فصل: فَصْلٌ: في افْتِتَاحِ السُّوَرِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا بُدِئَتْ بِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: في افْتِتَاحِ السُّوَرِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا بُدِئَتْ بِهِ:

قَالَ فِي الْبُرْهَان: وَمِنْ ذَلِكَ افْتِتَاحُ السُّوَرِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا بُدِئَتْ بِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِتَرِدَ الم فِي مَوْضِعِ الر وَلَا حم فِي مَوْضِعِ طس.
قَالَ‏: وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بُدِئَتْ بِحَرْفٍ مِنْهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ كَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا مُمَاثِلٌ لَهُ، فَحَقَّ لِكُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ لَا يُنَاسِبَهَا غَيْرُ الْوَارِدَةِ فِيهَا، فَلَوْ وُضِعَ (ق) مَوْضِعَ (ن) لِعُدِمَ التَّنَاسُبُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَسُورَةُ (ق) بُدِئَتْ بِهِ لَمَّا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ بِلَفْظِ الْقَافِ، مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالْخَلْقِ وَتَكْرِيرِ الْقَوْلِ وَمُرَاجَعَتِهِ مِرَارًا، وَالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ آدَمَ، وَتَلَقِّي الْمَلَكَيْنِ، وَقَوْلِ الْعَتِيدِ، وَالرَّقِيبِ، وَالسَّائِقِ، وَالْإِلْقَاءِ فِي جَهَنَّمَ، وَالتَّقَدُّمِ بِالْوَعْدِ، وَذِكْرِ الْمُتَّقِينَ، وَالْقَلْبِ، وَالْقُرُونِ، وَالتَّنْقِيبِ فِي الْبِلَادِ وَتَشَقِّقِ الْأَرْضِ، وَحُقُوقِ الْوَعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنَ الْكَلِمِ الْوَاقِعِ فِيهَا الرَّاءُ مِائَتَا كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرُ، فَلِهَذَا افْتُتِحَتْ بِـ الر وَاشْتَمَلَتْ سُورَةُ (ص) عَلَى خُصُومَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَأَوَّلُهَا خُصُومَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]. ثُمَّ اخْتِصَامُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ دَاوُدَ، ثُمَّ تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ اخْتِصَامُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى ثُمَّ تُخَاصُمُ إِبْلِيسَ فِي شَأْنِ آدَمَ، ثُمَّ فِي شَأْنِ بَنِيهِ وَإِغْوَائِهِمْ‏.
وَ(الم) جَمَعَتِ الْمَخَارِجَ الثَّلَاثَةَ‏: الْحَلْقَ وَاللِّسَانَ وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِدَايَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ الْخَلْقِ، وَالنِّهَايَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ الْمِيعَادِ، وَالْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الْمَعَاشُ مِنَ التَّشْرِيعِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَكُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِهَا فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ‏.
وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ زِيدَ فِيهَا الصَّادُ عَلَى (الم) لِمَا فِيهَا مِنْ شَرْحِ الْقَصَصِ، قِصَّةِ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْر: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏: مَعْنَى المص‏: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وَزِيدَ فِي الرَّعْدِ رَاءً لِأَجْلِ قَوْلِه: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [2]. وَلِأَجْلِ ذِكْرِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَغَيْرِهِمَا‏.
‏وَاعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِه: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [الْبَقَرَةِ]. {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آلِ عِمْرَانَ]. {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الْأَعْرَافِ]. {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الْحِجْرِ]. {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه]. {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} [النَّمْلِ]. {يس وَالْقُرْآنِ}. {ص وَالْقُرْآنِ}. {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الْجَاثِيَةِ]. {ق وَالْقُرْآنِ} إِلَّا ثَلَاثَ سُوَرٍ‏: الْعَنْكَبُوتِ، وَالرُّومِ، وَ(ن)، لَيْسَ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْتُ حِكْمَةَ ذَلِكَ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ‏.
وَقَالَ الْحَرَّانِيُّ فِي مَعْنَى حَدِيث: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏: زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَّالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ‏».
اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْخَلْقِ، وَكَمَالِ كُلِّ الْأَمْرِ , بَدَأَ فَكَانَ الْمُتَحَلِّي بِهِ جَامِعًا لِانْتِهَاءِ كُلِّ خَلْقٍ، وَكَمَالِ كُلِّ أَمْرٍ، فَلِذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسِيمُ الْكَوْنِ وَهُوَ الْجَامِعُ الْكَامِلُ وَلِذَلِكَ كَانَ خَاتِمًا، وَكِتَابُهُ كَذَلِكَ‏، وَبَدَأَ الْمَعَادُ مِنْ حِينِ ظُهُورِهِ، فَاسْتُوفِيَ فِي صَلَاحِ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي الْأَوَّلِينَ بِدَايَاتُهَا، وَتَمَّتْ عِنْدَهُ غَايَاتُهَا: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» وَهِيَ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَالْمَعَادِ الَّتِي جَمَعَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي».
وَفِي كُلِّ صَلَاحٍ إِقْدَامٌ وَإِحْجَامٌ، فَتَصِيرُ الثَّلَاثَةُ الْجَوَامِعُ سِتَّةً هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ السِّتَّةُ، ثُمَّ وَهَبَ حَرْفًا جَامِعًا سَابِعًا فَرْدًا لَا زَوْجَ لَهُ فَتَمَّتْ سَبْعَةً‏.
فَأَدْنَى تِلْكَ الْحُرُوفِ هُوَ حَرْفَا صَلَاحِ الدُّنْيَا فَلَهَا حَرْفَان: حَرْفُ الْحَرَامِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ النَّفْسُ وَالْبَدَنُ إِلَّا بِالتَّطَهُّرِ مِنْهُ لِبُعْدِهِ عَنْ تَقْوِيمِهَا‏، وَالثَّانِي حَرْفُ الْحَلَالِ الَّذِي تَصْلُحُ النَّفْسُ وَالْبَدَنُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ تَقْوِيمَهَا، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ‏.
وَيْلِي ذَلِكَ حَرْفَا صَلَاحِ الْمَعَادِ، أَحَدُهُمَا: حَرْفُ الزَّجْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْآخِرَةُ إِلَّا بِالتَّطَهُّرِ مِنْهُ لِبُعْدِهِ عَنْ حَسَنَاتِهَا‏، وَالثَّانِي: حَرْفُ الْأَمْرِ الَّذِي تَصْلُحُ الْآخِرَةُ عَلَيْهِ لِتَقَاضِيهِ لِحَسَنَاتِهَا. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْإِنْجِيلِ، وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ‏.
وَيْلِي ذَلِكَ حَرْفَا صَلَاحِ الدِّين: أَحَدُهُمَا حَرْفُ الْمُحْكَمِ الَّذِي بَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطَابُ رَبِّهِ‏.
وَالثَّانِي حَرْفُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطَابُ رَبِّهِ مِنْ جِهَةِ قُصُورِ عَقْلِهِ عَنْ إِدْرَاكِهِ. فَالْحُرُوفُ الْخَمْسَةُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا الْحَرْفُ السَّادِسُ لِلْوُقُوفِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا وَتَمَامُهُمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَيَخْتَصُّ الْقُرْآنُ بِالْحَرْفِ السَّابِعِ الْجَامِعِ، وَهُوَ حَرْفُ الْمَثَلِ الْمُبَيِّنِ لِلْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْحَمْدُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهِ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ فِيهَا جَوَامِعَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي بَثَّهَا فِي الْقُرْآنِ‏، فَالْآيَةُ الْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفِ الْحَمْدِ السَّابِعِ‏.
وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفَيِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ اللَّذَيْنِ أَقَامَتِ الرَّحْمَانِيَّةُ بِهِمَا الدُّنْيَا وَالرَّحِيمِيَّةُ الْآخِرَةَِ.
وَالثَّالِثَةُ: تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرِ الْمَلِكِ الْقَيِّمِ عَلَى حَرْفَيِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اللَّذَيْنِ يَبْدَأُ أَمْرُهُمَا فِي الدِّينِ.
وَالرَّابِعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرْفَيِ الْمُحْكَمِ فِي قَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وَالْمُتَشَابِهِ فِي قَوْلِه: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَلَمَّا افْتَتَحَ أُمَّ الْقُرْآنِ بِالسَّابِعِ الْجَامِعِ الْمَوْهُوبِ ابْتُدِئَتِ الْبَقَرَةُ بِالسَّادِسِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ.
انْتَهَى كَلَامُ الْحَرَّانِيِّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَخِيرُ، وَبَقِيَّتُهُ يَنْبُو عَنْهُ السَّمْعُ وَيَنْفِرُ مِنْهُ الْقَلْبُ، وَلَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ حِكَايَتِهِ عَلَى أَنِّي أَقُولُ فِي مُنَاسَبَةِ ابْتِدَاءِ الْبَقَرَةِ بِـ الم أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ابْتُدِئَتِ الْفَاتِحَةُِ بِالْحَرْفِ الْمُحْكَمِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ، حَيْثُ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، ابْتُدِئَتِ الْبَقَرَةُ بِمُقَابِلِهِ، وَهُوَ الْحَرْفُ الْمُتَشَابِهُ الْبَعِيدُ التَّأْوِيلِ أَوِ الْمُسْتَحِيلُهُ.

.فَصْلٌ: في مُنَاسَبَةِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ لِمَقَاصِدِهَا:

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مُنَاسَبَةُ أَسْمَاءِ السُّوَرِ لِمَقَاصِدِهَا فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ السَّابِعَ عَشَرَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ‏.
وَفِي عَجَائِبِ الْكِرْمَانِيّ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ السُّوَرُ السَّبْعُ حم عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ، لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ التَّشَاكُلِ الَّذِي اخْتُصَّتْ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا اسْتَفْتَحَتْ بِالْكِتَابِ أَوْ صِفَةِ الْكِتَابِ مَعَ تَقَارُبِ الْمَقَادِيرِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَتُشَاكُلِ الْكَلَامِ فِي النِّظَامِ.

.فَوَائِدُ مَنْثُورَةٌ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:

فِي تَذْكِرَةِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ‏: سُئِلَ الْإِمَامُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي افْتِتَاحِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْكَهْفِ بِالتَّحْمِيدِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ التَّسْبِيحَ حَيْثُ جَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ، نَحْوَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الْحِجْر: 98]. سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَأَجَابَ ابْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ بِأَنَّ سُورَةَ سُبْحَانَ لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِسْرَاءِ الَّذِي كَذَّبَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْذِيبُهُ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَتَى بِسُبْحَانَ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا نُسِبَ إِلَى نَبِيِّهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَسُورَةُ الْكَهْفِ لَمَّا أُنْزِلَتْ بَعْدَ سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَتَأَخُّرِ الْوَحْيِ، نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْطَعْ نِعْمَتَهُ عَنْ نَبِيِّهِ وَلَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ أَتَمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فَنَاسَبَ افْتِتَاحَهَا بِالْحَمْدِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ‏.
فِي تَفْسِيرِ الْخُوَيِّيّ: ابْتُدِئَتِ الْفَاتِحَةُ بِقَوْلِه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَوَصَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَفِي الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ وَسَبَأٍ وَفَاطِرٍ لَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ، بَلْ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ صِفَاتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فِي الْأَنْعَامِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي الْكَهْفِ، وَمِلْكِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي سَبَأٍ، وَخَلْقِهِمَا فِي فَاطِرٍ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَمَطْلَعُهُ، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانَ فِيهَا بِأَبْلَغِ الصِّفَاتِ وَأَعَمِّهَا وَأَشْمَلِهَا‏.
فِي الْعَجَائِبِ لِلْكِرْمَانِيّ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ جَاءَ {يَسْأَلُونَكَ} أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِغَيْرِ وَاوٍ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [الْبَقَرَة: 189]. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 215]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} [الْبَقَرَة: 219]. ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاو: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَة: 220]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [الْبَقَرَة: 222].
قُلْنَا‏: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ الْأُوَلِ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا، وَعَنْ الْحَوَادِثِ الْأُخَرِ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحِرَفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ‏.
فَإِنْ قِيلَ‏: كَيْفَ جَاءَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ} [طه: 105]. وَعَادَةُ الْقُرْآنِ مَجِيءُ قُلْ فِي الْجَوَابِ بِلَا فَاءٍ‏.
وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ‏: لَوْ سُئِلَتْ عَنْهَا فَقُلْ‏.
فَإِنْ قِيلَ‏: كَيْفَ جَاءَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 186]. وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِقُلْ قُلْنَا‏: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالِ الدُّعَاءِ فِي أَشْرَفِ الْمَقَامَاتِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ‏.
وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أَوَّلُهُمَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فِي كُلِّ نِصْفِ سُورَةٍ فَالَّتِي هِيَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالَّتِي فِي الثَّانِي عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ‏.

.النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْآيَاتِ الْمُشْتَبِهَاتِ:

أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلْقٌ‏: أَوَّلُهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ الْكِسَائِيُّ وَنَظَّمَهُ السَّخَاوِيُّ، وَأَلَّفَ فِي تَوْجِيهِهِ الْكِرْمَانِيُّ كِتَابَهُ: الْبُرْهَانُ فِي مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَأَحْسَنُ مِنْهُ: دُرَّةُ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةُ التَّأْوِيلِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَلَاكُ التَّأْوِيلِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ‏، وَلِلْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ لَطِيفٌ سَمَّاهُ كَشْفَ الْمَعَانِي عَنْ مُتَشَابِهِ الْمَثَانِي وَفِي كِتَابِي: أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ الْمُسَمَّى قَطْفُ الْأَزْهَارِ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ مِنْ ذَلِكَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ.
وَالْقَصْدُ بِهِ إِيرَادُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي صُوَرٍ شَتَّى وَفَوَاصِلَ مُخْتَلِفَةٍ، فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ بَلْ تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُقْدَّمًا، وَفِي آخَرَ مُؤَخَّرًا، كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَة: 58]. وَفِي الْأَعْرَاف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الْأَعْرَاف: 161]. وَفِي الْبَقَرَة: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 173]. وَسَائِرِ الْقُرْآن: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الْمَائِدَة: 3].
أَوْ فِي مَوْضِعٍ بِزِيَادَةٍ وَفِي آخَرَ بِدُونِهَا، نَحْوَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} فِي الْبَقَرَةِ [الْآيَة: 6]، وَفِي يس {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْآيَةَ: 10]. وَفِي الْبَقَرَة: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الْآيَةَ: 193]. وَفِي الْأَنْفَالِ {كُلَّهُ لِلَّهِ} [الْأَنْفَال: 39]. أَوْ فِي مَوْضِعٍ مُعَرَّفًا، وَفِي آخَرَ مُنَكَّرًا أَوْ مُفْرَدًا، وَفِي آخَرَ جَمْعًا، أَوْ بِحَرْفٍ وَفِي آخَرَ بِحَرْفٍ آخَرَ، أَوْ مُدْغَمًا وَفِي آخَرَ مَفْكُوكًا، وَهَذَا النَّوْعُ يَتَدَاخَلُ مَعَ نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ.
وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مِنْهُ بِتَوْجِيهِهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْآيَةَ: 2]. وَفِي لُقْمَانَ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [الْآيَةَ: 3]. لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هُنَا مَجْمُوعَ الْإِيمَانِ نَاسَبَ الْمُتَّقِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ ثَمَّ الرَّحْمَةَ نَاسَبَ الْمُحْسِنِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا} [الْبَقَرَة: 35]. وَفِي الْأَعْرَاف: {فَكُلَا} [الْآيَةَ: 19]. بِالْفَاءِ، قِيلَ: لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْبَقَرَةِ الْإِقَامَةُ، وَفِي الْأَعْرَافِ اتِّخَاذُ الْمَسْكَنِ، فَلَمَّا نُسِبَ الْقَوْلُ إِلَيْهِ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} نَاسَبَ زِيَادَةَ الْإِكْرَامِ بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السُّكْنَى وَالْأَكْلِ، وَلِذَا قَالَ فِيه: رَغَدًا وَقَالَ: {حَيْثُ شِئْتُمَا} لِأَنَّهُ أَعَمُّ، وَفِي الْأَعْرَاف: {وَيَا آدَمُ} فَأَتَى بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَكْلِ عَلَى السُّكْنَى الْمَأْمُورِ بِاتِّخَاذِهَا لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الِاتِّخَاذِ، وَ{مِنْ حَيْثُ} لَا تُعْطِي عُمُومَ مَعْنَى حَيْثُ شِئْتُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 48]، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [الْبَقَرَة: 123]. فَفِيهِ تَقْدِيمُ الْعَدْلِ وَتَأْخِيرُهُ وَالتَّعْبِيرُ بِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ تَارَةً وَبِالنَّفْعِ أُخْرَى.
وَذَكَرَ فِي حِكْمَتِه: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا رَاجِعٌ فِي الْأُولَى إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَى النَّفْسِ الثَّانِيَةِ‏.
فَبَيَّنَ فِي الْأُولَى أَنَّ النَّفْسَ الشَّافِعَةَ الْجَازِيَةَ عَنْ غَيْرِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ، وَقُدِّمَتِ الشَّفَاعَةُ لِأَنَّ الشَّافِعَ يُقَدِّمُ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْعَدْلِ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّفْسَ الْمَطْلُوبَةَ بِجُرْمِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةُ شَافِعٍ مِنْهَا، وَقَدَّمَ الْعَدْلَ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّفَاعَةِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ رَدِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْأُولَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَفِي الثَّانِيَة: وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ مِنَ الشَّافِعِ وَإِنَّمَا تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} [الْبَقَرَة: 49]. وَفِي إِبْرَاهِيمَ {وَيُذَبِّحُونَ} [إِبْرَاهِيمَ: 6]. بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْأُولَى مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَلَمْ يُعَدِّدْ عَلَيْهِمُ الْمِحَنَ تَكَرُّمًا فِي الْخِطَابِ، وَالثَّانِيَةَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى فَعَدَّدَهَا، وَفِي الْأَعْرَافِ {يَقْتُلُونَ} [الْأَعْرَاف: 141]. وَهُوَ مِنْ تَنْوِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُسَمَّى بِالتَّفَنُّنِ‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 58]. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ اخْتِلَافُ أَلْفَاظٍ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} [الْبَقَرَة: 47]. إِلَى آخِرِهِ، فَنَاسَبَ نِسْبَةَ الْقَوْلِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَنَاسَبَ قَوْلَهُ: رَغَدًا لِأَنَّ الْمُنْعَمَ بِهِ أَتَمُّ وَنَاسَبَ تَقْدِيمَ {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الْبَقَرَة: 58]. وَنَاسَبَ خَطَايَاكُمْ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَنَاسَبَ الْوَاوَ فِي وَسَنَزِيدُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَنَاسَبَ الْفَاءَ فِي فَكُلُوا لِأَنَّ الْأَكْلَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الدُّخُولِ‏، وَآيَةُ الْأَعْرَافِ افْتُتِحَتْ بِمَا فِيهِ تَوْبِيخُهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الْأَعْرَاف: 138]. ثُمَّ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} [الْأَعْرَاف: 161]. وَنَاسَبَ تَرْكُ رَغَدًا وَالسُّكْنَى تُجَامِعُ الْأَكْلَ فَقَالَ: وَكُلُوا وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَتَرْكُ الْوَاوِ فِي وَسَنَزِيدُ.
وَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْرَافِ تَبْعِيضُ الْهَادِينَ بِقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الْأَعْرَاف: 159]. نَاسَبَ تَبْعِيضَ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِه: {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [الْأَعْرَاف: 162]. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْبَقَرَةِ مِثْلُهُ فَتُرِكَ‏، وَفِي الْبَقَرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى سَلَامَةِ غَيْرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا لِتَصْرِيحِهِ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ، وَالْإِرْسَالُ أَشَدُّ وَقْعًا مِنَ الْإِنْزَالِ، فَنَاسَبَ سِيَاقَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ فِي الْبَقَرَةِ ذَلِكَ، وَخَتَمَ آيَةَ الْبَقَرَةِ بِـ: {يَفْسُقُونَ} [الْبَقَرَة: 59]. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الظُّلْمُ، وَالظُّلْمُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْفِسْقُ فَنَاسَبَ كُلُّ لَفْظَةٍ مِنْهَا سِيَاقَهُ‏.
وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ {فَانْفَجَرَتْ} [الْبَقَرَة: 60]. وَفِي الْأَعْرَافِ {فَانْبَجَسَتْ} [الْأَعْرَاف: 160]. لِأَنَّ الِانْفِجَارَ أَبْلَغَ فِي كَثْرَةِ الْمَاءِ، فَنَاسَبَ سِيَاقَ ذِكْرِ النِّعَمِ التَّعْبِيرُ‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [الْبَقَرَة: 80]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {مَعْدُودَاتٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 24]. قَالَ ابْنُ جُمَاعَةَ‏: لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِرْقَتَانِ مِنَ الْيَهُود.
إِحْدَاهُمَا قَالَتْ‏: إِنَّمَا نُعَذَّبُ بِالنَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى قَالَتْ‏: إِنَّمَا نُعَذَّبُ أَرْبَعِينَ، عِدَّةَ أَيَّامِ عِبَادَةِ آبَائِهِمُ الْعِجْلَ‏. فَآيَةُ الْبَقَرَةِ تَحْتَمِلُ قَصْدَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ عَبَّرَ بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ بِالْفِرْقَةِ الْأَوْلَى حَيْثُ أَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ‏.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ‏: إِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ‏، قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الْبَقَرَة: 120]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 73]. لِأَنَّ الْهُدَى فِي الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهِ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ لِتَقَدُّمِ قوله: {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 73]. وَمَعْنَاهُ‏: إِنَّ دِينُ اللَّهِ الْإِسْلَامَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الْبَقَرَة: 126]. وَفِي إِبْرَاهِيمَ {هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إِبْرَاهِيمَ: 35]. لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَعَا بِهِ قَبْلَ مَصِيرِهِ بَلَدًا عِنْدَ تَرْكِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ بِهِ، وَهُوَ وَادٍ فَدَعَا بِأَنْ يُصَيِّرَهُ بَلَدًا. وَالثَّانِي: دَعَا بِهِ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَسُكْنَى جُرْهُمَ بِهِ، وَمَصِيرِهِ بَلَدًا فَدَعَا بِأَمْنِهِ‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [الْبَقَرَة: 137]. وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 84]. أَنَّ الْأُولَى خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ(إِلَى) يُنْتَهَى بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَ(عَلَى) لَا يُنْتَهَى بِهَا إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعُلُوُّ، وَالْقُرْآنُ يَأْتِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَأْتِي مُبَلِّغُهُ إِيَّاهُمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ خَاصَّةً، فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: عَلَيْنَا؛ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلَى، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي جِهَةِ الْأُمَّةِ بِإِلَى.
‏قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [الْبَقَرَة: 187]. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [الْبَقَرَة: 229]. لِأَنَّ الْأُولَى وَرَدَتْ بَعْدَ نَوَاهٍ، فَنَاسَبَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهَا، وَالثَّانِيَةَ بَعْدَ أَوَامِرَ فَنَاسَبَ النَّهْيُ عَنْ تَعَدِّيهَا وَتَجَاوُزِهَا بِأَنْ يُوقَفَ عِنْدَهَا‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 3]. وَقَالَ: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آلِ عِمْرَانَ: 3]. لِأَنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ مُنَجَّمًا، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانَ بِـ نَزَّلَ الدَّالُّ عَلَى التَّكْرِيرِ بِخِلَافِهِمَا فَإِنَّهُمَا أُنْزِلَا دَفْعَةً‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الْأَنْعَام: 151]. وَفِي الْإِسْرَاء: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الْإِسْرَاء: 31]. لِأَنَّ الْأُولَى خِطَابٌ لِلْفُقَرَاءِ الْمُقِلِّينَ‏: أَيْ: لَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرٍ بِكُمْ فَحَسُنَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ مَا يَزُولُ بِهِ إِمْلَاقُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِيَّاهُمْ أَيْ: نَرْزُقُكُمْ جَمِيعًا‏.
وَالثَّانِيَةَ خِطَابٌ لِلْأَغْنِيَاء: أَيْ: خَشْيَةَ فَقْرٍ يَحْصُلُ لَكُمْ بِسَبَبِهِمْ وَلِذَا حَسُنَ {نحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الْإِسْرَاء: 31].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَاف: 200]. وَفِي فُصِّلَتْ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فُصِّلَتْ: 36]. قَالَ ابْنُ جُمَاعَةَ‏: لِأَنَّ آيَةَ الْأَعْرَافِ نَزَلَتْ أَوَّلًا، وَآيَةُ فُصِّلَتْ نَزَلَتْ ثَانِيًا، فَحَسُنَ التَّعْرِيفُ أَيْ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوَّلًا عِنْدَ نُزُوغِ الشَّيْطَانِ‏.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [9: 67]. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التَّوْبَة: 71]. وَفِي الْكُفَّار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الْأَنْفَال: 73]. لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مُتَنَاصِرِينَ عَلَى دِينٍ مُعَيَّنٍ وَشَرِيعَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَهُودًا، وَبَعْضُهُمْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ: مِنْ بَعْضِ أَيْ: فِي الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ. وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَنَاصِرُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ كُلُّهُمْ أَعْوَانُ بَعْضِهِمْ، وَمُجْتَمِعُونَ عَلَى التَّنَاصُرِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الْحَشْر: 14].
فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا كَثِيرٌ فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَفِي نَوْعِ الْفَوَاصِلِ وَفِي أَنْوَاعٍ أُخَرَ‏.