فصل: مسَائِل الْعُمُوم وَالْخُصُوص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (20) الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه من طَرِيق الْمَعْنى:

وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَيْسَ هُوَ بنهي عَن ضِدّه وَهُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا.
لنا هُوَ أَنه لَا يُمكنهُ فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بترك الضِّدّ فَوَجَبَ أَن يكون الْأَمر يتَضَمَّن النَّهْي عَن ضِدّه أَلا ترى أَنه لما لم يُمكنهُ فعل الصَّلَاة إِلَّا بِمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَيْهَا كالطهارة واستقبال الْقبْلَة واستقاء المَاء وَغير ذَلِك كَانَ الْأَمر بِالصَّلَاةِ متضمنا لِلْأَمْرِ بِكُل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَيْهَا كَذَلِك هَهُنَا وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْأَمر بالشَّيْء عِنْدهم يَقْتَضِي إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ وَحسنه وَإِرَادَة الشَّيْء وَحسنه يَقْتَضِي كَرَاهِيَة ضِدّه وقبحه وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمه فَيجب أَن يكون الْأَمر بالشَّيْء تَحْرِيمًا لضده.
فَإِن قيل: يبطل بالنوافل فَإِن الْأَمر بهَا يَقْتَضِي إرادتها وحسنها ثمَّ لَا يَقْتَضِي ذَلِك كَرَاهِيَة الضِّدّ وقبحه.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنا ألزمناهم على أصلهم فَلَا يلْزمنَا مَا توجه عَلَيْهِم وَأما على مَذْهَبنَا فَإِن الْأَمر بالنوافل يَقْتَضِي استدعاء الْمَأْمُور بِهِ وَحسنه على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب وَهُوَ يَقْتَضِي النَّهْي عَن ضدها على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب أَيْضا.
وَلِأَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ قُم فَقعدَ حسن توبيخه ولومه وَلَو لم يكم الْأَمر بِالْقيامِ اقْتضى النَّهْي عَن ضِدّه لما جَازَ توبيخه على الْقعُود.
وَاحْتَجُّوا بِأَن صِيغَة الْأَمر خلاف صِيغَة النَّهْي فَلَا يجوز أَن يكون لفظ أَحدهمَا مقتضيا للْآخر.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا إِنَّمَا يمْتَنع لَو قُلْنَا إِن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه من طَرِيق اللَّفْظ وَأما إِذا قُلْنَا إِنَّه نهي من طَرِيق الْمَعْنى لم يمْتَنع، أَلا ترى أَن لفظ الْأَمر بِالصَّلَاةِ خلاف لفظ الْأَمر بِالطَّهَارَةِ من طَرِيق اللَّفْظ ثمَّ الْأَمر بِالصَّلَاةِ يتَضَمَّن الْأَمر بِالطَّهَارَةِ من طَرِيق الْمَعْنى كَذَلِك هَهُنَا.
قَالُوا الْأَمر وَالنَّهْي متضادان كتضاد الْعلم وَالْجهل ثمَّ الْعلم بالشَّيْء لَا يكون جهلا بضده كَذَلِك الْأَمر بالشَّيْء لَا يكون نهيا عَن ضِدّه.
قُلْنَا الْعلم بالشَّيْء لَا يُنَافِي الْعلم بضده وَالْأَمر بالشَّيْء يُنَافِي الْأَمر بضده، أَلا ترى أَنه يجوز أَن يكون عَالما بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَمر فَإِنَّهُ يُنَافِي فعل ضِدّه أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يكون فَاعِلا للْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بترك ضِدّه فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَن النَّهْي عَن الشَّيْء لَيْسَ بِأَمْر بضده وَكَذَلِكَ الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ بنهي عَن ضِدّه.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نسلم هَذَا بل هُوَ أَمر بضده فَإِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فَهُوَ أَمر بِهِ وَإِن كَانَ لَهُ أضداد فَهُوَ أَمر بضد من أضداده فَلَا فرق بَينهمَا.

.مَسْأَلَة: (21) الْأَمر بِفعل الْعِبَادَة لَا يَقْتَضِي فعلهَا على وَجه مَكْرُوه وَلَا يدْخل فِيهِ:

كالطواف بِغَيْر طَهَارَة لَا يدْخل فِي قَوْله {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}.
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يدْخل فِيهِ.
لنا أَن الْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب والاستحباب وَالْمَكْرُوه لَا يجب وَلَا يسْتَحبّ فَمن الْمحَال أَن يكون دَاخِلا فِي الْأَمر وَيدل عَلَيْهِ أَن الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَن فعله فَلَا يدْخل فِي لفظ الْأَمر كالمحرم.
احْتَجُّوا بِأَن الْأَمر بِالطّوافِ لَا يتَنَاوَل أَكثر من الجولان حول الْبَيْت فَأَما الطَّهَارَة فَلَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يقتضيها فَإِذا طَاف بِلَا طَهَارَة فقد فعل مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ فَوَجَبَ أَن يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ.
قُلْنَا اللَّفْظ لَا يتقضي الطَّهَارَة إِلَّا أَنهم أَجمعُوا على أَن المُرَاد بِهِ طواف بِطَهَارَة فَإِذا طَاف بِغَيْر طَهَارَة لم يفعل الْمَأْمُور بِهِ فَوَجَبَ أَن لَا يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ.

.مَسْأَلَة: (22) الْفَرْض وَالْوَاجِب وَاحِد وَهُوَ مَا يُعَاقب على تَركه:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: الْفَرْض أَعلَى رُتْبَة من الْوَاجِب فالفرض مَا ثَبت وُجُوبه بطرِيق مَقْطُوع بِهِ بِكِتَاب أَو سنة متواترة أَو إِجْمَاع وَالْوَاجِب مَا ثَبت وُجُوبه بِغَيْر ذَلِك من الْأَدِلَّة.
لنا قَوْله تَعَالَى {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} وَأَرَادَ بِهِ أوجب الْحَج؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْفَرْض مَا ثَبت بطرِيق مَقْطُوع بِهِ لوَجَبَ أَن تكون النَّوَافِل تسمى فرائضا لِأَنَّهَا تثبت أَيْضا بطرِيق مَقْطُوع بِهِ؛ وَلِأَن تَخْصِيص الْفَرْض بِمَا ثَبت بطرِيق مَقْطُوع بِهِ دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا من جِهَة الشَّرْع وَلَا من جِهَة اللُّغَة فَكَانَ بَاطِلا؛ وَلِأَن لفظ الْوُجُوب فِي الْإِيجَاب أَكثر من لفظ الْفَرْض لِأَن الْفَرْض يحْتَمل من الْمعَانِي مَا لَا يحْتَملهُ الْوَاجِب أَلا ترى أَن الْفَرْض مُسْتَعْمل فِي التَّقْدِير وَلِهَذَا يُقَال فرض الْحَاكِم نَفَقَة الْمَرْأَة إِذا قدرهَا وَيسْتَعْمل فِي الْإِنْزَال قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن} أَي أنزل وَيسْتَعْمل فِي الْبَيَان كَقَوْلِه تَعَالَى {سُورَة أنزلناها وفرضناها} أَي بيناها وَيسْتَعْمل فِي فرض الْقوس وَهُوَ إِذا حز طَرفَيْهِ وَالْوَاجِب لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا وَهُوَ سُقُوطه عَلَيْهِ من قَوْلهم وَجب الْحَائِط وَوَجَبَت الشَّمْس فَإِذا قيل هَذَا وَاجِب كَانَ مَعْنَاهُ أَنه سقط عَلَيْهِ سقوطا لَا بُد من فعله وَكَانَ مَا قَالُوهُ بِالْعَكْسِ أولى.

.مَسْأَلَة: (23) إِذا دلّ الدَّلِيل على أَنه لم يرد بِالْأَمر الْوُجُوب لم يجز أَن يحْتَج بِهِ على الْجَوَاز فِي أحد الْوَجْهَيْنِ:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ على ذَلِك.
لنا هُوَ أَن اللَّفْظ غير مَوْضُوع للْجُوَاز وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع للْوُجُوب وَالْجَوَاز تَابع لَهُ يعلم من ضمنه من جِهَة الِاسْتِدْلَال وَهُوَ أَنه لَا يجوز أَن يكون وَاجِبا وَلَا يجوز فعله وَإِذا سقط الْوُجُوب سقط مَا فِي ضمنه من الْجَوَاز.
وَاحْتج من قَالَ بِالْوَجْهِ الآخر بِأَن اللَّفْظ يدل على الْوُجُوب وَالْجَوَاز فَإِذا دلّ الدَّلِيل على سُقُوط أَحدهمَا بَقِي الآخر كَمَا تَقول فِي الْعُمُوم إِذا خص مِنْهُ بعض مَا تنَاوله.
قُلْنَا الْعُمُوم يتَنَاوَل كل وَاحِد من الْجِنْس بِلَفْظ فَإِذا خرج بعضه بِدَلِيل بَقِي الْبَاقِي وَلَيْسَ كَذَلِك هَهُنَا فَإِن اللَّفْظ الْكَفّ عَن الْفِعْل وَترد وَالْمرَاد بهَا التهديد على التّرْك والحث على الْفِعْل فَوَجَبَ أَن يتَوَقَّف فِيهَا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على مَا يُرَاد بِهِ كَمَا نقُول فِي الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة كاللون وَالْعين.
قُلْنَا اللَّفْظ بِإِطْلَاقِهِ مَوْضُوع للكف والإحجام وَإِنَّمَا يحمل على مَا سواهُ من الْفِعْل والإقدام بِضَرْب من الدَّلِيل من شَاهد حَال أَو غَيره كالبحر مَوْضُوع للْمَاء الْمُجْتَمع وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي الرجل الْعَالم وَالرجل السخي وَالْفرس والجواد وَيُخَالف مَا ذَكرُوهُ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة فَإِن تِلْكَ الْأَسْمَاء لم تُوضَع لشَيْء بِعَيْنِه وَهَذَا اللَّفْظ مَوْضُوع للكف، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هُوَ أَن أهل اللِّسَان عولوا فِي الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة على مَا يقرن بهَا من الْبَيَان من الْوَصْف وَالْإِضَافَة وَغَيرهمَا وعولوا فِي النَّهْي على مُجَرّد الصِّيغَة وَلِهَذَا عاقب السَّيِّد عَبده على التَّوَقُّف وَلَا يُعَاقب فِيمَا أَتَى بِهِ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.

.مَسْأَلَة: (24) النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم:

وَقَالَت الأشعرية: لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم ويتوقف فِيهِ إِلَى أَن يرد الدَّلِيل.
لنا هُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رجعت فِي التَّحْرِيم إِلَى مُجَرّد النَّهْي، رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ كُنَّا نخابر أَرْبَعِينَ سنة وَلَا نرى بذلك بَأْسا حَتَّى أخبرنَا رَافع بن خديج أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «نهى عَن المخابرة فتركناها لقَوْل رَافع»؛ وَلِأَن السَّيِّد من الْعَرَب إِذا قَالَ لعَبْدِهِ لَا تفعل كَذَا فخالفه اسْتحق التوبيخ والعقوبة فَدلَّ على أَن إِطْلَاقه يَقْتَضِي التَّحْرِيم.
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذِه الصِّيغَة تُوجد وَيُرَاد بهَا التَّحْرِيم وتوجد وَالْمرَاد بهَا الْكَرَاهَة فَلَا تحمل على وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدَلِيل.
وَالْجَوَاب: أَن هَذَا يبطل باسم الْبَحْر فَإِنَّهُ يرد وَالْمرَاد بِهِ المَاء الْكثير الْمُجْتَمع وَيرد وَالْمرَاد بِهِ الرجل السخي أَو الْعَالم ثمَّ إِطْلَاقه يحمل على المَاء الْكثير الْمُجْتَمع فَبَطل مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (25) النَّهْي يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ:

فِي قَول عَامَّة أَصْحَابنَا.
وَقَالَ أَبُو بكر الْقفال: لَا يَقْتَضِي الْفساد وَهُوَ قَول أبي الْحسن الْكَرْخِي من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمذهب عَامَّة الْمُتَكَلِّمين.
لنا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد» وَرُوِيَ «من أَدخل فِي ديننَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» والمنهي عَنهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أمره فَيجب أَن يكون ردا.
فَإِن قيل: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ بِهِ على مسَائِل الْأُصُول.
قيل: هُوَ وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد إِلَّا أَنه متلقى بِالْقبُولِ فَهُوَ كالمتواتر؛ وَلِأَن هَذَا وَإِن كَانَ من مسَائِل الْأُصُول إِلَّا أَنَّهَا من مسَائِل الِاجْتِهَاد فَهِيَ بِمَنْزِلَة سَائِر الْفُرُوع.
فَإِن قيل: الرَّد ضد الْقبُول وَهُوَ مَا لَا يُثَاب عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُقَال هَذَا عمل مَقْبُول وَهَذَا عمل مَرْدُود وَلِهَذَا يُقَال فِي دُعَاء شهر رَمَضَان لَيْت شعري من المقبول منا فنهنيه وَمن الْمَرْدُود فنعزيه، وَكَأَنَّهُ قَالَ من أَدخل فِي ديننَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ غير مَقْبُول وَنحن نقُول إِن ذَلِك غير مَقْبُول على معنى أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ.
قُلْنَا الرَّد يسْتَعْمل فِي ضد الْقبُول كَمَا ذَكرُوهُ وَيسْتَعْمل فِي معنى الْإِبْطَال والإفساد، أَلا ترى أَنَّك تَقول رددت على فلَان كَذَا إِذا أفسدته وأبطلته وَيُقَال فِي بعض الْكتب على الْمُخَالفين الرَّد على فلَان وَإِذا كَانَ اللَّفْظ مُسْتَعْملا فِي الْأَمريْنِ وَجب أَن يحمل اللَّفْظ على الْجَمِيع.
فَإِن قيل: الَّذِي لَيْسَ من ديننَا هُوَ الشَّيْء الْمنْهِي عَنهُ من الِالْتِفَات فِي الصَّلَاة والغيبة فِي الصَّوْم وَذَلِكَ عندنَا مَرْدُود بَاطِل وَالْخلاف فِيمَا يَقع فِيهِ الْمنْهِي عَنهُ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وَذَلِكَ من ديننَا فَلم يكن ردا.
قُلْنَا فعل الْعِبَادَة على وَجه النَّهْي أَيْضا لَيْسَ من الدَّين وَلِهَذَا لَا يُثَاب عَلَيْهِ وَلَا يجوز فعلهَا فَوَجَبَ أَن يكون مردودا وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم احْتَجُّوا فِي الْإِبْطَال بِالنَّهْي رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ نِكَاح المشركات بَاطِل لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن}، وَأَيْضًا هُوَ أَن الْأَمر اقْتضى اشْتِغَال الذِّمَّة بِعبَادة متجردة عَن النَّهْي إِذْ لَا يجوز أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ هُوَ الَّذِي ورد الْأَمر بِهِ فَإِذا فعل على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ لم يَأْتِ بالمأمور بِهِ وَإِنَّمَا أَتَى بِغَيْرِهِ فَبَقيَ الْفَرْض فِي ذمَّته كَمَا كَانَ وَصَارَ بِمَنْزِلَة مَا لَو أَمر بِفعل الصَّلَاة فَأتى بِالصَّوْمِ؛ وَلِأَن الحكم بِصِحَّة الْعِبَادَة وإجزائها لِلْأَمْرِ الْمنْهِي عَنهُ لم يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر فَلم يجز أَن يحكم لَهُ بِالصِّحَّةِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي قبح الْمنْهِي عَنهُ وقبحه لَا يدل على بُطْلَانه كَالطَّلَاقِ فِي حَال الْحيض وَالْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن النَّهْي يَقْتَضِي معنى يدل على الْقبْح وَهُوَ أَن مَا يَفْعَله غير مَا ورد بِهِ الشَّرْع وَذَلِكَ يُوجب بُطْلَانه على مَا بَيناهُ، وَأما الطَّلَاق فِي حَال الْحيض وَالْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمَغْصُوب فَإِنَّمَا حكمنَا بِصِحَّتِهَا؛ لقِيَام الدّلَالَة عَلَيْهِ وَلَيْسَ إِذا ترك ظَاهر اللَّفْظ فِي بعض الْمَوَاضِع لقِيَام الدَّلِيل دلّ على بطلَان مُقْتَضَاهُ وَيجب أَن يتْرك فِي كل مَوضِع، أَلا ترى أَن النَّهْي قد يرد فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَا يُرَاد بِهِ التَّحْرِيم ثمَّ لَا يدل ذَلِك على أَن إِطْلَاقه لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم.
قَالُوا لَو كَانَ النَّهْي يَقْتَضِي فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ لوَجَبَ إِذا تنَاول مَا لَيْسَ بفاسد أَن يكون مجَازًا وَلما وجدنَا النَّهْي على سَبِيل الْحَقِيقَة فِي كثير من الْمَوَاضِع وَلَا يَقْتَضِي الْفساد دلّ على أَنه لَا يَقْتَضِي ذَلِك.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نقُول إِنَّه مجَاز لِأَن الْمجَاز مَا نقل عَن جَمِيع مُوجبه وَهُوَ هَا هُنَا لم ينْقل عَن جَمِيع مُوجبه بل حمل على بعض مُوجبه وَذَلِكَ أَن النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم وَفَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فَإِذا دلّ الدَّلِيل على أَنه غير فَاسد بَقِي حَقِيقَة فِي الْبَاقِي كالعموم إِذا خص بعضه.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يُوجب إِعَادَة الْفِعْل فَمن ادّعى وجوب الْإِعَادَة احْتَاجَ إِلَى دَلِيل.
وَالْجَوَاب: أَن الَّذِي دلّ على وجوب الْإِعَادَة هُوَ الْأَمر بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ أَن الْأَمر يتَنَاوَل عبَادَة لَا يتَعَلَّق بهَا نهي وَهُوَ لم يفعل ذَلِك فَكَانَ الْأَمر بِإِيجَاب الْفِعْل بَاقِيا كَمَا كَانَ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فعله على وَجه النَّهْي أَكثر من فعله مَنْهِيّا عَنهُ وقولكم إِنَّه فَاسد زِيَادَة صفة يحْتَاج فِي إثْبَاته إِلَى دَلِيل.
قُلْنَا معنى قَوْلنَا فَاسد أَنه لَا يعْتد بِهِ عَمَّا تعلق الْأَمر عَلَيْهِ وَلَيْسَ يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى دَلِيل أَكثر مِمَّا يتَنَاوَلهُ وَهُوَ أَنه لم يفعل الْمَأْمُور بِهِ فَيجب أَن يكون الْمَأْمُور بِهِ بَاقِيا فِي الذِّمَّة.

.مَسْأَلَة: (26) وَإِذا نهى عَن أحد شَيْئَيْنِ كَانَ ذَلِك نهيا عَن الْجمع بَينهمَا وَيجوز فعل أَحدهمَا:

وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يكون نهيا عَنْهُمَا فَلَا يجوز فعل وَاحِد مِنْهُمَا.
لنا أَنه أَمر بترك أَحدهمَا فَلَا يجب تَركهمَا كَمَا لَو أَمر بِفعل أَحدهمَا لم يجب فعلهمَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ مَعَ غَيره كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ بِانْفِرَادِهِ كَسَائِر الْمَحْظُورَات.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِنِكَاح إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ مَعَ نِكَاح أُخْتهَا وَلَيْسَ بمنهي عَنهُ عِنْد الِانْفِرَاد.
قَالُوا وَلِأَن أَو فى النَّهْي يَقْتَضِي الْجمع وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} وَالْمرَاد بِهِ وكفورا.
قُلْنَا لَا نسلم مَا ذَكرُوهُ من الْآيَة وَإِنَّمَا حملنَا على مَا ذَكرُوهُ بِدَلِيل.

.مسَائِل الْعُمُوم وَالْخُصُوص:

.مَسْأَلَة: (1) للْعُمُوم صِيغَة بمجردها تدل على استغراق الْجِنْس والطبقة:

وَقَالَت الأشعرية: لَيْسَ للْعُمُوم صِيغَة وَمَا يرد من أَلْفَاظ الْجمع فَلَا يحمل على الْعُمُوم وَلَا على الْخُصُوص إِلَّا بِدَلِيل.
وَمن النَّاس من قَالَ: إِن كَانَ ذَلِك فِي الْأَخْبَار فَلَا صِيغَة لَهُ وَإِن كَانَ ذَلِك فِي الْأَمر وَالنَّهْي فَلهُ صِيغَة تحمل على الْجِنْس.
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين:: تحمل أَلْفَاظ الْجمع على أقل الْجمع ويتوقف فِيمَا زَاد وَهُوَ قَول أبي هَاشم وَمُحَمّد بن شُجَاع الثَّلْجِي.
لنا قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} فَحكى الله تَعَالَى عَن نوح أَنه تعلق بِعُمُوم اللَّفْظ وَلم يعقب ذَلِك بنكير بل ذكر أَنه أجَاب بِأَنَّهُ لَيْسَ من أَهله فَقَالَ {إِنَّه لَيْسَ من أهلك إِنَّه عمل غير صَالح} فَدلَّ على أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْعُمُوم.
وَأَيْضًا مَا روى أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} قَالَ عبد الله بن الزِّبَعْرَى لأخصمن مُحَمَّدًا فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ قد عبدت الْمَلَائِكَة وَعبد الْمَسِيح أفيدخلون النَّار فَأنْزل الله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} فاحتج على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعُمُوم اللَّفْظ وَلَو لم يقتض اللَّفْظ الْعُمُوم لما احْتج بِهِ ولأنكر النَّبِي عَلَيْهِ احتجاجه.
فَإِن قيل: إِنَّمَا تعلق بِاللَّفْظِ فِيمَا ذكرْتُمْ لِأَن اللَّفْظ يصلح للْعُمُوم.
قُلْنَا لَو كَانَ لصلاح اللَّفْظ لَكَانَ لَا يقطع بِأَنَّهُ يخصم مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ بالصلاح لَا يُمكنهُ أَن يخصم، وَأَيْضًا إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم روى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لأبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي مانعي الزَّكَاة كَيفَ تقَاتلهمْ وَقد قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله» فاحتج بِعُمُوم اللَّفْظ وَلم يُنكر عَلَيْهِ أَبُو بكر وَلَا أحد من الصَّحَابَة بل عدل أَبُو بكر فِي الْجَواب إِلَى الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور فِي الْخَبَر وَهُوَ قَوْله إِلَّا بِحَقِّهَا وَإِن الزَّكَاة من حَقّهَا.
وروى ابْن عمر وعليا عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَا فِي الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين أَحَلَّتْهُمَا آيَة وحرمتهما آيَة وَالتَّحْرِيم أولى فحملا اللَّفْظَيْنِ على الْعُمُوم ثمَّ رجحا لفظ التَّحْرِيم.
وروى أَن عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي الله عَنهُ أنْشد:
أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ** وكل نعيم لَا محَالة زائل

فَقَالَ كذب فَإِن نعيم أهل الْجنَّة لَا يَزُول وَلَو لم يكن قَول الشَّاعِر اقْتضى الْعُمُوم لما جَازَ تَكْذِيبه.
فَإِن قيل: هَذِه أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يحْتَج بهَا فِي مسَائِل الْأُصُول.
قُلْنَا وَإِن كَانَت من أَخْبَار الْآحَاد إِلَّا أَن الْأمة أَجمعت على قبُولهَا وَإِن اخْتلفت فِي الْعَمَل بهَا فَصَارَت مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهَا.
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْعَرَب وضعت للْوَاحِد صِيغَة وللاثنين صِيغَة وللثلاثة صِيغَة فَقَالُوا رجل ورجلان وَرِجَال وَفرقت بَينهَا كَمَا فرقت بَين الْأَعْيَان فِي الِاسْم فَقَالُوا فرس وحمار وبغل فَلَو كَانَ احْتِمَال لفظ للاثنين كاحتماله لما زَاد لم يكن لهَذَا التَّفْرِيق فِي الْوَضع معنى.
وَأَيْضًا هُوَ أَنه يَصح أَن يسْتَثْنى من أَلْفَاظ الْجمع كل وَاحِد من الْجِنْس فَتَقول رَأَيْت النَّاس إِلَّا زيدا وَإِلَّا عمرا وَلَو لم يقتض اللَّفْظ جَمِيع الْجِنْس لم يَصح الِاسْتِثْنَاء لِأَن الِاسْتِثْنَاء يخرج من اللَّفْظ مَا لولاه لدخل فِيهِ وَلِهَذَا لَا يَصح أَن تستثنى الْبَهَائِم من النَّاس حِين لم يدْخل فِي اللَّفْظ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا حسن الِاسْتِثْنَاء لصلاح اللَّفْظ لكل وَاحِد من الْجِنْس.
قيل هَذَا لَا يَصح لِأَن الِاسْتِثْنَاء لَا يخرج إِلَّا مَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظ فَإِنَّهُ مَأْخُوذ من قَوْلهم ثنيت عنان الدَّابَّة إِذْ صرفته وَقيل إِنَّه يُسمى بذلك لِأَنَّهُ تَثْنِيَة الْخَبَر بعد الْخَبَر وَأيهمَا كَانَ اقْتضى دُخُول الْمُسْتَثْنى فِي اللَّفْظ حِين نصرفه عَنهُ فِي قَول بَعضهم وثنى الْخَبَر بعد الْخَبَر فِي قَول الْبَعْض.
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ حسن الِاسْتِثْنَاء لجَوَاز أَن يكون دخلا فِي اللَّفْظ لوَجَبَ أَن يَصح من النكرات كَمَا يَصح من المعارف الْمُقْتَضِيَة للْجِنْس فَلَمَّا لم يحسن ذَلِك فِي النكرات دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ.
وَأَيْضًا هُوَ أَنه إِذا قَالَ لرجل من عنْدك حسن أَن يُجيب بِكُل وَاحِد من جنس الْعُقَلَاء وَلَو لم يكن اللَّفْظ عَاما فِي الْجِنْس لما صَار مجيبا بِكُل وَاحِد من الْجِنْس لجَوَاز أَن يكون المسؤول عَنهُ غير الَّذِي أجَاب بِهِ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا حسن أَن يُجيب بِكُل وَاحِد من الْجِنْس لِأَن اللَّفْظ يصلح لكل وَاحِد مِنْهُم.
قيل اللَّفْظ يصلح لمن أجَاب بِهِ وَلغيره فَيجب أَن لَا يَصح الْجَواب حَتَّى يعلم مُرَاد السَّائِل وَيدل عَلَيْهِ أَنه لَو قَالَ من دخل الدَّار فَلهُ دِرْهَم أَو من رد عَبدِي الْآبِق فَلهُ دِرْهَم اسْتحق كل من وجد ذَلِك مِنْهُ الْعَطاء فَدلَّ على أَن اللَّفْظ يَقْتَضِي الْكل.
وَأَيْضًا هُوَ أَن الْعُمُوم مِمَّا تَدْعُو الْحَاجة إِلَى الْعبارَة عَنهُ وتعم الْبلوى بِهِ فِي مصَالح الدَّين وَالدُّنْيَا فَيجب أَن يكون وضع لَهُ لفظ يدل عَلَيْهِ كَمَا وضعُوا لسَائِر مَا دعت الْحَاجة إِلَى الْعبارَة عَنهُ من الْأَعْيَان وَغَيرهَا.
فَإِن قيل: فقد وضع لَهُ مَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ التَّأْكِيد.
قيل إِذا سلمتم أَن أَلْفَاظ التَّأْكِيد تدل على الْعُمُوم فقد سلمتم الْمَسْأَلَة لِأَن التَّأْكِيد لَا يدل إِلَّا على مَا يدل عَلَيْهِ الْمُؤَكّد وَلَا يُفِيد إِلَّا مَا أَفَادَهُ فَإِذا كَانَ لفظ التَّأْكِيد يَقْتَضِي الْعُمُوم دلّ على أَن الْمُؤَكّد اقْتَضَاهُ.
فَإِن قيل: نعلم الْعُمُوم بالأحوال والعادات فيستغني بهَا عَن لفظ يوضع لَهُ.
قيل هَذَا لَا يَصح لِأَن هَذَا يخْتَص بِمن بَيْننَا وَبَينه عَادَة فِي الْخطاب فَأَما من جِهَة الله تَعَالَى فَلَا يُمكن معرفَة الْعُمُوم إِذْ لَا عَادَة بَيْننَا وَبَينه وَكَذَلِكَ لَا يُمكن معرفَة ذَلِك فِيمَا ينْقل إِلَيْنَا من الْأَخْبَار لِأَنَّهَا لَا تنقل مَعَ أحوالها وَلَا عَادَة بَيْننَا وَبَين الْمُتَكَلّم فِيمَا ينْقل إِلَيْنَا.
فَإِن قيل: هَذَا يبطل بالطعوم والروائح فَإِن الْحَاجة ماسة إِلَى تمييزها والعبارة عَنْهَا ثمَّ لم يضعوا لكل وَاحِد مِنْهَا عبارَة تدل عَلَيْهِ.
قيل قد وضعُوا لذَلِك مَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِضَافَة فَقَالُوا طعم الشهد، وَطعم السفرجل وَطعم الْخبز وَطعم المَاء وحلاوة السكر وحلاوة الْعَسَل ورائحة الْمسك ورائحة الكافور وَغير ذَلِك.
فَأَما من فرق بَين الْأَخْبَار وَبَين الْأَمر وَالنَّهْي فَلَا وَجه لقَوْله لِأَن مَا وضع للْعُمُوم فِي اللَّفْظ لم يخْتَلف فِيهِ الْخَبَر وَالْأَمر وَالنَّهْي، أَلا ترى أَنه لَا فرق بَين أَن يَقُول من دخل الدَّار فَأكْرمه وَبَين أَن يَقُول من دخل الدَّار أكرمته وَإِن كَانَ أَحدهمَا أمرا وَالْآخر خَبرا فَدلَّ على فَسَاد مَا قَالُوهُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِثْبَات صِيغَة الْعُمُوم من أَن يكون بِالْعقلِ أَو بِالنَّقْلِ.
وَلَا يجوز إِثْبَاتهَا بِالْعقلِ لِأَنَّهُ لَا مجَال لَهُ فِي إِثْبَات اللُّغَات.
وَلَا يجوز أَن يكون بِالنَّقْلِ لِأَن النَّقْل تَوَاتر وآحاد وَلَا تَوَاتر فِيهِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ لعلمناه كَمَا علمْتُم والآحاد لَا يقبل فِي مسَائِل الْأُصُول فَبَطل إِثْبَاتهَا.
قُلْنَا هَذَا يَنْقَلِب عَلَيْكُم فِي إِثْبَات الِاشْتِرَاك بَين الْخُصُوص والعموم فِي هَذِه الْأَلْفَاظ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو من أَن يكون بِالْعقلِ وَلَا مجَال لَهُ فِيهِ أَو بِالنَّقْلِ وَالنَّقْل تَوَاتر وآحاد وَلَا تَوَاتر فِيهِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ لعلمناه كَمَا علمْتُم والآحاد لَا يقبل فِي إِثْبَات اللُّغَة.
وعَلى أَنا قد بَينا ذَلِك بطرق من جِهَة النَّقْل تجْرِي مجْرى التَّوَاتُر وَقد بيناها فأغنى عَن الْإِعَادَة.
قَالُوا وَلِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ ترد وَالْمرَاد بهَا الْبَعْض وَترد وَالْمرَاد بهَا الْكل فَلم يكن حملهَا على أَحدهمَا بِأولى من الآخر فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهَا كَمَا تَقول فِي الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة من اللَّوْن وَالْعين وَغَيرهَا.
قُلْنَا لَا يمْنَع أَن يسْتَعْمل اللَّفْظ فيهمَا ثمَّ هُوَ حَقِيقَة فِي أَحدهمَا دون الآخر.
كالحمار يسْتَعْمل فِي الرجل البليد وَيسْتَعْمل فِي الْبَهِيمَة الْمَعْرُوفَة ثمَّ هُوَ حَقِيقَة فِي الْبَهِيمَة وَكَذَلِكَ الْبَحْر يسْتَعْمل فِي الرجل الْجواد وَفِي المَاء الْمُجْتَمع الْكثير ثمَّ هُوَ حَقِيقَة فِي المَاء الْمُجْتَمع.
قَالُوا وَلِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ لَا تسْتَعْمل فِي أَكثر الْمَوَاضِع إِلَّا فِي الْبَعْض دون الْكل، أَلا ترى أَنه يُقَال أغلق النَّاس وَفتح النَّاس وافتقر النَّاس وَجمع السُّلْطَان التُّجَّار وَالْمرَاد فِي ذَلِك كُله الْبَعْض وَلَو كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْعُمُوم لَكَانَ أَكثر كَلَام النَّاس مجَازًا.
قُلْنَا يجوز أَن يكون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي معنى ثمَّ يسْتَعْمل فِي غَيره، أَلا ترى أَن الْغَائِط حَقِيقَة فِي الْموضع المطمئن من الأَرْض ثمَّ يسْتَعْمل أَكثر فِي الْخَارِج من الْإِنْسَان وَكَذَلِكَ الشجاع حَقِيقَة فِي الْحَيَّة ثمَّ أَكثر مَا يسْتَعْمل فِي الرجل البطل فَبَطل مَا قَالُوهُ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْجِنْس لما حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام فَتَقول أردْت بِهِ الْكل كَمَا لَا يحسن فِي الْأَعْدَاد كالعشرة وَغَيرهَا.
قُلْنَا حسن الِاسْتِفْهَام لَا يدل على أَن اللَّفْظ لَيْسَ بِحَقِيقَة فِي شَيْء بِعَيْنِه، أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ رَأَيْت بحرا حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام بِأَن تَقول رَأَيْت مَاء كثيرا أَو رجلا جوادا ثمَّ هُوَ حَقِيقَة فِي المَاء الْكثير وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أعْط فلَانا مائَة ألف حسن أَن يستفهم فَيَقُول مائَة ألف دِرْهَم وَلَا يدل على أَن ذَلِك لَيْسَ بِحَقِيقَة فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا حسن الِاسْتِفْهَام لِأَن اللَّفْظ يحْتَمل الْعُمُوم وَغَيره فَجَاز أَن يستفهم ليزول الِاحْتِمَال.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَت هَذِه الْأَلْفَاظ حَقِيقَة فِي الْجِنْس لوَجَبَ إِذا دلّ الدَّلِيل على أَنه أَرَادَ بِهِ الْبَعْض أَن يصير مجَازًا لِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ.
قُلْنَا الْمجَاز مَا تجوز بِهِ عَمَّا وضع لَهُ كالحمار حَقِيقَة فِي الْبَهِيمَة ثمَّ يتجوز بِهِ فِي الرجل البليد فَيكون مجَازًا فِيهِ وَأما لفظ الْعُمُوم فَمَا تجوز بِهِ عَمَّا وضع لَهُ وَإِنَّمَا حمل على بعض مَا يَقْتَضِيهِ فَلم يصر مجَازًا فِيمَا تبقى كَمَا لَو قَالَ عَليّ عشرَة إِلَّا خَمْسَة.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ اللَّفْظ يَقْتَضِي استغراق الْجِنْس لوَجَبَ أَن يكون تَخْصِيص بعضه يُوجب كذب الْمُتَكَلّم بِهِ كَمَا إِذا قَالَ رَأَيْت عشرَة ثمَّ بَان أَنه رأى خَمْسَة عد كَاذِبًا.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا قَالَ أقبل عشرَة أنفس ثمَّ خص بَعضهم فَإِن اللَّفْظ تنَاول الْعشْرَة ثمَّ تَخْصِيصه لَا يُوجب الْكَذِب؛ وَلِأَن على قَول من قَالَ من أَصْحَابنَا تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب لَا يجوز لَهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكَذِب لِأَنَّهُ يكون مُقَارنًا للفظ فَيصير كالاستثناء مَعَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وعَلى قَول من أجَاز تَأْخِير الْبَيَان لَا يلْزم لِأَن الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَخْبَار وعَلى قَول أَصْحَابنَا لَا يجوز تَخْصِيص الْأَخْبَار وَإِنَّمَا يجوز تَخْصِيص الْأَمر وَالنَّهْي والصدق وَالْكذب لَا يدخلَانِ فِي ذَلِك فَإِذا خص شَيْء مِنْهُ كَانَ نسخا لَهُ وَمن أَصْحَابنَا من أجَاز تَخْصِيص الْأَخْبَار فعلى هَذَا أَيْضا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْكَذِب لأم كَلَام صَاحب الشَّرْع وَإِن تَأَخّر بعضه عَن بعض كالاستثناء مَعَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى مَا ذَكرُوهُ وَلِهَذَا يُطلق الْأَمر فِي الشَّرْع ثمَّ يرد مَا يسْقطهُ وَهُوَ النّسخ وَلَا يعد ذَلِك بداء وَلَو كَانَ فِي غير أَلْفَاظ صَاحب الشَّرْع أَو ورد مثل هَذَا عد بداء.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا اللَّفْظ مَوْضُوعا للْعُمُوم لما جَازَ تَخْصِيصه من الْكتاب بِالسنةِ وَالْقِيَاس لِأَنَّهُ إِسْقَاط مَا ثَبت بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ لَا يجوز بِالسنةِ وَالْقِيَاس كَمَا لَا يجوز النّسخ بهما.
قُلْنَا النّسخ إِسْقَاط اللَّفْظ فَلم يجز إِلَّا بِمثلِهِ أَو بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ والتخصيص بَيَان حكم اللَّفْظ فَجَاز بِمَا دونه.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ اللَّفْظ يَقْتَضِي الْجِنْس لَكَانَ لَا يُوجد إِلَّا وَهُوَ يَقْتَضِيهِ كَمَا أَن الْعلَّة لما كَانَت مقتضية للْحكم لم يجز وجودهَا إِلَّا وَهِي مقتضية لَهُ.
قُلْنَا هَذَا الدَّلِيل إِنَّمَا يَصح لَو لم يجز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ فَأَما إِذا جَازَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ لم يكن وجود الصِّيغَة غير مقتضية للْعُمُوم دَلِيلا على أَن الصِّيغَة غير مَوْضُوعَة للْعُمُوم؛ وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يُقَال هَذَا لوَجَبَ أَن يُقَال إِن الْحمار لَيْسَ بموضوع للبهيمة الْمَخْصُوصَة لِأَنَّهُ قد يسْتَعْمل فِي غير الْبَهِيمَة وَهُوَ الرجل البليد وَفِي إجماعنا على فَسَاد هَذَا دَلِيل على بطلَان مَا ذَكرُوهُ على أَن اللَّفْظ الْمُقْتَضِي للاستغراق هُوَ الصِّيغَة الْمُجَرَّدَة عَن الْقَرِينَة وَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُوجد إِلَّا وَهِي تَقْتَضِي الْجِنْس كَمَا لَا يجوز أَن تُوجد الْعلَّة أَلا وَهِي تَقْتَضِي الحكم فَأَما مَا اقْترن بِهِ قرينَة التَّخْصِيص فَغير مقتضية للْجِنْس فَهِيَ بِمَنْزِلَة وجود الْعلَّة يجوز وجوده غير مُقْتَض للْحكم.
وَاحْتج من حمل اللَّفْظ على الثَّلَاثَة ووقف فِيمَا زَاد بِأَن الثَّلَاثَة أقل الْجمع فحملنا اللَّفْظ عَلَيْهِ وَمَا زَاد مَشْكُوك فِيهِ فَلَا يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ من غير دَلِيل.
الْجَواب: أَن قَوْلهم إِن الثَّلَاثَة أقل الْجمع مُسلم وَأَن مَا زَاد عَلَيْهِ مَشْكُوك فِيهِ دَعْوَى تحْتَاج إِلَى دَلِيل على أَن الَّذِي اقْتضى حمل اللَّفْظ على الثَّلَاثَة يَقْتَضِي حمله على مَا زَاد وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ مَوْضُوع للثَّلَاثَة وَلما زَاد عَلَيْهِ لَا يخْتَص بِبَعْض الْأَعْدَاد دون بعض فَوَجَبَ حمله على الْجَمِيع؛ وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يقْتَصر على ثَلَاثَة لِأَنَّهُ مُتَيَقن لوَجَبَ أَن يُقَال فِي أَسمَاء الْأَعْدَاد كالعشرات والمائين إِنَّهَا تحمل على ثَلَاثَة لِأَنَّهَا متيقنة ويتوقف فِي الزِّيَادَة وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَبَطل مَا قَالُوهُ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ لفظ الْجمع يَقْتَضِي الْعُمُوم لوَجَبَ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ دَرَاهِم أَن لَا يقبل مِنْهُ ثَلَاثَة.
الْجَواب أَن قَوْله لفُلَان عَليّ دَرَاهِم نكرَة وَمثل هَذَا لَا يَقْتَضِي عندنَا الْجِنْس وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي الْجِنْس إِذا تعرف بِالْألف وَاللَّام على أَنا لم نحمل ذَلِك على الْجِنْس فِي الْإِقْرَار بِدَلِيل دلّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه يعلم بطرِيق الْعرف وَالْعَادَة أَنه لَا يجوز أَن يكون مُرَاده جنس الدَّرَاهِم إِذْ لَا يجوز أَن يكون قد أتلف عَلَيْهِ كل دِرْهَم فِي الأَرْض واستقرض ذَلِك مِنْهُ فَلم يحمل على الْعُمُوم لدلَالَة الْعرف وَلَيْسَ إِذا لم يحمل اللَّفْظ على مُقْتَضَاهُ لدلَالَة اقترنت بِهِ لم يحمل على مُقْتَضَاهُ فِيمَا لم تقترن بِهِ دلَالَة وَقد قيل إِن الْإِقْرَار إِنَّمَا لم يحمل على الْجِنْس لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيل أَنه لم يرد بِهِ الْجِنْس وَهُوَ التَّمْيِيز فوزانه فِي مَسْأَلَتنَا أَن يرد لَهُ لفظ الْعُمُوم ثمَّ نقُول الدّلَالَة على الْخُصُوص فَيحمل عَلَيْهِ وَهَاهُنَا تجرد اللَّفْظ عَن الدّلَالَة فَهُوَ كَمَا لَو أقرّ بِالدَّرَاهِمِ وَلم يحلف فَيحمل اللَّفْظ على مَا يَدعِيهِ الْمُدَّعِي من قَلِيل وَكثير.

.مَسْأَلَة: (2) الِاسْم الْمُفْرد إِذا دخل عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام فَهُوَ للْجِنْس والطبقة:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: هُوَ للْعهد وَهُوَ قَول أبي يحيى الحباني.
لنا أَن الْألف وَاللَّام لَا يدْخل على الِاسْم إِلَّا للْجِنْس وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} وَقَالَ {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} {وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} وَقَالَ تَعَالَى {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى} وَأَرَادَ فِي هَذَا كُله الْجِنْس وَيُقَال أهلك النَّاس الدِّينَار وَالدِّرْهَم وَملك الشَّاء وَالْبَعِير وَيُرَاد بِهِ الْجِنْس فَدلَّ على أَنه مَوْضُوع لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يحسن فِيهِ الِاسْتِثْنَاء بِلَفْظ الْجمع كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} فَاقْتضى الْجِنْس كأسماء الجموع؛ وَلِأَنَّهُ لَو دخل الْألف وَاللَّام على أَسمَاء الجموع كالمسلمين وَالْمُشْرِكين اقْتضى الْجِنْس فَكَذَلِك إِذا دخل على الِاسْم الْمُفْرد؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقْتَضِي الْعَهْد لوَجَبَ أَن لَا يَصح الِابْتِدَاء بِهِ حَتَّى يتَقَدَّم بَين الْمُخَاطب والمخاطب مَعْهُود يرجع اللَّفْظ إِلَيْهِ وَلما رَأينَا ذَلِك مُسْتَعْملا فِي خطاب الله تَعَالَى وَلَيْسَ بَيْننَا وَبَينه عهد مُتَقَدم يرجع اللَّفْظ إِلَيْهِ دلّ على أَنه لَا يَقْتَضِي الْمَعْهُود؛ وَلِأَن الْألف وَاللَّام يدخلَانِ للتعريف وَلَيْسَ هَاهُنَا معرفَة يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ غير الْجِنْس فَوَجَبَ أَن يحمل عَلَيْهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْألف وَاللَّام لَا يدخلَانِ إِلَّا للْعهد وَلِهَذَا قَالَ الله عز وَجل {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} وَأَرَادَ بِهِ الْعَهْد وَقَالَ عز وَجل {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا} وَأَرَادَ بِهِ الْعَهْد وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَلنْ يغلب عسر وَاحِد يسرين أبدا وَتقول دخلت السُّوق فَرَأَيْت رجلا ثمَّ عدت إِلَى السُّوق فَرَأَيْت الرجل وتريد بِهِ الْعَهْد فَدلَّ على أَن مُقْتَضَاهُ الْعَهْد.
قُلْنَا إِنَّمَا حملناه فِيمَا ذَكرُوهُ على الْعَهْد لِأَنَّهُ قد تقدمه نكرَة فَرجع التَّعْرِيف إِلَيْهَا وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِنَّهُ لم تتقدمه نكرَة فَحمل على تَعْرِيف الْجِنْس لِأَن الْألف وَاللَّام يدخلَانِ للتعريف وَلَيْسَ هَاهُنَا معرفَة يحمل اللَّفْظ عَلَيْهَا غير الْجِنْس فَوَجَبَ أَن يحمل عَلَيْهِ.
قَالُوا وَلِأَن الْألف وَاللَّام لَا تفِيد أَكثر من تَعْرِيف النكرَة فَإِذا كَانَت النكرَة من الِاسْم الْمُفْرد لَا تَقْتَضِي إِلَّا وَاحِدًا من الْجِنْس فَإِذا دخلت عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام وَجب أَن لَا تَقْتَضِي إِلَّا وَاحِدًا من الْجِنْس.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا دخلت على اسْم الْجمع فَإِنَّهَا لَا تفِيد أَكثر من تَعْرِيف النكرَة ثمَّ إِذا دخلت على اسْم الْجمع اقْتَضَت الْجِنْس وعَلى أَنه إِنَّمَا يَقْتَضِي تَعْرِيف النكرَة إِذا تقدمه نكرَة فَأَما إِذا لم يتقدمه نكرَة اقْتضى تَعْرِيف الْجِنْس وَهَاهُنَا لم يتقدمه نكرَة فَوَجَبَ أَن يكون تعريفا للْجِنْس.

.مَسْأَلَة: (3) أَسمَاء الجموع إِذا تجردت عَن الْألف وَاللَّام لم تقض الْعُمُوم:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: تَقْتَضِي الْعُمُوم وَهُوَ قَول الجبائي.
لنا أَنه نكرَة فِي الْإِثْبَات فَلم يقتض الْعُمُوم كالاسم الْمُفْرد؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ مقتضيا للْجِنْس كُله لما كَانَ يُسمى نكرَة لِأَن الْجِنْس كُله مَعْرُوف وَلِهَذَا لَا يُسمى نكرَة إِذا دخله الْألف وَاللَّام.
وَأَيْضًا هُوَ أَنه يَصح تَأْكِيد ب مَا فَتَقول أعْط رجَالًا مَا فَلَو كَانَ مَوْضُوعا للْجِنْس لما صَحَّ فِيهِ التَّأْكِيد ب مَا كَمَا لَا يجوز فِي الْعرف بِالْألف وَاللَّام.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ يَصح اسْتثِْنَاء كل وَاحِد من الجنسين من هَذَا اللَّفْظ فَدلَّ على أَنه يَقْتَضِي الْجِنْس.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنا لَا نسلم فَإِن الِاسْتِثْنَاء لَا يَصح من أَسمَاء الجموع إِذا تجردت عَن الْألف وَاللَّام فَإِذا قَالَ كلم رجَالًا إِلَّا زيدا فَهُوَ مجَاز.