فصل: فَصْلٌ: أَوَائِلُ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: آيَاتُ الصِّفَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:

مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم: آيَاتُ الصِّفَاتِ، وَلِابْنِ اللَّبَّانِ فِيهَا تَصْنِيفٌ مُفْرَدٌ، نَحْوَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [الْقَصَص: 88]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرَّحْمَن: 27]. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الْفَتْح: 10]. {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67].
وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ- مِنْهُمُ السَّلَفُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ- عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعْنَاهَا الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نُفَسِّرُهَا مَعَ تَنْزِيهِنَا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهَا.
أَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَتْ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ.
وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ.
وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، وَكَيْفَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ.
وَأَخْرَجَ اللَّالَكَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا تَشْبِيهٍ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الرُّؤْيَة: الْمَذْهَبُ فِي هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}- مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ، وَغَيْرِهِمْ- أَنَّهُمْ قَالُوا: نَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا. وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، وَلَا نُفَسِّرُ وَلَا نَتَوَهَّمُ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّة: عَلَى أَنَّنَا نُؤَوِّلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى؛ وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ.
وَكَانَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَذْهَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّة: الَّذِي نَرْتَضِيهِ دِينًا وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ عَقْدًا، اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُمْ دَرَجُوا عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاح: عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَاتُهَا، وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَاتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا.
وَاخْتَارَ ابْنُ بُرْهَانٍ مَذْهَبَ التَّأْوِيلِ، قَالَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْن: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَمْ نَعْلَمْ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا، بَلْ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟
وَتَوَسَّطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ قَرِيبًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ لَمْ يُنْكَرْ، أَوْ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، وَآمَنَّا بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، قَالَ: وَمَا كَانَ مَعْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ظَاهِرًا مَفْهُومًا مِنْ تَخَاطُبِ الْعَرَبِ قُلْنَا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56] فَنَحْمِلُهُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ.
ذِكْرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّة:
مِنْ ذَلِكَ صِفَةُ (الِاسْتِوَاءِ) وَحَاصِلُ مَا قِيلَ فيها (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) رَأَيْتُ فِيهَا سَبْعَةَ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: حَكَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ (اسْتَوَى) بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَارَ يُشْعِرُ بِالتَّجْسِيمِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ (اسْتَوَى) بِمَعْنَى (اسْتَوْلَى). وَرُدَّ بِوَجْهَيْن:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكَوْنَيْنِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهِمَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ الْعَرْشِ؟
وَالْآخَرُ: أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
أَخْرَجَ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى (اسْتَوَى) فَقَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ.
فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَعْنَاهُ (اسْتَوْلَى)؟
قَالَ: اسْكُتْ، لَا يُقَالُ: اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ مُضَادٌّ، فَإِذَا غَلَبَ أَحَدُهُمَا، قِيلَ: اسْتَوْلَى.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى صَعِدَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الصُّعُودِ أَيْضًا.
رَابِعُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ (الرَّحْمَنُ عَلَا) أَيْ: ارْتَفَعَ، مِنَ الْعُلُوِّ، وَالْعَرْشُ لَهُ اسْتَوَى. حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ. وَرُدَّ بِوَجْهَيْن:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ (عَلَى) فِعْلًا، وَهِيَ حَرْفٌ هُنَا بِاتِّفَاقٍ، فَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكُتِبَتْ بِالْأَلِفِ، كَقوله: {عَلَا فِي الْأَرْضِ} [الْقَصَص: 4].
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ رَفَعَ (الْعَرْشَ) وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ.
خَامِسُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ (اسْتَوَى) {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [طه: 5- 6]. وَرُدَّ: بِأَنَّهُ يُزِيلُ الْآيَةَ عَنْ نَظْمِهَا وَمُرَادِهَا.
قُلْتُ: وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي قَوْلِه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الْأَعْرَاف: 54].
سَادِسُهَا: أَنَّ مَعْنَى (اسْتَوَى): أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، كَقَوْلِه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فُصِّلَتْ: 11] أَيْ: قَصَدَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْمَعَانِي. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: إِنَّهُ الصَّوَابُ.
قُلْتُ: يُبْعِدُهُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَتَعَدَّى بِإِلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}.
سَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ اللَّبَّان: الِاسْتِوَاءُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِمَعْنَى اعْتَدَلَ، أَيْ: قَامَ بِالْعَدْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آلِ عِمْرَانَ: 18]. وَالْعَدْلُ هُوَ اسْتِوَاؤُهُ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ أَعْطَى بِعِزَّتِهِ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ مَوْزُونًا بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: (النَّفْسُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَة: 116] وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ مُرَادًا بِهِ الْغَيْبُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ كَالنَّفْسِ.
وَقَوْلِه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 28]. أَيْ: عُقُوبَتَهُ، وَقِيلَ: إِيَّاهُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: النَّفْسُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مِنْ لَفْظَةِ النَّفَاسَةِ وَالشَّيْءِ النَّفِيسِ، فَصَلُحَتْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان: أَوَّلَهَا الْعُلَمَاءُ بِتَأْوِيلَاتٍ:
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفْسَ عُبِّرَ بِهَا عَنِ الذَّاتِ، قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ تَعَدِّيَ الْفِعْلِ إِلَيْهَا بِفِي الْمُفِيدَةِ لِلظَّرْفِيَّةِ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ: وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ وَسِرِّكَ، قَالَ: وَهَذَا حَسَنٌ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَة: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
وَمِنْ ذَلِكَ: (الْوَجْهُ) وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالذَّات: وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي قَوْلِه: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الْأَنْعَام: 52]. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الْإِنْسَان: 9]. {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللَّيْل: 20]: الْمُرَادُ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِه: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 115] أَيْ: الْجِهَةُ الَّتِي أَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ: (الْعَيْنُ) وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْبَصَرِ أَوِ الْإِدْرَاكِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، خِلَافًا لِتَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُضْوِ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان: نِسْبَةُ الْعَيْنِ إِلَيْهِ تَعَالَى اسْمٌ لِآيَاتِهِ الْمُبْصِرَةِ، الَّتِي بِهَا- سُبْحَانَهُ- يَنْظُرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِهَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النَّمْل: 13]. نَسَبَ الْبَصَرَ لِلْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَحْقِيقًا؛ لِأَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِالْعَيْنِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الْأَنْعَام: 104] قَالَ: فَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطُّور: 48] أَيْ: بِآيَاتِنَا تَنْظُرُ بِهَا إِلَيْنَا، وَنَنْظُرُ بِهَا إِلَيْكَ.
قَالَ: وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْيُنِ هُنَا الْآيَاتُ كَوْنُهُ عَلَّلَ بِهَا الصَّبْرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الْإِنْسَان: 23- 24].
قَالَ: وَقَوْلُهُ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [الْقَمَر: 14]. أَيْ: بِآيَاتِنَا، بِدَلِيل: وَقَالَ: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا} [هُودٍ: 41]. وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] أَيْ: عَلَى حُكْمِ آيَتِي الَّتِي أَوْحَيْتُهَا إِلَى أُمِّكَ: {أَنْ أَرَضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} الْآيَةَ [الْقَصَص: 7]. انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ كِلَاءَتُهُ تَعَالَى وَحِفْظُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: (الْيَدُ الْمَنْسُوبَة إلى اللَّه وَتَأْوِيل الْعُلَمَاءِ لَهَا) فِي قَوْلِه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الْفَتْح: 10]، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الْحَدِيد: 29]. وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْقُدْرَةِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْيَدُ فِي الْأَصْلِ- كَالْبَصَرِ- عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَيْدِي مَقْرُونَةً مَعَ الْأَبْصَارِ فِي قَوْلِه: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِالْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالْجَوَاهِرِ، قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: إِنَّ الْيَدَ صِفَةٌ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ. وَالَّذِي يَلُوحُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخَصُّ وَالْقُدْرَةَ أَعَمُّ، كَالْمَحَبَّةِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ؛ فَإِنَّ فِي الْيَدِ تَشْرِيفًا لَازِمًا.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِه: {بِيَدَيَّ}: فِي تَحْقِيقِ اللَّهِ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْيَدُ هَاهُنَا صِلَةٌ وَتَأْكِيدٌ، كَقَوْلِه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرَّحْمَن: 27].
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صِلَةً لَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتَ خَلَقْتَهُ فَقَدْ خَلَقْتَنِي، وَكَذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، لَا يَكُونُ لِآدَمَ فِي الْخَلْقِ مَزِيَّةٌ عَلَى إِبْلِيسَ.
وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا حَقِيقَةُ الْيَدَيْنِ فِي خَلْقِ آدَمَ؟
قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي اسْتَثْمَرْتُهُ مِنْ تَدَبُّرِ كِتَابِه: أَنَّ (الْيَدَيْنِ) اسْتِعَارَةٌ لِنُورِ قُدْرَتِهِ الْقَائِمِ بِصِفَةِ فَضْلِهِ، وَلِنُورِهَا الْقَائِمِ بِصِفَةِ عَدْلِهِ. وَنَبَّهَ عَلَى تَخْصِيصِ آدَمَ وَتَكْرِيمِهِ بِأَنْ جَمَعَ لَهُ فِي خَلْقِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. قَالَ: وَصَاحِبَةُ الْفَضْلِ هِيَ الْيَمِينُ، الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِه: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67]. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمِنْ ذَلِكَ: (السَّاقُ الْمَنْسُوبَة إلى اللَّه وَتَأْوِيل الْعُلَمَاءِ لَهَا) فِي قَوْلِه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [الْقَلَم: 42] وَمَعْنَاهُ: عَنْ شِدَّةٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ.
أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَك: مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِر:
اصْبِرْ عِنَاقْ إِنَّهُ شَرُّ بَاقْ ** قَدْ سَنَّ لِي قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقْ

وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ **

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ: (الْجَنْبُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56] أَيْ: فِي طَاعَتِهِ وَحَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ فِي الْجَنْبِ الْمَعْهُودِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ (الْقُرْبِ) فِي قَوْلِه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 186]. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] أَيْ: بِالْعِلْمِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ (الْفَوْقِيَّةِ) فِي قَوْلِه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الْأَنْعَام: 18].
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْل: 50]. وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُلُوُّ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ، وَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الْأَعْرَاف: 127] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعُلُوَّ الْمَكَانِيَّ.
وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ (الْمَجِيءِ) فِي قَوْلِه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الْفَجْر: 22]. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الْأَنْعَام: 158] أَيْ: أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا يَأْتِي بِأَمْرِهِ أَوْ بِتَسْلِيطِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 27] فَصَارَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [الْمَائِدَة: 24] أَيْ: اذْهَبْ بِرَبِّكَ، أَيْ: بِتَوْفِيقِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ (الْحُبِّ) فِي قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَة: 54]. {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31].
وَصِفَةُ (الْغَضَبِ) فِي قَوْلِه: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الْفَتْح: 6].
وَصِفَةُ (الرِّضَا) فِي قَوْلِه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [الْمَائِدَة: 119].
وَصِفَةُ (الْعَجَبِ) فِي قَوْلِه: {بَلْ عَجِبْتُ} [الصَّافَّات: 12]- بِضَمِّ التَّاءِ- وَقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرَّعْد: 5].
وَصِفَةُ (الرَّحْمَةِ) فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تُفَسَّرُ بِلَازِمِهَا.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: جَمِيعُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ- أَعْنِي: الرَّحْمَةَ وَالْفَرَحَ، وَالسُّرُورَ وَالْغَضَبَ وَالْحَيَاءَ وَالْمَكْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ- لَهَا أَوَائِلُ وَلَهَا غَايَاتٌ، مِثَالُهُ: الْغَضَبُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتُهُ إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَرَضِهِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ. وَكَذَلِكَ: الْحَيَاءُ، لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْل: الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ قَوْلِه: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرَّعْد: 5]. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَافَقَ رَسُولَهُ، فَقَالَ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أَيْ: هُوَ كَمَا تَقُولُ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظَةُ (عِنْدَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عِنْدَ رَبِّكَ} [الْأَعْرَاف: 206]. وَ{ومَنْ عِنْدَهُ} [الْمَائِدَة: 52]، وَمَعْنَاهُمَا الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ وَالزُّلْفَى وَالرِّفْعَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} [الْحَدِيد: 4]، أَيْ: بِعِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الْأَنْعَام: 3].
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، مِثْلَ قَوْلِه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84].
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ: (يَعْلَمُ) أَيْ: عَالِمٌ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرَّحْمَن: 31] أَيْ: سَنَقْصِدُ لِجَزَائِكُمْ.
تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ: قَالَ ابْنُ اللَّبَّان: لَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بَعْدَهُ بِقَوْلِه: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ} [الْبُرُوج: 12- 13] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَطْشَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي بَدْئِهِ وَإِعَادَتِهِ وَجَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.

.فَصْلٌ: أَوَائِلُ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:

وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَالْمُخْتَارُ فِيهَا- أَيْضًا- أَنَّهَا مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى أوائل السُّور الْمَقْطَعة فِي الْقُرْآن.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّعْبِيّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا، وَإِنَّ سِرَّ هَذَا الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ.
وَخَاضَ فِي مَعْنَاهَا آخَرُونَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه: {الم} قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي قَوْلِه: {المص} قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، وَفِي قَوْلِه: {الر} أَنَا اللَّهُ أَرَى.
وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه: {الم} وَ{حم} وَ{ن} قَالَ: اسْمٌ مُقَطَّعٌ.
وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {الر} وَ{حم} وَ{ن} حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُفَرَّقَةٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: {الر} مِنَ الرَّحْمَنِ.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- قَالَ: {المص}: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِه: {المص} قَالَ: أَنَا اللَّهُ الصَّادِقُ.
وَقِيلَ: {المص} مَعْنَاهُ: الْمُصَوِّرُ.
وَقِيلَ: {الر} مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرْفَعُ، حَكَاهُمَا الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي {كهيعص} قَالَ: الْكَافُ مِنْ كَرِيمٍ، وَالْهَاءُ مَنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ- أَيْضًا- مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه: {كهيعص} قَالَ: كَافٍ هَادٍ أَمِينٌ عَزِيزٌ صَادِقٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيّ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِه: {كهيعص} قَالَ: هُوَ هِجَاءٌ مُقَطَّعٌ: الْكَافُ مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ مِنَ الْمُصَوِّرِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه: {كهيعص} قَالَ: كَبِيرٌ، هَادٍ، أَمِينٌ، عَزِيزٌ، صَادِقٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه: {كهيعص} قَالَ: الْكَافُ الْكَافِي، وَالْهَاءُ الْهَادِي، وَالْعَيْنُ الْعَالِمُ، وَالصَّادُ الصَّادِقُ.
وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: سُئِلَ الْكَلْبِيُّ عَنْ {كهيعص} فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَافٍ، هَادٍ، أَمِينٌ، عَالَمٌ، صَادِقٌ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قوله: {كهيعص} قَالَ: يَقُولُ: أَنَا الْكَبِيرُ، الْهَادِي، عَلِيٌّ، أَمِينٌ، صَادِقٌ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِه: {طه} قَالَ: الطَّاءُ مِنْ {ذِي الطَّوْلِ} [غَافِرٍ: 3].
وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- فِي قَوْلِه: {طسم} قَالَ: الطَّاءُ فِي ذِي الطَّوْلِ وَالسِّينُ مِنَ الْقُدُّوسِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِه: {حم} قَالَ: حَاءٌ اشْتُقَّتْ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَمِيمٌ اشْتُقَّتْ مِنَ الرَّحِيمِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِه: {حم عسق} [الشُّورَى: 1- 2] قَالَ: الْحَاءُ وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَلِيمِ، وَالسِّينُ مِنَ الْقُدُّوسِ، وَالْقَافُ مِنَ الْقَاهِرِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا هِجَاءٌ مُقَطَّعٌ.
وَأَخْرَجَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: {المر} وَ{حم} وَ{ن} وَنَحْوُهَا اسْمُ اللَّهِ مُقَطَّعَةٌ.
وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فُرِّقَتْ فِي الْقُرْآنِ.
وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ فِي قَوْلِه: {ق} إِنَّهُ حَرْفٌ مِنِ اسْمِهِ قَادِرٍ وَقَاهِرٍ.
وَحَكَى غَيْرُهُ فِي قَوْلِه: {ن} إِنَّهُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ تَعَالَى: نُورٍ وَنَاصِرٍ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهَا: حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى.
وَالِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ الْكَلِمَةِ مَعْهُودٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ**

أَيْ: وَقَفْتُ.
وَقَالَ:
بِالْخَيْرِ خَيِّرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَا ** وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا

أَرَادَ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَإِلَّا أَنْ تَشَاءَ.
وَقَالَ:
نَادَاهُمُ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تا ** قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا

أَرَادَ: أَلَا تَرْكَبُونَ، أَلَا فَارْكَبُوا.
وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَنْطِقُ بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ تَدُلُّ بِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ: إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا. كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ-، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيّ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {الم} اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {الم} وَ{طسم} وَ{ص} وَأَشْبَاهُهَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ.
وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَالِثًا، أَيْ: أَنَّهَا بِرُمَّتِهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ. وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي. وَعَلَى الْأَوَّل: مَشَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ: عَنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئِ عَنْ، فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهَا سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: يَا {كهيعص} اغْفِرْ لِي.
وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِه: {كهيعص} قَالَ: يَا مَنْ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ: أَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِـ: (يس)؟.
فَقَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي، لِقَوْلِ اللَّه: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1- 2]، يَقُولُ: هَذَا اسْمٌ تَسَمَّيْتُ بِهِ.
وَقِيلَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلْقُرْآن: كَالْفُرْقَانِ وَالذِّكْرِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظ: كُلُّ هِجَاءٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَر: نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى الْأَكْثَرِ.
وَقِيلَ: هِيَ فَوَاتِحُ لِلسُّوَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْقَصَائِدِ (بَلْ) وَ(لَا بَلْ).
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {الم} وَ{حم} وَ{المص} وَ{ص} وَنَحْوُهَا فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ {الم} وَ{المر} فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ.
قُلْتُ: أَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ أَسْمَاءٌ؟
قَالَ: لَا.
وَقِيلَ: هَذَا حِسَابُ أَبِي جَادٍ: لِتَدُلَّ عَلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيَابٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}» فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْه: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ}. قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَمَشَى حُيَيُّ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَلَمْ تَذْكُرْ أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ: {الم ذَلِكَ}؟ فَقَالَ: «بَلَى». فَقَالُوا: لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءَ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مَا مُدَّةُ مُلْكِهِ، وَمَا أَجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَنَدْخُلُ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَجَلُ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟! ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ: المص» قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصَّادُ تِسْعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ؛ الر». قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ؛ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، هَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ. هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟
قَالَ: «نَعَمْ المر».
قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ هَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ: قُومُوا عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ وَمَنْ مَعَهُ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7].
أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ مُعْضَلًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِه: {الم} قَالَ: هَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْأَحْرُفِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، دَارَتْ بِهَا الْأَلْسُنُ، لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ وَبَلَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ وَآجَالِهِمْ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِه: اللَّهِ، وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِه: لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِه: مَجِيدٍ، فَالْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُ اللَّهِ، وَالْمِيمُ مَجْدُ اللَّهِ، فَالْأَلِفُ سَنَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ.
قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَقَدِ اسْتَخْرَجَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الرُّوم: 1- 2] أَنَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ تَفْتَحُهُ الْمُسْلِمُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَوَقَعَ كَمَا قَالَهُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَعَلَّ عَدَدَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ- مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ- لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُدَّةِ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا بَاطِلٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الزَّجْرُ عَنْ عَدِّ أَبِي جَادٍ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِه: وَمِنَ الْبَاطِلِ عِلْمُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ.
وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي فِيهَا عِشْرُونَ قَوْلًا وَأَزْيَدُ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعِلْمٍ وَلَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى فَهْمٍ.
وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ {حم} فُصِّلَتْ وَ{ص} وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْلِيمِ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ لَا إِنْكَارَ فِيهِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: وَهِيَ تَنْبِيهَاتٌ كَمَا فِي النِّدَاء: عَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُغَايِرًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَوَاتِحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَاهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {الم} افْتِتَاحُ كَلَامٍ.
وَقَالَ الْخُوَيِّيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُتَنَبِّهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا، فَأَمَرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِه: {الم} وَ{الر} وَ{حم} لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلَ عَلَيْهِ، وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ أَلَا وَأَمَا لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ، لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ، وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ مِنْهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ، فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ، وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ.
وَعَدَّ هَذَا جَمَاعَةٌ قَوْلًا مُسْتَقِلًّا، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا مُنَاسَبَةً لِبَعْضِ الْأَقْوَالِ، لَا قَوْلًا فِي مَعْنَاهُ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَعْنًى.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ذُكِرَتْ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ أ ب ت ث....: فَجَاءَ بَعْضُهَا مُقَطَّعًا، وَجَاءَ تَمَامُهَا مُؤَلَّفًا، لِيَدُلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ أَنَّهُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لَهُمْ، وَدَلَالَةً عَلَى عَجْزِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، وَيَبْنُونَ كَلَامَهُمْ مِنْهَا.
وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ بِهَا الْإِعْلَامُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ: فَذَكَرَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَهِيَ نِصْفُ جَمِيعِ الْحُرُوفِ، وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ نِصْفَهُ:
فَمِنْ حَرْفِ الْحَلْق: الْحَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْهَاءُ. وَمِنَ الَّتِي فَوْقَهَا الْقَافُ، وَالْكَافُ.
وَمِنَ الْحَرْفَيْنِ الشَّفَهِيَّيْن: الْمِيمُ.
وَمِنَ الْمَهْمُوسَة: السِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْكَافُ، وَالصَّادُ، وَالْهَاءُ.
وَمِنَ الشَّدِيدَة: الْهَمْزَةُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْكَافُ.
وَمِنَ الْمُطْبِقَة: الطَّاءُ، وَالصَّادُ.
وَمِنَ الْمَجْهُورَة: الْهَمْزَةُ، وَالْمِيمُ، وَاللَّامُ، وَالْعَيْنُ، وَالرَّاءُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ.
وَمِنَ الْمُنْفَتِحَة: الْهَمْزَةُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ.
وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَة: الْقَافُ، وَالصَّادُ، وَالطَّاءُ.
وَمِنَ الْمُنْخَفِضَة: الْهَمْزَةُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالنُّونُ.
وَمِنَ الْقَلْقَلَة: الْقَافُ، وَالطَّاءُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُرُوفًا مُفْرَدَةً، وَحَرْفَيْنِ حَرْفَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً، وَخَمْسَةً؛ لِأَنَّ تَرَاكِيبَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَلَا زِيَادَةَ عَلَى الْخَمْسَةِ.
وَقِيلَ: هِيَ أَمَارَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْكِتَاب: أَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ كِتَابًا فِي أَوَّلِ سُوَرٍ مِنْهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ:
هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَفِي بَعْضِهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ؛ فَقِيلَ: إِنَّ (طه) وَ(يس) بِمَعْنَى: يَا رَجُلُ، أَوْ: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ: يَا إِنْسَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُعْرَبِ.
وَقِيلَ: هُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِه: وَيُقَوِّيهِ فِي (يس) قِرَاءَةُ {يَاسِينَ} بِفَتْحِ النُّونِ وَقَوْلُهُ {إِلْ يَاسِينَ}. وَقِيلَ: {طه} أَيْ: طَأِ الْأَرْضَ أَوِ اطْمَئِنَّ، فَيَكُونُ فِعْلَ أَمْرٍ وَالْهَاءُ مَفْعُولٌ، أَوْ لِلسَّكْتِ، أَوْ مُبْدَلَةً مِنَ الْهَمْزَةِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه: {طه} هُوَ كَقَوْلِكَ: فَاعِلٌ. وَقِيلَ: (طه) أَيْ: يَا بَدْرُ؛ لِأَنَّ الطَّاءَ بِتِسْعَةٍ، وَالْهَاءَ بِخَمْسَةٍ، فَذَلِكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِشَارَةً إِلَى الْبَدْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ فِيهَا. ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ.
وَقِيلَ: فِي قوله: {يس} أَيْ: يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، وَفِي قوله: {ص} مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ.
وَقِيلَ: أَقْسَمَ بِالصَّمَدِ الصَّانِعِ الصَّادِقِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَادِ يَا مُحَمَّدُ عَمَلَكَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ: عَارِضْهُ بِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْمُصَادَاةِ.
وَأَخْرَجَ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: صَاد: حَادِثِ الْقُرْآنَ، يَعْنِي: انْظُرْ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا {صَادِ وَالْقُرْآنِ} يَقُولُ: عَارِضِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: {ص} اسْمُ بَحْرٍ عَلَيْهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.
وَقِيلَ: اسْمُ بَحْرٍ يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَادِ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْعِبَادِ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ كُلَّهَا.
وَحَكَى فِي قَوْلِه: {المص} أَيْ: مَعْنَاهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وَفِي {حم} أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ {حم} مَا هُوَ كَائِنٌ، وَفِي {حم عسق} [الشُّورَى: 1- 2] أَنَّهُ جَبَلُ قَافٍ. وَقِيلَ: {ق} جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقِيلَ: أَقْسَمَ بِقُوَّةِ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: هِيَ الْقَافُ مِنْ قَوْلِه: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) دَلَّتْ عَلَى بَقِيَّةِ الْكَلِمَةِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهَا قِفْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرْتَ، حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ.
وَقِيلَ: {ن} هُوَ الْحُوتُ. أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ وَالْحُوتَ. قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَرَأَ (ن وَالْقَلَمِ) فَالنُّونُ الْحُوتُ، وَالْقَافُ الْقَلَمُ».
وَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ قُرَّةَ مَرْفُوعًا.
وَقِيلَ: هُوَ الدَّوَاةُ، أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَقِيلَ: هُوَ الْمِدَادُ، حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْقَلَمُ، حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ عَنِ الْجَاحِظِ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مُبْهَمَاتِهِ.
وَفِي الْمُحْتَسَبِ لِابْنِ جِنِّي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ (حم سق) بِلَا عَيْنٍ، وَيَقُولُ: السِّينُ كُلُّ فِرْقَةٍ تَكُونُ، وَالْقَافُ كُلُّ جَمَاعَةٍ تَكُونُ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَوَاتِحَ فَوَاصِلٌ بَيْنَ السُّوَرِ الْقُرْآن الْكَرِيم، وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ تَحْرِيفُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ أَعْلَامًا، وَالْأَعْلَامُ تُؤَدَّى بِأَعْيَانِهَا، وَلَا يُحَرَّفُ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ} [الْعَنْكَبُوت: 1- 2]: الِاسْتِفْهَامُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ الْحُرُوفِ عَمَّا بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.