فصل: تَنْبِيهٌ: في الْآيَاتِ الَّتِي أُشْكِلَتْ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ:

هِيَ أَيْضًا مِثْلُ الْفَوَاتِحِ فِي الْحُسْنِ لِأَنَّهَا آخَرُ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ فَلِهَذَا جَاءَتْ مُتَضَمِّنَةً لِلْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ مَعَ إِيذَانِ السَّامِعِ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلنُّفُوسِ تَشَوُّفٌ إِلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدُ، لِأَنَّهَا بَيْنَ أَدْعِيَةٍ وَوَصَايَا وَفَرَائِضَ، وَتَحْمِيدٍ، وَتَهْلِيلٍ وَمَوَاعِظَ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
كَتَفْصِيلِ جُمْلَةِ الْمَطْلُوبِ فِي خَاتِمَةِ الْفَاتِحَةِ، إِذِ الْمَطْلُوبُ الْأَعْلَى: الْإِيمَانُ الْمَحْفُوظُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُسَبِّبَةِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَالضَّلَالِ، فَفَصَّلَ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِه: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْإِنْعَامَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ إِنْعَامٍ لِأَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِكُلِّ نِعْمَةٍ; لِأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعَمِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ السَّلَامَةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَالضَّلَالِ الْمُسَبَّبَيْنِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَعَدِّي حُدُودِهِ.
وَكَالدُّعَاءِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَكَالْوَصَايَا الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}.
وَالْفَرَائِضُ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا سُورَةُ النِّسَاءِ، وَحَسُنَ الْخَتْمُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ آخِرُ أَمْرِ كُلِّ حَيٍّ، وَلِأَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَكَالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْمَائِدَةُ وَكَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْأَنْعَامُ، وَكَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْأَعْرَافُ، وَكَالْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ الَّتِي خَتَمَ بِهِ الْأَنْفَالُ، وَكَوَصْفِ الرَّسُولِ وَمَدْحِهِ، وَالتَّهْلِيلِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ بَرَاءَةٌ، وَتَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ يُونُسُ، وَمِثْلُهَا خَاتِمَةُ هُودٍ، وَوَصْفُ الْقُرْآنِ وَمَدْحُهُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ يُوسُفَ، وَالْوَعِيدُ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ الَّذِي خَتَمَ بِهِ الرَّعْدَ.
وَمِنْ أَوْضَحِ مَا آذَنَ بِالْخِتَامِ خَاتِمَةُ إِبْرَاهِيمَ {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ‏.
وَمِثْلُهَا خَاتِمَةُ الْأَحْقَافِ، وَكَذَا خَاتِمَةُ الْحِجْرِ بِقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِالْمَوْتِ فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْبَرَاعَةِ‏.
وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ، كَيْفَ بُدِئَتْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَخُتِمَتْ بِقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَانْظُرْ إِلَى بَرَاعَةِ آخَرِ آيَةٍ نَزَلَتْ وَهِيَ قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 281]. وَمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْآخِرِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوَفَاةِ‏.
وَكَذَلِكَ آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ وَهِيَ سُورَةُ النَّصْرِ فِيهَا الْإِشْعَارُ بِالْوَفَاةِ، كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُمْ عَنْ قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالُوا‏: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ‏. قَالَ‏: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ‏: أَجَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ‏.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ‏: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ‏: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ‏: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ‏: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي‏: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ‏: لَا، قَالَ‏: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ‏: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ. قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ‏: إِنِّي لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ‏.

.النَّوْعُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي مُنَاسَبَةِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ:

أَفْرَدَهُ بِالتَّأْلِيفِ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ أَبِي حَيَّانَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْبُرْهَانَ فِي مُنَاسَبَةِ تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ (نَظْمُ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ الْآيِ وَالسُّوَرِ) وَكِتَابِي الَّذِي صَنَّفْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ كَافِلٌ بِذَلِكَ جَامِعٌ لِمُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ وَأَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ مُنَاسَبَةَ السُّوَرِ خَاصَّةً فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ، سَمَّيْتُهُ تَنَاسُقَ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ السُّوَرِ.
وَعِلْمُ الْمُنَاسَبَةِ عِلْمٌ شَرِيفٌ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهِ لِدِقَّتِهِ، وَمِمَّنْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِه: أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ‏.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ‏: ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ، خَتَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ‏.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ عَلِمَ الْمُنَاسَبَةِ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ إِذَا قُرِئَ عَلَيْه: لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ‏.
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَام: الْمُنَاسِبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ ارْتِبَاطٌ، وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرَبْطٍ رَكِيكٍ، يُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، شُرِّعَتْ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ‏.
وَقَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْمَلَّوِيُّ‏: قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ‏: لَا يُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ لِأَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ الْمُفَرَّقَةِ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا، وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا وَتَأْصِيلًا، فَالْمُصْحَفُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُرَتَّبَةٌ سُوَرُهُ كُلُّهَا وَآيَاتُهَا بِالتَّوْقِيفِ، كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا؟ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ، وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسْبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ، وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا بِسَبَبِ تَرْتِيبِهِ، وَنَظْمِ آيَاتِهِ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ غَيْرَ مُنْتَبِهِينَ لِهَذِهِ الْأَسْرَارِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا كَمَا قِيلَ‏:
وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ صُورَتَهُ ** وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ

.فصل: في تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبَةِ:

الْمُنَاسِبَةُ فِي اللُّغَة: الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ وَمَرْجِعُهَا فِي الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا إِلَى مَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهَا عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ، عَقْلِيٍّ، أَوْ حِسِّيٍّ، أَوْ خَيَالِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ، أَوِ التَّلَازُمِ الذِّهْنِيِّ كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ، وَنَحْوِهِ.
وَفَائِدَتُهُ: جَعْلُ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ بَعْضِهَا آخِذًا بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ، الْمُنَاسَبَةُ فِي الْقُرْآنِ فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حَالُهُ حَالُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ، فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْآيَةِ بَعْدَ الْأُخْرَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الِارْتِبَاطِ لِتَعَلُّقِ الْكَلِمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَعَدَمِ تَمَامِهِ بِالْأَوْلَى فَوَاضِحٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ لِلْأُولَى عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ أَوِ التَّفْسِيرِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا كَلَامَ فِيهِ‏.
وَإِمَّا أَنْ لَا يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا خِلَافُ النَّوْعِ الْمَبْدُوءِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْحُكْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الْحَدِيد: 4]. وَقَوْلِه: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَة: 245]. لِلتَّضَادِّ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ وَالنُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَشِبْهِ التَّضَادِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.
وَمِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ التَّضَادُّ: ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَالرَّغْبَةِ بَعْدَ الرَّهْبَةِ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ إِذَا ذَكَرَ أَحْكَامًا ذَكَرَ بَعْدَهَا وَعْدًا وَوَعِيدًا لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا سَبَقَ ثُمَّ يَذْكُرُ آيَاتِ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ لِيُعْلَمَ عِظَمُ الْآمِرِ وَالنَّاهِي‏، وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دِعَامَةٍ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ وَهِيَ قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِالرَّبْطِ وَلَهُ أَسْبَابٌ‏.
بَيْنَ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَحَدُهَا‏: التَّنْظِيرُ فَإِنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ كَقَوْلِه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، عَقِبَ قَوْلِه: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الْأَنْفَال: 4، 5]. فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَمْضِيَ لِأَمْرِهِ فِي الْغَنَائِمِ عَلَى كُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمَا مَضَى لِأَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ لِطَلَبِ الْعِيرِ أَوْ لِلْقِتَالِ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ. وَالْقَصْدُ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ كَكَرَاهَتِهِمْ لِلْخُرُوجِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْخُرُوجِ الْخَيْرُ مِنَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَزِّ الْإِسْلَامِ، فَكَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ فِي الْقِسْمَةِ فَلْيُطِيعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا هَوَى أَنْفُسِهِمْ‏.
الثَّانِي‏: الْمُضَادَّةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 6] فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ حَدِيثًا عَنِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا أَكْمَلَ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ، عَقَّبَ بِحَدِيثِ الْكَافِرِينَ فَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَهْمِيٌّ بِالتَّضَادِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحِكْمَتُهُ التَّشْوِيقُ وَالثُّبُوتُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قِيلَ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ.
فَإِنْ قِيلَ‏: هَذَا جَامِعٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ‏.
قِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَامِعِ ذَلِكَ بَلْ يَكْفِي التَّعَلُّقُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَيَكْفِي فِي وَجْهِ الرَّبْطِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [الْبَقَرَة: 23]. فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ‏: الِاسْتِطْرَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الْأَعْرَاف: 26]. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏: هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ عَقِبَ ذِكْرِ بُدُوِّ السَّوْءَاتِ، وَخَصْفِ الْوَرَقِ عَلَيْهِمَا إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ فِي مَا خَلَقَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلِمَا فِي الْعُرْيِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ السَّتْرَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْوَى.
وَقَدْ خَرَّجْتُ عَلَى الِاسْتِطْرَادِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النِّسَاء: 172]. فَإِنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ ذُكِرَ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الزَّاعِمِينَ بُنُوَّةَ الْمَسِيحِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ لِلرَّدِّ عَلَى الْعَرَبِ الزَّاعِمِينَ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ.
وَيَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ حَتَّى لَا يَكَادَانِ يَفْتَرِقَانِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا ابْتُدِئَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهٍ سَهْلٍ يَخْتَلِسُهُ اخْتِلَاسًا دَقِيقَ الْمَعْنَى، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ السَّامِعُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي، لِشِدَّةِ الِالْتِئَامِ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ غَلِطَ أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ فِي قَوْلِه: لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَقَالَ‏: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى الِاقْتِضَابِ الَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِ مُلَائِمٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ‏: فَفِيهِ مِنَ التَّخَلُّصَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ‏.
‏وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ كَيْفَ ذُكِرَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ ثُمَّ ذُكِرَ مُوسَى إِلَى أَنْ قَصَّ حِكَايَةَ السَّبْعِينَ رَجُلًا وَدُعَائِهِ لَهُمْ، وَلِسَائِرِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} وَجَوَابُهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ تَخَلَّصَ بِمَنَاقِبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ تَخَلُّصِهِ لِأُمَّتِهِ بِقَوْلِه: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ} [الْأَعْرَاف: 156]. مِنْ صِفَاتِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهُمُ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وَأَخَذَ فِي صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفَضَائِلِهِ‏.
وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاء: حَكَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} فَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَصْفِ الْمَعَادِ بِقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشُّعَرَاء: 87- 88].
وَفِي سُورَةِ الْكَهْف: حَكَى قَوْلَ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي السَّدِّ بَعْدَ دَكِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثُمَّ النَّفْخُ فِي الصُّورِ، وَذَكَرَ الْحَشْرَ، وَوَصَفَ مَا لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ‏.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ‏: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَاد: أَنَّكَ فِي التَّخَلُّصِ تَرَكْتَ مَا كُنْتَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَقْبَلْتَ عَلَى مَا تَخَلَّصْتَ إِلَيْهِ، وَفِي الِاسْتِطْرَادِ تَمُرُّ بِذِكْرِ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَطْرَدْتَ إِلَيْهِ مُرُورًا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، ثُمَّ تَتْرُكُهُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ، كَأَنَّكَ لَمْ تَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا عَرَضَ عُرُوضًا‏.
قِيلَ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لَا التَّخَلُّصِ لِعَوْدِهِ فِي الْأَعْرَافِ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى بِقَوْلِه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} [الْأَعْرَاف: 59]. وَفِي الشُّعَرَاءِ إِلَى ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ‏.
وَيَقْرُبُ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى آخَرَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، مَفْصُولًا بِهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ (ص) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاء: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49]. فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ لِمَا انْتَهَى ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَوْعًا آخَرَ وَهُوَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ قَالَ‏: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55]. فَذَكَرَ النَّارَ وَأَهْلَهَا‏.
‏قَالَ ابْنُ الْأَثِير: هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْفَصْلِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ أَكِيدَةٌ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ‏.
وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَيْضًا حُسْنُ الْمَطْلَبِ‏، قَالَ الزَّنْجَانِيُّ وَالطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْوَسِيلَةِ، كَقَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالْمَطْلَبِ مَعًا قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 77، 78]. إِلَى قَوْلِه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

.قَاعِدَةٌ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُفِيدُ لِعِرْفَانِ مُنَاسَبَاتِ الْآيَاتِ:

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُفِيدُ لِعِرْفَانِ مُنَاسَبَاتِ الْآيَاتِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ: أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ السُّورَةُ، وَتَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْغَرَضُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ، وَتَنْظُرُ إِلَى مَرَاتِبِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْمَطْلُوبِ، وَتَنْظُرُ عِنْدَ انْجِرَارِ الْكَلَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِلَى مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ اسْتِشْرَافِ نَفْسِ السَّامِعِ إِلَى الْأَحْكَامِ وَاللَّوَازِمِ التَّابِعَةِ لَهُ، الَّتِي تَقْتَضِي الْبَلَاغَةُ شِفَاءَ الْغَلِيلِ بِدَفْعِ عَنَاءِ الِاسْتِشْرَافِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُهَيْمِنُ عَلَى حُكْمِ الرَّبْطِ بَيْنَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا عَقَلْتَهُ تَبَيَّنَ لَكَ وَجْهُ النَّظْمِ مُفَصَّلًا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَآيَةٍ، وَفِي كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٌ انْتَهَى.

.تَنْبِيهٌ: في الْآيَاتِ الَّتِي أُشْكِلَتْ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:

مِنَ الْآيَاتِ مَا أَشْكَلَتْ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْقُرْآن:
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِيَامَة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [الْقِيَامَة: 7] الْآيَاتِ فَإِنَّ وَجْهَ مُنَاسَبَتِهَا لِأَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا عَسِرٌ جِدًّا، فَإِنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا فِي أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ السُّورَةِ شَيْءٌ، وَحَتَّى ذَهَبَ الْقَفَّالُ فِيمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِّيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ فِي قَوْلِه: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَة: 13]. قَالَ‏: يَعْرِضُ عَلَيْهِ كِتَابَهُ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ خَوْفًا، فَأَسْرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيُقَالُ لَهُ‏: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَ عَمَلَكَ وَأَنْ نَقْرَأَ عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبَعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِ الْإِنْسَانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعُقُوبَتِهِ انْتَهَى.
وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَانَهُ حَالَةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ لَهَا مُنَاسَبَاتٍ.
مِنْهَا‏: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يُقَصِّرُ عَنِ الْعَمَلِ لَهَا حُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَكَانَ مِنْ أَصِلِ الدِّينَ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى أَفْعَالِ الْخَيْرِ مَطْلُوبَةٌ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْإِصْغَاءُ إِلَى الْوَحْيِ وَتَفَهُّمُ مَا يَرِدُ مِنْهُ وَالتَّشَاغُلُ بِالْحِفْظِ، قَدْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِأَنْ لَا يُبَادِرَ إِلَى التَّحَفُّظِ، لِأَنَّ تَحْفِيظَهُ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّهِ، وَلْيُصْغِ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، فَيَتَّبِعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتِ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ الْمُبْتَدَأِ بِذِكْرِهِ، وَمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَالَ: كَلَّا وَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ كَأَنَّهُ قَالَ‏: بَلْ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِكَوْنِكُمْ خُلِقْتُمْ مِنْ عَجَلٍ تَعْجَلُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ ثَمَّ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ‏.
وَمِنْهَا‏: أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ إِذَا ذَكَرَ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُعْرَضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْمُحَاسَبَةُ عَمَلًا وَتَرْكًا.
كَمَا قَالَ فِي الْكَهْف: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الْآيَةَ [الْكَهْف: 49- 54]. وَقَالَ فِي سُبْحَانَ: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 71- 89]‏.
وَقَالَ فِي طه {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 102- 114].
وَمِنْهَا‏: أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ لَمَّا نَزَلَ إِلَى {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} صَادَفَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَادَرَ إِلَى تَحَفُّظِ الَّذِي نَزَلَ، وَحَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ مَنْ عَجَلَتِهِ خَشْيَةً مِنْ تَفَلُّتِهِ، فَنَزَلَ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} إِلَى قَوْلِه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَة: 15- 19]. ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَكْمِلَةِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ‏.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ‏: وَنَحْوَهُ مَا لَوْ أَلْقَى الْمُدَرِّسُ عَلَى الطَّالِبِ مَثَلًا مَسْأَلَةً فَتَشَاغَلَ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ عَرَضَ لَهُ فَقَالَ لَهُ‏: أَلْقِ إِلَيَّ بَالَكَ وَتَفَهَّمْ مَا أَقُولُ، ثُمَّ كَمَّلَ الْمَسْأَلَةَ. فَمَنْ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ يَقُولُ‏: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُنَاسِبًا لِلْمَسْأَلَةِ، بِخِلَافِ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ‏.
وَمِنْهَا‏: أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ نَفْسِ الْمُصْطَفَى كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ نَفْسُكَ أَشْرَفُ النُّفُوسِ، فَلْتَأْخُذْ بِأَكْمَلِ الْأَحْوَالِ‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 189] فَقَدَ يُقَالُ‏: أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ أَحْكَامِ الْأَهِلَّةِ وَبَيْنَ حُكْمِ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ؟
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لِمَا ذَكَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ فِي الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ذَكَرَ مَعَهُ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ‏».
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 114] فَقَدْ يُقَالُ: مَا وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 114].
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَفْسِيرِه: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الدَّهَّانَ يَقُولُ‏: وَجْهُ اتِّصَالِهِ هُوَ أَنَّ ذِكْرَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ سَبَقَ‏، أَيْ: فَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ذَلِكَ وَاسْتَقْبَلُوهُ، فَإِنَّ لَهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ‏.

.فصل: في مُنَاسِبَةِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ وَخَوَاتِمِهَا:

مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُنَاسِبَةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ وَخَوَاتِمِهَا، فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِيهِ جُزْءًا لَطِيفًا سَمَّيْتُهُ مَرَاصِدَ الْمَطَالِعِ فِي تَنَاسُبُ الْمَقَاطِعِ وَالْمَطَالِعِ.
وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الْقَصَصِ كَيْفَ بُدِئَتْ بِأَمْرِ مُوسَى وَنُصْرَتِهِ، وَقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [الْقَصَص: 17]. وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ، وَخُتِمَتْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَكُونَ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَتَسْلِيَتِهِ عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَوَعْدِهِ بِالْعَوْدِ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {إِنَّا رَادُّوهُ} [الْقَصَص: 7].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فَاتِحَةَ سُورَةِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وَأَوْرَدَ فِي خَاتِمَتِهَا {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]. فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَاتِمَةِ‏.
وَذِكَرَ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِبِ مِثْلَهُ. وَقَالَ‏: فِي سُورَةِ (ص) بَدَأَهَا بِالذِّكْرِ وَخَتَمَهَا بِهِ فِي قَوْلِه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 78].
وَفِي سُورَةِ (ن) بَدَأَهَا بِقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} وَخَتَمَهَا بِقَوْلِه: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [الْقَلَم: 2، 51]. وَمِنْهُ مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ السُّورَةِ لِخَاتِمَةِ مَا قَبْلَهَا، حَتَّى إِنَّ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُهَا بِهِ لَفْظًا، كَمَا فِي {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الْفِيل: 5]. {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قُرَيْشٍ: 1]. فَقَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ: اتِّصَالُهَا بِهَا مِنْ بَابِ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَص: 8].
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَة: لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَة: 1].
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: إِذَا اعْتَبَرْتَ افْتِتَاحَ كُلِّ سُورَةٍ وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا خُتِمَ بِهِ السُّورَةُ قَبْلَهَا، ثُمَّ هُوَ يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى، كَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْحَمْدِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ الْمَائِدَةِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزُّمَر: 75].
وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سَبَأٍ: 54]. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْأَنْعَام: 45].
وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ بِالْأَمْرِ بِهِ. وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّرَاطِ فِي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ، قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِبَاطُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْفَاتِحَةِ‏.
وَمِنْ لَطَائِفِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّهَا كَالْمُقَابِلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ السَّابِقَةَ وَصَفَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقَ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ‏: الْبُخْلِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ فِيهَا، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ‏، فَذَكَرَ فِيهَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُخْلِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَي: الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَفِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاة: فَصَلِّ أَيْ: دُمْ عَلَيْهَا، وَفِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاء: لِرَبِّكَ أَيْ: لِرِضَاهُ لَا لِلنَّاسِ وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْعِ الْمَاعُون: وَانْحَرْ وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏: لِتَرْتِيبِ وَضْعِ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ أَسْبَابٌ تُطْلِعُ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ صَادِرٌ عَنْ حَكِيمٍ‏.
أَحَدُهَا‏: بِحَسَبِ الْحُرُوفِ كَمَا فِي الْحَوَامِيمِ‏.
الثَّانِي‏: الْمُوَافَقَةُ أَوَّلُ السُّورَةِ لِآخَرِ مَا قَبْلَهَا كَآخِرِ الْحَمْدِ فِي الْمَعْنَى وَأَوَّلِ الْبَقَرَةِ‏.
الثَّالِث: لِلتَّوَازُنِ فِي اللَّفْظِ، كَآخِرِ تَبَّتْ وَأَوَّلِ الْإِخْلَاصِ‏.
الرَّابِعُ‏: لِمُشَابِهَةِ جُمْلَةِ السُّورَةِ لِجُمْلَةِ الْأُخْرَى كَالضُّحَى وَ{أَلَمْ نَشْرَحْ}.
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّة: وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ تَضَمَّنَتِ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالِالْتِجَاءَ إِلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصِّيَانَةَ عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَسُورَةُ الْبَقَرَة: تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الدِّينِ.
وَآلِ عِمْرَانَ: مُكَمِّلَةٌ لِمَقْصُودِهَا، فَالْبَقَرَةُ بِمَنْزِلَةِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ وَآلُ عِمْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْخُصُومِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُتَشَابِهِ لِمَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى، وَأَوْجَبَ الْحَجَّ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَأَمَّا فِي الْبَقَرَةِ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَأَمَرَ بِإِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ.
وَكَانَ خِطَابُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ أَكْثَرَ، كَمَا أَنَّ خِطَابَ الْيَهُودِ فِي الْبَقَرَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أَصْلٌ، وَالْإِنْجِيلَ فَرْعٌ لَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ دَعَا الْيَهُودَ وَجَاهَدَهُمْ. وَكَانَ جِهَادُهُ لِلنَّصَارَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.
وَلِهَذَا كَانَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فِيهَا الدِّينُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَخُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ‏، وَالسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فِيهَا خِطَابُ مَنْ أَقَرَّ بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَخُوطِبُوا بِيَا أَهْلَ الْكِتَابِ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَأَمَّا سُورَةُ النِّسَاء: فَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ، وَهِيَ نَوْعَان: مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، وَمَقْدُورَةٌ لَهُمْ كَالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ، وَلِهَذَا افْتَتَحَتْ بِقَوْلِه: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ الْعَجِيبَةِ فِي الِافْتِتَاحِ وَبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ حَيْثُ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا مَا أَكْثَرُ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِه: مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَمُحْرَّمَاتِهِ، وَالْمَوَارِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَرْحَامِ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ هَذَا الْأَمْرِ كَانَ بِخَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ خَلْقِ زَوْجِهِ مِنْهُ، ثُمَّ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ‏.
‏وَأَمَّا الْمَائِدَةُ فَسُورَةُ الْعُقُودِ تَضَمَّنَتْ بَيَانَ تَمَامِ الشَّرَائِعِ، وَمُكَمِّلَاتِ الدِّينِ وَالْوَفَاءِ بِعُهُودِ الرُّسُلِ، وَمَا أُخِذَ عَلَى الْأُمَّةِ، وَبِهَا تَمَّ الدِّينُ، فَهِيَ سُورَةُ التَّكْمِيلِ; لِأَنَّ فِيهَا تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ الْإِحْرَامِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَعُقُوبَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنَ السُّرَّاقِ وَالْمُحَارِبِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِحْلَالَ الطَّيِّبَاتِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ فِيهَا مَنْ لَفْظِ الْإِكْمَالِ وَالْإِتْمَامِ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ عَوَّضَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَلَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ كَامِلًا، وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ لِمَا فِيهَا مِنْ إِشَارَاتِ الْخَتْمِ وَالتَّمَامِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّاتِ مِنْ أَحْسَنِ التَّرْتِيبِ‏.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْر: حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى الْقُرْآنِ، وَضَعُوا سُورَةَ الْقَدْرِ عَقِبَ الْعَلَقِ، اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِه: {فَإِذَا قَرَأْتَ}.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ: وَهَذَا بَدِيعٌ جِدًّا‏.