فصل: مَسْأَلَة: (13) شرع من قبلنَا شرع لنا إِلَّا مَا ثَبت نسخه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (13) شرع من قبلنَا شرع لنا إِلَّا مَا ثَبت نسخه:

وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا شرع من قبلنَا لَيْسَ بشرع لنا.
وَمِنْهُم من قَالَ شرع إِبْرَاهِيم خَاصَّة شرع لنا وَمَا سواهُ لَيْسَ بشرع لنا.
لنا قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
فَإِن قيل: المُرَاد بِهِ التَّوْحِيد وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هُوَ أَنه أَضَافَهُ إِلَى الْجَمِيع وَالَّذِي يشْتَرك الْجَمِيع فِيهِ هُوَ التَّوْحِيد فَأَما الْأَحْكَام فَإِن الشَّرَائِع فِيهَا مُخْتَلفَة فَلَا يُمكن اتِّبَاع الْجَمِيع فِيهِ.
قيل اللَّفْظ عَام فِي التَّوْحِيد وَفِي الْأَحْكَام فَيجب أَن يحمل على الْجَمِيع إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل؛ وَلِأَن مَجِيء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير منَاف لما تقدم من الشَّرَائِع وكل شرع لم يرد عَلَيْهِ مَا يُنَافِيهِ وَجب الْبَقَاء عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَرِيعَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام؛ وَلِأَنَّهُ يُمكن الْجمع بَين مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين مَا قبله وكل حكمين أمكن الْجمع بَينهمَا لم يَصح إِسْقَاط أَحدهمَا بِالْآخرِ كإيجاب الصَّوْم وَالصَّلَاة فِي شريعتنا؛ وَلِأَن الله تَعَالَى حكى شرع من قبلنَا وَلَو لم يقْصد التَّسْوِيَة بَيْننَا وَبينهمْ لم يكن لذكرها فَائِدَة.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} فَدلَّ على أَن كل وَاحِد مِنْهُم ينْفَرد بشرع لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن مشاركتهم فِي بعض الْأَحْكَام لَا يمْنَع من أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُم شرع يُخَالف شرع الآخر كَمَا أَن مشاركتهم فِي التَّوْحِيد لَا تمنع انْفِرَاد كل وَاحِد مِنْهُم بشريعة تخَالف شَرِيعَة غَيره.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى عمرا رَضِي الله عَنهُ وَمَعَهُ شَيْء من التَّوْرَاة ينظر فِيهِ فَقَالَ لَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي فَدلَّ على نسخ مَا تقدم.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه إِنَّمَا نَهَاهُ عَن النّظر فِي التَّوْرَاة لِأَنَّهُ مبدل مغير وكلامنا فِيمَا حكى الله عَن دينهم فِي الْكتاب أَو ثَبت عَنْهُم بِخَبَر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالُوا وَلِأَن الشَّرَائِع إِنَّمَا شرعت لمصْلحَة الْمُكَلّفين وَرُبمَا كَانَت الْمصلحَة لمن قبلنَا فِي شَيْء والمصلحة لنا فِي غَيره فَلَا يجوز إِجْرَاء حكمهم علينا.
قُلْنَا فَيجب أَن تَقولُوا يَقْتَضِي هَذَا الدَّلِيل أَن مَا شرع للصحابة لَا يكون شرعا للتابعين لِأَنَّهُ يجوز أَن تكون الْمصلحَة للصحابة فِي ذَلِك دون التَّابِعين وَلما بَطل هَذَا بِالْإِجْمَاع بَطل مَا ذَكرُوهُ وعَلى أَن الظَّاهِر أَن الْمصلحَة لنا فِيمَا شرع لَهُم إِذْ لَو كَانَت الْمصلحَة لنا فِي غَيره لنسخ ذَلِك وَلما لم ينْسَخ ذَلِك دلّ على أننا وهم فِي الْمصلحَة سَوَاء.
قَالُوا لَو كَانَ شرعا لنا لوَجَبَ اتِّبَاع أدلتهم وتتبع كتبهمْ كَمَا يجب ذَلِك فِي شرعنا وَلما لم يجب ذَلِك دلّ على أَن شرعهم لَا يلْزمنَا.
قُلْنَا نَحن إِنَّمَا نجْعَل شرعهم شرعا لنا فِيمَا ثَبت بِخَبَر الله تَعَالَى وَخبر رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وَاتِّبَاع ذَلِك وَاجِب وتتبع مَا يُوصل إِلَى مَعْرفَته وَاجِب فَأَما مالم يثبت فَلَيْسَ شرعا لنا فَلَا يلْزمنَا اتِّبَاعه والكشف عَنهُ، وَرُبمَا قَالُوا لَو كَانَ شرعهم شرعا لوَجَبَ أَن يعرف شرعهم أَو مَعَاني كَلَامهم لجَوَاز أَن يكون هُنَالك مَا هُوَ مَنْسُوخ أَو مَخْصُوص.
وَالْجَوَاب: عَنهُ أَنه إِنَّمَا يجب من شرعهم مَا أخبر الله تَعَالَى عَنهُ وَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنهُ لَفظه مَعْرُوف وَالظَّاهِر أَنه غير مَنْسُوخ وَلَا مَخْصُوص فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ.
قالو الْعِبَادَات فِي شريعتهم مُخْتَلفَة فَلَا يُمكن اتِّبَاع الْجَمِيع فِيهَا فَسَقَطت.
قُلْنَا إِنَّمَا يجب الْمصير عندنَا إِلَى مالم يثبت فِيهِ اخْتِلَاف وَأما مَا اخْتلف فِي ذَلِك عمل بالمتأخر مِنْهُمَا كَمَا يفعل ذَلِك فِي شرعنا.
قَالُوا وَلِأَن كل شَرِيعَة من الشَّرَائِع مُضَافَة إِلَى قوم وَهَذِه الْإِضَافَة تمنع أَن يكون غَيرهم مشاركا لَهُم فِيهَا.
قُلْنَا مَا أنكرتم أَن يكون أضيف كل شرع من ذَلِك إِلَى قوم لأَنهم أول من خوطبوا بِهِ فَعرف الشَّرْع بهم وَأسْندَ إِلَيْهِم وَيحْتَمل أَن يكون أضيف كل شرع إِلَى قوم لأَنهم متعبدون بِجَمِيعِهِ وَغَيرهم يشاركهم فِي بعض الْأَحْكَام فَلم يضف إِلَيْهِم وَإِذا احْتمل أَن تكون الْإِضَافَة لما ذكرنَا سقط التَّعْلِيق بِهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام متعبدا بشريعة من قبلنَا لوَجَبَ أَن لَا يقف الظِّهَار وَالْمِيرَاث لانتظار الْوَحْي لِأَن هَذِه الْحَوَادِث أَحْكَامهَا فِي التَّوْرَاة ظَاهِرَة.
قُلْنَا إِنَّمَا توقف لِأَن التَّوْرَاة مُغيرَة مبدلة فَلم يُمكن الرُّجُوع إِلَى مَا فِيهَا فانتظر الحكم من جِهَة الْوَحْي، وعَلى أَنه إِن كَانَ فِي بعض الْأَحْكَام توقف فَفِي بَعْضهَا عمل بِمَا ثَبت من شرع من قبله أَلا ترى أَنه صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس بشرع من قبله فَسقط مَا قَالُوا.

.مسَائِل الْأَخْبَار:

.مَسْأَلَة: (1) للْخَبَر صِيغَة تدل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ فِي اللُّغَة:

وَقَالَت الأشعرية: لَيْسَ للْخَبَر صِيغَة تدل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الْخَبَر إِنَّمَا يصير خَبرا بِشَرْط أَن يَنْضَم إِلَى اللَّفْظ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار بِهِ كَمَا قَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي.
لنا هُوَ أَن أهل اللِّسَان قسموا الْكَلَام فَقَالُوا أَمر وَنهي وَخبر واستخبار.
فَالْأَمْر قَوْلك "افْعَل"
وَالنَّهْي قَوْلك "لَا تفعل"
وَالْخَبَر قَوْلك "زيد فِي الدَّار"
والاستخبار قَوْلك "أَزِيد فِي الدَّار"
وَهَذَا يدل على أَن اللَّفْظ مَوْضُوع للْخَبَر يدل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذِه الصِّيغَة ترد وَيُرَاد بهَا الْخَبَر كَمَا قُلْتُمْ وَترد وَالْمرَاد بهَا غير الْخَبَر كَقَوْلِه تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} فَإِذا ورد مُطلقًا وَجب التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى يدل الدَّلِيل عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة كاللون وَالْعين وَغَيرهمَا.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا مَوْضُوع بِإِطْلَاقِهِ للْخَبَر وَيسْتَعْمل فِي غَيره بِدَلِيل كَمَا قُلْنَا فِي الْبَحْر إِنَّه مَوْضُوع بِإِطْلَاقِهِ للْمَاء الْكثير الْمُجْتَمع وَيسْتَعْمل فِي الرجل الْجواد بِدَلِيل كَذَلِك هَاهُنَا.

.مَسْأَلَة: (2) يَقع الْعلم بالأخبار المتواترة:

وَقَالَت البراهمة لَا يَقع الْعلم بالأخبار المتواترة.
لنا هُوَ أَن الْإِنْسَان يجد نَفسه عَالِمَة بِمَا يسمع من أَخْبَار الْبلدَانِ النائية والأمم السالفة كَمَا يجدهَا عَالِمَة بِمَا يحس بهَا من المحسوسات وَمن أنكر ذَلِك كَانَ بِمَنْزِلَة من أنكر المشاهدات.
وَاحْتَجُّوا أَن كل وَاحِد من الْعدَد الْمُتَوَاتر يجوز عَلَيْهِ الصدْق وَالْكذب فَإِذا انْضَمَّ بَعضهم إِلَى بعض لم يتَغَيَّر حَاله فِي خَبره فَوَجَبَ أَن لَا يَقع الْعلم بخبرهم.
قُلْنَا لَيْسَ إِذا جَازَ ذَلِك على كل وَاحِد مِنْهُم إِذا انْفَرد جَازَ عَلَيْهِم الِاجْتِمَاع أَلا ترى أَن كل وَاحِد من الْجَمَاعَة إِذا انْفَرد يجوز أَن يعجز عَن حمل الشَّيْء الثقيل ثمَّ لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن ذَلِك عِنْد الِاجْتِمَاع؛ وَلِأَنَّهُ عِنْد الِانْفِرَاد يجوز أَن يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى الْكَذِب فيكذب وَعند الِاجْتِمَاع لَا يجوز أَن تتفق دواعيهم على الْكَذِب.
قَالُوا وَلِأَن كل وَاحِد مِنْهُم عِنْد الِاجْتِمَاع يقدر على الْكَذِب كَمَا يقدر عِنْد الِانْفِرَاد فَإِذا لم يَقع الْعلم بخبرهم حَال الِانْفِرَاد لم يَقع على الِاجْتِمَاع.
قُلْنَا وَإِن كَانُوا قَادِرين على الْكَذِب إِلَّا أَنه مَعَ كثرتهم وَاخْتِلَاف هممهم لَا يتفقون على فعله كَمَا أَن كل وَاحِد مِنْهُم يقدر على السّرقَة وَالزِّنَا وَالْقَتْل وَلَا يتفقون على فعلهَا.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ اتِّفَاق الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة على الْخَطَأ من حَيْثُ الِاجْتِهَاد وهم أَصْحَاب الطبائع والفلاسفة جَازَ اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي خبرهم.
قُلْنَا ذَاك يدْرك بِالِاجْتِهَادِ فَجَاز أَن يغلطوا فِيهِ وَالْخَبَر طَرِيقه السماع والمشاهدة فَلَا يجوز أَن يتَّفق الْخلق الْعَظِيم على الْخَطَأ فِيهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يَقع بالأخبار لوَجَبَ أَن يَقع الْعلم بِخَبَر الْيَهُود عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّصَارَى عَن عِيسَى وَالْمَجُوس عَن إِدْرِيس وَالرَّوَافِض عَن أئمتها.
قُلْنَا من شَرط التَّوَاتُر أَن يكون النقلَة عددا لَا يَصح التواطؤ مِنْهُم على الْكَذِب وَأَن يَسْتَوِي طرفاه ووسطه وَهَذِه الشُّرُوط لم تتكامل فِيمَا يَرْوُونَهُ هَؤُلَاءِ لِأَن روايتهم ترجع إِلَى عدد يسير فَلهَذَا لم يَقع الْعلم بخبرهم.
قَالُوا لَو كَانَ الْعلم يَقع بالْخبر الْمُتَوَاتر لوَجَبَ إِذا تعَارض خبران على التَّوَاتُر أَن يَقع بِهِ علمَان متضادان وَهَذَا محَال.
قُلْنَا لَا يتَصَوَّر أَن يتَّفق خبران فِي شَيْء وَاحِد متضادان فَسقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (3) الْعلم الَّذِي يَقع بالْخبر الْمُتَوَاتر ضَرُورَة:

وَقَالَ الْبَلْخِي من الْمُعْتَزلَة الْعلم الَّذِي يَقع بِهِ اكْتِسَاب وَهُوَ قَول الدقاق.
لنا هُوَ أَن مَا يعلم الْإِنْسَان بذلك من أَخْبَار الْبِلَاد النائية والأمم السالفة يُعلمهُ علما لَا يُمكنهُ نَفْيه بِالشَّكِّ والشبهة فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْعلم الْوَاقِع بالحواس، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يَقع بهَا من جِهَة الِاسْتِدْلَال لوَجَبَ أَن لَا يَقع بهَا للصبيان؛ لِأَنَّهُ لَا يَصح مِنْهُم النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَلما وَقع لَهُم الْعلم بذلك دلّ على أَن الْعلم بهَا يَصح ضَرُورَة.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقع الْعلم بِهِ ضَرُورَة لاشترك النَّاس كلهم فِي إِدْرَاكه وَلما رَأينَا الْعُقَلَاء يُنكرُونَ الْعلم بِهِ دلّ على أَن الْعلم من جِهَته عَن اسْتِدْلَال.
قُلْنَا نَحن لَا نعتد بِخِلَاف من خَالف فِي ذَلِك كَمَا لَا نعتد بِخِلَاف من خَالف فِي المحسوسات من السوفسطائية.
ثمَّ لَو جَازَ أَن يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على نفي الْعلم بِهِ ضَرُورَة لجَاز أَن يَجْعَل خلاف من خَالف فِي المحسوسات دَلِيلا على أَن الْعلم لَا يَقع من جِهَة الْحَواس ضَرُورَة وَلما بَطل هَذَا بِالْإِجْمَاع بَطل مَا قَالُوهُ أَيْضا.
قَالُوا وَلِأَن الْإِنْسَان يسمع الشَّيْء من الْوَاحِد والاثنين وَلَا يَقع بِهِ الْعلم إِلَى أَن يتكاثروا فيبلغوا التَّوَاتُر فَيَقَع لَهُ حِينَئِذٍ الْعلم فَكَانَ ذَلِك اسْتِدْلَالا كَالْعلمِ الْوَاقِع بِالنّظرِ فِي الْعَالم وَالِاسْتِدْلَال على حَدثهُ.
قُلْنَا لَيْسَ إِذا لم يَقع الْعلم فِي ابْتِدَاء السماع لم يكن الْعلم الْحَاصِل لَهُ عِنْد الِانْتِهَاء ضَرُورَة أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يرى الشَّيْء من بعيد فَلَا يَقع لَهُ الْعلم بِهِ على التَّفْصِيل ثمَّ يقرب مِنْهُ فَيعلم حَقِيقَته على التَّفْصِيل ثمَّ لَا يُقَال إِن ذَلِك الْعلم اسْتِدْلَال.
قَالُوا وَلِأَن الْعلم لَا يَقع بأخبارهم إِلَّا على صِفَات تصحبهم يسْتَدلّ بهَا على صدقهم فَصَارَ كَالْعلمِ بِحَدَث الْعَالم لما وَقع عَن الصِّفَات الَّتِي تصْحَب الْعَالم من الِاجْتِمَاع والافتراق كَانَ اكتسابا فَكَذَلِك هَاهُنَا.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الْأَخْبَار وَإِن اعْتبر فِيهَا صِفَات إِلَّا أَن الْعلم بصدقهم لَا يفْتَقر إِلَى اعْتِبَار الصِّفَات أَلا ترى أَنه يجوز أَن يَقع الْعلم لمن لَا ينظر فِي الصِّفَات وَيُخَالف هَذَا الْعلم الْوَاقِع عَن الْعَالم فَإِن بذلك لَا يَقع إِلَّا بعد النّظر فِي الْمعَانِي الَّتِي تصْحَب الْعَالم وَالِاسْتِدْلَال بهَا فَلذَلِك كَانَ اكتسابا وَفِي الْأَخْبَار يَقع الْعلم من غير نظر وَاعْتِبَار فَافْتَرقَا.

.مَسْأَلَة: (4) لَيْسَ فِي التَّوَاتُر عدد مَحْصُور:

وَقَالَ بعض النَّاس: هم خَمْسَة فَصَاعِدا ليزيدوا على عدد الشُّهُود وَهُوَ قَول الجبائي.
وَقَالَ بَعضهم: اثْنَا عشر بِعَدَد النُّقَبَاء.
وَقَالَ بَعضهم: سَبْعُونَ بِعَدَد أَصْحَاب مُوسَى.
وَقَالَ بَعضهم: ثَلَاثمِائَة وَكسر بِعَدَد أَصْحَاب رَسُول الله يَوْم بدر.
لنا هُوَ أَن التَّوَاتُر مَا وَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بِخَبَرِهِ وَهَذَا لَا يخْتَص بِعَدَد وَإِنَّمَا يُوجد ذَلِك فِي جمَاعَة لَا يَصح مِنْهَا التواطؤ على الْكَذِب فَوَجَبَ أَن يكون الِاعْتِبَار بذلك؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك يَقْتَضِي عددا محصورا لاقتضى اعْتِبَار صفتهمْ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَة وَلما لم تعْتَبر صِفَات الروَاة وَلم تخْتَلف باخْتلَاف حَالهم من الْكفْر وَالْإِسْلَام وَالْعَدَالَة والفسوق دلّ على أَنه لَا اعْتِبَار فِيهِ بِعَدَد مَحْصُور.
وَأما المخالفون فَلَيْسَ لَهُم شُبْهَة يرجعُونَ إِلَيْهَا إِلَّا هَذِه الْأَعْدَاد الَّتِي وَردت فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذكروها وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا لَيْسَ مَعَهم أَن هَذِه الْأَعْدَاد اعْتبرت فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذكروها للتمييز بَين مَا يُوجب الْعلم وَبَين مَالا يُوجب وَإِذا لم يثبت هَذَا لم يتم الدَّلِيل.

.مَسْأَلَة: (5) لَا يعْتَبر الْإِسْلَام فِي رُوَاة التَّوَاتُر وَيَقَع الْعلم بتواتر الْكفَّار:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يَقع الْعلم بتواتر الْكفَّار.
وَمِنْهُم من قَالَ إِن لم يطلّ الزَّمَان وَقع وَإِن طَال الزَّمَان وَأمكن وُقُوع المراسلة والتواطؤ لم يَقع.
لنا أَن الْعلم يَقع للسامع بأخبارهم إِذا وجدت على الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة كَمَا يَقع بأخبار الْمُسلمين فَدلَّ على أَنه لَا اعْتِبَار بِالْإِسْلَامِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لما اخْتصَّ الْمُسلمُونَ بِالْإِجْمَاع وَجب أَن يختصوا بالتواتر أَيْضا.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا جمع من غير عِلّة فَلَا يلْزم على أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا صَار حجَّة بِالشَّرْعِ وَالشَّرْع ورد فِي الْمُسلمين دون الْكفَّار وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَخْبَار فَإِنَّهَا توجب الْعلم من طَرِيق الْعَادة وَمَا طَرِيقه الْعَادة لَا يخْتَلف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقع الْعلم بتواترهم لوقع لنا الْعلم بِمَا أخْبرت بِهِ النَّصَارَى من صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلما لم يَقع لنا الْعلم بذلك دلّ على أَن خبرهم لَا يُوجب الْعلم.
قُلْنَا إِنَّمَا لم يَقع هُنَاكَ الْعلم لِأَن شَرَائِط التَّوَاتُر فِيهِ لم تتكامل وَهُوَ اسْتِوَاء طرفِي الْعدَد ووسطه فَإِن النَّقْل فِي الأَصْل يرجع إِلَى عدد يسير فَلم يَقع الْعلم بخبرهم وَفِي مَسْأَلَتنَا تكاملت شَرَائِط الْخَبَر من اسْتِوَاء طرفِي الْعدَد وَالْوسط فَوَقع بِهِ الْعلم.

.مَسْأَلَة: (6) أَخْبَار الْآحَاد لَا توجب الْعلم:

وَقَالَ بعض أهل الظَّاهِر توجب الْعلم.
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث فِيهَا مَا يُوجب الْعلم كَحَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَمَا أشبهه، وَقَالَ النظام فِيهَا مَا يُوجب الْعلم وَهُوَ مَا قارنه سَبَب.
لنا هُوَ أَنه لَو كَانَ خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم لأوجب خبر كل وَاحِد وَلَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ أَن يَقع الْعلم بِخَبَر من يَدعِي النُّبُوَّة وَمن يَدعِي مَالا على غَيره وَلما لم يقل هَذَا أحد دلّ على أَنه لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجب الْعلم؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم لما اعْتبر فِيهِ صِفَات الْمخبر من الْعَدَالَة وَالْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَغير ذَلِك كَمَا لم يعْتَبر ذَلِك فِي أَخْبَار التَّوَاتُر؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يُوجب الْعلم لوَجَبَ أَن يَقع التبري بَين الْعلمَاء فِيمَا فِيهِ خبر وَاحِد كَمَا يَقع التبري فِيمَا فِيهِ خبر متواتر؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يُوجب الْعلم لوَجَبَ إِذا عَارضه خبر متواتر أَن يتعارضا وَلما ثَبت أَنه يقدم عَلَيْهِ الْمُتَوَاتر دلّ على أَنه غير مُوجب للْعلم؛ وَأَيْضًا هُوَ أَنه يجوز السَّهْو وَالْخَطَأ وَالْكذب على الْوَاحِد فِيمَا نَقله فَلَا يجوز أَن يَقع الْعلم بخبرهم.
وَاحْتج أهل الظَّاهِر بِأَنَّهُ لَو لم يُوجب الْعلم لما وَجب الْعَمَل بِهِ إِذْ لَا يجوز الْعَمَل بِمَا لَا يُعلمهُ وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه لَا يمْتَنع أَن يجب الْعَمَل بِمَا لَا يُوجب الْعلم كَمَا يَقُولُونَ فِي شَهَادَة الشُّهُود وَخبر الْمُفْتى وترتيب الْأَدِلَّة بَعْضهَا على بعض فَإِنَّهُ يجب الْعَمَل بذلك كُله وَإِن لم يُوجب الْعلم، وَأما قَوْله عز وَجل {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِهِ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم من طَرِيق الْقطع وَلَا من طَرِيق الظَّاهِر وَمَا يخبر بِهِ الْوَاحِد وَإِن لم يقطع بِهِ فَهُوَ مَعْلُوم من طَرِيق الظَّاهِر وَالْعَمَل بِهِ عمل بِالْعلمِ.
وَاحْتج أَصْحَاب الحَدِيث بِأَن أَصْحَاب هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها لَا يجوز أَن تكون كلهَا كذبا وَإِذا وَجب أَن يكون فِيهَا صَحِيح وَجب أَن يكون ذَلِك مَا اشْتهر طَرِيقه وَعرفت عَدَالَة رُوَاته.
قُلْنَا يبطل بِهِ إِذا اخْتلف عُلَمَاء الْعَصْر فِي حَادِثَة على أَقْوَال لَا يحْتَمل غَيرهَا فَإنَّا نعلم أَنه لَا يجوز أَن تكون كلهَا بَاطِلا ثمَّ لَا يُمكن أَن نقطع بِصِحَّة وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَاحْتج النظام بِأَن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم وَهُوَ إِذا أقرّ على نَفسه بِمَا يُوجب الْقَتْل وَالْقطع فَيَقَع الْعلم بِهِ لكل من سمع مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِذا خرج الرجل من دَاره مخرق الثِّيَاب وَذكر أَن أَبَاهُ مَاتَ وَقع الْعلم لكل من سمع ذَلِك مِنْهُ فَدلَّ على أَن فِيهِ مَا يُوجب الْعلم.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن لَا نسلم أَن الْعلم يَقع بِسَمَاعِهِ لِأَنَّهُ يجوز أَن يظْهر ذَلِك لغَرَض وَجَهل يحمل عَلَيْهِ وَقد شوهد من قتل نَفسه بِيَدِهِ وصلب نَفسه وَأخْبر بِمَوْت أَبِيه لغَرَض يصل إِلَيْهِ وَأمر يلتمسه فَإِذا احْتمل مَا ذَكرْنَاهُ لم يجز أَن يَقع الْعلم بِهِ.

.مَسْأَلَة: (7) يجوز التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد:

وَقَالَ بعض أهل الْبدع لَا يجوز ذَلِك من جِهَة الْعقل.
لنا هُوَ أَنه إِذا جَازَ فِي الْعقل أَن يعلق وجوب الْعِبَادَات على شَرَائِط إِذا وجدت تعلق بهَا الْوُجُوب جَازَ أَن يعلق وجوب الْعِبَادَة على مَا يخبر بِهِ الْعدْل وَلَا فرق بَينهمَا؛ وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يكون فرض الْإِنْسَان مَا يخبر بِهِ الْمُفْتِي وَيشْهد بِهِ الشَّاهِد وان جَازَ عَلَيْهِم السَّهْو وَالْخَطَأ وَلم يقبح ذَلِك فِي الْعقل جَازَ أَن يرد التَّعَبُّد بِالرُّجُوعِ الى قَوْله فِي احكام الشَّرْع؛ وَلِأَن مَا يُفْتى بِهِ الْمُفْتِي اخبار عَن دَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع وَرُبمَا كَانَ ذَلِك نصا وَرُبمَا كَانَ استنباطا فَإِذا جَازَ الرُّجُوع إِلَى خَبره مَعَ الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلِأَن يجوز الرُّجُوع إِلَى خبر من روى قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى؛ وَلِأَن الشَّرْع قد ورد بالتعبد بِهِ وَنحن ندل عَلَيْهِ وَلَو لم يجز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ لما ورد.
وَاحْتَجُّوا بِأَن التَّكْلِيف لَا يجوز أَن يتَعَلَّق إِلَّا بِمَا فِيهِ الْمصلحَة للمكلف، والمصلحة لَا يعلمهَا إِلَّا الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا كَانَ الْمخبر عَنْهُمَا وَاحِدًا لم نعلم الْمصلحَة لِأَنَّهُ يجوز عَلَيْهِ السَّهْو وَالْخَطَأ فَوَجَبَ أَن لَا يقبل.
قُلْنَا الْمصلحَة تتَعَلَّق بِمَا علق التَّكْلِيف عَلَيْهِ وَهُوَ خبر الْعدْل وَإِذا وجدنَا ذَلِك علمنَا مَا تعلق بِهِ الْمصلحَة وَإِن لم نعلم حَقِيقَة الْحَال فِيمَا أخبر بِهِ وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الْحَاكِم إِذا شهد عِنْده شَاهِدَانِ بِحَق ثَبت عِنْده عدالتهما جَازَ لَهُ أَن يحكم بِهِ وَكَانَ ذَلِك الحكم الَّذِي أوجب الله تَعَالَى وَإِن لم يعلم حَال الْمَشْهُود بِهِ فِي الْبَاطِن.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَنه لَو كَانَ هَذَا طَرِيقا فِي رد الْخَبَر لوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك طَرِيقا فِي رد الْفَتْوَى فَيُقَال إِن التَّعَبُّد لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِمَا فِيهِ مصلحَة الْمُكَلف وَذَلِكَ لَا يعلم بقول الْوَاحِد فَيجب أَن لَا يقبل وَلما لم يَصح أَن يُقَال هَذَا فِي الْفَتْوَى لم يَصح أَن يُقَال ذَلِك فِي الْأَخْبَار؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خبر الْوَاحِد لَا يجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف لجَوَاز السَّهْو وَالْخَطَأ على الْمخبر لوَجَبَ أَن لَا يجوز التَّعَبُّد بطرِيق الِاجْتِهَاد وَبِنَاء دَلِيل على دَلِيل وترتيب لفظ على لفظ لِأَن السَّهْو وَالْخَطَأ فِي ذَلِك كُله يجوز وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَبَطل مَا قَالُوهُ.
قَالُوا لَو جَازَ التَّعَبُّد بِمَا يخبر بِهِ الْوَاحِد وَإِن لم يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ لجَاز أَن يقبل خبر الْفَاسِق وَالْمَجْنُون.
قُلْنَا لَو ورد التَّعَبُّد بقبوله لقبلناه ثمَّ لَيْسَ إِذا لم يقبل من الْفَاسِق وَالْمَجْنُون لم يقبل مِمَّن لَا يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ كَمَا تَقول فِي الشَّهَادَة وَالْفَتْوَى لَا تقبل من الْفَاسِق وَالْمَجْنُون ثمَّ تقبل مِمَّن لَا يَقع الْعلم بِخَبَرِهِ؛ وَلِأَن الْعُقَلَاء يرجعُونَ إِلَى من يوثق بِخَبَرِهِ فِي أُمُورهم وَلَا يرجعُونَ إِلَى من لَا يوثق بِهِ من المجانين والفساق فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.

.مَسْأَلَة: (8) يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد من جِهَة الشَّرْع:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يجب الْعَمَل بِهِ من جِهَة الْعقل وَالشَّرْع.
وَقَالَ القاساني لَا يجب الْعَمَل بِهِ وَهُوَ قَول ابْن دَاوُد والرافضة.
لنا قَوْله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدَّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فَأوجب الحذر مِمَّا تنذر بِهِ الطَّائِفَة..
فَإِن قيل: وجوب الْإِنْذَار لَا يدل على وجوب الرُّجُوع إِلَى قَول الْمُنْذر وَحده بل يجوز أَن يفْتَقر الرُّجُوع إِلَى آخر كَمَا يجب على الشَّاهِد أَن يشْهد بِمَا عِنْده ثمَّ لَا يجب الْعَمَل بقوله حَتَّى يشْهد مَعَه غَيره.
قيل قد أوجب الْإِنْذَار وَأوجب الحذر من الْمُخَالفَة وَهَذَا يَقْتَضِي وجوب الحذر بِمُجَرَّد الْإِنْذَار.
فَإِن قيل: الحذر هُوَ أَن ينظر وَيعْمل بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل لَا أَن يعْمل بِمَا أخبر بِهِ.
قيل إِذا تعلق الْوَعيد بترك أَمر فالحذر عَن مُخَالفَته هُوَ أَن يفعل ذَلِك الشَّيْء فَأَما إِذا لم يفعل فَلم يحذر فَلم يكن ممتثلا لما اقْتَضَاهُ الظَّاهِر.
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فَدلَّ على أَنه إِذا جَاءَهُ عدل لم يتَبَيَّن فِي خَبره.
وَأَيْضًا فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ بعث أَصْحَابه إِلَى الْبلدَانِ أُمَرَاء وعمالا وقضاة وَاحِدًا وَاحِدًا وَلَو لم يجز الْعَمَل بِخَبَر كل وَاحِد مِنْهُم لما بَعثهمْ آحادا.
فَإِن قيل: يجوز أَن يكون قد بَعثهمْ إِلَى قوم فِي أَحْكَام علموها بالتواتر قبل بعثة الرَّسُول كَمَا علمُوا فِي قَوْلكُم وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد قبل بعث الرُّسُل.
قيل لَو كَانَ نقل إِلَيْهِم فِي ذَلِك تَوَاتر لنقل إِلَيْنَا وعلمناه كَمَا علمنَا كل مَا تَوَاتر بِهِ الْخَبَر وَأما وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فقد علموه بِمَا تَوَاتر بِهِ الْخَبَر من بعثة الرُّسُل إِلَى كل جِهَة.
فَإِن قيل: فقد كَانَ أَيْضا يبْعَث وَيَدْعُو إِلَى الْإِيمَان وَإِن لم يكن مَعْلُوما من جِهَة الرُّسُل فَكَذَلِك فِي الْأَحْكَام.
قيل عندنَا لم يعلم وجوب الْإِيمَان إِلَّا من جِهَة الشَّرْع وَعِنْدهم يعلم ذَلِك بِالْعقلِ فَبعث من ينبههم على أَعمال الْفِكر وَالنَّظَر فِي الدَّلِيل وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُم عمِلُوا بأخبار الْوَاحِد فِي مسَائِل مُخْتَلفَة وَأَحْكَام شَتَّى.
روى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ عمل بِخَبَر الْمُغيرَة وَمُحَمّد بن مسلمة فِي مِيرَاث الْجدّة.
وَعمل عمر رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر عبد الرَّحْمَن فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس وبخبر حمل بن مَالك فِي دِيَة الْجَنِين وَقَالُوا لَوْلَا هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ.
وَبِحَدِيث الضَّحَّاك بن سُفْيَان فِي تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا.
وَعمل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر فريعة بنت مَالك فِي سُكْنى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا.
وَعَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ كَانَ إِذا حَدثنِي أحد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء أحلفته فَإِن حلف صدقته إِلَّا أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ حَدثنِي وَصدق أَبُو بكر.
وَعمل ابْن عمر فِي ترك المخابرة بِحَدِيث رَافع بن خديج.
وَعمل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الرِّبَا فِي النَّقْد.
وَعمل زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ بِخَبَر امْرَأَة من الْأَنْصَار أَن الْحَائِض تنفر بِغَيْر وداع.
وَعَلمُوا كلهم بِحَدِيث أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِن الْأَئِمَّة من قُرَيْش وَبِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي التقاء الختانين فَدلَّ على وجوب الْعَمَل بِهِ.
فَإِن قيل: هَذِه أَخْبَار آحَاد فَلَا يحْتَج بهَا فِي إِثْبَات خبر الْوَاحِد.
قيل هَذَا تَوَاتر من طَرِيق الْمَعْنى فَإِنَّهَا وَإِن وَردت فِي قصَص مُخْتَلفَة فَهِيَ متفقة على إِثْبَات خبر الْوَاحِد فَصَارَ ذَلِك كالأخبار المتواترة فِي سخاء حَاتِم وشجاعة عَليّ كرم الله وَجهه.
فَإِن قيل: يجوز أَن يكون قد علمُوا بذلك لأسباب اقترنت بهَا.
قيل لم ينْقل غير الْأَخْبَار وَالرُّجُوع إِلَيْهَا فَمن ادّعى زِيَادَة على ذَلِك احْتَاجَ إِلَى دَلِيل؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هُنَاكَ سَبَب آخر يُوجب الْعَمَل بِهِ لنقل وَلم يخل بِهِ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا رجعُوا إِلَى تِلْكَ الْأَخْبَار لِأَنَّهَا نقلت بِحَضْرَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يُنكر على رواتها فَصَارَ ذَلِك إِجْمَاعًا مِنْهُم على قبُولهَا فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهَا لأجل الْإِجْمَاع.
قيل لَو كَانَت تِلْكَ الْأَخْبَار عِنْد جَمَاعَتهمْ لما أشكلت عَلَيْهِم الْأَحْكَام قبل رِوَايَتهَا.
فَإِن قيل: إِن كَانَ قد نقل عَنْهُم الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فقد نقل عَنْهُم أَيْضا الرَّد لخَبر الْوَاحِد، أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يقبل خبر الْمُغيرَة حَتَّى شهد مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة.
ورد عمر رَضِي الله عَنهُ خبر أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى شهد مَعَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
ورد عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام حَدِيث أبي سِنَان فِي المفوضة.
قيل قبولهم على مَا بَيناهُ دَلِيل على وجوب الْعَمَل بِهِ وردهم لَا يدل على أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ لِأَنَّهُ يجوز الرَّد إِذا وجد عِلّة تَقْتَضِي الرَّد، أَلا ترى أَن الْخَبَر الْمُتَوَاتر يجب الْعَمَل بِهِ بِالْإِجْمَاع ثمَّ رددنا تَوَاتر النَّصَارَى أَن الْمَسِيح صلب وَلَا يمْنَع ذَلِك الْعَمَل بالمتواتر لَا سِيمَا وَقد روى فِي بعض الْمَوَاضِع الَّتِي ذكروها الْعلَّة الَّتِي اقْتَضَت الرَّد والتوقف فَروِيَ عَن عمر أَنه قَالَ فِي الاسْتِئْذَان لأبي مُوسَى فعلت ذَلِك لكَي لَا يجترأ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي خبر أبي سِنَان أَعْرَابِي بوال على عَقِبَيْهِ أَي لَا يعرف الْأَحْكَام فَلَا يعول على رِوَايَته، وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه إِخْبَار عَن حكم شَرْعِي فَوَجَبَ قبُول خبر الْوَاحِد فِيهِ كالفتوى؛ وَلِأَنَّهُ لَو لم يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لوَجَبَ أَن يكون مَا بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام طول عمره يخْتَص بِهِ من سمع ذَلِك مِنْهُ لَا يلْزم غَيره اعْتِقَاده وَالْعَمَل بِهِ لِأَنَّهُ لم ينْقل إِلَى غَيره نقل تَوَاتر وَهَذَا لَا يَقُوله أحد.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَمَا أخبر بِهِ الْوَاحِد لَا علم لَهُ بِهِ فَيجب أَن لَا يقفو.
قُلْنَا إِن كَانَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عملا بِمَا لَا علم لَهُ بِهِ فَرده أَيْضا عمل بِمَا لَا علم لَهُ بِهِ فَيجب أَن لَا يرد وعَلى أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عندنَا عمل لما يُعلمهُ لِأَن الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ مُوجب للْعلم قَاطع للْعُذْر وَإِن كَانَ مَا يخبر بِهِ يجوز فِيهِ الصدْق وَالْكذب وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الرُّجُوع إِلَى قَول الشَّاهِد وَقَول الْمُفْتِي إِنَّه رُجُوع إِلَى الْعلم وَالْعَمَل بِهِ وَإِن كَانَ مَا يشْهد بِهِ الشَّاهِد ويفتى بِهِ الْمُفْتِي يجوز أَن يكون صَحِيحا وَيجوز أَن يكون بَاطِلا.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يقبل من غير دَلِيل لوَجَبَ أَن يقبل قَول من ادّعى النُّبُوَّة من غير دَلِيل.
قُلْنَا نعارضكم بِمثلِهِ فَنَقُول وَلَو جَازَ رد خبر الْوَاحِد من غير دَلِيل لجَاز رد قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من غير دَلِيل؛ وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يقبل قَول الْمُفْتِي وَخبر الشَّاهِد من غير حجَّة وَإِن لم تقبل دَعْوَى النُّبُوَّة من غير حجَّة جَازَ أَيْضا أَن يقبل خبر الْوَاحِد وَإِن لم تقبل دَعْوَى النُّبُوَّة من غير حجَّة، وعَلى أَن خبر الْوَاحِد لَا يقبل إِلَّا بِدَلِيل وَهُوَ مَا دللنا بِهِ على وجوب الْعَمَل بِهِ من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَيُخَالف دَعْوَى النُّبُوَّة فَإِن هُنَاكَ لَو نعلم نبوته إِلَّا من جِهَته وَلم يقم دَلِيل على صِحَّته فَلم يثبت وَهَاهُنَا الشَّرْع قد ثَبت قبله وَعلم من جِهَته قبُوله فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ قبُول خبر الْوَاحِد فِي فروع الدَّين لجَاز قبُوله فِي الْأُصُول من التَّوْحِيد وَإِثْبَات الصِّفَات.
قُلْنَا فِي مسَائِل الْأُصُول أَدِلَّة توجب الْقطع من طَرِيق الْعقل فَلَا يعدل عَنْهَا إِلَى خبر الْوَاحِد كَمَا أَن من عاين الْقبْلَة لَا يرجع إِلَى الِاجْتِهَاد فِي طلبَهَا وَلَيْسَ كَذَلِك الْفُرُوع فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا طَرِيق يُوجب الْقطع فَجَاز الرُّجُوع فِيهَا إِلَى الظَّن كَمَا نقُول فِي الْغَائِب عَن الْقبْلَة.
قَالُوا وَلِأَن بَرَاءَة الذِّمَّة متيقنة وَخبر الْوَاحِد مَوضِع شكّ فَلَا يجوز إِزَالَة الْيَقِين بِالشَّكِّ.
قُلْنَا نَحن لَا نزيل الْيَقِين إِلَّا بِيَقِين مثله وَوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يَقِين وَإِن كَانَ مَا تضمنه غير مُتَيَقن؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا فِي رد الْخَبَر لوَجَبَ أَن يَجْعَل طَرِيقا فِي إبِطَال الشَّهَادَة والفتاوى فَيُقَال بَرَاءَة الذِّمَّة متيقنة وَالشَّهَادَة وَالْفَتْوَى مَوضِع شكّ وشبهة فَلَا يتْرك الْيَقِين بِالشَّكِّ، وعَلى أَن حكم الأَصْل غير مُتَيَقن بعد وُرُود الْخَبَر بل هُوَ حَال شكّ وشبهة لأَنا نجوز أَن يكون الْأَمر قد تغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الأَصْل فَلَا يكون الْعَمَل بالْخبر إِزَالَة يَقِين بِالشَّكِّ.
قَالُوا وَلِأَن الْمخبر كالمفتي ثمَّ ثَبت أَن مَا يُفْتِي بِهِ الْمُفْتِي لَا يلْزم الْعَالم الْعَمَل بِهِ حَتَّى يعلم صِحَّته فَكَذَلِك مَا يخبر الْمخبر يجب أَن لَا يلْزم الْعَمَل بِهِ حَتَّى تعلم صِحَّته.
قُلْنَا إِن كَانَ لَا يجوز للْعَالم أَن يعْمل بفتواه قبل الْعلم بِصِحَّتِهِ فَيجوز للعامي أَن يعْمل بِهِ قبل الْعلم بِصِحَّتِهِ فَلَيْسَ لَهُم أَن يتعلقوا بِأحد الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا وَلنَا أَن نتعلق بالفريق الآخر؛ وَلِأَن الْعَالم لَا مشقة عَلَيْهِ فِي معرفَة مَا أفتى بِهِ لِأَن لَهُ اجْتِهَادًا يرجع إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإنَّا لَو ألزمنا النَّاس أَن يعرفوا مَا سَمِعُوهُ من الْأَخْبَار من طَرِيق التَّوَاتُر لشق على النَّاس فَصَارَ بمنزلتهم فِي ذَلِك من الْفَتْوَى منزلَة الْعَاميّ لما شقّ عَلَيْهِم الِانْقِطَاع إِلَى الْفِقْه جوز لَهُم التَّقْلِيد فِي الْفَتْوَى وَإِن لم يعلمُوا صِحَة مَا أفتوا بِهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِبا لوَجَبَ التَّوَقُّف عَنهُ وَعَن سَائِر أَدِلَّة الشَّرْع لِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد جوز أَن يكون هُنَاكَ مَا هُوَ أولى من أَخْبَار الْآحَاد فَيحْتَاج أَن يتَوَقَّف عَن الْعَمَل بِهِ حَتَّى يُحِيط علمه بِجَمِيعِ مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَن يكون الْعَمَل بِهِ بَاطِلا.
قُلْنَا لَو كَانَ تَجْوِيز مَا هُوَ أولى مِنْهُ من الْأَدِلَّة يجوز أَن يمْنَع الْعَمَل بِمَا وَقع إِلَيْهِ مِنْهَا لوَجَبَ أَن لَا يجوز للْحَاكِم أَن يحكم بِشَهَادَة شَاهد وَلَا للعامي أَن يعْمل بفتوى فَقِيه لجَوَاز أَن يكون هُنَاكَ مَا هُوَ أولى مِنْهُ وَلما بَطل هَذَا بَطل مَا ذَكرُوهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يكون هَذَا طَرِيقا للْمَنْع من الْأَخْبَار لوَجَبَ أَن يَجْعَل طَرِيقا إِلَى الْمَنْع من الْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ مَتى رتب دَلِيلا على دَلِيل بِاجْتِهَادِهِ جوز أَن يكون هُنَاكَ مَا هُوَ أولى مِنْهُ فَيُؤَدِّي إِلَى إِبْطَاله وَلما لم يجز أَن يُقَال هَذَا فِي إبِطَال الِاجْتِهَاد لم يجز أَن يُقَال فِي إبِطَال الْأَخْبَار.