِ وَالتَّزَيُّنِ الشَّاغِلِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقِيقِ الْمَعَانِي، وَلَوْ أَتَى بِلَفْظِ النِّسَاءِ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [الْمَائِدَة: 64]، كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ جِدًّا.
خَامِسُهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ كَالْكِنَايَةِ عَنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِلَفْظِ فَعَلَ، نَحْو: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْمَائِدَة: 79]، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [الْبَقَرَة: 24]؛ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
سَادِسُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَصِيرِهِ، نَحْو: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَد: 1]؛ أَيْ: جَهَنَّمِيٌّ مَصِيرُهُ إِلَى اللَّهَبِ {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ} أَيْ: نَمَّامَةٌ مَصِيرُهَا إِلَى أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِجَهَنَّمَ فِي جِيدِهَا غُلٌّ.
قَالَ بِدُرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاح: إِنَّمَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّرَائِحِ إِلَى الْكِنَايَةِ بِنُكْتَةٍ كَالْإِيضَاحِ أَوْ بَيَانِ حَالِ الْمَوْصُوفِ أَوْ مِقْدَارِ حَالِهِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ الِاخْتِصَارِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الصِّيَانَةِ أَوِ التَّعْمِيَةِ وَالْإِلْغَازِ أَوِ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّعْبِ بِالسَّهْلِ وَعَنِ الْمَعْنَى الْقَبِيحِ بِاللَّفْظِ الْحَسَنِ.
وَاسْتَنْبَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَوْعًا مِنَ الْكِنَايَةِ غَرِيبًا، وَهُوَ أَنْ تَعْمَدَ إِلَى جُمْلَةٍ مَعْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَتَأْخُذَ الْخُلَاصَةَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُفْرَدَاتِهَا بِالَحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَتُعَبِّرُ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقُولُ فِي، نَحْو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]، إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ، فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ، فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ، وَكَذَا قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67]، كِنَايَةٌ عَنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضِ وَالْيَمِينِ إِلَى جِهَتَيْن: حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ.
تَذَنِيبٌ:
مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الَّتِي تُشْبِهُ الْكِنَايَةَ الْإِرْدَافُ؛ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى وَلَا يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَلَا بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، بَلْ بِلَفْظٍ يُرَادِفُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هُودٍ: 44]، وَالْأَصْلُ: وَهَلَكَ مَنْ قَضَى اللَّهُ هَلَاكَهُ، وَنَجَا مَنْ قَضَى اللَّهُ نَجَاتَهُ وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى لَفْظِ الْإِرْدَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْهَالِكِ وَنَجَاةَ النَّاجِي كَانَ بِأَمْرِ آمِرٍ مُطَاعٍ، وَقَضَاءِ مَنْ لَا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ، وَالْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ آمِرًا، فَقَضَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْآمِرِ بِهِ وَقَهْرِهِ، وَإِنَّ الْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ يَحُضَّانِ عَلَى طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي اللَّفْظِ الْخَاصِّ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هُودٍ: 4]، حَقِيقَةُ ذَلِكَ: (جَلَسَتْ)، فَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْخَاصِّ بِالْمَعْنَى إِلَى مُرَادِفِهِ لِمَا فِي الِاسْتِوَاءِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِجُلُوسٍ مُتَمَكِّنٍ لَا زَيْغَ فِيهِ وَلَا مَيْلَ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ مِنْ لَفْظِ الْجُلُوسِ.
وَكَذَا: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرَّحْمَن: 56]، الْأَصْلُ: (عَفِيفَاتٌ)، وَعَدَلَ عَنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُنَّ مَعَ الْعِفَّةِ لَا تَطْمَحُ أَعْيُنُهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلَا يَشْتَهِينَ غَيْرَهُمْ. وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْعِفَّةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالْإِرْدَاف: أَنَّ الْكِنَايَةَ انْتِقَالٌ مِنْ لَازِمٍ إِلَى مَلْزُومٍ، وَالْإِرْدَافُ مِنْ مَذْكُورٍ إِلَى مَتْرُوكٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْم: 31]، عَدَلَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ قَوْلِهِ بِـ: (السُّوءَى)؛ أَيْ: مَعَ أَنَّ فِيهِ مُطَابَقَةً لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى: {بِمَا عَمِلُوا} تَأَدُّبًا أَنْ يُضَافَ السُّوءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

.فصل: في الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ:

لِلنَّاسِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ عِبَارَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ: فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكِنَايَةُ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِير: الْكِنَايَةُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، بِوَصْفٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا. وَالتَّعْرِيضُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى، لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِ مَنْ يَتَوَقَّعُ صِلَةً: وَاللَّهِ إِنِّي مُحْتَاجٌ، فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ بِالطَّلَبِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا فُهِمْ مِنْ عَرْضِ اللَّفْظِ؛ أَيْ: جَانِبِهِ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْإِغْرِيضُ فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: الْكِنَايَةُ لَفْظٌ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ مُرَادًا مِنْهُ لَازِمَ الْمَعْنَى، فَهِيَ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى حَقِيقَةً، وَالتَّجَوُّزُ فِي إِرَادَةِ إِفَادَةِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَقَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى بَلْ يُعَبَّرُ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ، وَهِيَ حِينَئِذٍ مَجَازٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التَّوْبَة: 81]، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِفَادَةَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، بَلْ إِفَادَةَ لَازِمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرِدُونَهَا وَيَجِدُونَ حَرَّهَا إِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَهُوَ لَفْظٌ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ لِلتَّلْوِيحِ بِغَيْرِهِ، نَحْو: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الِأَنِبِيَاء: 93]، نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَى كَبِيرِ الْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ آلِهَةً، كَأَنَّهُ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ تَلْوِيحًا لِعَابِدِهَا بِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ آلِهَةً لِمَا يَعْلَمُونَ إِذَا نَظَرُوا بِعُقُولِهِمْ مِنْ عَجْزِ كَبِيرِهَا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا، فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَبَدًا.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: التَّعْرِيضُ مَا سِيقَ لِأَجْلِ مَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ.
وَمِنْهُ أَنْ يُخَاطَبَ وَاحِدٌ وَيُرَادَ غَيْرُهُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ أَمْيَلُ الْكَلَامِ إِلَى جَانِبٍ مُشَارًا بِهِ إِلَى آخَرَ.
يُقَالُ: نَظَرَ إِلَيْهِ بِعُرْضِ وَجْهِهِ؛ أَيْ: جَانِبِهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ يُفْعَلُ إِمَّا لِتَنْوِيهِ جَانِبَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْهُ: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [الْبَقَرَة: 253]؛ أَيْ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَاءً لِقَدْرِهِ؛ أَيْ: أَنَّهُ الْعَلَمُ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ.
وَإِمَّا لِتَلَطُّفٍ بِهِ وَاحْتِرَازٍ عَنِ الْمُخَاشَنَةِ، نَحْو: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]؛ أَيْ: وَمَالَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 23]، وَوَجْهُ حُسْنِهِ إِسْمَاعُ مَنْ يَقْصِدُ خِطَابَهُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ غَضَبَهُ إِذْ لَمْ يُصَرِّحُ بِنِسْبِيَّتِهِ لِبَاطِلٍ وَالْإِعَانَةُ عَلَى قَبُولِهِ إِذْ لَمْ يُرِدْ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ لِنَفْسِهِ.
وَإِمَّا لِاسْتِدْرَاجِ الْخَصْمِ إِلَى الْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَمِنْهُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]، خُوطِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُرِيدَ غَيْرُهُ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَإِمَّا لِلذَّمِّ، نَحْو: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرَّعْد: 19]، فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ لِذَمِّ الْكُفَّارِ، وَإِنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْبَهَائِمِ الَّذِينَ لَا يَتَذَكَّرُونَ.
وَإِمَّا لِلْإِهَانَةِ وَالتَّوْبِيخِ، نَحْو: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التَّكْوِير: 8، 9]، فَإِنَّ سُؤَالَهَا لِإِهَانَةِ قَاتِلِهَا وَتَوْبِيخِهِ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: التَّعْرِيضُ قِسْمَان: قِسْمٌ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقِسْمٌ لَا يُرَادُ، بَلْ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّعْرِيضِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 63].

.النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ:

.تَعْرِيفُ الْحَصْرِ:

أَمَّا الْحَصْرُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْقَصْرُ، فَهُوَ تَخْصِيصُ أَمْرٍ بِآخَرَ بِطَرِيقٍ مَخْصُوصٍ.
وَيُقَالُ أَيْضًا: إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى: قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا مَجَازِيٌ.
مِثَالُ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ حَقِيقَيًّا، نَحْوُ: مَا زَيْدٌ إِلَّا كَاتِبٌ؛ أَيْ: لَا صِفَةَ لَهُ غَيْرُهَا وَهُوَ عَزِيزٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِتَعَذُّرِ الْإِحَاطَةِ بِصِفَاتِ الشَّيْءِ حَتَّى يُمْكِنَ إِثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا وَنَفْيُ مَا عَدَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى عَدَمِ تَعَذُّرِهَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا؛ وَلِذَا لَمْ يَقَعْ فِي التَّنْزِيلِ.
وَمِثَالُهُ مَجَازِيًّا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 144]؛ أَيْ: أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّسَالَةِ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي اسْتَعْظَمُوهُ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِ الْإِلَهِ.
وَمِثَالُ قَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ حَقِيقِيًّا: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19]، وَمِثَالُهُ مَجَازِيًّا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145]، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُول: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا كَانُوا يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَكَانُوا يُحْرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَكَانَتْ سَجِيَّتُهُمْ تُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَسُوقَةً بِذِكْرِ شُبَهِهِمْ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَكَانَ الْغَرَضُ إِبَانَةَ كَذِبِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، وَالْغَرَضُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ وَالْمُضَادَّةُ لَا الْحَصْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.

.أَقْسَامُ الْحَصْرِ:

وَيَنْقَسِمُ الْحَصْرُ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَقَصْرُ قَلْبٍ، وَقَصْرُ تَعْيِينٍ.
فَالْأَوَّل: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، نَحْو: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النَّحْل: 51]، خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ اشْتَرَاكَ اللَّهِ وَالْأَصْنَامِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ.
وَالثَّانِي: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ لِغَيْرِ مَنْ أَثْبَتَهُ الْمُتَكَلِّمُ لَهُ، نَحْو: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الْبَقَرَة: 258] خُوطِبَ بِهِ نَمْرُوذٌ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ دُونَ اللَّهِ. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [الْبَقَرَة: 13]، خُوطِبَ بِهِ مَنِ اعْتَقَدَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ دُونَهُمْ. {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النِّسَاء: 79]، خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ مِنَ الْيَهُودِ اخْتِصَاصَ بِعْثَتِهِ بِالْعَرَبِ.
وَالثَّالِثُ: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ تَسَاوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَةِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَلَا لِوَاحِدِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِعَيْنِهَا.

.فصل: في طُرُقِ الْحَصْرِ:

طُرُقُ الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
أَحَدُهَا: النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ سَوَاءً كَانَ النَّفْيُ بِلَا أَوْ مَا أَوْ غَيْرِهِمَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَا أَوْ غَيْرِ، نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35]، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 62]، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [الْمَائِدَة: 117].
وَوَجْهُ إِفَادَةِ الْحَصْرِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَفَرِّغَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ فِيهِ إِلَى مُقَدَّرٍ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ التَّقْدِيرُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الصِّنَاعِيُّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَامًّا؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَامٍّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلْمُسْتَثْنَى فِي جِنْسِهِ، مِثْلُ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ؛ أَيْ: أَحَدٌ، وَمَا أَكَلْتُ إِلَّا تَمْرًا؛ أَيْ: مَأْكُولًا. وَلَا بُدَّ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي صِفَتِهِ؛ أَيْ: إِعْرَابِهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَصْرُ إِذَا أُوجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ بِإِلَّا ضَرُورَةً، بِبَقَاءِ مَا عَدَاهُ عَلَى صِفَةِ الِانْتِفَاءِ.
وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ هَذَا الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فَيُنَزَّلَ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ، نَحْو: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 144]، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَلُونَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَزَّلَ اسْتِعْظَامَهُمْ لَهُ عَنِ الْمَوْتِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ رِسَالَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ لَا بُدَّ مِنْ مَوْتِهِ فَمَنِ اسَتَبْعَدَ مَوْتَهُ فَكَأَنَّهُ اسَتَبْعَدَ رِسَالَتَهُ.
الثَّانِي: إِنَّمَا الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَقِيلَ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ: بِالْمَفْهُومِ.
وَأَنْكَرَ قَوْمٌ إِفَادَتَهَا، مِنْهُمْ أَبُو حَيَّانَ، وَاسْتَدَلَّ مُثْبِتُوهُ بِأُمُورٍ.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [الْبَقَرَة: 173]، بِالنَّصْبِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمِيتَةَ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَابِقُ فِي الْمَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَإِنَّهَا لِلْقَصْرِ، فَكَذَا قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَالْأَصْلُ اسْتِوَاءُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَمِنْهَا أَنَّ (إِنَّ) لِلْإِثْبَاتِ وَمَا لِلنَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ الْقَصْرُ لِلَجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ (مَا) زَائِدَةً كَافَّةً لَا نَافِيَةً.
وَمِنْهَا: أَنَّ (إِنَّ) لِلتَّأْكِيدِ وَ(مَا) كَذَلِكَ فَاجْتَمَعَ تَأْكِيدَانِ فَأَفَادَ الْحَصْرَ، قَالَهُ السَّكَّاكِي. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ تَأْكِيدَيْنِ يُفِيدُ الْحَصْرَ لَأَفَادَهُ، نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ مُرَادَهُ: لَا يَجْتَمِعُ حَرْفَا تَأْكِيدٍ مُتَوَالِيَانِ إِلَّا لِلْحَصْرِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَحْقَاف: 23]، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} [هُودٍ: 33]، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الْأَعْرَاف: 187]، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَحْصُلُ مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ إِذَا كَانَتْ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ لِيَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا آتِيكُمْ بِهِ إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ، وَلَا أَعْلَمُهَا إِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشُّورَى: 41، 42]، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} إِلَى قَوْلِه: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التَّوْبَة: 91- 93].
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الْأَعْرَاف: 203]، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آلِ عِمْرَانَ: 20]، لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا إِلَّا بِالْحَصْرِ، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَعْمَلُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَوَاقِعِ التَّعْرِيضِ، نَحْو: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الثَّالِثُ: (أَنَّمَا) بِالْفَتْحِ عَدَّهَا مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ فَقَالَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْأَنْبِيَاء: 108] إِنَّمَا لِقَصْرِ الْحُكْمِ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ، نَحْوُ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَ{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زِيدٌ قَائِمٌ. وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَصَرَّحَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ بِكَوْنِهَا لِلْحَصْرِ، فَقَالَ: كُلَّمَا أَوْجَبَ أَنَّ إِنَّمَا بِالْكَسْرِ لِحَصْرٍ أَوْجَبَ أَنَّ إِنَّمَا بِالْفَتْحِ لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَنْهَا، وَمَا ثَبَتَ لِلْأَصْلِ ثَبَتَ لِلْفَرْعِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَانِعٌ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَرَدَّ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ مَا زَعَمَهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ انْحِصَارُ الْوَحْيِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَقَامِ.
الرَّابِعُ: الْعَطْفُ بِلَا أَوْ بَلْ، ذَكَرَهُ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَلَمْ يَحْكُوا فِيهِ خِلَافًا نَازَعَ فِيهِ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ، فَقَالَ: أَيُّ قَصْرٍ فِي الْعَطْفِ بِلَا إِنَّمَا فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَقَوْلُكَ زَيْدٌ شَاعِرٌ لَا كَاتِبٌ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِنَفْيِ صِفَةٍ ثَالِثَةٍ، وَالْقَصْرُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ غَيْرِ الْمُثْبَتِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا بِنَفْيِ الصِّفَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْمُخَاطَبُ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بِبَلْ فَأَبْعَدُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ فِيهَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.
الْخَامِسُ: تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، نَحْو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]، {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 158]، وَخَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهِ قَرِيبًا.
السَّادِسُ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ، نَحْو: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشُّورَى: 9]؛ أَيْ: لَا غَيْرُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5]، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آلِ عِمْرَانَ: 62]، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الْكَوْثَر: 3]، وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِلْحَصْرِ الْبَيَانِيُّونَ فِي بَحْثِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ: أُتِيَ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ادُّعِيَ فِيهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ حَيْثُ لَمْ يُدَّعَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النَّجْم: 43]، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يُؤْتَ بِهِ فِي: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النَّجْم: 45]، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ} [النَّجْم: 47]، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النَّجْم: 50]؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُدَّعَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَأُتِيَ بِهِ فِي الْبَاقِي لِادِّعَائِهِ لِغَيْرِهِ.
قَالَ فِي عَرُوسُ الْأَفْرَاحِ: وَقَدِ اسْتَنْبَطْتُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحَصْرِ مِنْ قَوْلِه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [الْمَائِدَة: 117]؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَصْرِ لَمَا حَسُنَ، لَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ رَقِيبًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي حَصَلَ بِتَوْفِيَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَقِيبٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ قَوْلِه: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْر: 20]، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لِتَبْيِينِ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلِاخْتِصَاصِ.
السَّابِعُ: تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِر: قَدْ يُقَدَّمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَهُ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ. وَالْحَاصِلُ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ لَهُ أَحْوَالًا.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً، وَالْمُسْنَدُ مُثْبَتًا، فَيَأْتِي لِلتَّخْصِيصِ، نَحْوُ: أَنَا قُمْتُ وَأَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ قَصْرُ الْإِفْرَادِ أُكِّدَ بِنَحْوِ (وَحْدِي) أَوْ قَصْرُ الْقَلْبِ أُكِّدَ بِنَحْوِ (لَا غَيْرِي) وَمِنْهُ: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النَّمْل: 36]، فَإِنَّ مَا قَبْلُهُ مِنْ قَوْلِه: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} [النَّمْل: 36]، وَلَفْظُ (بَلْ) الْمُشْعِرُ بِالْإِضْرَابِ يَقْضِي بِأَنَّ الْمُرَادَ: بَلْ أَنْتُمْ لَا غَيْرُكُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ فَرَحِهِ هُوَ بِالْهَدِيَّةِ، لَا إِثْبَاتُ الْفَرَحِ لَهُمْ بِهَدِيَّتِهِمْ. قَالَهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ.
قَالَ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التَّوْبَة: 101]؛ أَيْ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا نَحْنُ.
وَقَدْ يَأْتِي لِلتَّقْوِيَةِ وَالتَّأْكِيدِ دُونَ التَّخْصِيصِ.
قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ مَنْفِيًّا، نَحْوُ: (أَنْتَ لَا تَكْذِبُ) فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الْكَذِبِ مِنْ (لَا تَكْذِبْ) وَمِنْ (لَا تَكْذِبْ أَنْتَ).
وَقَدْ يُفِيدُ التَّخْصِيصُ وَمِنْهُ: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْقَصَص: 66].
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ نَكِرَةً مُثْبَتًا، نَحْوُ: رَجُلٌ جَاءَنِي، فَيُفِيدُ التَّخْصِيصَ إِمَّا بِالْجِنْسِ؛ أَيْ: لَا امْرَأَةٌ، أَوِ الْوِحْدَةُ؛ أَيْ: لَارَجُلَانِ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَلِيَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ فَيُفِيدُهُ، نَحْوُ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا؛ أَيْ: لَمْ أَقُلْهُ، مَعَ أَنَّ غَيْرِي قَالَهُ، وَمِنْهُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هُودٍ: 91]؛ أَي: الِعَزِيزُ عَلَيْنَا رَهْطُكَ لَا أَنْتَ، وَلِذَا قَالَ: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هُودٍ: 92].
هَذَا حَاصِلُ رَأَيِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَوَافَقَهُ السَّكَّاكِيُّ، وَزَادَ شُرُوطًا وَتَفَاصِيلَ بَسَطْنَاهَا فِي شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْمَعَانِي.
الثَّامِنُ: تَقْدِيمُ الْمَسْنَدِ، ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ النَّفِيسِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ صَرَّحَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُهُ، وَمَثَّلُوهُ بِنَحْو: تَمِيمِيٌّ أَنَا.
التَّاسِعُ: ذِكْرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. ذَكَرَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِيُفِيدَ التَّخْصِيصَ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ، وَصَرَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ أَفَادَ الِاخْتِصَاصَ فِي قَوْلِه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [الرَّعْد: 26]، وَفِي قَوْلِه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزُّمَر: 23]، وَفِي قَوْلِه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الْأَحْزَاب: 4]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَقْدِيمَهُ أَفَادَهُ فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الطَّرِيقِ السَّابِعِ.
الْعَاشِرُ: تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ حَقِيقَةً أَوْ مُبَالَغَةً، نَحْوُ: الْمُنْطَلِقُ زَيْدٌ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا ذَكَرَ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الْفَاتِحَة: 2]، قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَمَا فِي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَي: الِحَمْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ.
الْحَادِي عَشَرَ:، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ نَقَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ التَّلْخِيصِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ.
الثَّانِي عَشَرَ:، نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لِقَائِمٌ نَقَلَهُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا.
الثَّالِثَ عَشَرَ:، نَحْوُ: قَائِمٌ فِي جَوَاب: زَيْدٌ إِمَّا قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ التِّبْيَانِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: قَلْبُ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزُّمَر: 17]، قَالَ: الْقَلْبُ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَفْظِ الطَّاغُوتِ؛ لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى قَوْلِ فَعَلُوتٍ مِنَ الطُّغْيَانِ كَمَلَكُوتٍ وَرَحَمُوتٍ، قُلِبَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ، فَوَزْنُهُ فَلَعُوتٌ فَفِيهِ مُبَالَغَاتُ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَالْبِنَاءُ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ، وَالْقَلْبُ، وَهُوَ لِلِاخْتِصَاصِ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الشَّيْطَانِ.