فصل: النَّوْعُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ:

لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الْحَقَائِقِ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ كُلُّ لَفْظٍ بَقِيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ وَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ وَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهِ فِيهِ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ وَابْنُ الْقَاصِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمَجَازَ أَخُو الْكَذِبِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذِهِ شُبْهَةٌ بَاطِلَةٌ وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنَ الْقُرْآنِ سَقَطَ مِنْهُ شَطْرُ الْحُسَنِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْبُلَغَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَجَازِ وَجَبَ خُلُوُّهُ مِنَ الْحَذْفِ وَالتَّوْكِيدِ وَتَثَنِيَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَلَخَّصْتُهُ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابٍ سَمَّيْتُهُ: مَجَازُ الْفُرْسَانِ إِلَى مَجَازِ الْقُرْآنِ.

.أَقْسَامُ الْمَجَازِ:

وَهُوَ قِسْمَانِ:

.(القسم) الْأَوَّلُ: الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ:

وَيُسَمَّى مَجَازُ الْإِسْنَادِ، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ وَعَلَاقَتُهُ الْمُلَابَسَةُ وَذَلِكَ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ أَوْ شَبَهُهُ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ أَصَالَةً لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الْأَنْفَال: 2]، نُسِبَتِ الزِّيَادَةُ- وَهِيَ فِعْلُ اللَّهِ- إِلَى الْآيَاتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لَهَا {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [الْقَصَص: 4]. {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي} [غَافِرٍ: 36]. نُسِبَ الذَّبْحُ وَهُوَ فِعْلُ الْأَعْوَانِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَالْبِنَاءُ وَهُوَ فِعْلُ الْعَمَلَةِ إِلَى هَامَانَ لِكَوْنِهِمَا آمِرِينَ بِهِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 28]، نُسِبَ الْإِحْلَالُ إِلَيْهِمْ لِتَسَبُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِأَمْرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [الْمُزَّمِّل: 17]، نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ. {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 21]؛ أَيْ: مَرْضِيَّةٍ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [مُحَمَّدٍ: 21]؛ أَيْ: عُزِمَ عَلَيْهِ، بِدَلِيل: {فَإِذَا عَزَمْتَ} [آلِ عِمْرَانَ: 159].
وَهَذَا الْقِسْمُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: مَا طَرَفَاهُ حَقِيقِيَّانِ كَالْآيَةِ الْمُصَدَّرِ بِهَا، وَكَقَوْلِه: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَة: 2].
ثَانِيهَا: مَجَازِيَّانِ، نَحْو: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]؛ أَيْ: مَا رَبِحُوا فِيهَا، وَإِطْلَاقُ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ هُنَا مَجَازٌ.
ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: مَا أَحَدُ طَرَفَيْهِ حَقِيقِيٌّ دُونَ الْآخَرِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فَكَقَوْلِه: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} [الرُّوم: 35]؛ أَيْ: بُرْهَانًا {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو} [الْمَعَارِج: 15، 16، 17]، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنَ النَّارِ مَجَازٌ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [مُحَمَّدٍ: 4]. {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 25]، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [الْقَارِعَة: 9]، وَاسْمُ الْأُمِّ الْهَاوِيَةُ مَجَازٌ، أَيْ: كَمَا أَنَّ الْأُمَّ كَافِلَةٌ لِوَلَدِهَا وَمَلْجَأٌ لَهُ، كَذَلِكَ النَّارُ لِلْكَافِرِينَ كَافِلَةٌ وَمَأْوًى وَمَرْجِعٌ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ:

وَيُسَمَّى الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ.
أَحَدُهَا: الْحَذْفُ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي نَوْعِ الْإِيجَازِ، فَهُوَ بِهِ أَجْدَرُ خُصُوصًا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعٍ الْمَجَازِ.
الثَّانِي: الزِّيَادَةُ وَسَبْقُ تَحْرِيرِ الْقَوْلِ فِيهَا فِي نَوْعِ الْإِعْرَابِ.
الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، نَحْو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [الْبَقَرَة: 19]؛ أَيْ: أَنَامِلُهُمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْأَصَابِعِ الْإِشَارَةُ إِلَى إِدْخَالِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مُبَالَغَةً مِنَ الْفِرَارِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصَابِعَ، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [الْمُنَافِقُونَ: 4]؛ أَيْ: وُجُوهُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ جُمْلَتَهُمْ. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَة: 158] أَطْلَقَ الشَّهْرَ وَهُوَ اسْمُ الثَّلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَرَادَ جُزْءًا مِنْهُ، كَذَا أَجَابَ بِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَنِ اسْتِشْكَالِ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّهْرَ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ حَقِيقَةً، فَكَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ عَلَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ، وَإِنْ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ.
أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْحَذْفِ.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرَّحْمَن: 27]؛ أَيْ: ذَاتُهُ {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [الْبَقَرَة: 144]؛ أَيْ: ذَوَاتُكُمْ إِذِ الِاسْتِقْبَالُ يَجِبُ بِالصَّدْرِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الْغَاشِيَة: 8]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الْغَاشِيَة: 2، 3]، عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْسَادِ؛ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ وَالنَّصْبَ حَاصِلٌ بِكُلِّهَا {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الْحَجّ: 10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30]؛ أَيْ: قَدَّمْتَ وَكَسَبْتُمْ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْأَيْدِي لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا {قُمِ اللَّيْلَ} [الْمُزَّمِّل: 2]، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الْإِسْرَاء: 78]، {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [الْبَقَرَة: 43]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الْإِنْسَان: 26]، أَطْلَقَ كُلًّا مِنَ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ بَعْضُهَا {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [الْمَائِدَة: 95]؛ أَي: الْحَرَمِ كُلِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِيهَا.
تَنْبِيهٌ: أُلْحِقَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ شَيْئَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَصْفُ الْبَعْضِ بِصِفَةِ الْكُلِّ كَقَوْلِه: {ناصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [الْعَلَق: 16]، فَالْخَطَأُ صِفَةُ الْكُلِّ وُصِفَ بِهِ النَّاصِيَةُ، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِه: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الْحِجْر: 52]، وَالْوَجَلُ صِفَةُ الْقَلْبِ {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الْكَهْف: 18]، وَالرُّعْبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ.
وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ لَفْظِ بَعْضٍ مُرَادًا بِهِ الْكُلُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قوله: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزُّخْرُف: 63]؛ أَيْ: كُلَّهُ {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غَافِرٍ: 28]، وَتُعُقِّبُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ بَيَانُ كُلِّ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، بِدَلِيلِ السَّاعَةِ وَالرُّوحِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِأَنَّ مُوسَى كَانَ وَعَدَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُصِبْكُمْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعْضُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ نَفْيِ عَذَابِ الْآخِرَةِ. ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَعِيدَ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ تَرْكُ جَمِيعِهِ، فَكَيْفَ بَعْضُهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ثَعْلَبٌ قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [يُونُسَ: 46].
الْخَامِسُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، نَحْو: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 16]؛ أَيْ: رُسُلُهُ.
السَّادِسُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5]؛ أَي: الِمُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غَافِرٍ: 7].
السَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
الثَّامِنُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الْمَائِدَة: 112]؛ أَيْ: هَلْ يَفْعَلُ؟ أَطْلَقَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُ.
التَّاسِعُ: إِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، نَحْو: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غَافِرٍ: 13]، {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الْأَعْرَاف: 26]؛ أَيْ: مَطَرًا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الرِّزْقُ وَاللِّبَاسُ، {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النُّور: 33]؛ أَيْ: مُؤْنَةً مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْهُ.
الْعَاشِرُ: عَكْسُهُ، نَحْو: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هُودٍ: 20]؛ أَي: الْقَبُولَ وَالْعَمَلَ بِهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ السَّمْعِ.
تَنْبِيهٌ: مِنْ ذَلِكَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِ السَّبَبِ كَقَوْلِه: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 36]، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الْأَعْرَاف: 27]، فَإِنَّ الْمُخْرِجَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُ ذَلِكَ أَكْلُ الشَّجَرَةِ، وَسَبَبُ الْأَكْلِ وَسُوسَةُ الشَّيْطَانِ.
الْحَادِي عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، نَحْو: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النِّسَاء: 2]؛ أَي: الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 232]؛ أَيْ: الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طَه: 74]، سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِجْرَامِ.
الثَّانِي عَشَرَ: تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، نَحْو: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يُوسُفَ: 36]؛ أَيْ: عِنَبًا يَؤُولُ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ} [نُوحٍ: 27]؛ أَيْ: صَائِرًا إِلَى الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَة: 230]، سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصَّافَّات: 101]، {نبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الْحِجْر: 53]، وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ، نَحْو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 107]؛ أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سَبَإٍ: 33]؛ أَيْ: فِي اللَّيْلِ {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} [الْأَنْفَال: 33]؛ أَيْ: فِي عَيْنَيْكَ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: عَكْسُهُ، نَحْو: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [الْعَلَق: 17]؛ أَيْ: أَهْلَ نَادِيهِ، أَيْ: مَجْلِسَهُ، وَمِنْهُ التَّعْبِيرُ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ، نَحْو: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الْمُلْك: 1]، وَبِالْقَلْبِ عَنِ الْعَقْلِ، نَحْو: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الْأَعْرَاف: 179]؛ أَيْ: عُقُولٌ. وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ، نَحْو: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 167]، وَبِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِيهَا، نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]، وَقَدِ اجْتَمَعَ هَذَا النَّوْعُ وَمَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الْأَعْرَاف: 31]، فَإِنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، فَالْمُرَادُ مَحَلُّهَا، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْحَالِّ، وَأَخُذُهَا لِلْمَسْجِدِ نَفْسُهُ لَا يَجِبُ، فَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ آلَتِهِ، نَحْو: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشُّعَرَاء: 84]؛ أَيْ: ثَنَاءً حَسَنًا؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ آلَتُهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 4]؛ أَيْ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمٍ ضِدِّهِ، نَحْو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 21]، وَالْبِشَارَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَبَرِ السَّارِّ.
وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفُ عَنْهُ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الْأَعْرَاف: 12]، يَعْنِي: مَا دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ؟ وَسَلِمَ بِذَلِكَ مِنْ دَعْوَى زِيَادَةِ (لَا).
السَّابِعَ عَشَرَ: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَشْبِيهًا، نَحْو: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الْكَهْف: 77]، وَصَفَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ تَشْبِيهًا لِمَيْلِهِ لِلْوُقُوعِ بِإَرَادَتُهُ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ مُشَارَفَتُهُ وَمُقَارَبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، نَحْو: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطَّلَاق: 2]؛ أَيْ: قَارَبْنَ بُلُوغَ الْأَجَل: أَي: انِقِضَاءَ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ فِي قَوْلِه: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [الْبَقَرَة: 232]، حَقِيقَةً.
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الْأَعْرَاف: 34]؛ أَيْ: فَإِذَا قَرُبَ مَجِيئُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 9]؛ أَيْ: لَوْ قَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا خَافُوا؛ لَأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَهُ أَمْوَاتٌ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [الْمَائِدَة: 6]؛ أَيْ: أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النَّحْل: 98]؛ أَيْ: أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِتَكُونَ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَهَا {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الْأَعْرَاف: 4]؛ أَيْ: أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الْكَهْف: 17]؛ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: الْقَلْبُ إِمَّا قَلْبُ إِسْنَادٍ، نَحْو: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [الْقَصَص: 76]؛ أَيْ: لَتَنُوءُ الْعُصْبَةُ بِهَا {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرَّعْد: 38]؛ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [الْقَصَص: 12]؛ أَيْ: حَرَّمْنَاهُ عَلَى الْمَرَاضِعِ {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَحْقَاف: 20]؛ أَيْ: تُعْرَضُ النَّارُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي لَهُ الِاخْتِيَارُ {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَّات: 8]؛ أَيْ: وَإِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} [يُونُسَ: 107]؛ أَيْ: يُرِدْ بِكَ الْخَيِّرَ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [الْبَقَرَة: 37]؛ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ حَقِيقَةً هُوَ آدَمُ كَمَا قُرِئَ بِذَلِكَ أَيْضًا.
أَوْ قَلْبُ عَطْفٍ، نَحْوُ: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ} [النَّمْل: 28]؛ أَيْ: فَانْظُرْ ثُمَّ تَوَلَّ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْم: 8]؛ أَيْ: تَدَلَّى فَدَنَا لِأَنَّهُ بِالتَّدَلِّي مَالَ إِلَى الدُّنُوِّ.
أَوْ قَلْبُ تَشْبِيهٍ وَسَيَأْتِي فِي نَوْعِهِ.
الْعِشْرُونَ: إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى وَتَحْتَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا: إِطْلَاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ، نَحْو: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشُّعَرَاء: 77]، وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ، نَحْو: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [الْبَقَرَة: 255]؛ أَيْ: مِنْ مَعْلُومِهِ، {صُنْعَ اللَّهِ} [النَّمْل: 88]؛ أَيْ: مَصْنُوعَهُ {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يُوسُفَ: 18]؛ أَيْ: مَكْذُوبٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ.
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْبُشْرَى عَلَى الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَالْهَوَى عَلَى الْمَهْوِيِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى الْمَقُولِ.
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عَلَى الْمَصْدَرِ، نَحْو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الْوَاقِعَة: 2]؛ أَيْ: تَكْذِيبٌ {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [الْقَلَم: 6]؛ أَي: الِفِتْنَةُ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ غَيْرُ زَائِدَةٍ.
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ فَاعِلٍ عَلَى مَفْعُولٍ، نَحْو: {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطَّارِق: 6]؛ أَيْ: مَدْفُوقٍ، {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هُودٍ: 43]؛ أَيْ: لَا مَعْصُومَ {جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [الْعَنْكَبُوت: 67]؛ أَيْ: مَأْمُونًا فِيهِ.
وَعَكْسُهُ، نَحْو: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مَرْيَمَ: 61]؛ أَيْ: آتِيًا {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاء: 45]؛ أَيْ: سَاتِرًا.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ؛ أَيْ: مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ لَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ.
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ (فَعِيلٍ) بِمَعْنَى (مَفْعُولٍ)، نَحْو: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الْفُرْقَان: 55]، وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى آخَرَ مِنْهَا.
مِنْهَا: مِثَالُ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُثَنَّى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التَّوْبَة: 62]؛ أَيْ: يُرْضُوهُمَا فَأُفْرِدَ لِتَلَازُمِ الرِّضَاءَيْنِ.
وَعَلَى الْجَمْعِ، نَحْو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [الْعَصْر: 2]؛ أَي: الِأَنَاسِيَّ، بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [الْمَعَارِج: 19]، بَدَلِيل: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [الْمَعَارِج: 22].
وَمِثَالُ إِطْلَاقِ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُفْرَد: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]؛ أَيْ: أَلْقِ.
وَمِنْهُ كُلُّ فِعْلٍ نُسِبَ إِلَى شَيْئَيْنِ وَهُوَ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ، نَحْو: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَن: 22]، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ دُونَ الْعَذْبِ، وَنَظِيرُهُ {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فَاطِرٍ: 12]، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمِلْحِ {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نُوحٍ: 16]؛ أَيْ: فِي إِحْدَاهُنَّ: {نسِيَا حُوتَهُمَا} [الْكَهْف: 61]، وَالنَّاسِي يُوشَعُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِمُوسَى {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الْكَهْف: 63]، وَإِنَّمَا أُضِيفَ النِّسْيَانُ إِلَيْهِمَا مَعًا لِسُكُوتِ مُوسَى عَنْهُ {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [الْبَقَرَة: 203]، وَالتَّعْجِيلُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخْرُف: 31]، قَالَ الْفَارِسِيُّ؛ أَيْ: مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ.
وَلَيْسَ مِنْهُ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46]، وَأَنَّ الْمَعْنَى جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَفِي كِتَابِ ذَا الْقَدِّ لِابْنِ جِنِّي: أَنَّ مِنْهُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [الْمَائِدَة: 116]، وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ مَرْيَمَ.
وَمِثَالُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْع: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الْمُلْك: 4]؛ أَيْ: كَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِهَا، وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [الْبَقَرَة: 229].
وَمِثَالُ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُفْرَدِ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99]؛ أَيْ: أَرْجِعْنِي.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35]، وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ بِدَلِيل: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النَّمْل: 37]، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَاطَبَ رَئِيسَهُمْ لَاسِيَّمَا وَعَادَةُ الْمُلُوكِ جَارِيَةٌ أَنْ لَا يُرْسِلُوا وَاحِدًا. وَجَعَلَ مِنْهُ {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آلِ عِمْرَانَ: 39]، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} [النَّحْل: 2]؛ أَيْ: جِبْرِيلَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 72] وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ.
وَمِثَالُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصِّلَتْ: 11]، {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 32]، {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11]؛ أَيْ: أَخَوَانِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيم: 4]؛ أَيْ: قَلْبَاكُمَا {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى قَوْلِه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 78].
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، نَحْو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْل: 1]؛ أَي: السَّاعَةُ، بِدَلِيل: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْل: 1]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الزُّمَر: 68]، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 116]، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إِبْرَاهِيمَ: 21]، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الْأَعْرَاف: 48].
وَعَكْسُهُ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ وَاسْتَمَرَّ، نَحْو: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ} [الْبَقَرَة: 44].
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [الْبَقَرَة: 102]؛ أَيْ: تَلَتْ، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} [النَّحْل: 103]؛ أَيْ: عَلِمْنَا، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النُّور: 64]؛ أَيْ: عَلِمَ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 91]؛ أَيْ: قَتَلْتُمْ وَكَذَا {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الْبَقَرَة: 87]، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرَّعْد: 43]؛ أَيْ: قَالُوا.
وَمِنْ لَوَاحِقَ ذَلِكَ: التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، نَحْو: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذَّارِيَات: 6]، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هُودٍ: 103]، وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ عَلَى الطَّلَبِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ دُعَاءً مُبَالِغَةً فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ وَأَخْبَرَ عَنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وُرُودُ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَأُخْبِرَ عَنْهُ، نَحْو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [الْبَقَرَة: 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [الْبَقَرَة: 197]، عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 272]؛ أَيْ: لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]؛ أَيْ: لَا يَمَسُّهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الْبَقَرَة: 83]؛ أَيْ: لَا تَعْبُدُوا، بِدَلِيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [الْبَقَرَة: 83]، {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يُوسُفَ: 92]؛ أَي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ.
وَعَكْسُهُ، نَحْو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مَرْيَمَ: 75]؛ أَيْ: يَمُدُّ {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [الْعَنْكَبُوت: 12]؛ أَيْ: وَنَحْنُ حَامِلُونَ بِدَلِيل: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْعَنْكَبُوت: 12]، وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82].
قَالَ الْكَوَاشِيُّ: فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلَغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ، نَحْوُ: إِنْ زُرْتَنَا فَلْنُكْرِمْكَ، يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَام: لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ، فَشُبِّهَ الْخَبَرُ بِهِ فِي إِيجَابِهِ.
وَمِنْهَا: وَضَعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ، نَحْو: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْه: هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى، وَإِنَّمَا يُنَادَى الْأَشْخَاصُ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ.
وَمِنْهَا: وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةَ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ، نَحْو: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سَبَإٍ: 37]، وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الْأَنْفَال: 4]، وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشَرَةِ لَا مَحَالَةَ. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزُّمَر: 42]، {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [الْبَقَرَة: 184]، وَنُكْتَةُ التَّقْلِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّسْهِيلُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ.
وَعَكْسُهُ، نَحْو: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَة: 228].
وَمِنْهَا: تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِمُذَكَّرٍ، نَحْو: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الْبَقَرَة: 275]؛ أَيْ: وُعِظَ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11]، عَلَى تَأْوِيلِ الْبَلْدَةِ بِالْمَكَانِ {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الْأَنْعَام: 78]؛ أَي: الشَّمْسُ أَوِ الطَّالِعُ {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الْأَعْرَاف: 56]، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذُكِرَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ.
وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي قَوْلِه: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هُودٍ: 118، 119]، إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلرَّحْمَةِ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ (وَلِتِلْكَ)؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْوِيلِ (أَنْ يَرْحَمَ‏).
وَمِنْهَا: تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ، نَحْو: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 11]، أَنَّثَ الْفِرْدَوْسَ وَهُوَ مُذَكَّرٌ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَنَّةِ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَام: 160]، أَنَّثَ عَشْرًا حَيْثُ حَذَفَ الْهَاءَ مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْأَمْثَالِ وَوَاحِدُهَا مُذَكِّرٌ فَقِيلَ لِإِضَافَةِ الْأَمْثَالِ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَاتِ فَاكْتَسَبَ مِنْهُ التَّأْنِيثَ.
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْأَمْثَالَ فِي الْمَعْنَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهُا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْقَوَاعِدِ الْمُهِمَّةِ قَاعِدَةً فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ.
وَمِنْهَا: التَّغْلِيبُ وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حُكْمَ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى الْآخَرِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِهِ عَلَيْهِمَا إِجْرَاءً لِلْمُخْتَلِفِينَ مَجْرَى الْمُتَّفِقِينَ، نَحْو: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التَّحْرِيم: 12]، {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الْأَعْرَاف: 83]، وَالْأَصْلُ: مِنَ (الْقَانِتَاتِ) وَ(الْغَابِرَاتِ)، فَعُدَّتِ الْأُنْثَى مِنَ الْمُذَكِّرِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النَّمْل: 55]، أَتَى بِتَاءِ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِـ: (أَنْتُمْ) عَلَى جَانِبِـ: (قَوْمٌ).
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُؤْتَى بِيَاءِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِـ: (قَوْمٌ)، وَحَسَّنَ الْعُدُولَ عَنْهُ وُقُوعُ الْمَوْصُوفِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الْإِسْرَاء: 63]، غَلَبَ فِي الضَّمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ كَانَ مَنْ تَبِعَكَ يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ، وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَائِبُ تَبَعًا لِلْمُخَاطِبِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ جُعِلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا وَهَوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النَّحْل: 49]، غَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ حَيْثُ أَتَى بِـ: (مَا) لِكَثْرَتِهِ. وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بِـ: (مِنْ)، فَغَلَّبَ الْعَاقِلَ لِشَرَفِهِ.
{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الْأَعْرَاف: 88]، أَدْخَلَ شُعَيْبٌ فِي (لَتَعُودُنَّ) بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ فِيهَا.
وَكَذَا قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الْأَعْرَاف: 89]، {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الْحِجْر: 30، 31]، عُدَّ مِنْهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزُّخْرُف: 38]؛ أَي: الِمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيّ: وَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرَّحْمَن: 19]؛ أَي: الِمِلْحِ وَالْعَذْبِ. وَالْبَحْرُ خَاصٌّ بِالْمِلْحِ فَغُلِّبَ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} [الْأَنْعَام: 132] أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالدَّرَجَاتُ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتُ لِلسُّفْلِ فَاسْتَعْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْأَشْرَفِ.
قَالَ فِي الْبُرْهَان: وَإِنَّمَا كَانَ التَّغْلِيبُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ (الْقَانِتِينَ) مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِطْلَاقٌ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَكَذَا بَاقِي الْأَمْثِلَةِ.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُ حُرُوفِ الْجَرِّ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَرْبَعِينَ.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ (افْعَلْ) لِغَيْرِ الْوُجُوبِ وَصِيغَةِ (لَا تَفْعَلْ) لِغَيْرِ التَّحْرِيمِ، وَأَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ لِغَيْرِ طَلَبِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَأَدَاةُ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالنِّدَاءِ لِغَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي كُلُّ ذَلِكَ فِي الْإِنْشَاءِ.
وَمِنْهَا: التَّضْمِينُ وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ، وَيَكُونُ فِي الْحُرُوفِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ.
أَمَّا الْحُرُوفُ فَتَقَدَّمَ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ: فَأَنْ يُضَمَّنَ فِعْلٌ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مَعًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْحَرْفِ لِيَصِحَّ التَّعَدِّي بِهِ، وَالْأَوَّلُ تَضْمِينُ الْفِعْلِ وَالثَّانِي تَضْمِينُ الْحَرْفِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى، فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَقَوْمٌ مِنَ النُّحَاة: التَّوَسُّعُ فِي الْحَرْفِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: التَّوَسُّعُ فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهُ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ.
مِثَالُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الْإِنْسَان: 6]، فَيَشْرَبُ إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِمِنْ فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ إِمَّا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى (يُرْوَى) أَوْ (يَلْتَذُّ) أَوْ تَضْمِينِ الْبَاءِ مَعْنَى (مِنْ).
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]، فَالرَّفَثُ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى إِلَّا عَلَى تَضَمُّنِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النَّازِعَات: 18]، وَالْأَصْلُ فِي أَنْ ضُمِّنَ مَعْنَى (أَدْعُوكَ).
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشُّورَى: 25]، عُدِّيَتْ بِعَنْ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ، فَأَنْ يُضَمَّنَ اسْمٌ مَعْنَى اسْمٍ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ مَعًا، نَحْو: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الْأَعْرَاف: 105]، ضُمِّنَ (حَقِيقٌ) مَعْنَى (حَرِيصٌ) لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ التَّضْمِينُ مَجَازًا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ.