فصل: مَسْأَلَة: (27) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين توجب الْحَد وَالْأُخْرَى تسقطه فهما سَوَاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (22) قلب التَّسْوِيَة صَحِيح:

وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول الْمُخَالف فِي مَسْأَلَة النِّيَّة فِي الْوضُوء إِنَّهَا طَهَارَة بمائع فَلم تفْتَقر إِلَى النِّيَّة كإزالة النَّجَاسَة فَيَقُول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أقلب علته فَأَقُول طَهَارَة بمائع فَاسْتَوَى حكمهَا وَحكم الجامد فِي النِّيَّة كإزالة النَّجَاسَة.
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يَصح.
لنا هُوَ أَن الْمُسْتَدلّ بِالْعِلَّةِ مِنْهُمَا لايمكنه الْجمع بَين حكمه وَحكم القالب كَمَا لَو كَانَ مُصَرحًا بِهِ وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الأَصْل وَالْفرع فِي الحكم الْمُعَلق على الْعلَّة سَوَاء وَهُوَ التَّسْوِيَة وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّفْصِيل وَمَتى اتّفق الأَصْل وَالْفرع فِي حكم الْعلَّة صَحَّ الْجمع وَإِن اخْتلفَا فِي التَّفْصِيل يدل عَلَيْهِ أَنه لَو صرح بالحكم لصَحَّ الْقيَاس وَإِن كَانَ حكم الأَصْل مُخَالفا لحكم الْفَرْع فِي التَّفْصِيل فَكَذَلِك هَاهُنَا.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن حكم الْفَرْع فِي مثل هَذَا مُخَالف لحكم الأَصْل، أَلا ترى أَن فِيمَا ذكرنَا من الْمِثَال نُرِيد التَّسْوِيَة بَين الجامد والمائع فِي الأَصْل فِي إِسْقَاط النِّيَّة وَفِي الْفَرْع فِي إِيجَابهَا وَمن حكم الْقيَاس أَن يتَعَدَّى حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع.
قُلْنَا إِن حكم الأَصْل هُوَ التَّسْوِيَة وَقد تعدى ذَلِك إِلَى الْفَرْع وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي كَيْفيَّة التَّسْوِيَة وَكَيْفِيَّة التَّسْوِيَة حكم غير التَّسْوِيَة، يدلك عَلَيْهِ هُوَ أَنه يجوز أَن يرد الشَّرْع بِوُجُوب التَّسْوِيَة ين الجامد والمائع فِي بَاب النِّيَّة فَيَنْقَطِع فِيهِ حكم الِاجْتِهَاد ثمَّ يبْقى النّظر وَالِاجْتِهَاد فِي كَيْفيَّة التَّسْوِيَة بَين الْإِيجَاب والإسقاط وَإِذا ثَبت أَن كَيْفيَّة التَّسْوِيَة غير التَّسْوِيَة لم يلْزم اسْتِوَاء الأَصْل وَالْفرع فيهمَا.
قَالُوا وَلِأَن الْقَصْد من هَذَا الْقلب مُعَارضَة الْمُسْتَدلّ ومساواته فِي الدَّلِيل وقلب التَّسْوِيَة لَا يُسَاوِي عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ لِأَن حكم الْمُسْتَدلّ مُصَرح بِهِ وَحكم القالب مُبْهَم يحْتَاج إِلَى الْبَيَان والمصرح أبدا يقدم على الْمُبْهم كَمَا فعلنَا فِي أَلْفَاظ صَاحب الشَّرْع.
قُلْنَا التَّصْرِيح إِنَّمَا يعْتَبر فِي حكم الْمَطْلُوب بِالدّلَالَةِ لَا فِي حكم آخر وَهَاهُنَا الدّلَالَة هُوَ التَّسْوِيَة وَقد صرح بهَا فِي حكم الْعلَّة كَمَا صرح الْمُعَلل بِحكمِهِ، وعَلى أَن الْمُصَرّح إِنَّمَا يقدم على الْمُبْهم إِذا احْتمل الْمُبْهم الْأَمريْنِ والمصرح بِهِ أَمر وَاحِد فَيقْضى بِمَا لَا يحْتَمل على مَا يحْتَمل كَمَا ذَكرُوهُ فِي أَلْفَاظ صَاحب الشَّرْع وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن قلب التَّسْوِيَة لَا يحْتَمل إِلَّا إبِطَال مَذْهَب الْمُعَلل كَمَا لَا يحْتَمل حكم الْمُعَلل إِلَّا إبِطَال مَذْهَب القالب فَلم يكن لأَحَدهمَا على الآخر مزية كاللفظين الصريحين إِذا تَعَارضا.

.مَسْأَلَة: (23) جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا لَا يمْنَع من صِحَة الْعلَّة وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي ظِهَار الذِّمِّيّ من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ فَيَقُول الْحَنَفِيّ الْمُسلم لم يَصح ظِهَاره لِأَنَّهُ يَصح طَلَاقه بل صَحَّ طَلَاقه لِأَنَّهُ يَصح ظِهَاره:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يمْنَع هَذَا صِحَة الْعلَّة وَهُوَ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر.
لنا أَن علل الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل وَنصب ناصب وَهُوَ صَاحب الشَّرْع وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يمْنَع أَن يَجْعَل صَاحب الشَّرْع كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ أَمارَة للْحكم الآخر فَيَقُول مَتى رَأَيْتُمْ من صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاق فاحكموا لَهُ بِصِحَّة الظِّهَار وَإِذا رَأَيْتُمْ من صَحَّ ظِهَاره فاحكموا لَهُ بِصِحَّة طَلَاقه فَأَيّهمَا رَأينَا صَحِيحا استدللنا بِهِ على صِحَة الآخر وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الشَّرْع قد ورد بِمثل هَذَا أَلا ترى أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر من أعْطى أحد ولديه شَيْئا أَن يُعْطي الآخر مثله فَجعل عَطِيَّة كل وَاحِد مِنْهُمَا دلَالَة وأمارة لعطية الآخر فَأَيّهمَا بَدَأَ بعطيته اقْتضى ذَلِك عَطِيَّة الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يَجْعَل صِحَة كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ دَلِيلا على صِحَة الآخر فَأَيّهمَا رَأَيْنَاهُ صَحِيحا دلنا على صِحَة الآخر.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ إِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة للْآخر وقف ثُبُوت كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر فَلَا يثبت وَاحِد مِنْهُمَا كَمَا لَو قَالَ لَا يدْخل زيد الدَّار حَتَّى يدْخل عَمْرو وَلَا يدْخل عَمْرو حَتَّى يدْخل زيد فَلَا يُمكن دُخُول وَاحِد مِنْهُمَا كَذَلِك هَاهُنَا.
قُلْنَ إِنَّمَا يقف ثُبُوت كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر فِي العقليات لِأَن الحكم الْوَاحِد مِنْهُمَا لَا يجوز أَن يثبت بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة فَإِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة للْآخر وقف كل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر فاستحال ثبوتهما وَأما فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يجوز أَن يثبت الحكم الْوَاحِد مِنْهُمَا بعلل فَإِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة للْآخر لم يقف ثُبُوت كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر لجَوَاز أَن يثبت أَحدهمَا بطرِيق مستدل بِهِ على الحكم الآخر وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ من الدُّخُول فَإِن هُنَاكَ منع أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيق غير دُخُول الآخر فَوقف أَحدهمَا على الآخر وَفِي مَسْأَلَتنَا يجوز أَن يكون لكل وَاحِد من الْحكمَيْنِ أَمارَة غير الآخر يثبت بهَا ثمَّ يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت الحكم الآخر فوزانه أَن نقُول إِن دخل زيد الدَّار فَلْيدْخلْ عَمْرو وَإِن دخل عَمْرو فَلْيدْخلْ زيد ثمَّ دخل أَحدهمَا بِسَبَب من الْأَسْبَاب فَيصير دلَالَة على دُخُول الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قَالُوا إِذا جعلتم كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة للْآخر جعلتم الْمُوجب مُوجبا وَذَلِكَ لَا يجوز.
قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز إِذا جعلنَا كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة مُوجبَة للْآخر فَيصير كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجبا وَنحن لَا نَفْعل ذَلِك وَإِنَّمَا جعلنَا صِحَة كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ أَمارَة وَدلَالَة على صِحَة الآخر وَفِي الدَّلَائِل يجوز أَن يَجْعَل كل وَاحِد من الْأَمريْنِ دَلِيلا على الآخر إِذا كَانَ طَرِيق ثبوتهما وَاحِدًا.
أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ للرجل ولدان جَازَ أَن يسْتَدلّ بِإِرْث كل وَاحِد مِنْهُمَا على إِرْث الآخر فَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا دَلِيلا على الآخر حِين كَانَ طريقهما فِي الِاسْتِحْقَاق وَاحِدًا فَكَذَلِك إِذا عرف من عَادَة الْإِنْسَان أَنه إِذا وهب لأحد بنيه شَيْئا وهب للْآخر مثل ذَلِك جَازَ أَن يسْتَدلّ بعطية كل وَاحِد مِنْهُمَا على عَطِيَّة الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا لما كَانَ ثُبُوت طَرِيق الطَّلَاق وَالظِّهَار النِّكَاح جَازَ أَن يَجْعَل صِحَة كل وَاحِد مِنْهُمَا دَلِيلا على صِحَة الآخر.

.مَسْأَلَة: (24) إِذا تَعَارَضَت فِي الأَصْل عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي حمل الْفَرْع عَلَيْهِ وَالْأُخْرَى لَا تَقْتَضِي حمل الْفَرْع عَلَيْهِ جَازَ القَوْل بهما إِذا لم يتنافيا:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يجوز.
لنا هُوَ أَن الْعِلَل أَمَارَات وعلامات وأدلة فَجَاز أَن يتَّفق إِثْبَات عَام وخاص على إِثْبَات حكم وَاحِد فِي عين وَاحِدَة كالكتاب وَالسّنة؛ وَلِأَن الطري الَّتِي تدل على صِحَة الْعلَّة من النَّص وَالْإِجْمَاع والتأثير قد وجد فِي العلتين جَمِيعًا فَدلَّ على صحتهما.
وَلِأَنَّهُ إِن كَانَت الْعلَّة هِيَ الْمَعْنى الَّتِي تعلق بهَا الصّلاح فِي الحكم كَمَا قَالَ بعض النَّاس: فَيجوز أَن يتَعَلَّق الْعلَّة بِكُل وَاحِد من العلتين وَإِن كَانَت أَمارَة على الحكم كَمَا قَالَ آخَرُونَ فَيجوز أَيْضا أَن تَجْتَمِع أَمَارَات فِي إِثْبَات الحكم فَوَجَبَ أَن يجوز القَوْل بالعلتين.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُمَا يتنافيان فِي الْمَعْنى لِأَن إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي حمل الْفَرْع على الأَصْل وَالْأُخْرَى تمنع من ذَلِك فصارتا كالعلتين المتنافيتين فِي الحكم.
قُلْنَا لَا نسلم أَن بَينهمَا تنافيا.
وَقَوْلهمْ إِن إِحْدَاهمَا تمنع حمل الْفَرْع على الأَصْل غير حصحي لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يمْنَع حمل الْفَرْع على الأَصْل وَإِنَّمَا لَا يتَعَدَّى إِحْدَاهمَا فَأَما أَن يكون هُنَاكَ عِلّة أُخْرَى تَقْتَضِي حمل الْفَرْع على الأَصْل فَلَا يجوز.
قَالُوا وَلِأَن القَوْل بهما يُؤَدِّي إِلَى تنَافِي الحكم فِي الْعلَّة لِأَنَّك إِذا عكست إِحْدَى العلتين فِي الْفَرْع أوجبت ضد حكم الْمُعَلل فَصَارَ كالعلتين المتنافيتين.
قُلْنَا إِن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تَقْتَضِي وجود الحكم لوجودها وَلَا تَقْتَضِي انتفاءه بانتفائها فَلَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَافِي فِي الحكم فِي العلتين.

.مَسْأَلَة: (25) إِذا تَعَارَضَت عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا ناقلة وَالْأُخْرَى مبقية على الأَصْل فالناقلة أولى:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: هما سَوَاء.
لنا هُوَ أَن الناقلة تفِيد حكما شَرْعِيًّا وَالْأُخْرَى لَا تفِيد إِلَّا مَا كَانَ قبل ذَلِك فَكَانَ مَا تفِيد حكما شَرْعِيًّا أولى لِأَنَّهُمَا دليلان تَعَارضا فَقدم النَّاقِل مِنْهُمَا على المبقي كالخبرين.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الناقلة تفِيد تعلق الحكم بِمَعْنى لم يكن مُتَعَلقا بِهِ قبل ذَلِك فَتعلق الحكم بِمَعْنى مُخَالف لبَقَائه بِحكم الأَصْل واستصحاب الْحَال، أَلا ترى أَن بَقَاءَهُ بِحكم الأَصْل لَا يَقع بِهِ تَخْصِيص وَلَا ترك دَلِيل وَنَقله بِالتَّعْلِيلِ يُوجب تَخْصِيص مَا عَارضه من الْعُمُوم وَتَأْويل مَا عَارضه من الظَّوَاهِر.
قُلْنَا يبطل بالخبرين إِذا تَعَارضا وَأَحَدهمَا ناقل وَالْآخر مبق على الأَصْل فَإِن المبقي مِنْهُمَا يُفِيد بَقَاء الحكم بِدَلِيل لَا يُوجب التَّخْصِيص والتأويل ثمَّ يقدم النَّاقِل عَلَيْهِ؛ وَلِأَن الناقلة ساوتها فِي جَمِيع مَا ذَكرُوهُ وانفردت بِأَنَّهَا تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يكن قبل ذَلِك فَوَجَبَ أَن تقدم.

.مَسْأَلَة: (26) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين تَقْتَضِي الْحَظْر وَالْأُخْرَى تَقْتَضِي الْإِبَاحَة فالتي تَقْتَضِي الْحَظْر أولى:

فِي قَول بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ قَول أبي الْحسن الْكَرْخِي.
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: هما سَوَاء.
لنا هُوَ أَن التَّعَارُض إِذا حصل اشْتبهَ الحكم عِنْده وَمَتى اشْتبهَ الْمُبَاح بالمحظور غلب الْحَظْر كذكاة الْمَجُوسِيّ وَالْمُسلم وَالْأُخْت والأجنبية وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْحَظْر وَالْإِبَاحَة إِذا اجْتمعَا غلب الْحَظْر على الْإِبَاحَة كالجارية الْمُشْتَركَة بَين الرجلَيْن لَا يحل لوَاحِد مِنْهُمَا وَطْؤُهَا كَذَلِك هَاهُنَا.
وَلِأَن الْحَظْر أحوظ لِأَن فِي الْإِقْدَام على الْمَحْظُور إِثْمًا وَلَيْسَ فِي ترك الْمُبَاح إِثْم.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن تَحْرِيم الْمُبَاح كإباحة الْمَحْظُور فَلم يكن لأَحَدهمَا على الآخر مزية.
قُلْنَا هما وَإِن اسْتَويَا فِيمَا ذَكرُوهُ إِلَّا أَن للمحظور مزية وَهُوَ أَنه يَأْثَم بِفِعْلِهِ وَلَا يَأْثَم بترك الْمُبَاح فَكَانَ الْحَظْر أولى.

.مَسْأَلَة: (27) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين توجب الْحَد وَالْأُخْرَى تسقطه فهما سَوَاء:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: الْمسْقط للحد أولى.
لنا هُوَ أَن الشهبة لَا تُؤثر فِي إِثْبَات الْحَد فِي الشَّرْع وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه يجوز إثْبَاته بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس مَعَ وجود الشُّبْهَة فَإِذا تعَارض فِيهِ عِلَّتَانِ وَجب أَن يَكُونَا سَوَاء كَمَا تَقول فِي سَائِر الْأَحْكَام.
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «ادرؤوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ وادرؤوا الْحَد مَا اسْتَطَعْتُم وَلِأَن يخطىء الإِمَام فِي الْعَفو خير من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة».
قُلْنَا إِن هَذَا إِنَّمَا ورد عِنْد الْقَضَاء والاستفتاء وَلِهَذَا قَالَ فَإِن الإِمَام لِأَن يخطىء فِي الْعَفو خير من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو تعَارض بينتان فِي ذَلِك سقطتا فَكَذَلِك إِذا تعَارض دليلان.
قُلْنَا إِحْدَى البيئتين توجب الِاسْتِيفَاء وَالْأُخْرَى توجب الْإِسْقَاط فَجعل ذَلِك شُبْهَة فأسقطتا وَهَاهُنَا إِحْدَى الدَّلِيلَيْنِ دلّ على أَنه شرع وَالْآخر دلّ على أَنه لَيْسَ بشرع والشبهة لَا تُؤثر فِي ذَلِك فَلم يكن لأَحَدهمَا على الآخر مزية بذلك عَلَيْهِ إِذْ فِي الاتسيفاء لَا تقبل شَهَادَة وَاحِد وَفِي إِثْبَات الْحُدُود يقبل خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَافْتَرقَا.

.مَسْأَلَة: (28) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين تَقْتَضِي الْعتْق وَالْأُخْرَى لَا تَقْتَضِيه فهما سَوَاء:

وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين: الَّتِي تَقْتَضِي الْعتْق أولى.
لنا هُوَ أَنه لَا مزية لِلْعِتْقِ على الرّقّ فِي كَونه شرعا فَكَانَ التَّعَارُض بَينهمَا كالتعارض فِي غَيرهمَا.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الْعتْق مبناه على الْقُوَّة أَلا ترى أَنه يسري إِلَى غَيره وَإِذا وَقع لم يلْحقهُ الْفَسْخ فَوَجَبَ أَن يقدم مَا يَقْتَضِي الْعتْق على مَا يَقْتَضِي الرّقّ.
قُلْنَا قُوَّة الْعتْق على الرّقّ فِي الْوُقُوع فَأَما فِي كَونه شرعا فِي إِثْبَات حكم الشَّرْع فالعتق وَالرّق وَاحِد فَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر.

.مَسْأَلَة: (29) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين أَكثر فروعا من الْأُخْرَى كَانَت أكثرهما فروعا أولى:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: هما سَوَاء وَهُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة.
لنا هُوَ أَن أكثرهما فروعا تفِيد من الْأَحْكَام مَالا تفِيد الْأُخْرَى فَكَانَت أولى.
وَلِأَن كَثْرَة الْفُرُوع تجْرِي مجْرى شَهَادَة الْأُصُول فَيجب أَن تكون أولى.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ لَو تعَارض لفظان يدْخل فِي أَحدهمَا من المسميات أَكثر مِمَّا يدْخل فِي الآخر لم يَقع بذلك تَرْجِيح فَكَذَلِك العلتان.
قُلْنَا لَو كَانَتَا كاللفظين لوَجَبَ أَن يكون مَا قل فروعه أولى كَمَا كَانَ الْأَخَص من اللَّفْظَيْنِ أولى من الْأَعَمّ مِنْهُمَا؛ وَلِأَن اللَّفْظ الْخَاص وَالْعَام إِذا تَعَارضا أمكن بِنَاء أَحدهمَا على الآخر وَلَا يُمكن ذَلِك فِي العلتين فَقدم أكثرهما فَائِدَة.

.مَسْأَلَة: (30) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين أقل أوصافا من الْأُخْرَى فالقليلة الْأَوْصَاف أولى:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: هما سَوَاء.
لنا هُوَ مَا قلت أوصافها أجْرى على الْأُصُول وَأسلم من الْفساد فَكَانَت أولى.
وَلِأَن مَا قلت أوصافها تشابه العقليات فَكَانَت أولى.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن ذَات الْأَوْصَاف وَذَات الْوَصْف الْوَاحِد سَوَاء فِي إِثْبَات الحكم فكانتا سَوَاء عِنْد التَّعَارُض.
قُلْنَا ينكسر بالْخبر وَالْقِيَاس فَإِنَّهُمَا يتساويان فِي إِثْبَات الحكم ثمَّ يقدم الْخَبَر على الْقيَاس عِنْد التَّعَارُض.

.مَسْأَلَة: (31) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين منتزعة من أصلين وَالْأُخْرَى من أصل وَاحِد قدمت من أصلين: فِي قَول بعض أَصْحَابنَا.

وَمِنْهُم من قَالَ هما سَوَاء.
لنا هُوَ أَنه إِذا كثرت الْأُصُول كثرت شَوَاهِد الصِّحَّة فَيجب أَن يكون أولى كَمَا لَو عاضد إِحْدَاهمَا ظَاهر وَلم يعاضد الْأُخْرَى.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ إِذا كَانَت الْعلَّة وَاحِدَة فكثرة الْأُصُول لَا تُؤثر أَلا ترى أَن الْعلَّة إِذا فَسدتْ فَسدتْ فِي الْأُصُول كلهَا وَلم تَنْفَع كَثْرَة الْأُصُول.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِهِ إِذا عاضد إِحْدَى العلتين عُمُوم فَإِنَّهَا إِذا فَسدتْ لم تَنْفَع معاضدة الْعُمُوم لَهَا ثمَّ تقدم على الْأُخْرَى.

.مَسْأَلَة: (32) إِذا كَانَت إِحْدَى العلتين صفة ذاتية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة فالحكمية أولى:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: الذاتية أولى.
لنا هُوَ أَن الْمَطْلُوب هُوَ الحكم وَالْحكم أخص بالحكم من الصّفة الذاتية فَكَانَت الْحكمِيَّة أولى؛ وَلِأَن الصّفة الذاتية قد تُوجد وَلَا يتَعَلَّق بهَا الحكم وَذَلِكَ قبل الشَّرْع وَلَا تُوجد الْحكمِيَّة إِلَّا وَالْحكم مُتَعَلق بهَا فَكَانَت الْحكمِيَّة أولى.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الصِّفَات معَان لَا يفْتَقر وجودهَا إِلَى مَا تفْتَقر إِلَيْهِ الْأَحْكَام فِي الشَّرْع فَكَانَ تَعْلِيق الحكم على الصِّفَات أولى.
قُلْنَا الْأَحْكَام وَإِن افْتقر ثُبُوتهَا إِلَى الشَّرْع إِلَّا أَنَّهَا إِذا ثبتَتْ كَانَت كالصفات فِي الثُّبُوت وَلَا مزية للصفات عَلَيْهَا من هَذَا الْوَجْه وَقد بَينا تَرْجِيح الحكم على الصّفة فَوَجَبَ أَن يكون أولى.
قَالُوا وَلِأَن الصِّفَات تشابه العقليات فَكَانَت أقوى.
قُلْنَا فِي العقليات الْمَقْصُود طلب أَحْكَام الْعقل وَالصِّفَات أخص بهَا وَهَاهُنَا الْمَقْصُود طلب حكم الشَّرْع فَكَانَ الحكم أخص بِهِ.

.مَسْأَلَة: (33) القَوْل بالاستحسان بَاطِل وَهُوَ ترك الْقيَاس لما يستحسن الْإِنْسَان من غير دَلِيل:

وَحكى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَبشر المريسي القَوْل عَن أبي حنيفَة بالاستحسان وَهُوَ ترك الْقيَاس لما استحسنه الْإِنْسَان من غير دَلِيل.
وَأنكر الْمُتَأَخّرُونَ ذَلِك من مذْهبه.
فَقَالَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي الِاسْتِحْسَان الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن حكم نظائرها بِدَلِيل يَخُصهَا.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ القَوْل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ تَخْصِيص الْعلَّة.
فَإِن كَانَ الْمَذْهَب مَا حَكَاهُ الشَّافِعِي وَبشر المريسي فدليلنا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَمَا يستحسن من غير دَلِيل لَا علم لَهُ بِهِ.
وَلِأَن الْقيَاس دَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع فَلَا يجوز تَركه لما يستحسنه الْإِنْسَان من غير دَلِيل كالكتاب وَالسّنة، وَلَو جَازَ الرُّجُوع إِلَى مَا يستحسنه الْإِنْسَان من غير دَلِيل لوَجَبَ أَن يَسْتَوِي الْعلمَاء والعامة فِي ذَلِك لأَنهم يستحسنون كَمَا يستحسن الْعلمَاء.
وَإِن كَانَ الْأَمر على مَا فسره أَصْحَابه فَإِنَّهُ لَا مُخَالفَة فِي مَعْنَاهُ فَإِن ترك أَضْعَف الدَّلِيلَيْنِ لأقواهما وَاجِب وَترك الْقيَاس بِدَلِيل أقوى مِنْهُ وَاجِب وَلَكنهُمْ لم يجروا على هَذَا الطَّرِيق فَإِنَّهُم تركُوا الْقيَاس فِي مَوَاضِع لَيْسَ مَعَهم فِيهَا دَلِيل أقوى مِمَّا تَرَكُوهُ وسموها مَوَاضِع الِاسْتِحْسَان فَمن ذَلِك إِيجَاب الْحَد بِشُهُود الزوايا فَإِنَّهُ ترك اخْتِلَاف الشَّهَادَات وألفاظها بِرَأْيهِ من غير دَلِيل وَأوجب فِيهَا الْحَد فَدلَّ على بطلَان مَا قَالَه الْمُتَأَخّرُونَ.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {الله نزل أحسن الحَدِيث}، وَقَوله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم}
قُلْنَا هَذَا أَمر بالاتباع لما أنزل وكلامنا فِيمَا يستحسنه الْإِنْسَان من تِلْقَاء نَفسه من غير دَلِيل.
فَإِن قيل: روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن.
قُلْنَا المُرَاد بِهِ مَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ أَلا ترى أَنه علق ذَلِك على اسْتِحْسَان جَمِيع الْمُسلمين وعندما استحسنه أهل الْإِجْمَاع فَهُوَ حسن عِنْد الله تَعَالَى فَيجب الْمصير إِلَيْهِ وَالْعَمَل بِهِ.

.مسَائِل الِاجْتِهَاد:

.مَسْأَلَة: (1) الْحق من قَول الْمُخْتَلِفين فِي أصُول الديانَات وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل:

وَحكي عَن عبد الله بن الْحسن الْعَنْبَري أَنه قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب.
وَحكي عَن بَعضهم أَنه قَالَ ذَلِك فِيمَا يجْرِي مجْرى القَوْل فِي الْقدر والإرجاء والْآثَار.
لنا هُوَ أَن مسَائِل الْأُصُول عَلَيْهَا أَدِلَّة قَاطِعَة على أَن الْأَمر فِيهَا على صفة وَاحِدَة فَمن اعْتقد فِيهَا خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ اعْتِقَاده جهلا وَالْخَبَر عَنهُ كذبا وَالْجهل وَالْكذب قبيحان فَلَا يجوز أَن يكون صَوَابا.
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن كل قَوْلَيْنِ لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِصِحَّة وَاحِدَة مِنْهُمَا لم يجز أَن يكون القَوْل بهما صَوَابا كَقَوْل الْمُسلمين إِن الله تَعَالَى وَاحِد لَا شريك لَهُ وَفِي قَول النَّصَارَى إِنَّه ثَالِث ثَلَاثَة.
وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يكون كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مصيبا جَازَ مثله فِي الْأُصُول.
قُلْنَا لَا نسلم فَإِن الْحق عندنَا من قَول الْمُجْتَهدين فِي وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل.
وَإِن سلمنَا ذَلِك فَالْفرق بَينهمَا ظَاهر وَذَلِكَ أَن الْفُرُوع لَيْسَ عَلَيْهَا أَدِلَّة قَاطِعَة وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن على الْأُصُول أَدِلَّة قَاطِعَة فَلم يجز أَن يكون كل مُجْتَهد فِيهَا مصيبا وَلِأَن فِي الْفُرُوع يجوز أَن يرد الشَّرْع بحكمين متضادين فَجَاز أَن يَجْعَل وَاحِد من الْمُجْتَهدين مصيبا بِخِلَاف الْأُصُول فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِهِ بحكمين متضادين فَلَا يجوز أَن يكون كل مُجْتَهد فِيهَا مصيبا.

.مَسْأَلَة: (2) الْحق من قَول الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع وَاحِد وعَلى ذَلِك دَلِيل يجب طلبه وإصابته وَمَا سواهُ بَاطِل:

وَهُوَ قَول أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْحق فِي وَاحِد وَلم يُكَلف إِصَابَته وَإِنَّمَا كلفنا الِاجْتِهَاد فِي طلبه.
وَذهب كثير من الأشعرية إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَهُوَ قَول أَكثر الْمُعْتَزلَة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة غير أَنهم اخْتلفُوا فِي ذَلِك.
فَذكر الْكَرْخِي أَن هُنَاكَ أشبه مَطْلُوب فِي الْحَقِيقَة وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد إِصَابَته وَإِنَّمَا كلف حكم اجْتِهَاده وَذكر أَنه مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَقَالَ أَبُو هَاشم لَيْسَ هُنَاكَ أشبه مَطْلُوب أَكثر من أَن الحكم بِمَا هُوَ أولى عِنْده أَن يحكم بِهِ وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي عَليّ.
لنا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «إِذا اجْتهد الْحَاكِم وَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد» فَدلَّ على أَنه يُصِيب مرّة ويخطىء أُخْرَى.
فَإِن قيل: المُرَاد بِهِ إِصَابَة النَّص وَالْإِجْمَاع وَالْخَطَأ بهما.
قيل اللَّفْظ عَام فَوَجَبَ أَن يحمل على عُمُومه وَلِأَن اسْتِحْقَاق الأجرين لَا يخْتَص بِإِصَابَة النَّص وَالْإِجْمَاع فَإِن مَا فِيهِ نَص وَإِجْمَاع ومالا نَص فِيهِ وَلَا إِجْمَاع فِي الْأجر سَوَاء فَدلَّ على أَنه عَام فِي الْجَمِيع.
وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فمني وَأَسْتَغْفِر الله.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه حكم بِحكم فَقَالَ لَهُ رجل حَضَره هَذَا وَالله الْحق ثمَّ حكم بِحكم آخر فَقَالَ لَهُ الرجل هَذَا وَالله هُوَ الْحق فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ إِن عمر لَا يعلم أَنه أصَاب الْحق لكنه لَا يألو جهدا.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لكَاتبه اكْتُبْ هَذَا مَا رأى عمر فَإِن كَانَ خطأ فَمِنْهُ وَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي الْمَرْأَة الَّتِي أجهضت ذَا بَطنهَا إِن كَانَا قد اجتهدا فقد أَخطَأ، وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك.
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي المفوضة أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَرَسُوله وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان.
وَرُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ وَابْن مَسْعُود وزيدا خطؤوا ابْن عَبَّاس فِي ترك القَوْل بالعول حَتَّى قَالَ ابْن عَبَّاس من شَاءَ باهلته إِن الَّذِي أحصى رمل عالج عددا لم يَجْعَل فِي مَال وَاحِد نصفا وَنصفا وَثلثا قد ذهب النصفان بِالْمَالِ فَأَيْنَ مَوضِع الثُّلُث.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ أَلا لَا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا.
وَهَذَا إِجْمَاع ظَاهر على تخطئة بَعضهم بَعْضًا فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فَدلَّ على أَن الْحق من هَذِه الْأَقْوَال فِي وَاحِد وَمَا سواهُ بَاطِل.
وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْأمة على وجوب النّظر وَالِاسْتِدْلَال فِي تَرْتِيب الْأَدِلَّة وَبِنَاء بَعْضهَا على بعض وَلَو كَانَ الْجَمِيع حَقًا وصوابا لم يكن للنَّظَر وَالِاجْتِهَاد معنى.
وَرُبمَا عبر عَن هَذَا بِأَن النَّاس قد اتَّفقُوا على حسن النّظر وَعقد الْمجَالِس بِهِ وَلَو كَانَ الْجَمِيع حَقًا وصوابا لم يكن للنَّظَر معنى وَلَا لعقد الْمجَالِس بِسَبَبِهِ وَجه إِذْ لَا يجوز أَن يناظر بَعضهم بَعْضًا على أَمر هُوَ حق وصواب كَمَا لَا يجوز أَن يناظر بَعضهم بَعْضًا على ترك مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ من الْأَحْكَام.
فَإِن قيل: لَا نسلم أَن النّظر وَالِاجْتِهَاد يجب فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد بل الْإِنْسَان عندنَا بِالْخِيَارِ بَين الْأَقَاوِيل فَيَأْخُذ بِمَا شَاءَ مِنْهَا كَمَا تَقول فِي الْكَفَّارَات.
قُلْنَا هَذَا خلاف الْكتاب فَإِن الله عز وَجل قَالَ {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَأمر بِالرُّجُوعِ إِلَى الدَّلِيل؛ وَلِأَن هَذَا خلاف الْإِجْمَاع فَإِن أحدا لم يقل بالتخيير فَالْقَوْل مُخَالف للْإِجْمَاع.
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر على مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لاشتراك الْعَاميّ والعالم فِي جَوَاز الْفَتْوَى وَالْحكم وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَسقط.
فَإِن قيل: إِنَّمَا يتناظرون ويجتهدون فِي ذَلِك لمعْرِفَة النَّص وَالْإِجْمَاع حَتَّى لَا يقدموا على مخالفتهما.
قُلْنَا هَذَا خطأ لأَنهم يجتهدون فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَلَا إِجْمَاع فَدلَّ على أَن ذَلِك كَمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قيل: يحْتَمل أَن يكون نظرهم فِي ذَلِك واجتهادهم لطلب الأصلح دون معرفَة الْفَاسِد وَالصَّحِيح.
قُلْنَا لَا يَصح لِأَن الْأَصْلَح فِي الْمَنْفَعَة لَا يتَعَلَّق بأدلة الشَّرْع وَالنَّظَر فِي تَرْجِيح الْأُصُول فَبَطل أَن يكون لما ذَكرُوهُ.
فَإِن قيل: نظرهم لطلب الْأَشْبَه.
قُلْنَا إِن كَانَ الْأَشْبَه مَا قَالَه الْكَرْخِي من أشبه مَطْلُوب عِنْد الله فِي الْحَادِثَة فقد سلمتم الْمَسْأَلَة لِأَنَّهُ إِذا كَانَ هَاهُنَا أشبه مَطْلُوب دلّ على أَن الْحق وَاحِد وَمَا سَوَاء لَيْسَ بِحَق وَإِن كَانَ الْأَشْبَه مَا قَالَه أَبُو هَاشم وَهُوَ أَن الحكم بِمَا هُوَ أولى عِنْده فَهَذَا مَالا فَائِدَة فِيهِ فِي النّظر لأَجله لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْجَمِيع حَقًا وصوابا لم يكن للنَّظَر بِحكم دون حكم معنى أَكثر من إتعاب الْفِكر وَالنَّفس وتقطيع الزَّمَان من غير فَائِدَة.
وَيدل عَلَيْهِ أَن الْقَوْلَيْنِ المتضادين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد كالتحليل وَالتَّحْرِيم والإيجاب والإسقاط والتصحيح والإفساد لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا صَحِيحَيْنِ أَو فاسدين أَو أَحدهمَا صَحِيحا وَالْآخر فَاسِدا وَلَا يجوز أَن يَكُونَا صَحِيحَيْنِ لِأَن ذَلِك يُوجب أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حَلَالا وحراما صَحِيحا فَاسِدا حسنا قبيحا وَذَلِكَ مُسْتَحِيل وَلَا يجوز أَن يَكُونَا فاسدين لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى إِجْمَاع الْأمة على الْخَطَأ فَثَبت أَن أَحدهمَا صَحِيح وَالْآخر بَاطِل.
فَإِن قيل: إِنَّمَا لَا يجوز أَن يَكُونَا صَحِيحَيْنِ فِي حق كل وَاحِد وَأما فِي حق اثْنَيْنِ فَلَا يمْتَنع، أَلا ترى أَنه يحل أكل الْميتَة للْمُضْطَر وَيحرم على الْمُخْتَار وَيحل الْفطر للْمُسَافِر وَيحرم على الحاظر فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حَلَالا فِي حق من أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَى تَحْلِيله حَرَامًا فِي حق من أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَى تَحْرِيمه.
قُلْنَا هَذَا يجوز فِيمَا ورد النَّص فِيهِ على سَبِيل التَّفْصِيل والمخالفة كَمَا ذَكرُوهُ فِي الْميتَة فِي حق الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار وَالْفطر فِي حق الْحَائِض وَالْمُسَافر وَأما فِيمَا ورد الدَّلِيل فِيهِ على سَبِيل الْإِطْلَاق والعموم فَلَا يجوز.
وَمَعْلُوم أَن مَا ورد من الدَّلِيل فِي هَذِه الْمسَائِل عَام فِي حق جَمِيع النَّاس فَلَا يجوز أَن يَقْتَضِي الحكم على سَبِيل التَّخْصِيص وَالتَّفْصِيل.
فَإِن قيل: الدَّلِيل الَّذِي يدل على الحكم بِظَنّ الْمُجْتَهد فَأَما الأمارات فَإِنَّهَا تقع متكافئة وَظن كل مُجْتَهد يَخُصُّهُ لَا يتَنَاوَل غَيره.
قُلْنَا هَذَا خطأ بل الدَّلِيل الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَرد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ لما بَعثه إِلَى الْيمن بِمَ تقضي فَذكر الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس وَلم يذكر الظَّن.
وَلِأَن أهل الْعلم عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة لَا يفزعون إِلَّا إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس فَدلَّ على أَنَّهَا هِيَ الْأَدِلَّة دون الظَّن؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا الدَّلِيل هُوَ الظَّن لما صَحَّ احتجاج أحد على أحد بِالْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس لِأَن ذَلِك كُله غير الدَّلِيل الَّذِي يلْزمه حكمه؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الديل هُوَ الظَّن لاستوى الْعلمَاء والعامة فِي الحكم لأَنهم فِي الظَّن وَاحِد.
فَإِن قيل: لَو كَانَ الدَّلِيل مَا ذكرْتُمْ لوَجَبَ إِذا نظر الْحَنَفِيّ فِيمَا نظر فِيهِ الشَّافِعِي من الدَّلِيل أَن يَقع لَهُ مَا وَقع للشَّافِعِيّ.
قُلْنَا هَذَا يبطل بمسائل الْأُصُول فَإِن كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ ينظر فِيمَا ينظر فِيهِ الآخر فَلَا يَقع لَهُ مَا وَقع لخصمه ثمَّ لَا يدل على أَنه لَيْسَ هُنَاكَ دَلِيل غير النّظر.
وَيرد هَذَا الدَّلِيل على وَجه آخر وَهُوَ أَن تَحْلِيل الشَّيْء وتحريمه وإفساده وتصحيحه لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِهِ وَلَو جَازَ ذَلِك لورد النَّص بِهِ فَيَقُول النَّبِيذ حَلَال حرَام وَالنِّكَاح بِلَا ولي بَاطِل صَحِيح على هَذِه الصّفة ومالا يجوز وُرُود الشَّرْع بِهِ لم يجز أَن يرد عَلَيْهِ النّظر وَالِاجْتِهَاد بَين صِحَة هَذَا أَن النّظر وَالِاجْتِهَاد نتيجة النَّص وَالْإِجْمَاع فَإِذا اسْتَحَالَ أَن يدل النَّص وَالْإِجْمَاع على تَحْلِيل الشَّيْء وتحريمه على الْإِطْلَاق اسْتَحَالَ أَن يدل عَلَيْهِمَا النّظر وَالِاجْتِهَاد إِذْ لَا يجوز أَن تدل نتيجة الشَّيْء على مَالا يدل عَلَيْهِ أَصله.
فَإِن قيل: إِنَّمَا تسحيل وُرُود الشَّرْع من جِهَة النَّص بِالتَّحْرِيمِ والتحليل والإفساد والتصحيح فِي حق وَاحِد وَمثله يَسْتَحِيل من جِهَة النّظر وَالِاجْتِهَاد فَأَما فِي حق اثْنَيْنِ فَلَا يَسْتَحِيل أَلا ترى أَن النَّص قد ورد بتحليل الْميتَة للْمُضْطَر وتحريمها على الْمُخْتَار وإحلال الْفطر للْمُسَافِر وتحريمه على الْحَاضِر فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يحل الشَّيْء فِي حق مُجْتَهد وَيحرم فِي حق غَيره وَيفْسد العقد فِي حق مُجْتَهد وَيصِح فِي حق غَيره.
قُلْنَا نَحن لَا ننكر وُرُود الشَّيْء بِتَحْرِيم الشَّيْء على شخص وتحليله لغيره.
فَيَقْضِي فِيهِ بِحَسب مَا تَقْتَضِيه الدّلَالَة من التَّفْصِيل والتخصيص وَإِنَّمَا ننكر وُرُود الشَّرْع بتحليل الشَّيْء وتحريمه وإفساد عقد وتصحيحه على سَبِيل الْإِطْلَاق والعموم وَذَلِكَ لَا يجوز من جِهَة النَّص وَالْإِجْمَاع فَكَذَلِك لَا يجوز من جِهَة النّظر وَالِاجْتِهَاد.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفت فِي مسَائِل كَثِيرَة وحوادث شَتَّى وَأقر بَعضهم بَعْضًا على الْخلاف وَلم يظْهر مِنْهُم فِي ذَلِك تبري وَلَا تَغْلِيظ فِي القَوْل وَلَو كَانَ الْحق فِي وَاحِد لما أقرّ بَعضهم بَعْضًا على ذَلِك كَمَا لم يقرُّوا من أَبَاحَ الْخمر مِنْهُم على قَوْله وأظهروا التَّغْلِيظ وتبرأ بَعضهم من بعض كَمَا فعلوا ذَلِك فِي مانعي الزَّكَاة وَلما لم ينْقل عَنْهُم فِي الْفُرُوع شَيْء من ذَلِك دلّ على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب.
قُلْنَا إِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة عَلَيْكُم فَإِنَّهُم صَرَّحُوا على أَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا سواهُ خطأ وَقد بَينا ذَلِك فأغنى عَن الْإِعَادَة.
وَأما ترك التبري والتغليظ فِي القَوْل حسب مَا فعلوا فِي ترك الصَّلَاة فَلَا يدل على أَن الْجَمِيع حق كَمَا أَن ترك التبري والتغليظ بالْقَوْل على من فعل الصَّغَائِر من الذُّنُوب والمخالفة بَينه وَبَين من ارْتكب الْكَبَائِر مَعَهم فِي ذَلِك لَا يدل على أَن ذَلِك حق وصواب.
وعَلى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفت فِي مسَائِل أَجمعُوا فِيهَا بعد الْخلاف أَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل كاختلافهم فِي معانعي الزَّكَاة وَلم يظهروا التبري فِي حَال الِاخْتِلَاف وَلَا التَّغْلِيظ فِي القَوْل على من خَالف مِنْهُم ثمَّ لَا يدل على أَن الْجَمِيع حق وصواب.
وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب التبري والتغليظ فِيمَا يعلم بطرِيق مَقْطُوع بِهِ وَصرح بدليله وَانْقطع عذر من خَالف فِيهِ فَيجب التَّغْلِيظ عَلَيْهِ والتبري مِنْهُ كالأحكام الَّتِي ذكروها فَأَما فِيمَا يعلم بطرِيق لَا يقطع بِهِ وَكَثُرت فِيهِ وُجُوه الشّبَه وتزاحمت فِيهِ صروف التَّأْوِيل وَالتَّرْجِيح فَلَا يجب ذَلِك فِيهِ وَمَا اخْتلفت فِيهِ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من هَذَا الْقَبِيل فَلهَذَا تركُوا فِيهِ التبري والتغليظ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْحق فِي وَاحِد لَكَانَ الله تَعَالَى قد نصب عَلَيْهِ دَلِيلا وَلَو كَانَ فعل ذَلِك لسقط عذر الْمُخَالف فِيهِ ولوجب أَن يَجْعَل كل من خَالف ذَلِك آثِما فَاسِقًا كَمَا نقُول فِي العقليات.
قُلْنَا كَذَا نقُول إِن الله تَعَالَى قد نصب على الْحق دَلِيلا وَأَبَان بِهِ خطأ الْمُخَالف وَلكنه لَا يَأْثَم وَلَا يفسق لِأَن طَرِيق المأثم وَالْفِسْق الشَّرْع وَقد ورد الشَّرْع بِإِسْقَاط الْإِثْم عَن الْمُجْتَهد وَترك تفسيقه.
وعَلى أَنه يحْتَمل أَن يكون قد أسقط عَنهُ المأثم وَالْفِسْق لخفاء الْأَدِلَّة بِكَثْرَة وجود الشّبَه فأكمل الله تَعَالَى التفضل على الْمُجْتَهد بِأَن أسقط عَنهُ الْإِثْم وأثابه على قَصده واجتهاده.
قَالُوا لَو كَانَ الْحق فِي وَاحِد لَكَانَ ينْقض بِهِ كل حكم يُخَالِفهُ كَمَا قَالَ الْأَصَم وَبشر المريسي وَلما قُلْتُمْ إِنَّه لَا ينْقض الحكم بِخِلَافِهِ دلّ على أَن الْجَمِيع حق وصواب.
وَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ إِذا لم ينْقض الحكم الْوَاقِع بِأحد الْقَوْلَيْنِ دلّ على أَنه حق وصواب.
أَلا ترى أَن من بَاعَ فِي حَال النداء لم ينْقض بَيْعه وَلَا يدل أَن ذَلِك حق وصواب.
وَلِأَنَّهُ إِذا لم ينْقض الحكم لجَوَاز أَن يكون هُنَاكَ آخر لم يؤده اجْتِهَاده إِلَيْهِ فَلَا يجوز الْإِقْدَام على بعضه، وعَلى أَنه إِن كَانَ الْمَنْع من نقض الحكم دَلِيلا على أَن الْكل حق فوجوب.
الِانْتِقَال إِلَى غَيره عِنْد تغير الِاجْتِهَاد دَلِيل على أَن الْحق وَاحِد فَلَيْسَ لَهُم أَن يتعلقوا بترك النَّقْض إِلَّا وَلنَا أَن نتعلق بِوُجُوب الِانْتِقَال عِنْد تغير الِاجْتِهَاد.
وعَلى أَنه إنم لم تنقض الْأَحْكَام لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يسْتَقرّ لأحد مَالك فِي الشَّرْع وَلَا يثبت بِهِ حق لِأَنَّهُ مَتى حكم لَهُ حَاكم بِملك أَو حق جَاءَ غَيره فنقض ذَلِك وَيَجِيء آخر فينقض على الثَّانِي وعَلى هَذَا أبدا فَلَا يسْتَقرّ لأحد ملك على شَيْء وَهَذَا فِيهِ فَسَاد عَظِيم.
قَالُوا لَو كَانَ الْحق فِي وَاحِد لما سوغ للعامي تَقْلِيد من شَاءَ من الْعلمَاء.
قُلْنَا نَحن لَا نسوغ لَهُ تَقْلِيد من خَالف الْحق بل نقُول لَهُ قلد عَالما بِشَرْط أَن يكون مصيبا كَمَا نقُول لَهُ قلد عَالما بِشَرْط أَن يُخَالف النَّص.
على أَنا لَو منعنَا الْعَاميّ أَن يُقَلّد إِلَّا من مَعَه الصَّوَاب لم يجد إِلَى معرفَة ذَلِك سَبِيلا إِلَّا بِأَن يتَعَلَّم الْفِقْه وَفِي إِيجَاب ذَلِك على كل أحد مشقة وَفَسَاد فسمح لَهُ بتقليد الأوثق فِي نَفسه.
قَالُوا لَو لم يكن كل مُجْتَهد مصيبا لما جَازَ اسْتِخْلَاف الْمُخَالفين فِي القضايا وَالْأَحْكَام مَعَ الْعلم بِأَنَّهُم يحكمون بِخِلَاف مَا يَعْتَقِدهُ الْمُسْتَخْلف.
قُلْنَا نَحن لَا نستخلف من يعْتَقد فِي قضاياه مَذْهَب نَفسه فَيحكم بِهِ وَإِنَّمَا نستخلف من هُوَ من أهل الِاجْتِهَاد يجدد اجْتِهَاده فِي كل قَضِيَّة فَيحكم بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل.
قَالُوا لَا خلاف أَن الْمُجْتَهد إِذا بذل وَسعه فِي الِاجْتِهَاد وَطلب الحكم وَجب عَلَيْهِ اعْتِقَاد مَا أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ وَمَتى ترك ذَلِك اسْتحق الذَّم فَلَو لم يكن الْمَأْمُور بِهِ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَيْهِ لما اسْتحق الذَّم على تَركه وَإِذا ثَبت أَن ذَلِك هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَجب أَن يكون حَقًا وصوابا.
قُلْنَا لَا نسلم أَنه يجب عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاع وَكَيف يدعى الْإِجْمَاع فِي هَذَا مَعَ إِنْكَار مُخَالفَته عَلَيْهِم ومنعهم مِنْهُ وَإِظْهَار الِاحْتِجَاج على فَسَاده.
وَلَو سلمنَا ذَلِك تَسْلِيم نظر لم يتم الدَّلِيل لأَنا إِنَّمَا نوجب ذَلِك بِشَرْط الصِّحَّة والسلامة فَإِذا أدّى إِلَى خلاف ذَلِك الْحق نسبناه إِلَى الْخَطَأ كَمَا يجوز الرَّمْي إِلَى الهدف بِشَرْط السَّلامَة فَإِذا أدّى إِلَى الْهَلَاك نسبناه إِلَى التَّفْرِيط وَعلمنَا خطأه فِيهِ.
ثمَّ هَذَا يبطل بِهِ إِذا أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَى خلاف النَّص مَعَ الْجَهْل بِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُور بِمَا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ ثمَّ لَا نقُول بِأَن ذَلِك حق وصواب.
وعَلى أَن هَذَا حجَّة عَلَيْهِم لِأَنَّهُ مَتى أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَى شَيْء وَقَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ لم يجز لَهُ اعْتِقَاد غَيره وَلَو كَانَ الْجَمِيع حَقًا وصوابا لجَاز تَركه إِلَى غَيره كَمَا يجوز ترك الْعتْق فِي كَفَّارَة الْيَمين إِلَى الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة حَيْثُ كَانَ الْجَمِيع مَأْمُورا بِهِ وَلما لم يجز ذَلِك دلّ على أَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَن تَرْجِيح الظَّوَاهِر المتقابلة يجوز لما لَا يجوز أَن يثبت الحكم بِنَفسِهِ وَهَذَا يدل على أَن دَلِيل الحكم هُوَ الَّذِي وَقع لَهُ الْمُقَابلَة وَأَنه إِذا تعَارض ظاهران فقد قَامَ دَلِيل كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ على الحكم فَدلَّ على أَن الْجَمِيع حق.
قُلْنَا لَا نسلم فَإِنَّهُ لَا يرجح عندنَا أحد الدَّلِيلَيْنِ على الآخر إِلَّا بِمَا يجوز أَن يَجْعَل دَلِيلا عِنْد الْكَشْف والتقرير، وعَلى أَن هَذَا هُوَ الْحجَّة عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَو كَانَ الْجَمِيع صَوَابا لما طلب تَقْدِيم أحد اللَّفْظَيْنِ على الآخر بصروف من التَّرْجِيح وَلما عدلوا عِنْد التقابل إِلَى التَّرْجِيح دلّ على أَنه لَا يجوز أَن يكون مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِر أَن الْجَمِيع حق.
قَالُوا وَلِأَن أَدِلَّة الْأَحْكَام فِي مسَائِل الْخلاف تقع متكافئة لَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْقطع، أَلا ترى أَن كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ يُمكنهُ أَن يتَأَوَّل دَلِيل خَصمه بِضَرْب من الدَّلِيل وَيصرف عَن ظَاهره بِوَجْه من الدَّلِيل بِحَيْثُ لَا يكون لأحد مِنْهُمَا على الآخر مزية فِي الْبناء والتأويل فَوَجَبَ أَن يكون الْجَمِيع حَقًا وصوابا.
قُلْنَا لَا نسلم أَنَّهُمَا يتساويان فِي الْبناء والتأويل بل لَا بُد أَن يكون لأَحَدهمَا على الآخر مزية فِي الْبناء وَالتَّرْتِيب والاستعمال وَالتَّرْجِيح وَلِهَذَا إِذا تناظر الخصمان بِأَن لمن يحضر مِمَّن يعْتَقد أَن كل مُجْتَهد مُصِيب أَن أحد الْكَلَامَيْنِ أظهر من الآخر.
وعَلى أَن هَذَا لَو كَانَ دَلِيلا على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْفُرُوع لوَجَبَ أَن يَجْعَل دَلِيلا على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول فَإِن الأشعرية والمعتزلة إِذا تكلمُوا فِي مَسْأَلَة تخليد الْفُسَّاق اسْتدلَّ كل وَاحِد مِنْهُم بِظَاهِر الْقُرْآن ويتأول ظَاهر خَصمه بِضَرْب من الدَّلِيل وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَة إِثْبَات الرُّؤْيَة وَخلق الْأَفْعَال وَكثير من مسائلهم ثمَّ لَا يُقَال إِن الْحق فِي جَمِيع ذَلِك فَإِن الظَّوَاهِر فِيهَا متعارضة والتأويلات فِيهَا متقابلة فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا.
قَالُوا وَلِأَن حمل النَّاس على مَذْهَب وَاحِد يُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيق فَوَجَبَ أَن يَجْعَل الْجَمِيع حَقًا ليتوسع النَّاس فِيهَا.
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا على أَن الْجَمِيع حق لوَجَبَ على أَن لَا يلْزم الْعَمَل بِمَا ورد بِهِ النَّص وَالْإِجْمَاع من الْأَحْكَام المغلقة لِأَن فِي ذَلِك تَغْلِيظًا وتشديدا وَلما بَطل هَذَا بِالْإِجْمَاع بَطل مَا ذَكرُوهُ أَيْضا.
وَلِأَن الْمصلحَة فِي الشَّرْع لَا تتَعَلَّق بِمَا يمِيل إِلَيْهِ الطَّبْع حَتَّى يَبْنِي الْأَمر فِيهِ على مَا يمِيل الطَّبْع إِلَيْهِ بل الْمصلحَة مُتَعَلقَة بِمَا حكم الله عز وَجل بِهِ فَيجب أَن يطْلب ذَلِك بِالدَّلِيلِ، وعَلى أَنا نقلب هَذَا عَلَيْهِم فَنَقُول حمل النَّاس على قَول وَاحِد نفع لَهُم وَأصْلح فَإِنَّهُم يتوافرون على طلبه وتمييزه من غَيره فيتوفر أجرهم ويعظم ثوابهم فَيجب أَن يَجْعَل الْحق فِي وَاحِد.

.مَسْأَلَة: (3) لَا يجوز أَن يتكافأ دليلان فِي الْحَادِثَة بل لَا بُد أَن يكون لأَحَدهمَا مزية على الآخر وترجيح:

وَقَالَ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم يجوز أَن يتكافأ دليلان فِي الْحَادِثَة فَيتَخَيَّر الْمُجْتَهد عِنْد ذَلِك فَيعْمل بِمَا شَاءَ.
لنا أَن الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على أَن الْحق فِي قَول الْمُجْتَهدين فِي وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل وَقد دللنا على ذَلِك وَإِذا ثَبت هَذَا لم يجز أَن تَتَكَافَأ فِيهِ الْأَدِلَّة كالعقليات.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن الْحَادِثَة قد تَأْخُذ شبها من أصلين فَيكون شبهها بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا كشبهها بِالْآخرِ من غير أَن يكون لأحد الشبهين مزية فَدلَّ على جَوَاز ذَلِك.
قُلْنَا لَا نسلم بل لَا بُد من ضرب من التَّرْجِيح يقْتَرن بِأَحَدِهِمَا وَدَلِيل يدل على تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر فَلَا يَصح مَا ادعوهُ.

.مَسْأَلَة: (4) تَخْرِيج الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ جَائِز:

وَذهب من لَا يعْتد بِخِلَافِهِ أَن ذَلِك لَا يجوز.
وَرُبمَا قَالُوا إِن ذَلِك لَا يجوز من جِهَة أَنه لَا يجوز أَن يعْتَقد الْمُجْتَهد فِي الْحَادِثَة قَوْلَيْنِ متضادين وَلَا سِيمَا على قَوْله إِن الْحق من قَول الْمُجْتَهدين فِي وَاحِد وَمَا عداهُ بَاطِل.
وَرُبمَا قَالُوا إِن تَخْرِيج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ يدل على نُقْصَان الْآلَة وَقلة الْعلم حَتَّى لم يعلم الْحق من الْقَوْلَيْنِ وَيحْتَاج أَن يخرج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ.
وَهَذَا خطأ؛ لِأَن مَا ذكر عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ على وُجُوه لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا مَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ اعْتِرَاض:
فَمِنْهَا أَن يذكر قولا فِي الْقَدِيم ثمَّ يذكر قولا آخر فِي الْجَدِيد فَيكون مذْهبه الثَّانِي مِنْهُمَا وَالْأول مرجوع عَنهُ وَيكون الْقَوْلَانِ لَهُ رَحمَه الله كالروايتين عَن الْإِمَامَيْنِ أبي حنيفَة وَمَالك وَسَائِر الْفُقَهَاء رَحِمهم الله.
وَمِنْهَا أَن يذكر قَوْلَيْنِ ثمَّ يدل على تَصْحِيح مذْهبه مِنْهُمَا بِأَن يَقُول هَذَا أشبه بِالْحَقِّ وَأقرب إِلَى الصَّوَاب أَو يفْسد الآخر وَيَقُول هُوَ مَدْخُول فِيهِ أَو منكسر فيبين أَن مذْهبه هُوَ الآخر أَو يفرع على أَحدهمَا وَيتْرك الآخر فَيعلم أَنه هُوَ الْمَذْهَب فَمَا كَانَ مِنْهُ على هَذَا الْوُجُوه لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ لم يجمع بَين الْقَوْلَيْنِ فِي الِاخْتِيَار فينسب إِلَى أَنه اعْتقد قَوْلَيْنِ متضادين فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَلَا توقف عَن الْقطع بِأَحَدِهِمَا فَيُقَال إِنَّه قصر عَن إِدْرَاك الْحق.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ مذْهبه أحد الْقَوْلَيْنِ على مَا ذكرْتُمْ فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ.
قُلْنَا إِنَّمَا ذكر ذَلِك ليعلم أَصْحَابه طرق الْعِلَل واستخراجها والتمييز بَين الصَّحِيح من الْفَاسِد من الْأَقَاوِيل وَهَذِه فَائِدَة كَبِيرَة وغرض صَحِيح وَقد يكون من ذَلِك مَا ينص فِيهِ على قَوْلَيْنِ وَلَا يبين مذْهبه مِنْهُمَا قَالَ القَاضِي أَبُو حَامِد وَلَا نَعْرِف لَهُ مَا هَذَا سَبيله إِلَّا فِي سِتّ عشرَة مَسْأَلَة أَو سبع عشرَة مَسْأَلَة فَهَذَا أَيْضا لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ لم يذكرهما على أَنه مُعْتَقد لَهما وَكَيف يُقَال هَذَا وهما قَولَانِ منصوصان وَإِنَّمَا ذكرهمَا لِأَن الْحَادِثَة تحْتَمل عِنْده هذَيْن الْقَوْلَيْنِ وَلم يرجح بعد إِحْدَاهمَا على الآخر فذكرهما ليطلب مِنْهُمَا الصَّوَاب فأدركه الْمَوْت قبل الْبَيَان وَلَيْسَ فِي ذَلِك نقض على الْمُجْتَهد بل يدلك ذَلِك على غزارة علمه وَكَمَال فَضله حِين تزاحمت عِنْده الْأُصُول وترادفت الشّبَه حَتَّى احْتَاجَ إِلَى التَّوْقِيف إِلَى أَن ينْكَشف لَهُ وَجه الصَّوَاب مِنْهُمَا فَيحكم بِهِ.
فَإِن قيل: إِذا لم يبن لَهُ الْحق من الْقَوْلَيْنِ وَلم يكن مذْهبه الْقَوْلَيْنِ فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ.
قُلْنَا فَائِدَته أَن الْحق فِي وَاحِد من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ غير خَارج مِنْهُمَا وَأَن مَا عداهما من الْأَقَاوِيل بَاطِل وَفِي ذَلِك فَائِدَة كَثِيرَة وغرض صَحِيح وَلِهَذَا جعل أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْأَمر شُورَى فِي سِتَّة وَلم ينص على وَاحِد بِعَيْنِه ليبين أَن الْإِمَامَة لَا تخرج مِنْهُم وَلَا تطلب من غَيرهم فَكَذَلِك هَاهُنَا.

.مَسْأَلَة: (5) إِذا ذكر فِي الْقَدِيم قولا ثمَّ ذكر فِي الْجَدِيد غَيره فمذهبه هُوَ الثَّانِي وَالْأول مرجوع عَنهُ:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يكون رُجُوعا عَن الأول مَا لم يُصَرح بِالرُّجُوعِ.
لنا أَنَّهُمَا قَولَانِ متضادان فَالثَّانِي مِنْهُمَا ترك الأول كَمَا تَقول فِي النصين المتضادين عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَلِأَنَّهُ إِذا أفتى فِي الْقَدِيم بإحلال شَيْء ثمَّ أفتى فِي الْجَدِيد بِتَحْرِيمِهِ فقد أفتى بِبُطْلَان الأول فَلَا يجوز أَن يكون ذَلِك قولا لَهُ كَمَا لَو صرح بِالرُّجُوعِ عَنهُ.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ يجوز أَن يجمع بَين الْقَوْلَيْنِ فِي حَالَة وَاحِدَة ويكونا قَوْلَيْنِ لَهُ فَكَذَلِك يجوز أَن يذكر الْقَوْلَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ وَيكون ذَلِك قَوْلَيْنِ لَهُ.
قُلْنَا إِذا ذكر فِي مَوضِع وَاحِد قَوْلَيْنِ لم يُمكن أَن يَجْعَل أَحدهمَا رُجُوعا عَن الآخر فَيحمل ذَلِك على أَنه ذكرهمَا لينْظر بهما وَفِي مَسْأَلَتنَا ذكر أَحدهمَا بعد الآخر فَجعل الثَّانِي رُجُوعا عَن الأول يدل عَلَيْهِ أَن صَاحب الشَّرْع لَو ذكر قَوْلَيْنِ متضادين فِي وَقت وَاحِد لم يَجْعَل أَحدهمَا نَاسِخا للْآخر بل يجمع بَينهمَا ويرتب أَحدهمَا على الآخر وَلَو أَنه ذكر ذَلِك فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين جعل الثَّانِي نَاسِخا للْأولِ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا.