فصل: مَسْأَلَة: (3) إِذا قَالَت الصَّحَابَة قولا وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان لم يكن ذَلِك إِجْمَاعًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (19) لَا يقبل الْخَبَر إِلَّا مِمَّن تعرف عَدَالَته:

وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا عرف إِسْلَامه جَازَ قبُول رِوَايَته.
لنا هُوَ أَن كل خبر لَا يقبل من الْفَاسِق لم يقبل من مَجْهُول الْحَال كَالشَّهَادَةِ، ولأنا لَو جَوَّزنَا قبُول الْأَخْبَار مِمَّن جهلت عَدَالَته لم يبْق أحد من أهل الْبدع إِلَّا روى مَا يُوَافق بدعته فتتسع الْبدع وَيكثر الْفساد وَهَذَا لَا يجوز.
وَاحْتَجُّوا بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للأعرابي الَّذِي شهد عِنْده بالهلال «أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله قَالَ نعم» وَأمر بِالصَّوْمِ وَلم يسْأَل عَن الْعَدَالَة.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه يحْتَمل أَن يكون قد عرف عَدَالَته فَلم يسْأَل عَنْهَا.
قَالُوا وَلِأَن الأَصْل فِي الْمُسلم الْعَدَالَة فَوَجَبَ أَن يحمل الْأَمر عَلَيْهِ.
قُلْنَا لَا نسلم بل الأَصْل فِي الصّبيان عدم الْعَدَالَة لَعَلَّه التَّحْصِيل وَالْعقل وَبعد الْبلُوغ يحْتَمل أَن يكون عدلا وَيحْتَمل أَن يكون فَاسِقًا فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ حَتَّى نعلم بَاطِن الْحَال؛ وَلِأَن هَذَا يبطل بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تقبل من الْمَجْهُول وَإِن كَانَ الأَصْل فِي النَّاس الْعَدَالَة فَسقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (20) إِذا روى الثِّقَة عَن الْمَجْهُول لم يدل ذَلِك على عَدَالَته:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يدل على عَدَالَته.
لنا هُوَ أَن شَهَادَة الْفَرْع لَا تدل على شَهَادَة الأَصْل فَكَذَلِك رِوَايَة الْعدْل لَا تدل على عَدَالَة الْمَرْوِيّ عَنهُ؛ وَلِأَن الْعدْل قد يروي عَن الثِّقَة وَعَن غير الثِّقَة وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ حَدثنِي الْحَارِث الْأَعْوَر وَكَانَ وَالله كذابا فَلم يجز أَن يسْتَدلّ بالرواية على الْعَدَالَة.
وَاحْتَجُّوا لَو كَانَ هَذَا الْمَجْهُول غير ثِقَة لبين الْعدْل ذَلِك فِي رِوَايَته حَتَّى لَا يغتر بروايته كَمَا بَين الشّعبِيّ وَلما لم يبين ذَلِك دلّ على عَدَالَته.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه يجوز أَن يتْرك الْبَيَان ثِقَة بعدالته وَيحْتَمل أَنه تَركه لِأَنَّهُ لَا يعرفهُ وَهُوَ مِمَّن يرى النَّاس أَنه على الْعَدَالَة وَيحْتَمل أَن يتْرك الْبَيَان ليجتهد الْفَقِيه الَّذِي يعْمل بحَديثه فِي حَاله فَإِذا احْتمل أَنه ترك الْبَيَان من هَذِه الْوُجُوه لم يدل ذَلِك على الْعَدَالَة.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَن أَكثر مَا فِي ذَلِك أَن يدل على عَدَالَته عِنْده وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت الْعَدَالَة حَتَّى نَنْظُر فِي حَاله كَمَا نظر ونعرفه كَمَا عرف؛ وَلِأَن هَذَا يبطل بِشَاهِد الْفَرْع إِذا شهد على شَهَادَة مَجْهُول فَإِنَّهُ لَا يدل على عَدَالَته وَلَا يُقَال أَنه لَو كَانَ غير ثِقَة لبين ذَلِك حَتَّى لَا تعْتَبر شَهَادَته فَسقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (21) إِذا روى الصَّحَابِيّ لغيره شَيْئا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رأى الْمَرْوِيّ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يلْزمه أَن يسْأَله عَمَّا حدث عَنهُ:

وَقَالَ بعض النَّاس: يلْزمه أَن يسْأَل عَن ذَلِك.
لنا هُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يبْعَث السعاة والقضاة إِلَى أهل الْبِلَاد لتبليغ الشَّرْع وَبَيَان الْأَحْكَام ثمَّ يقدمُونَ أُولَئِكَ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يسألونه عَمَّا حدثوا عَنهُ فَدلَّ على أَنه لَا يجب.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إِذا لقى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أمكنه معرفَة الحكم من جِهَة الْقطع فَلَا يجوز أَن يعول على الظَّن كَمَا أَن الْمَكِّيّ إِذا أمكنه التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة لم يجز أَن يجْتَهد.
قُلْنَا فَيجب على هَذَا إِذا كَانَ على بَحر أَن لَا يجوز لَهُ الْوضُوء بِمَا مَعَه من المَاء لِأَنَّهُ يقدر على مَا يقطع بِطَهَارَتِهِ وَهُوَ مَاء الْبَحْر وَلما أَجمعُوا على جَوَاز ذَلِك دلّ على بطلَان مَا قَالُوهُ.
وَأما الْقبْلَة فَهُوَ حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَن الْغَائِب عَنْهَا إِذا علم الْجِهَة بِدَلِيل فصلى إِلَيْهَا لم يلْزمه إِذا قدم مَكَّة اعْتِبَار الْجِهَات المتيقنة وَكَذَلِكَ هَاهُنَا إِذا علم بقول الْعدْل ثمَّ لَقِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يجب أَن لَا يلْزمه سُؤَاله.

.مَسْأَلَة: (22) إِذا نسي الْمَرْوِيّ عَنهُ الحَدِيث والراوي عَنهُ ثِقَة لم يسْقط الحَدِيث:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يسْقط الحَدِيث.
لنا أَن سُهَيْل بن أبي صَالح روى عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن حَدِيث الشَّاهِد وَالْيَمِين ثمَّ نَسيَه فَكَانَ يَقُول حَدثنِي ربيعَة عني أَنِّي حدثته عَن أبي هُرَيْرَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من التَّابِعين.
وصنف أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ جُزْءا فِيمَن نسي ثمَّ روى عَمَّن روى عَنهُ وَهَذَا يدل على أَنه إِجْمَاع على جَوَاز ذَلِك؛ وَلِأَن الْمَرْوِيّ عَنهُ لَا يعلم بطلَان الحَدِيث والراوي عَنهُ ثِقَة فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ كَمَا لَو لم ينس؛ وَلِأَنَّهُ مَوته أعظم من نسيانه فَإِذا كَانَ مَوته لَا يبطل رِوَايَة الثِّقَة عَنهُ فنسيانه أولى.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْخَبَر كَالشَّهَادَةِ ثمَّ إِنْكَار شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة يبطل الشَّهَادَة فَكَذَلِك إِنْكَار الْمَرْوِيّ عَنهُ الْخَبَر يجب أَن يبطل الْخَبَر.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْخَبَر أَلا ترى أَن شَهَادَة العبيد لَا تقبل وأخبارهم تقبل فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.

.مَسْأَلَة: (23) إِذا ترك الرَّاوِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِغَيْرِهِ لم يسْقط الحَدِيث:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة يسْقط الحَدِيث.
لنا هُوَ أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة وَقَول الرَّاوِي لَيْسَ بِحجَّة فَلَا تعَارض الْحجَّة بِمَا لَيْسَ بِحجَّة.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الصَّحَابِيّ مَعَ فَضله وَدينه لَا يجوز أَن يتْرك الحَدِيث وَيعْمل بِخِلَافِهِ إِلَّا وَقد علم نسخ الْخَبَر فَوَجَبَ أَن يسْقط الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَن يكون علم نسخه وَيحْتَمل أَنه نَسيَه أَو تَأَوَّلَه فَلَا تتْرك سنة ثَابِتَة بتجويز النّسخ؛ وَلِأَن الظَّاهِر أَنه لَيْسَ مَعَه مَا ينسخه لِأَنَّهُ لَو كَانَ مَعَه نَاسخ لرواه فِي وَقت من الْأَوْقَات وَلما لم يظْهر ذَلِك دلّ على أَنه نَسيَه.

.مَسْأَلَة: (24) إِذا وجد سَمَاعه على كتاب وَلم يذكر أَنه سَمعه جَازَ لَهُ أَن يرويهِ:

وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَا يجوز حَتَّى يذكرهُ وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
لنا هُوَ أَن الْأَخْبَار تحمل على الظَّاهِر وَحسن الظَّن وَلِهَذَا قبلناها من العبيد وَالنِّسَاء وَمن لَا نَعْرِف عَدَالَته فِي الْبَاطِن فَالظَّاهِر من هَذَا السماع الصِّحَّة فَوَجَبَ أَن تجوز لَهُ الرِّوَايَة.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى الْخط فِي الشَّهَادَة فَكَذَلِك فِي الْخَبَر.
وَالْجَوَاب: أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْأَخْبَار وَقد بَينا هَذَا بِمَا يُغني عَن الْإِعَادَة.

.مَسْأَلَة: (25) إِذا كتب إِلَيْهِ رجل بِحَدِيث جَازَ أَن يرويهِ عَنهُ فَيَقُول أَخْبرنِي فلَان بِهَذَا مُكَاتبَة:

وَمن النَّاس من قَالَ لَا تجوز لَهُ الرِّوَايَة عَنهُ.
لنا هُوَ أَن أَمر الْأَخْبَار مَبْنِيّ على الظَّاهِر وَحسن الظَّن وَالظَّاهِر صِحَة مَا كتب إِلَيْهِ فَجَاز أَن يعول عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَة.
فَإِن احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو كتب إِلَيْهِ بِشَهَادَة لم يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَلِك إِذا كتب إِلَيْهِ بِخَبَر.
وَالْجَوَاب: أَن بَاب الشَّهَادَة آكِد من بَاب الْأَخْبَار وَقد بَينا ذَلِك فِي غير مَوضِع فأغنى عَن الْإِعَادَة.

.مَسْأَلَة: (26) تجوز رِوَايَة الحَدِيث على الْمَعْنى إِذا كَانَ عَالما بِمَعْنى الحَدِيث:

وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَا يجوز ذَلِك.
لنا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ إِذا أُصِيب الْمَعْنى؛ وَلِأَن الْقَصْد هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَقد أَتَى بِالْمَقْصُودِ فَوَجَبَ أَن يجوز كَمَا نقُول فِي نقل الشَّهَادَة والأقارير.
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «رحم الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وحفظها وَأدّى كَمَا سمع فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ» وَهَذَا يَقْتَضِي حفظ الْأَلْفَاظ.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا يدل على الْفَضِيلَة والاستحباب أَلا ترى أَنه رغب فِيهِ بِالدُّعَاءِ وَلم يتواعد على تَركه.
قَالُوا ولأنا لَا نَأْمَن أَن يكون قد قصد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام معنى فَاسْتعْمل فِيهِ لفظا على سَبِيل الْمجَاز فينقل الرَّاوِي ذَلِك إِلَى لفظ لَا يُؤَدِّي معنى الأول فيغير الْمَقْصُود.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنا إِنَّمَا نجيز ذَلِك لمن علم معنى الحَدِيث وأحاط بِهِ علمه فَلَا يُغير الْمَقْصُود.
قَالُوا وَلِأَن الْقُرْآن لَا يجوز أَن يقْرَأ على الْمَعْنى فَكَذَلِك السّنة.
قُلْنَا لِأَن اللَّفْظ مَقْصُود فِي الْقُرْآن أَلا ترى أَنه يُثَاب على تِلَاوَته وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن الْقَصْد هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ فشابه مَا ذكرنَا من الشَّهَادَة وَالْإِقْرَار.

.مَسْأَلَة: (27) يرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِكَثْرَة الروَاة فِي أحد المذهبين وَلَا يرجح فِي الْمَذْهَب الآخر:

وَهُوَ مَذْهَب بعض النَّاس.
لنا هُوَ أَن رِوَايَة الِاثْنَيْنِ أقرب إِلَى الصِّحَّة وَأبْعد من السَّهْو والغلط فَإِن الشَّيْء عِنْد الْجَمَاعَة أحفظ مِنْهُ عِنْد الْوَاحِد وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام «الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أبعد» فَوَجَبَ أَن يرجح مَا كثر رُوَاته.
وَأَيْضًا فَإِن مَا كثر رُوَاته أقرب إِلَى التَّوَاتُر فَوَجَبَ أَن يكون أولى من غَيره.
وَاحْتَجُّوا بِأَن فِي الشَّهَادَات لَا يرجح بِكَثْرَة الْعدَد فَكَذَلِك فِي الْأَخْبَار.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الشَّهَادَات مقدرَة فِي الشَّرْع فَلم يرجح بِكَثْرَة الْعدَد وَالْأَخْبَار غير مقدرَة فَرجع فِيهَا إِلَى الْأَقْوَى فِي الظَّن يدلك عَلَيْهِ أَن الشَّهَادَات لَا ترجح بِالسِّنِّ وَلَا بِالْقربِ وَلَا بِالْعلمِ وَالْأَخْبَار ترجح بذلك كُله فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.

.مسَائِل الْإِجْمَاع:

.مَسْأَلَة: (1) إِجْمَاع الْعلمَاء على حكم الْحَادِثَة حجَّة مَقْطُوع بهَا:

وَقَالَ النظام والإمامية لَيْسَ بِحجَّة غير أَن الإمامية قَالَت إِن الْمُسلمين إِذا أَجمعُوا على حكم وَجب الْمصير إِلَيْهِ لِأَن فيهم من قَوْله حجَّة وَهُوَ الإِمَام وَالْإِجْمَاع عِنْدهم لَيْسَ بِحجَّة وَلَكِن فِيهِ حجَّة.
لنا مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} فتواعد على مُخَالفَة سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَدلَّ على أَن اتباعهم وَاجِب ومخالفتهم حرَام وَأَن مَا عداهُ بَاطِل.
فَإِن قيل: إِنَّمَا علق الْوَعيد على مُخَالفَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَنحن نقُول إِن الْوَعيد يتَعَلَّق بذلك.
قيل لَو لم يحرم كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد لما علق الْوَعيد عَلَيْهِمَا على الِاجْتِمَاع فَلَمَّا علق الْوَعيد عَلَيْهِمَا دلّ على تَحْرِيم كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد، أَلا ترى أَنه لما قَالَ {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} رَجَعَ هَذَا الْوَعيد إِلَى الْأَمريْنِ جَمِيعًا الْقَتْل وَالزِّنَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْفَرد عَن الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَن الْوَعيد يتَعَلَّق بمشاقة الرَّسُول على الِانْفِرَاد وَإِن لم يكن هُنَاكَ مُؤمن فَدلَّ على أَن الْوَعيد مُعَلّق بترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ على الِانْفِرَاد.
فَإِن قيل: المُرَاد بِهِ ترك اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ فِي مشاقة الرَّسُول فَيكون الْوَعيد على مشاقة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط.
قيل هَذَا تَخْصِيص من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لم يقل وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي أَمر دون أَمر فَوَجَبَ أَن يحمل على الْعُمُوم؛ وَلِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى حمل اللَّفْظ على التّكْرَار وَذَلِكَ أَن اسْتِحْقَاق الْوَعيد بمشاقة الرَّسُول قد عرف من قَوْله {وَمن يُشَاقق الرَّسُول} فَيجب أَن يكون الْوَعيد فِي ترك اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ يتَعَلَّق بِمَعْنى آخر.
فَإِن قيل: الْوَعيد إِنَّمَا لحقه بترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ بَعْدَمَا علمُوا الدَّلِيل، أَلا ترى أَنه قَالَ {من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى} وَبعد قيام الدَّلِيل وَبَيَان الْهدى يسْتَحق الْوَعيد على ترك سبيلهم.
وَالْجَوَاب: أَنه لَا يجوز أَن يكون المُرَاد ترك سبيلهم فِيمَا أَقَامُوا عَلَيْهِ الدَّلِيل لِأَنَّهُ إِذا قَامَ الدَّلِيل على الحكم ثَبت الْوَعيد بمخالفته وَإِن لم يكن ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَقَوْلهمْ إِنَّه شَرط فِيهِ تبين الْهدى غلط لِأَن ذَلِك إِنَّمَا شَرط فِي مشاقة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَاسْتِحْقَاق الْوَعيد بمشاقته مَوْقُوف على تبين الْهدى وَقيام الدَّلِيل على ثُبُوته وَأما فِي ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ فقد أطلق الْوَعيد فَوَجَبَ أَن يتَعَلَّق ذَلِك بمخالفتهم بِكُل حَال.
قَالُوا وَلِأَن هَذَا اسْتِدْلَال بِدَلِيل الْخطاب وَذَلِكَ أَنه لما علق الْوَعيد على اتِّبَاع غير سبيلهم وَحرمه استدللتم من ذَلِك على أَن اتباعهم وَاجِب وَمثل هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يجوز إِثْبَاتهَا بِدَلِيل الْخطاب وَهِي من مسَائِل الِاجْتِهَاد.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنا نتعلق من الْآيَة بالنطق لَا بِالدَّلِيلِ وَذَلِكَ أَنه ألحق الْوَعيد بِمن يتبع غير سبيلهم وَعند الْمُخَالف أَنه لَا يلْحق الْوَعيد بِاتِّبَاع غير سبيلهم فَكَانَ مَذْهَبهم مُخَالفا لنطق الْآيَة.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَنا استدللنا من الْآيَة بتقسيم عَقْلِي لَا محيد عَنهُ وَلَا محيص مِنْهُ وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ هَاهُنَا أَكثر من سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَغير سبيلهم فَلَمَّا تواعد على اتِّبَاع غير سبيلهم تعين وجوب اتِّبَاع سبيلهم وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَو نَص على حكم وَاحِد فِي الْقسمَيْنِ لم يجز فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال وَمن ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَغير سبيلهم فَهُوَ فِي النَّار إِذْ لَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا سبيلهم وَغير سبيلهم وَلَو نَص على دَلِيل الْخطاب فِي الشَّيْء وضده على حكم وَاحِد بِأَن قَالَ فِي سَائِمَة الْغنم ومعلوفتها الزَّكَاة جَازَ فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ.
فَإِن قيل: المُرَاد بِالْآيَةِ ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي مَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين وَهُوَ الْإِيمَان يدل عَلَيْهِ أَنه لَو قَالَ للقائل اتبع سَبِيل أهل الْخَيْر وَالدّين كَانَ مَعْنَاهُ اتباعهم فِيمَا صَارُوا بِهِ من أهل الْخَيْر وَالدّين فَصَارَ تَقْدِير الْآيَة وَيتبع سَبِيل الْكفَّار وَهَذَا مُسْتَحقّ الْوَعيد عَلَيْهِ.
قيل هَذَا لَا يَصح بل هِيَ عَامَّة فِي كل مَا هُوَ سَبِيل لَهُم، أَلا ترى أَنه لَو قَالَ افْعَل أَفعَال الْعلمَاء اقْتضى ذَلِك اتباعهم فِي جَمِيع أفعالهم مِمَّا صَارُوا بِهِ عُلَمَاء وَمِمَّا لم يصيروا بِهِ من أفعالهم وعاداتهم؛ وَلِأَن تَحْرِيم الْكفْر وَترك اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ فِيهِ قد علم من مشاقة الرَّسُول فَإِن من شاقه كَانَ كَافِرًا مُسْتَحقّا للعقوبة فَيجب أَن يكون مَحْمُولا على ترك اتباعهم فِي غير الْإِيمَان.
فَإِن قيل: الْآيَة تَقْتَضِي سَبِيلا وَاحِدًا وَفِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ مَا يحرم تَركه.
قُلْنَا هَذَا جهل من قَائِله فَإِن السَّبِيل معرف بِالْإِضَافَة فَاقْتضى جَمِيع سبيلهم وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي وَاحِدًا هُوَ السَّبِيل الْمُنكر فَأَما إِذا عرفه بِالْإِضَافَة كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُعَرّف بِالْألف وَاللَّام.
فَإِن قيل: السَّبِيل حَقِيقَة فِي الطَّرِيق فَأَما فِي الْأَقْوَال فمجاز فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ فِي أَحْكَام الْحَوَادِث.
قيل السَّبِيل حَقِيقَة فيهمَا، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ {قل هَذِه سبيلي} وَالْمرَاد بِهِ الْقُرْآن وَقَالَ {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة} وَالْمرَاد بِهِ الدَّين؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ مجَازًا لَكَانَ فِي معنى الْحَقِيقَة لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِيهِ وَكَثْرَة الِاسْتِعْمَال تجْعَل اللَّفْظ كالحقيقة فِي الِاسْتِعْمَال وَرُبمَا صَار الْمجَاز أَحَق بِهِ كالغائط اسْم للمكان المنخفض ثمَّ لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِي النجو صَار كالحقيقة حَتَّى إِذا ورد اللَّفْظ بِهِ حمل على النجو دون الْمَكَان.
قَالُوا إِنَّمَا علق الْوَعيد على ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَنحن لَا نعلم أَن أهل الْإِجْمَاع مُؤمنُونَ فَلَا يلْزمنَا حكم الْوَعيد على مخالفتهم.
قُلْنَا الْمُؤمن فِي حكم الشَّرْع هُوَ الَّذِي الْتزم أَحْكَام الشَّرْع وآمن بهَا وَهَذَا مَعْرُوف مَعْلُوم فَوَجَبَ أَن يلْحق الْوَعيد بترك اتِّبَاعه.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَنه إِذا اجْتمع أهل الْقبْلَة من أهل الْعَصْر على حكم قَطعنَا بِأَن فيهم مُؤمن فَيجب أَن يلْحق الْوَعيد بمخالفتهم لِأَنَّهُ ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ قطعا ويقينا.
فَإِن قيل: عندنَا إِذا ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ قطعا ألحقنا بِهِ الْوَعيد فَإِن فِي جُمْلَتهمْ الإِمَام الْمَعْصُوم فَيلْحق الْوَعيد بمخالفته.
قُلْنَا الظَّاهِر يَقْتَضِي اسْتِحْقَاق الْوَعيد بمخالفة الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَمَاعَة وَعِنْدهم إِذا خَالف أهل الْقبْلَة كلهم اسْتحق الْوَعيد على ترك سَبِيل مُؤمن وَاحِد دون البَاقِينَ.
قَالُوا هَذَا يَقْتَضِي أَن يتْرك سَبِيل جَمِيع الْمُؤمنِينَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيسْتَحق الْوَعيد وَهَذَا لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع.
وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد بِالْآيَةِ بعض الْمُؤمنِينَ يدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه يَقْتَضِي تَابعا ومتبوعا وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ جَمِيع الْمُؤمنِينَ لم يكن فِي الْمُؤمنِينَ تَابع؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد بِهِ جَمِيع الْمُؤمنِينَ لتأخر التَّكْلِيف إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيجب أَن يكون المُرَاد بِهِ بعض الْمُؤمنِينَ؛ وَلِأَن الْآيَة تَقْتَضِي ترك اتِّبَاع من هُوَ مُؤمن فِي الْحَقِيقَة وَالَّذِي هُوَ مُؤمن فِي الْحَقِيقَة هم أهل الْعَصْر فَأَما من مَاتَ مِنْهُم أَو لم يخلق مِنْهُم فَلَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْمُؤمنِينَ فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهِ الْبَعْض.
فَإِن قيل: لَو كَانَ المُرَاد بِهِ من هُوَ مُؤمن فِي الْحَقِيقَة وَجب أَن يعْتَبر اتِّفَاق الْعلمَاء والعامة.
قُلْنَا قد بَينا أَنه جعل الْبَعْض تَابعا وَالْبَعْض متبوعا فَيجب أَن يكون المُرَاد بِهِ عُلَمَاء الْعَصْر، وَمِمَّا يدل على أَن الْإِجْمَاع حجَّة قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} فَيجب أَن يكون مَا يأمرون بِهِ مَعْرُوفا وَمَا ينهون عَنهُ مُنْكرا وَعند الْمُخَالفين أَنهم يأمرون بِمَا لَيْسَ بِمَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَمَّا لَيْسَ بمنكر.
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط الْعدْل قَالَ الشَّاعِر:
هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم ** إِذا نزلت إِحْدَى اللَّيَالِي بمعظم

فعدلهم وجعلهم شُهَدَاء فَدلَّ على أَن قبُول قَوْلهم وَاجِب إِذْ لَا يجوز أَن يعدلهم ويجعلهم شُهَدَاء على النَّاس ثمَّ لَا يكون قَوْلهم حجَّة عَلَيْهِم.
فَإِن قيل: إِثْبَات الْعَدَالَة لَهُم لَا يدل على أَنه لَا يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ كَمَا لَا يدل على انه لَا يجوز عَلَيْهِم الصَّغَائِر.
قُلْنَا لم عد لَهُم وجعلهم شُهَدَاء دلّ على انى قَوْلهم مَقْبُول عَلَيْهِم كَمَا أَنه لما عدل الشَّاهِد فِي الْحُقُوق وَجعله شَاهدا على الْمُدعى عَلَيْهِ كَانَ قَوْله حجَّة عَلَيْهِم وَإِن لم يقتض تعديله رفع الصَّغَائِر عَنهُ.
فَإِن قيل: المُرَاد بهَا شَهَادَة هَذِه الْأمة على سَائِر الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة.
قيل هَذِه عَامَّة فِي الْجَمِيع فنحملها عَلَيْهِ، وَيدل عَلَيْهِ من السّنة مَا روى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ «لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة»، وروى «لَا تَجْتَمِع أمتِي على الْخَطَأ».
وَقَالَ لم يكن الله ليجمع هَذِه الْأمة على الْخَطَأ.
وَقَالَ «مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ عِنْد الله قَبِيح».
وَقَالَ «من فَارق الْجَمَاعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة».
وَقَالَ «من فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه».
وروى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن الشذوذ وَقَالَ «من شَذَّ شَذَّ فِي النَّار».
وَقَالَ «عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن الذِّئْب يَأْكُل القاصية من الْغنم».
وَقَالَ «عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم».
وَقَالَ «عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي».
وَهَذَا كُله يدل على صِحَة الْإِجْمَاع وَنفي الْخَطَأ عَنهُ.
فَإِن قيل: هَذِه أَحَادِيث آحَاد فَلَا يَصح إِثْبَات الْإِجْمَاع بهَا وَهُوَ من مسَائِل الْأُصُول.
قيل هَذَا تَوَاتر من طَرِيق الْمَعْنى فَإِن ألفاظها وَإِن اخْتلفت فقد اتّفق الْجَمِيع على إِيجَاب الْمصير إِلَى الْإِجْمَاع وعصمة الْأمة من الْخَطَأ وَصَارَ ذَلِك مُوجبا للْعلم وَبِهَذَا الطَّرِيق علمنَا شجاعة عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وسخاء حَاتِم وفصاحة الجاحظ فَإِن الْأَخْبَار قد كثرت عَنْهُم فِي الدّلَالَة على هَذِه الْمعَانِي فَأوجب لنا الْعلم بِتِلْكَ كَذَلِك هَاهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تكون هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها كلهَا كذبا كَمَا أَن الْخلق الْعَظِيم إِذا أخبروا عَن اعْتِقَاد الْإِسْلَام لم يجز أَن يَكُونُوا كلهم كفَّارًا قد أبطنوا الْكفْر وأظهروا الْإِسْلَام بل يجب أَن يكون فيهم من يصدق فِي خَبره وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يجب أَن يكون فِي جمَاعَة هَذِه الْأَخْبَار الْكَثِيرَة خبر وَاحِد صَحِيح وَإِذا ثَبت صِحَة خبر مِنْهَا وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَالْعَمَل بِهِ.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَلم يَأْمر بِالرَّدِّ إِلَى الْإِجْمَاع وعندكم يرد إِلَى إِجْمَاع من تقدم.
قُلْنَا الْآيَة دلَالَة لنا لِأَنَّهُ شَرط فِي الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وجود الشَّارِع فَدلَّ على أَن دَلِيل الحكم عِنْد عدم الشَّارِع هُوَ الْإِجْمَاع إِذْ لَا بُد للْحكم من دلَالَة؛ وَلِأَن الرُّجُوع إِلَى الْإِجْمَاع رد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَقد بَيناهُ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ «بِمَ تقضي قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد قَالَ بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ «فَإِن لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي» وَلم يذكر الْإِجْمَاع.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا كَانَ فِي زمَان النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا إِجْمَاع فِي زَمَانه فَلهَذَا لم يذكرهُ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ «لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض» وَهَذَا يدل على جَوَاز الضلال عَلَيْهِم.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نَعْرِف هَذَا الْخَبَر فَيجب أَن يثبتوه ليعْمَل بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون خطابا لقوم بأعيانهم وَيجوز الْخَطَأ والضلالة عَلَيْهِم.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة».
وَالْجَوَاب: أَنا نحمله على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ اتِّفَاق أمة فَلم يكن حجَّة دَلِيله اتِّفَاق الْأُمَم السَّابِقَة.
وَالْجَوَاب: أَن من أَصْحَابنَا من لم يسلم هَذَا الأَصْل وَقَالَ إِجْمَاع الْأمة وَسَائِر الْأُمَم السالفة سَوَاء وَهُوَ اخْتِيَار أبي إِسْحَق الإِسْفِرَايِينِيّ رَحمَه الله.
وَإِن سلمنَا على قَول غَيره فَالْفرق بَينهمَا هُوَ أَن عصمَة الْأُمَم طريقها الشَّرْع وَالشَّرْع لم يرد بعصمة سَائِر الْأُمَم وَورد الشَّرْع بعصمة هَذِه الْأمة وَنفي الْخَطَأ عَنْهَا على مَا بَيناهُ؛ وَلِأَن النّسخ فِي سَائِر الْأَدْيَان يجوز فَلم يحْتَج فِيهَا إِلَى عصمَة وَلَا يجوز ذَلِك فِي شريعتنا فَإِنَّهَا مُؤَبّدَة فعصمت أمتها ليرْجع إِلَيْهَا عِنْد الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وليحفظ بِهِ الشَّرْع.
قَالُوا وَلِأَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده لِأَنَّهُ لَا يُمكن ضبط أقاويل الْعلمَاء على تبَاعد الْبِلَاد وَكَثْرَة الْعلمَاء فَإِذا لم يتَصَوَّر لم يجز الرُّجُوع إِلَيْهِ.
قُلْنَا يُمكن تصور ذَلِك بِسَمَاع أقاويل الْحَاضِرين وَالنَّقْل عَن الغائبين كَمَا يعرف اتِّفَاق الْمُسلمين على الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَغير ذَلِك فِي سَائِر الْبِلَاد على كَثْرَة الْمُسلمين وتباعد الْبِلَاد؛ وَلِأَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْعَصْر وَأهل الِاجْتِهَاد وهم كالأعلام فِي الاشتهار فَيمكن معرفَة أقاويلهم؛ وَلِأَن عِنْدهم إِجْمَاع الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة وَقد كَانَ عَددهمْ محصورا ومواضعهم مَعْرُوفَة وَضبط أقاويلهم مُمكن فَدلَّ على بطلَان مَا قَالُوهُ.
قَالُوا وَلِأَن مَا وَجب الحكم فِيهِ بِالدَّلِيلِ لم يجز الرُّجُوع فِيهِ إِلَى مُجَرّد قَول أهل الْعَصْر كالتوحيد.
قُلْنَا التَّوْحِيد لم يثبت عَن أصل قبله وَالْإِجْمَاع عرف ثُبُوته بِأَصْل قبله فشابه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.

.مَسْأَلَة: (2) إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة:

وَقَالَ دَاوُد إِجْمَاع غير الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة.
لنا قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وَلم يفصل، وَأَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة» وَلم يفصل؛ وَلِأَنَّهُ اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم النَّازِلَة فَكَانَ حجَّة قِيَاسا على اتِّفَاق الصَّحَابَة؛ وَلِأَنَّهُ لما كَانَ الْعَصْر الأول وَالثَّانِي فِيمَا ينْقل من الْأَخْبَار سَوَاء وَجب أَن يَكُونُوا فِيمَا يتفقون عَلَيْهِ من الْأَحْكَام سَوَاء.
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} فَخص الصَّحَابَة بذلك.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نسلم أَن ذَلِك خطاب لَهُم خَاصَّة بل هُوَ خطاب لسَائِر الْمُؤمنِينَ كَمَا كَانَ قَوْله عز وَجل {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَسَائِر مَا ورد بِهِ الشَّرْع من هَذَا الْجِنْس خطابا لجَمِيع الْمُؤمنِينَ.
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَا خلاف أَن من لم يكن بلغ من الصَّحَابَة عِنْد هَذَا الْخطاب إِذا بلغ تنَاوله الْخطاب وَإِن لم يكن مَوْجُودا عِنْد وُرُوده.
وَاحْتج أَيْضا بِأَن عصمَة الْأمة طريقها الشَّرْع لِأَن الْعقل يجوز الْخَطَأ عَلَيْهِم وَقد ورد الشَّرْع بعصمة الصَّحَابَة فبقى من عَداهَا على الأَصْل.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الدَّلِيل الَّذِي اقْتضى عصمَة الصَّحَابَة اقْتضى عصمَة عُلَمَاء سَائِر الْأَعْصَار وَقد بَيناهُ.
وَاحْتج أَيْضا بِأَن إِجْمَاع غير الصَّحَابَة لَا يتَصَوَّر لِكَثْرَة الْعلمَاء وتباعد هم وَتعذر ضبط أقاويل الْجَمِيع فَيجب أَن لَا يكون ذَلِك حجَّة.
وَالْجَوَاب: مَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا.

.مَسْأَلَة: (3) إِذا قَالَت الصَّحَابَة قولا وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان لم يكن ذَلِك إِجْمَاعًا:

وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير هُوَ إِجْمَاع.
لنا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَقد تنازعوا هَاهُنَا فَيجب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة؛ وَلِأَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ خَالف سَائِر الصَّحَابَة فِي قتال الْمُرْتَدين فأقروه على ذَلِك وَلم يَقُولُوا أَن قَوْلنَا حجَّة عَلَيْك بل ناظروه وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالسنةِ.
وَعبد الله بن الْعَبَّاس خَالف الصَّحَابَة فِي خمس مسَائِل من الْفَرَائِض تفرد بهَا.
وَكَذَلِكَ عبد الله بن مَسْعُود وَلم يُنكر عَلَيْهِ بَقِيَّة الصَّحَابَة فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ.
وَلِأَنَّهُ لم يحصل اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم الْحَادِثَة فَلم يكن إِجْمَاعًا دَلِيله إِذا خَالف جمَاعَة كَبِيرَة؛ وَلِأَن الْإِجْمَاع طَرِيقه الشَّرْع وَالشَّرْع ورد بعصمة جَمِيع الْأمة دون معظمها فَوَجَبَ أَن يجوز الْخَطَأ عَلَيْهِم؛ وَلِأَن من قَالَ إِن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا يعْتد بِهِ لَا ينْفَصل عَمَّن قَالَ خلاف الْخَمْسَة وَالْعشرَة لَا يعْتد بِهِ حَتَّى يبلغ حد الْمُسَاوَاة وَإِذا لم ينْفَصل بَعْضهَا عَن بعض بَطل الْجَمِيع.
فَإِن قيل: فَيجب على مُقْتَضى هَذَا الدَّلِيل أَن لَا يقدم الْخَبَر الْمُتَوَاتر على خبر الْوَاحِد وَيُقَال إِن خبر الْوَاحِد والاثنين وَمَا زَاد إِلَى أَن يبلغ حد التَّوَاتُر كلهَا وَاحِد لَا ينْفَصل بَعْضهَا عَن بعض وَلما أجمعنا على فَسَاد هَذَا دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ.
قيل فِيمَا ألزمتم معنى يُوجب الْفَصْل بَين العددين وَهُوَ أَن مَا بلغ حد التَّوَاتُر يَقع الْعلم عِنْد سَمَاعه ضَرُورَة وَأما دونه لَا يَقع الْعلم عِنْد سَمَاعه ضَرُورَة وَلَيْسَ كَذَلِك فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ لِأَن جَوَاز الْخَطَأ على كل وَاحِد من هَذِه الْأَعْدَاد سَوَاء فَكَانَ حكم الْجَمِيع وَاحِدًا.
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة» وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام «الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد».
وَالْجَوَاب: أَن الْخَبَر الأول إِنَّمَا ورد فِي جمَاعَة الصَّلَاة وَيدل عَلَيْهِ أَن أحدا لَا يَقُول إِن إِجْمَاع الِاثْنَيْنِ حجَّة.
وَالْخَبَر الثَّانِي ورد فِي الْأَسْفَار بِدَلِيل أَن أحدا كَانَ لَا يَقُول إِن إِجْمَاع الِاثْنَيْنِ حجَّة فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهِ مَا قُلْنَاهُ.
وَاحْتج أَيْضا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة وَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم».
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن المُرَاد بذلك الْأمة كلهَا فنحمله عَلَيْهِ بِدَلِيل مَا ذَكرْنَاهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن النَّاس عولوا فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ على الْإِجْمَاع وَقد خالفوه فِي ذَلِك عَليّ وَسعد وَلم يلْتَفت إِلَى خلافهما.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نسلم أَن عليا خَالف فِي ذَلِك وَأنكر مَا قيل عَنهُ إِنَّه لم يحضر فِي الِابْتِدَاء وَلَيْسَ من شَرط الْإِجْمَاع الْحُضُور بل يَكْفِي أَن يسكت فَيدل على الرِّضَا.
وَأما سعد فَإِنَّهُ مَا خَالف وَلكنه كَانَ ظن أَنه يعْقد لَهُ الْأَمر فَلَمَّا روى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْأَئِمَّة من قُرَيْش سكت فَأَما أَن يكون قد خَالف فِي ذَلِك فَلَا.
وَاحْتج بِأَن خبر الْجَمَاعَة مقدم على خبر الْوَاحِد فَكَذَلِك قَول الْجَمَاعَة مقدم على قَول الْوَاحِد.
وَالْجَوَاب: أَنه إِن أردتم فِي ذَلِك الْخَبَر الْمُتَوَاتر فَذَلِك يُوجب الْعلم ضَرُورَة فَكَانَ مقدما على خبر الْوَاحِد وَهَاهُنَا الْخَطَأ يجوز على كلا الفرقين على وَجه وَاحِد فَلَا يجوز تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر.
وَإِن أَرَادوا بِهِ أَنه تعَارض خبران من أَخْبَار الْآحَاد فَمن أَصْحَابنَا من لم يرجح لِكَثْرَة الْعدَد وَإِن سلمنَا لم يمْنَع أَن يرجح الْخَبَر بِمَا لَا ترجح بِهِ أقاويل الْمُجْتَهدين.
أَلا ترى أَن رِوَايَة الِاثْنَيْنِ وَالْأَقْرَب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدم وَقَول الِاثْنَيْنِ وَالْأَقْرَب لَا يقدم فِي الِاجْتِهَاد؛ وَلِأَن الْأَخْبَار طريقها الظَّن فَمَا كَانَ أقوى فِي الظَّن كَانَ أولى وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن طَرِيق الْإِجْمَاع عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ وَالْخَطَأ يجوز على الْفَرِيقَيْنِ فاستويا يدلك عَلَيْهِ إِن رِوَايَة الْخَمْسَة وَرِوَايَة الْعشْرَة إِذا تَعَارَضَتَا قدمت رِوَايَة الْعشْرَة على الْخَمْسَة وَفِي الْإِجْمَاع لَا يقدم قَول الْعشْرَة على الْخَمْسَة فَافْتَرقَا.

.مَسْأَلَة: (4) إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَيْسَ بِحجَّة:

وروى عَن مَالك رَحمَه الله أَنه قَالَ إِجْمَاعهم حجَّة.
لنا جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا؛ وَلِأَن الِاعْتِبَار بِالْعلمِ وَمَعْرِفَة الْأُصُول وَقد اسْتَوَى فِيهِ أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم.
وَلِأَنَّهُ أحد الْحَرَمَيْنِ فَلم يقدم إِجْمَاع أَهله كإجماع أهل مَكَّة، وَأَيْضًا هُوَ أَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَمر محَال وَهُوَ أَن يكون قَوْلهم حجَّة مَا داموا بِالْمَدِينَةِ فَإِذا خَرجُوا مِنْهَا لم يكن حجَّة وَهَذَا محَال لِأَن من كَانَ قَوْله حجَّة فِي مَكَان كَانَ فِي سَائِر الْأَمْكِنَة حجَّة كالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد» وَالْخَطَأ من الْخبث فَكَانَ منفيا عَن أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام «إِن الْإِسْلَام يأرز إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها».
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا يكايد أحد أهل الْمَدِينَة إِلَّا أنماع كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء».
وَالْجَوَاب: أَن هَذِه الْأَخْبَار آحَاد فَلَا يثبت بهَا أصل من أصُول الدَّين.
على أَن قَوْله الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها عَام فِي الْخَطَأ وَغَيره ونحمله على غير الْخَطَأ.
على أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «إِن الْإِسْلَام يأرز إِلَى الْمَدِينَة» يَقْتَضِي جَمِيع الْإِسْلَام وَإِذا حصل فِيهَا جَمِيع الْإِسْلَام صَار إِجْمَاع أَهلهَا حجَّة.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا يكايد أحد أهل الْمَدِينَة» الْخَبَر فَلَا حجَّة فِيهِ لِأَن المكايدة والمغايرة لَا تسْتَعْمل فِي الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف فَلَا يدْخل فِي الْخَبَر مَا نَحن فِيهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْمَدِينَة مهَاجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَوْضِع الْقَبْر وَالْوَحي ومستقر الْإِسْلَام وَمجمع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَلَا يجوز أَن يخرج الْحق عَن قَول أَهلهَا.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذِه دَعْوَى لِأَنَّهُ يجوز مَعَ وجود هَذِه الْمعَانِي أَن يخرج الْحق من أَهلهَا، وعَلى أَن هَذَا يبطل بِمَكَّة فَإِنَّهَا مَوضِع الْمَنَاسِك ومولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومبعثه ومولد إِسْمَاعِيل ومنزل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يدل ذَلِك على أَن قَول أَهلهَا حجَّة.
وَاحْتَجُّوا بِأَن رِوَايَة أهل الْمَدِينَة تقدم على رِوَايَة غَيرهم فَكَذَلِك قَوْلهم يقدم على قَول غَيرهم.
قُلْنَا هَذَا أَيْضا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا عِلّة تجمع بَينهمَا، ثمَّ التَّرْجِيح فِي الْأَخْبَار لَا يُوجب التَّرْجِيح فِي أَقْوَال الْمُجْتَهدين، أَلا ترى أَن رِوَايَة الْجَمَاعَة تقدم على رِوَايَة الْوَاحِد والجميع فِي الِاجْتِهَاد سَوَاء؛ وَلِأَن الْأَخْبَار تدْرك بحاسة السّمع فَمن قرب مِنْهُم وَشَاهده كَانَ أضبط وَأهل الْمَدِينَة أقرب مِنْهُم لما سَمِعُوهُ وشاهدوه وأضبط وَالِاجْتِهَاد نظر الْقلب فَلَا يقدم فِيهِ الْأَقْرَب وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام «فَرب حَامِل فقه الى من هُوَ أفقه مِنْهُ» فَلَا يقدم فِيهِ قَول الْأَقْرَب.

.مَسْأَلَة: (5) اتِّفَاق أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِحجَّة:

وَقَالَت الرافضة هُوَ حجَّة.
لنا قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} فعلق الْوَعيد على ترك سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَدلَّ على أَنه لَا يتَعَلَّق ذَلِك بترك سَبِيل بَعضهم، وَأَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَهَذَا يدل على أَنه إِذا ترك عليا عَلَيْهِ السَّلَام وقلد غَيره يكون مهتديا.
فَإِن قيل: هَذَا خبر وَاحِد وَنحن لَا نقُول بِهِ.
قُلْنَا نَحن نَبْنِي على أصلنَا فَإِن خبر الْوَاحِد حجَّة وَإِذا ثَبت ذَلِك صَحَّ استدلالنا بِهِ.
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن عليا خالفته الصَّحَابَة فِي مسَائِل مَشْهُورَة لَا تحصى كَثِيرَة وَلم يقل لأحد مِنْهُم إِن قولي عَلَيْكُم حجَّة فَدلَّ على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} وَالْخَطَأ من الرجس فَيجب أَن يَكُونُوا مطهرين مِنْهُ.
وَالْجَوَاب: وَهُوَ أَن أهل الْبَيْت يتناولون كل من فِي الْبَيْت من الْأزْوَاج وَلَا يَقُول أحد أَن اتِّفَاق الْأزْوَاج حجَّة فَثَبت أَنه أَرَادَ نفي الْعَار والقباحة عَنْهُم دون الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد.
فَإِن قيل: المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة أدَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كسَاء على هَؤُلَاءِ وَقَالَ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَعِنْدهم لَا يقبل كَيفَ وَهُوَ مُخَالف لظَاهِر الْقُرْآن وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي أول الْآيَة {يَا نسَاء النَّبِي} ثمَّ قَالَ {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ من تقدم ذكره من الْأزْوَاج؛ وَلِأَنَّهُ لَو صَحَّ مَا ذَكرُوهُ لَكَانَ تَأْوِيل الْآيَة مَا قدمْنَاهُ من نفي الْقبْح عَنْهُم.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «إِنِّي تَارِك فِيكُم الثقلَيْن فَإِن تمسكتم بهما لم تضلوا كتاب الله وعترتي».
وَالْجَوَاب: مَا بَيناهُ أَن هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يحْتَج بِهِ فِي مسَائِل الْأُصُول.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن أهل الْبَيْت اختصهم بِأَنَّهُم من أهل بَيت الرسَالَة ومعدن النُّبُوَّة فاختصوا بالعصمة.
قُلْنَا لَيْسَ فِيمَا ذكرْتُمْ مَا يُوجب لَهُم الْعِصْمَة فبكم حَاجَة إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل على ذَلِك.
ثمَّ يبطل هَذَا بِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُنَّ اختصصن بِمَا ذَكرُوهُ واختصصن بِتَضْعِيف الثَّوَاب على الطَّاعَة وتضعيف الْعقُوبَة على الْمعاصِي وسمعن من الْعلم مَا لم يسمع غَيْرهنَّ وَلَا يُوجب ذَلِك عصمتهن فِي الْأَحْكَام فَبَطل مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (6) لَا يعْتَبر فِي صِحَة الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْعَامَّة:

وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين: اتِّفَاق الْعَامَّة مَعَ الْعلمَاء شَرط فِي صِحَة الْإِجْمَاع وَهُوَ قَول أبي بكر الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: يعْتَبر اتِّفَاق الْأُصُولِيِّينَ.
لنا هُوَ أَنه لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فَلَا يعْتَبر رِضَاهُ فِي صِحَة الْإِجْمَاع كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون؛ وَلِأَنَّهُ لَا يجوز تَقْلِيده فِي الْحَوَادِث فَلَا يعْتد بِخِلَافِهِ دَلِيله الصَّبِي وَالْمَجْنُون.
وَمن قَالَ إِنَّه يعْتَبر اتِّفَاق الْأُصُولِيِّينَ فالدليل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْأُصُولِيِّينَ لَيْسَ هم من أهل الِاجْتِهَاد لأَنهم لَا يعْرفُونَ أَحْكَام الْفِقْه ومعانيها فهم كالعامة.
وَاحْتَجُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا تَجْتَمِع أمتِي على خطأ» عَن جَمِيع الْأمة والعامة من الْأَئِمَّة.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه عَام فنخصه بِمَا خصصنا بِهِ الصَّبِي وَالْمَجْنُون.