فصل: مَسْأَلَة: (5) يجوز نسخ الشَّيْء قبل وَقت فعله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (5) يجوز نسخ الشَّيْء قبل وَقت فعله:

وَقَالَ الصَّيْرَفِي لَا يجوز وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة.
لنا هُوَ أَن الله تَعَالَى أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح ابْنه ثمَّ نسخ ذَلِك قبل أَن يَفْعَله فَدلَّ على جَوَازه.
فَإِن قيل: إِنَّمَا أمره بمقدمات الذّبْح وَهُوَ الإضجاع وتله للجبين وَقد فعل ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {قد صدقت الرُّؤْيَا} فَدلَّ على أَنه فعل الْمَأْمُور.
قيل الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الذّبْح وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك}؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْمُقدمَات لما أظهر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْجزع وَقد أظهر الْجزع من ذَلِك فَقَالَ {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى}؛ وَلِأَن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام أظهر التجلد وَالصَّبْر فَقَالَ {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين} والمقدمات لَا يحْتَاج فِيهَا إِلَى الصَّبْر والتجلد وَلِأَنَّهُ قَالَ {إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} وَلَيْسَ فِي الْمُقدمَات بلَاء؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمَأْمُور بِهِ قد فعل لما احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاء وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَأما قَوْله {قد صدقت الرُّؤْيَا} فَالْمُرَاد بِهِ أَنَّك قد آمَنت بذلك وعزمت على فعله فَدلَّ عَلَيْهِ التَّصْدِيق إِنَّمَا يكون بِالْقَلْبِ.
فَإِن قيل: قد فعل الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ الذّبْح وَلَكِن كلما قطع جُزْءا التحم.
قيل وَلَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لَكَانَ قد ذكره الله تَعَالَى فَإِن ذَلِك من الْآيَات الْعَظِيمَة؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاء وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَنه إِذا جَازَ أَن يَأْمر بِأَفْعَال متكررة فِي الْأَزْمَان لم ينْسَخ ذَلِك فِي بعض الْأَزْمَان وَإِن لم يمض وَقت جَمِيع مَا تنَاوله الْأَمر جَازَ أَن يَأْمر بِفعل وَاحِد ثمَّ ينْسَخ ذَلِك قبل دُخُول وقته؛ وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ التَّكْلِيف على حسب الْمصلحَة كَمَا قَالَ بَعضهم: جَازَ أَن تكون الْمصلحَة فِي إِيجَاب الِاعْتِقَاد وَإِظْهَار الطَّاعَة فِي الِالْتِزَام والعزم على الْفِعْل، وَإِن كَانَ على حسب مَا يَشَاء من غير اعْتِبَار الْمصلحَة كَمَا قَالَ آخَرُونَ فَيجوز أَن يكون قد شَاءَ أَن يكلفهم مَا ذَكرْنَاهُ وَلَا يَشَاء الْفِعْل وَلِهَذَا أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح ابْنه وَلم يرد الْفِعْل وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ مَا ذَكرْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يَأْمر الْإِنْسَان بِفعل الْعِبَادَة مَعَ علمه بِأَنَّهُ يَمُوت أَو يعجز عَنهُ قبل أَن يدْخل وَقتهَا وَلم يقبح جَازَ أَن يَأْمر بِفِعْلِهَا ثمَّ يسْقط ذَلِك عَنهُ قبل فعلهَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْأَمر من الله سُبْحَانَهُ يدل على أَن الْمَأْمُور بِهِ صَلَاح للْمَأْمُور وَمَا كَانَ صلاحا لَهُم لَا يجوز للحكيم أَن ينهاهم عَنهُ ويمنعهم مِنْهُ.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الْأَمر يدل على الصّلاح مَا دَامَ الْأَمر قَائِما فَإِذا نهى عَنهُ علمنَا أَنه كَانَ الصّلاح إِلَى غَايَة؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا على الْمَنْع من النّسخ قبل الْفِعْل لوَجَبَ أَن يَجْعَل دَلِيلا على إبِطَال النّسخ أصلا فَيُقَال إِن الْأَمر من الْحَكِيم يدل على كَونه صلاحا للعبيد وَمَا كَانَ صلاحا للعبيد لم يجز للحكيم أَن ينهاهم عَنهُ وَإِذا بَطل هَذَا فِي إبِطَال النّسخ بَطل فِيمَا ذَكرُوهُ وَرُبمَا قَالُوا إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَنهُ يَقْتَضِي قبحه وَلَا يجوز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حسنا قبيحا.
وَالْجَوَاب: نَحْو مَا تقدم.
قَالُوا لِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى البداء على الله تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يجوز.
فَالْجَوَاب هُوَ أَن البداء أَن يظْهر مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ وَالله تَعَالَى لما أَمر كَانَ عَالما بِالْوَقْتِ الَّذِي ينسخه عَنْهُم فَلَا يُؤَدِّي إِلَى مَا ذَكرُوهُ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن ينْسَخ الشَّيْء قبل وَقت الْفِعْل لجَاز أَن يرد الْأَمر مَعَ النَّهْي موضعا وَاحِد فَيَقُول افعلوا كَذَا وَكَذَا وَلَا تفعلوه وَلما لم يجز هَذَا لم يجز مَا نَحن فِيهِ.
قُلْنَا إِذا ورد الْأَمر مَقْرُونا بِالنَّهْي لم يفد شَيْئا وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِنَّهُ إِذا ترَاخى النَّهْي كَانَ الْأَمر مُفِيدا لِأَنَّهُ يتَضَمَّن وجوب الِاعْتِقَاد والعزم على الْفِعْل فَافْتَرقَا.
قَالُوا مُقْتَضى الْأَمر الْفِعْل فَإِذا لم يرد مُقْتَضَاهُ كَانَ لَغوا فَلم يصلح الْخطاب كَمَا لَو قَالَ اقْتُلُوا وَأَرَادَ بِهِ لَا تقتلُوا.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِالْأَمر الْمُطلق فِي الْأَزْمَان فَإِن مُقْتَضَاهُ الْفِعْل على الدَّوَام فَإِذا نسخ بعد الْفِعْل لم يرد مُقْتَضَاهُ ثمَّ لَا يصير لَغوا وعَلى أَنا لَا نسلم أَن مُقْتَضى هَذَا الْأَمر الْفِعْل فَإِن أوَامِر صَاحب الشَّرْع مَشْرُوطَة بِمَا يقوم عَلَيْهِ الدَّلِيل من نسخ وَعجز وَغير ذَلِك فَمَتَى قَامَ الدَّلِيل على النّسخ علمنَا أَن مُقْتَضى الْأَمر مالم يرد النَّهْي عَنهُ فَإِذا نهى عَنهُ فقد أَرَادَ بِاللَّفْظِ مَا اقْتَضَاهُ فَلَا يكون هَذَا لَغوا وَيُخَالف هَذَا إِذا قَالَ اقْتُلُوا وَأَرَادَ بِهِ لَا تقتلُوا لِأَن هَذَا المُرَاد لَا يَصح شَرطه فِي الْكَلَام أَلا ترى أَنه لَا يحسن أَن يَقُول اقْتُلُوا لَا تقتلُوا وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِنَّهُ يَصح أَن يشْتَرط فِي الْأَمر مَا يرد بعده من النَّهْي بِأَن يَقُول افعلوا إِلَى أَن أنهاكم عَنهُ فَدلَّ على الْفرق بَينهمَا.

.مَسْأَلَة: (6) لَا يجوز نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ آحادا كَانَت أَو متواترة:

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج يجوز بِالسنةِ المتواترة وَلكنه لم يُوجد فِي الشَّرْع.
وَذهب أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين إِلَى جَوَاز ذَلِك بالأخبار المتواترة.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى جَوَاز ذَلِك بالمتواترة والآحاد وَهُوَ مَذْهَب بعض أهل الظَّاهِر.
لنا قَوْله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَأخْبر أَنه لَا ينْسَخ آيَة إِلَّا بِمِثْلِهَا أَو بِخَير مِنْهَا وَالسّنة لَيست مثل الْقُرْآن وَلَا هِيَ خير مِنْهُ فَوَجَبَ أَن لَا يجوز النّسخ بهَا.
فَإِن قيل: المُرَاد نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا فِي الثَّوَاب وَقد يكون فِي السّنة مَا هُوَ خير من الْمَنْسُوخ فِي الثَّوَاب.
قيل هَذَا لَا يصلح لوجوه:
مِنْهَا أَنه قَالَ {نأت بِخَير مِنْهَا} وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ وَالسّنة إِنَّمَا يَأْتِي بهَا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاق الْآيَة {ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير} وَالَّذِي يخْتَص الله بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْآن؛ وَلِأَن الْمثل يَقْتَضِي أَن يكون الْمثل من جنس الْمَنْسُوخ كَمَا إِذا قَالَ لَا آخذ مِنْك ثوبا إِلَّا أَعطيتك خيرا مِنْهُ اقْتضى خيرا مِنْهُ من جنسه؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون الْمثل من جنس الْمَنْسُوخ كَمَا إِذا قَالَ لَا أَخذ مِنْك ثوبا إِلَّا أَعطيتك خيرا مِنْهُ اقْتضى خيرا مِنْهُ من جنسه؛ وَلِأَن الْمثل يَقْتَضِي أَن يكون مثله من كل وَجه وَالسّنة قطّ لَا تماثل الْقُرْآن فِي الثَّوَاب فِي تِلَاوَته وَلَا فِي الدّلَالَة على صدق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بنظمه.
فَإِذا قيل لَو كَانَت السّنة لَا تماثل الْقُرْآن فالقرآن أَيْضا لَا يكون بعضه خيرا من بعض فَيجب أَن يكون المُرَاد بِهِ الْأَحْكَام.
قيل قد يكون بعض الْقُرْآن خيرا من بعض فِي الثَّوَاب أَلا ترى أَن سُورَة الْإِخْلَاص وَيس وَغَيرهمَا أفضل من غَيرهمَا من الْقُرْآن فِي الثَّوَاب وَقد يكون بَعْضهَا أظهر فِي الإعجاز من بعض أَلا ترى أَن قَوْله عز وَجل {وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك وَيَا سَمَاء أقلعي} أبلغ فِي الإعجاز من غَيره.
فَإِن قيل: قَوْله {نأت بِخَير مِنْهَا} لَيْسَ فِيهِ أَن مَا يَأْتِي بِهِ هُوَ النَّاسِخ وَيجوز أَن يكون النَّاسِخ غَيره.
قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة} شَرط وَقَوله {نأت بِخَير مِنْهَا} جَزَاء وَلِهَذَا جزم قَوْله {مَا ننسخ} وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يكون مَا يَأْتِي بِهِ لأَجله وبدلا عَنهُ كَمَا إِذا قَالَ مَا تصنع اصْنَع وَمَا آخذه أعْط مثله اقْتضى أَن يكون الْجَزَاء لأجل الشَّرْط وبدلا عَنهُ فَدلَّ على أَنه هُوَ النَّاسِخ.
فَإِن قيل: النّسخ إِنَّمَا يَقع فِي الحكم لَا فِي التِّلَاوَة وَلَا مفاضلة بَين حكم الْكتاب وَحكم السّنة وَإِنَّمَا المفاضلة بَين لفظيهما والنسخ لَا يَقع إِلَّا فِي اللَّفْظ.
قيل الْخلاف فِي نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم وَاحِد فَإِن عِنْدهم لَو تَوَاتَرَتْ السّنة بنسخ التِّلَاوَة وَجب النّسخ بهَا وَلَا مماثلة بَينهمَا وعَلى أَن نسخ الحكم أَيْضا يَقْتَضِي نسخ الْآيَة أَلا ترى أَنه إِذا نسخ حكم الْآيَة قيل هَذِه آيَة مَنْسُوخَة فَيجب أَن لَا يكون ذَلِك إِلَّا بِمِثْلِهَا أَو بِخَير مِنْهَا.
وَيدل عَلَيْهِ هُوَ أَن السّنة فرع لِلْقُرْآنِ أَلا ترى أَنه لَوْلَا الْقُرْآن لما ثبتَتْ السّنة فَلَو جَوَّزنَا نسخ الْقُرْآن بهَا لرفعنا الأَصْل بفرعه وَهَذَا لَا يجوز وَلِأَن السّنة دون الْقُرْآن فِي الرُّتْبَة أَلا ترى أَنَّهَا لَا تساويه فِي الإعجاز فِي لَفظه وَلَا فِي الثَّوَاب فِي تِلَاوَته فَلم يجز نسخ بهَا ويدلك عَلَيْهِ أَن الْقيَاس لما كَانَ دون الْخَبَر فِي الرُّتْبَة لم يجز نسخه بِهِ فَكَذَلِك هَاهُنَا.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} والنسخ بَيَان للمنزل فَيجب أَن يكون ذَلِك بَيَانا لَهُ.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الْبَيَان يُرَاد بِهِ الْإِظْهَار والتبليغ أَلا ترى أَنه علقه على جَمِيع الْقُرْآن والنسخ لَا يجوز أَن يتَعَلَّق بِجَمِيعِ الْقُرْآن فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ؛ وَلِأَن النّسخ لَيْسَ بَيَانا للمنسوخ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاط وَرفع فَلَا يدْخل فِي الْآيَة.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ دَلِيل مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ فَجَاز نسخ الْقُرْآن بِهِ كالقرآن.
قُلْنَا هَذَا يبطل بِالْإِجْمَاع فَإِنَّهُ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ ثمَّ لَا يجوز النّسخ بِهِ.
وعَلى أَنه لَا يمْتَنع أَن يتساوى الْقُرْآن وَالسّنة فِي الْقطع ثمَّ يجوز النّسخ بِأَحَدِهِمَا دون الآخر أَلا ترى أَن الْخَبَر وَالْقِيَاس يتساويان فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مظنون ثمَّ يَصح النّسخ بِأَحَدِهِمَا دون الآخر ثمَّ الْمَعْنى فِي الْقُرْآن أَنه يماثل الْمَنْسُوخ فِي التِّلَاوَة والإيجاز فَجَاز نسخه بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا فَإِن السّنة دون الْقُرْآن فِي الثَّوَاب والإعجاز فَلم يجز نسخه بهَا.
قَالُوا وَلِأَن النّسخ إِنَّمَا يتَنَاوَل الحكم وَالْكتاب وَالسّنة المتواترة فِي إِثْبَات الحكم وَاحِد وَإِن اخْتلفَا فِي الإعجاز فَيجب أَن يتساويا فِي النّسخ.
قُلْنَا هما وَإِن تَسَاويا فِي إِثْبَات الحكم إِلَّا أَن أَحدهمَا أَعلَى رُتْبَة من الآخر فَجَاز أَن يختلفا فِي النّسخ أَلا ترى أَن الْخَبَر وَالْقِيَاس يتساويان فِي إِثْبَات الحكم ثمَّ يجوز نسخ السّنة بِأَحَدِهِمَا دون الآخر لما اخْتلفَا فِي الرُّتْبَة فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قَالُوا وَلِأَن الْمَانِع من ذَلِك لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون فَضله على السّنة فِي الثَّوَاب أَو فَضله عَلَيْهَا فِي الإعجاز وَلَا يجوز أَن يكون الْمَانِع بِفضل الثَّوَاب؛ لِأَنَّهُ يجوز نسخ أَكثر الْآيَتَيْنِ ثَوابًا بأقلهما وَلَا يجوز أَن يكون الْمَانِع فضل الإعجاز لِأَنَّهُ يجوز نسخ الْآيَة المعجزة بِالْآيَةِ الَّتِي لَا إعجاز فِيهَا وَإِذا بَطل هَذَانِ الْوَجْهَانِ لم يبْق مَا يتَعَلَّق بِهِ الْمَنْع فَوَجَبَ أَن يجوز.
قُلْنَا الْمَانِع عندنَا معنى آخر وَهُوَ رفع كَلَام الله تَعَالَى بِغَيْر كَلَامه وَهَذَا لم يدلوا على إِبْطَاله أَو الْمَانِع من ذَلِك رفع الأَصْل بفرعه وَهَذَا أَيْضا لم يدلوا عَلَيْهِ؛ ولأنا لَو جعلنَا الْمَانِع مَا ذَكرُوهُ من فضل الْقُرْآن على السّنة بالإعجاز لصَحَّ وَمَا ذَكرُوهُ من نسخ الْآيَة المعجزة بِغَيْر المعجزة لَا يَصح لِأَن النَّاسِخ كالمنسوخ فِي الإعجاز أَلا ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا طَال وَكثر كَانَ معجزا وَإِذا لم يطلّ لم يكن معجزا.
وَاحْتج من أجَاز النّسخ بأخبار الْآحَاد خَاصَّة أَن مَا جَازَ نسخ السّنة بِهِ جَازَ نسخ الْقُرْآن بِهِ كالقرآن.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه لَيْسَ إِذا أجَاز أَن يسْقط بِهِ مثله جَازَ أَن يسْقط بِهِ مَا هُوَ أقوى مِنْهُ أَلا ترى أَن الْقيَاس يجوز أَن يُعَارض مثله وَلَا يجوز أَن يُعَارض الْخَبَر.
قَالُوا وَلِأَن النّسخ إِسْقَاط لبَعض مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر الْقُرْآن فَجَاز بِالسنةِ كالتخصيص.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه لَا يمْتَنع أَن يجوز التَّخْصِيص بِهِ وَلَا يجوز النّسخ بِهِ أَلا ترى أَن تَخْصِيص الْخَبَر بِالْقِيَاسِ جَائِز ونسخه بِهِ لَا يجوز؛ وَلِأَن التَّخْصِيص إِسْقَاط بعض مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ اللَّفْظ بِعُمُومِهِ فَجَاز تَركه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك النّسخ فَإِنَّهُ إِسْقَاط اللَّفْظ بِالْكُلِّيَّةِ فَلم يجز بِمَا دونه.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ النّسخ إِلَى غير بدل فجوازه إِلَى بدل ثَبت بِلَفْظ دونه أولى.
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لوَجَبَ أَن يجوز بِالْقِيَاسِ فَيُقَال إِنَّه إِذا جَازَ رَفعه إِلَى غير بدل فَلِأَن يجوز إِلَى بدل يثبت بِالْقِيَاسِ أولى؛ وَلِأَن النّسخ إِلَى غير بدل لَا يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط الْقُرْآن بِمَا دونه لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قد نسخ بِمثلِهِ أَو بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ والنسخ بِالسنةِ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط الْقُرْآن وَرَفعه بِمَا هُوَ دونه وَهَذَا لَا يجوز.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ قد وجد فِي الْقُرْآن آيَات مَنْسُوخَة بأخبار الْآحَاد وَوُجُود ذَلِك يدل على جَوَازه فَمن ذَلِك الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين نسخه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا وَصِيَّة لوَارث» وَنسخ الْحَبْس فِي حق الزَّانِي بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «وَالْبكْر بالبكر جلد مئة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مئة وَالرَّجم»، وَنسخ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام} بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «اقْتُلُوا ابْن خطل وَإِن كَانَ مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة».
وَنسخ قَوْله {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة} بِمَا رُوِيَ «أَنه نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطُّيُور».
وَنسخ قَوْله {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} بقوله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا»
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الْوَصِيَّة نسخت بِآيَة الْمَوَارِيث وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام «إِن الله أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث».
وَآيَة الْحَبْس نسخت فِي الْبكر بقوله تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وَفِي الثّيّب بِآيَة الرَّجْم الَّتِي كَانَت فِي الْكتاب وَنسخ رسمها وَهِي {الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة نكالا من الله}.
وَقَوله {وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام} نسخ بقوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
وَقَوله {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} فَالْمُرَاد بِهِ مَا هُوَ مستطاب عِنْدهم وَلَيْسَ ذَلِك من الْخَبَائِث فَهُوَ عُمُوم دخله التَّخْصِيص.
وَقَوله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} فَهُوَ عُمُوم دخل التَّخْصِيص بالْخبر وَإِذا أمكن الْبناء وَالْجمع لم يَصح حمله على النّسخ فَسقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (7) يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَفِيه قَول آخر أَنه لَا يجوز:

لنا هُوَ أَنه قد وجد ذَلِك فِي الشَّرْع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام صَالح قُريْشًا على رد من جَاءَهُ من الْمُسلمين فَرد جمَاعَة ثمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَة فَمَنعه الله تَعَالَى من ردهَا وَنسخ ذَلِك بقوله تَعَالَى {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} وَكَذَلِكَ كَانَت الصَّلَوَات تُؤخر عَن أَوْقَاتهَا فِي حَال الْخَوْف ثمَّ نسخ ذَلِك بقوله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} فَدلَّ على جَوَازه؛ وَلِأَن الْقُرْآن أقوى من السّنة فَإِذا جَازَ نسخ السّنة بِالسنةِ فبالقرآن أولى.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الله تَعَالَى جعل السّنة مبينَة للْكتاب فَقَالَ {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَلَا يجوز أَن يَجْعَل الْكتاب مُبينًا للسّنة.
قُلْنَا يجوز أَن تكون السّنة مبينَة للْكتاب ثمَّ تبين السّنة بِالْكتاب كَمَا أَن السّنة تخص الْكتاب ثمَّ تخص السّنة بِالْكتاب.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ نسخ شَيْء بِغَيْر جنسه فَلَا يجوز كنسخ الْكتاب بِالسنةِ.
قُلْنَا إِنَّمَا لم يجز نسخ الْكتاب بِالسنةِ لِأَن الْكتاب أَعلَى رُتْبَة من السّنة لَا لِأَنَّهُ من غير جنسه يدلك عَلَيْهِ أَن نسخ الْمُتَوَاتر بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز حِين اخْتلفَا فِي الرُّتْبَة وَإِن كَانَا من جنس وَاحِد فَدلَّ على أَن الْعلَّة فِيهِ مَا ذكرنَا.

.مَسْأَلَة: (8) لَا يجوز النّسخ بِالْقِيَاسِ:

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأنمَاطِي يجوز بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ.
لنا هُوَ أَنه قِيَاس فَلَا ينْسَخ بِهِ كالقياس الْخَفي وَلِأَن النَّص يسْقط الْقيَاس إِذا عَارضه وَمَا أسقط غَيره لم يجز نسخه بِهِ كنص الْقُرْآن لما أسقط نَص السّنة لم يجز نسخه بِالسنةِ كَذَلِك هَهُنَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْقيَاس الْجَلِيّ فِي معنى النَّص بِدَلِيل أَنه ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم فَإِذا جَازَ النّسخ بِالنَّصِّ جَازَ بِهِ.
قُلْنَا النَّص لَا يسْقط النَّص إِذا عَارضه فَجَاز النّسخ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الْقيَاس فَإِنَّهُ لَو عَارضه أسْقطه فَلم يجز نسخه بِهِ.

.مَسْأَلَة: (9) إِذا ثَبت الحكم فِي عين لعِلَّة وَقيس عَلَيْهَا غَيرهَا ثمَّ نسخ الحكم فِي تِلْكَ الْعين بَطل الحكم فِي فروعه:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يبطل الحكم فِي فروعه وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة.
لنا أَن الحكم فِي الْفَرْع إِنَّمَا ثَبت لثُبُوته فِي الأَصْل فَإِذا بَطل الحكم فِي الأَصْل وَجب أَن يبطل فِي الْفَرْع، أَلا ترى أَن الحكم إِذا ثَبت بِالنَّصِّ لما كَانَ ثُبُوته لأَجله إِذا نسخ النَّص سقط الحكم بِهِ كَذَلِك هَاهُنَا.
وَلِأَن الحكم فِي الْفَرْع يفْتَقر إِلَى أصل وَإِلَى عِلّة ثمَّ ثَبت أَن زَوَال الْعلَّة يُوجب زَوَال الحكم فَكَذَلِك زَوَال الأَصْل يجب أَن يُوجب زَوَال الحكم.
وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذَا إِثْبَات نسخ فِي الْفَرْع بِالْقِيَاسِ على الأَصْل والنسخ بِالْقِيَاسِ لَا يجوز.
وَالْجَوَاب: أَنا لَا نقُول أَن ذَلِك نسخ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا هُوَ إِزَالَة حكم لزوَال مُوجبه وَلَو كَانَ ذَلِك نسخا بِالْقِيَاسِ لوَجَبَ إِذا زَالَت الْعلَّة وَزَالَ حكمهَا أَن يُقَال إِن ذَلِك نسخ من غير نَاسخ وَهَذَا لَا يجوز وَلما لم يَصح أَن يُقَال هَذَا فِي الْعلَّة إِذا زَالَت لم يَصح أَن يُقَال ذَلِك فِي الأَصْل إِذا زَالَ.
قَالُوا وَلِأَن الْفَرْع لما ثَبت فِيهِ الحكم صَار أصلا فَيجب أَن لَا يَزُول الحكم فِيهِ بزواله فِي غَيره.
قُلْنَا لَا نسلم أَنه صَار أصلا بذلك وَإِنَّمَا هُوَ تَابع لغيره ثَبت الحكم فِيهِ لأَجله فَإِذا سقط حكم الْمَتْبُوع سقط حكم التَّابِع.

.مَسْأَلَة: (10) الزِّيَادَة فِي النَّص لَيست بنسخ:

وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن كَانَت الزِّيَادَة توجب تَغْيِير الحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل كَانَ نسخا وَإِن لم تقتض ذَلِك لم يكن نسخا وَمنعُوا بذلك زِيَادَة التَّغْرِيب فِي آيَة الْجلد وَزِيَادَة الْغرم فِي آيَة السّرقَة وَزِيَادَة النِّيَّة وَالتَّرْتِيب فِي آيَة الْوضُوء بأخبار الْآحَاد وَالْقِيَاس.
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين: إِن كَانَت الزِّيَادَة شرطا فِي الْمَزِيد حَتَّى لَا يجزىء مَا كَانَ مجزئا إِلَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِذا لم تنضم إِلَيْهِ وَجب الِاسْتِئْنَاف كزيادة رَكْعَتَيْنِ على رَكْعَتَيْنِ كَانَ نسخا وَإِن لم تكن الزِّيَادَة شرطا فِي المز لم تكن نسخا.
لنا هُوَ أَن النّسخ فِي اللُّغَة هُوَ الرّفْع والإزالة ثمَّ خص فِي الشَّرْع بِبَعْض مَا تنَاوله الِاسْم فَقيل هُوَ رفع الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَهَذِه الْحَقِيقَة لَا تُوجد فِيمَا زيد فِيهِ لِأَن الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ بَاقٍ كَمَا كَانَ لم يزل وَلم يرْتَفع وَإِنَّمَا لزمَه زِيَادَة فَلم يكن ذَلِك نسخا يدلك عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ فِي الْكيس مئة دِرْهَم فزيد عَلَيْهِ شَيْء آخر لم يكن ذَلِك رفعا لما فِي الْكيس كَذَلِك هَاهُنَا.
وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَو كَانَت الزِّيَادَة فِي الحكم نسخا لحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ لوَجَبَ إِذا أوجب الله تَعَالَى الْخمس صلوَات ثمَّ أوجب صَوْم شهر رَمَضَان أَن يكون ذَلِك نسخا للصلوات وَلما لم يكن ذَلِك نسخا بِالْإِجْمَاع وَجب أَن لَا تكون هَذِه الزِّيَادَة نسخا لِأَن النّسخ مَا لم يُمكن الْجمع بَينه وَبَين الْمَنْسُوخ فِي اللَّفْظ كَمَا لَو قَالَ صل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَلَا تصل لم يكن كلَاما وَهنا لَو جمع بَين الزِّيَادَة والمزيد عَلَيْهِ صَحَّ وَوَجَب الْجمع بَينهمَا فَدلَّ على أَن ذَلِك لَيْسَ بنسخ؛ وَلِأَن النّسخ أَن يتَنَاوَل النَّاسِخ مَا تنَاوله الْمَنْسُوخ وَإِيجَاب الزَّكَاة لَا يتَنَاوَل حكم الْمَنْسُوخ فَلَا يجوز أَن يكون ذَلِك نسخا لَهُ؛ وَلِأَن الْغَرَض فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِثْبَات الزِّيَادَة فِي الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس.
وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك هُوَ أَن مَا جَازَ تَخْصِيص الْقُرْآن بِهِ جَازَت الزِّيَادَة بِهِ فِيهِ كالقرآن وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر؛ وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ التَّخْصِيص بِهِ وَهُوَ إِسْقَاط بعض مَا تنَاوله فَالزِّيَادَة بذلك أولى؛ وَلِأَن الزِّيَادَة على النَّص لَا يَتَنَاوَلهَا لفظ النَّص فَكَانَ حكمهَا حكم مَا قبل وُرُود النَّص فَجَاز إثْبَاته بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس.
وَاحْتج أَصْحَاب أبي حنيفَة بِأَن النّسخ تَغْيِير الحكم عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَقد وجد التَّغْيِير بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ إِذا زَاد فِي حد الْقَذْف عشْرين فقد صَار الثَّمَانُونَ بعض الْوَاجِب وَكَانَ يتَعَلَّق بِهِ رد الشَّهَادَة وَصَارَ لَا يتَعَلَّق بِهِ رد الشَّهَادَة فَصَارَ كَسَائِر أَنْوَاع النّسخ.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنا لَا نسلم أَن النّسخ هُوَ التَّغْيِير بل النّسخ هُوَ الْإِزَالَة وَالرَّفْع من قَوْلهم نسخت الشَّمْس الظل إِذا أزالته وَنسخت الرِّيَاح الْآثَار إِذا ذهبت بهَا وَهَذَا لَا يُوجد إِلَّا فِي إِسْقَاط مَا كَانَ بتاتا، وَلَو سلمنَا أَن النّسخ هُوَ التَّغْيِير لم نسلم أَن الْوَاجِب تغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ بل هُوَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَأما قَوْله إِذا صَار الْوَاجِب بعض الْوَاجِب وَكَانَ ترد بِهِ الشَّهَادَة وَصَارَ لَا ترد بِهِ الشَّهَادَة يبطل بِهِ إِذا أَمر بِالصَّلَاةِ ثمَّ أَمر بِالصَّوْمِ لِأَن الأول كَانَ جَمِيع الْوَاجِب وَصَارَ بعض الْوَاجِب وَكَانَ تقبل الشَّهَادَة بِفِعْلِهَا فَصَارَ لَا تقبل الشَّهَادَة إِلَّا بِفِعْلِهَا مَعَ غَيرهَا ثمَّ لَا يكون ذَلِك نسخا، وَيبْطل بِهِ إِذا سقط بعض الثَّمَانِينَ من الْحَد فَإِنَّهُ قد صَار الْبَاقِي كل الْوَاجِب وَكَانَ بعض الْوَاجِب فَترد بِهِ الشَّهَادَة وَقد كَانَ لَا ترد بِهِ ثمَّ لَا يكون ذَلِك نسخا للْبَاقِي.
قَالُوا إِذا ثبتَتْ الزِّيَادَة صَار جُزْءا من الْمَزِيد عَلَيْهِ وَحكمه حكمه فَيجب أَن لَا يثبت إِلَّا بِمَا ثَبت بِهِ الْمَزِيد عَلَيْهِ.
قُلْنَا لعمري إِنَّه يصير جَزَاء مِنْهُ على معنى أَنه يجب ضمه إِلَيْهِ وَلَكِن لَا يجب أَن يثبت بِالطَّرِيقِ الَّذِي ثَبت بِهِ الْمَزِيد عَلَيْهِ، يدلك عَلَيْهِ أَن كَونه جُزْءا مِنْهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ من إِثْبَات صفة الْمَزِيد عَلَيْهِ وَيجوز أَن تكون الصّفة تخَالف الْمَوْصُوف فِي طَرِيقه فَيثبت الشَّيْء بطرِيق مَقْطُوع بِهِ وَصفته من الْإِيجَاب وَغَيره يثبت بطرِيق غير مَقْطُوع بِهِ.
قَالُوا وَلِأَن التَّقْدِير بِالْعدَدِ مَوْضُوع للْمَنْع من الزِّيَادَة فَإِذا وَردت الزِّيَادَة أفادت إِيجَاب مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ وَهَذَا حَقِيقَة النّسخ وَهُوَ أَن يَجْعَل مَا كَانَ مَحْظُورًا مُبَاحا أَو وَاجِبا.
قُلْنَا هَذَا على أصلكم لَا يَصح لِأَن التَّقْدِير بِالْعدَدِ لَا يَقْتَضِي الْمَنْع من الزِّيَادَة وَإِنَّمَا يَصح هَذَا على أصلنَا فَلَا جرم إِذا ورد على ذَلِك زِيَادَة جعلنَا ذَلِك نسخا للْمَنْع من الزِّيَادَة وَنحن لَا ننكر نسخ الزِّيَادَة فِيمَا أَفَادَ الْخطاب حكما فِي الزِّيَادَة وَإِنَّمَا ننكر أَن نجْعَل الزِّيَادَة ناسخة للمزيد عَلَيْهِ وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
قَالُوا لَا خلاف أَن النُّقْصَان من النُّصُوص عَلَيْهِ يُوجب النّسخ فَكَذَلِك الزِّيَادَة.
قُلْنَا قد جعل النُّقْصَان حجَّة لنا لِأَنَّهُ لَا يُوجب حكم الْبَاقِي من الْحَد فَيجب أَن تكون الزِّيَادَة مثله وَإِنَّمَا جعلنَا النُّقْصَان نسخا لما نقص لِأَنَّهُ إِسْقَاط حكم ثَابت بِاللَّفْظِ وَهَاهُنَا زِيَادَة على الحكم الثَّابِت فَلم يكن نسخا، يدلك عَلَيْهِ هُوَ أَنه لَو أوجب الصَّلَاة ثمَّ رَفعهَا كَانَ ذَلِك نسخا لَهَا وَلَو زَاد على الصَّلَاة الصَّوْم لم يكن ذَلِك نسخا للصَّلَاة.
واحتجت الطَّائِفَة الْأُخْرَى أَنه إِذا كَانَت الزِّيَادَة شرطا كَانَت مُغيرَة لحكم الْمَزِيد أَلا ترى أَنه إِذا زَاد فِي الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ صلى بعد الزِّيَادَة رَكْعَتَيْنِ لم يجزه وَقد كَانَ يَجْزِي وَلَا يجوز أَن يسلم من رَكْعَتَيْنِ وَقد كَانَ يجوز ذَلِك وَهَذَا حَقِيقَة النّسخ.
وَالْجَوَاب: أَن الْمَزِيد عَلَيْهِ بَاقٍ كَمَا كَانَ لم يتَغَيَّر وَمَا تعلق بِالزِّيَادَةِ من الْإِجْزَاء وَعدم الْإِجْزَاء وَالصِّحَّة وَعدم الصِّحَّة لَا يُوجب النّسخ مَعَ بَقَاء الْمَزِيد عَلَيْهِ أَلا ترى أَنه إِذا زيد فِي عدد الْحَد فقد تغير بِهَذِهِ الزِّيَادَة حكم وَهُوَ أَنه مَا كَانَ مطهرا صَار غير مطهر وَمَا كَانَ مكفر صَار غير مكفر ثمَّ لَا يُوجب ذَلِك نسخ الْمَزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذا زيد فِي الْعدة صَار مَا كَانَ مبيحا غير مُبِيح ثمَّ لَا يعد ذَلِك نسخا فَبَطل مَا قَالُوهُ، وعَلى أَنه يبطل بِزِيَادَة شَرط فِي الصَّلَاة مُنْفَصِل عَنْهَا أَو نُقْصَان شَرط كالطهارة فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ سلم هَذَا الْقَائِل أَنه لَيْسَ نسخ للصَّلَاة وَمَعْلُوم أَنه قد صَار مَا كَانَ مجزئا غير مجزىء وَمَا كَانَ صَحِيحا غير صَحِيح فَسقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (11) إِذا نسخ بعض الْعِبَادَة لم يكن ذَلِك نسخا للْبَاقِي:

وَبِه قَالَ الْكَرْخِي والبصري.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن النُّقْصَان من الْعِبَادَة نسخ للْبَاقِي.
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين: إِن كَانَ ذَلِك نسخ شَرط مُنْفَصِل عَن الْجُمْلَة لم يكن نسخا للجملة، وَإِن كَانَ نسخ بعض الْجُمْلَة كالقبلة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود من الصَّلَاة كَانَ نسخا لِلْعِبَادَةِ.
لنا مَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا وَأَن الْبَاقِي من الْجُمْلَة على مَا كَانَ الحكم عَلَيْهِ لم يزل فَلم يجز أَن يكون الْجَمِيع مَنْسُوخا كَمَا لَو أَمر بِصَلَاة وَصَوْم ثمَّ نسخ أَحدهمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ نسخ بَعْضهَا نسخا للْجَمِيع لَكَانَ تَخْصِيص بَعْضهَا تَخْصِيصًا للْجَمِيع وَلما بَطل أَن يُقَال هَذَا فِي التَّخْصِيص بَطل أَن يُقَال مثله فِي النّسخ.
وَاحْتج المخالفون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا وَقد مضى الْجَواب عَنهُ فأغنى عَن الْإِعَادَة.

.مَسْأَلَة: (12) إِذا نزل النّسخ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَبت النّسخ فِي حق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي حق الْأمة:

فِي قَول بعض أَصْحَابنَا.
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يثبت فِي حق الْأمة قبل أَن يتَّصل ذَلِك بهم وَهُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة.
لنا هُوَ أَنه إِسْقَاط حق لَا يعْتَبر فِيهِ رِضَاء من يسْقط عَنهُ فَلَا يعْتَبر فِيهِ علمه كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالْإِبْرَاء؛ وَلِأَنَّهُ إِبَاحَة لمحظور عَلَيْهِ فَجَاز أَن يثبت حكمه قبل الْعلم كَمَا إِذا قَالَ لزوجته إِن خرجت بِغَيْر إذني فَأَنت طَالِق وَأذن لَهَا وَهِي لَا تعلم ثمَّ خرجت فَإِنَّهُ يثبت حكم الْإِبَاحَة وَلَا يَقع الطَّلَاق فَكَذَلِك هَاهُنَا؛ وَلِأَن الْإِبَاحَة تَارَة تكون من الله تَعَالَى وَتارَة تكون من جِهَة الْآدَمِيّ ثمَّ الْإِبَاحَة من جِهَة الْآدَمِيّ يثبت حكمهَا قبل الْعلم وَهُوَ إِذا قَالَ أبحت ثَمَرَة بستاني لكل أحد فَكَذَلِك الْإِبَاحَة من جِهَة الله تَعَالَى.
وَاحْتَجُّوا بِأَن أهل منى بَلغهُمْ الْقبْلَة وَقد صلوا رَكْعَة فاستداروا فِي صلَاتهم وَلم يؤمروا بِالْإِعَادَةِ وَلَو كَانَ قد ثَبت حكمه فِي حَقهم قبل أَن يتَّصل بهم لبطلت صلَاتهم ولأمروا بِالْإِعَادَةِ.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن الْقبْلَة يجوز تَركهَا بالأعذار أَلا ترى أَنه يجوز تَركهَا مَعَ الْعلم بهَا فِي النوفل فِي السّفر وَلِهَذَا لم يؤمروا فِيهَا بِالْإِعَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِك غَيرهَا من الْأَحْكَام فَإِنَّهُ لَا يجوز تَركهَا مَعَ الْعلم بهَا فَلم يجز أَن يسْقط حكمهَا بِالْجَهْلِ بهَا.
قَالُوا وَلِأَن من لَا علم لَهُ بِالْخِطَابِ لَا يثبت الْخطاب فِي حَقه كالنائم وَالْمَجْنُون.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَن النَّائِم وَالْمَجْنُون حجَّة لنا فَإِن الْخطاب قد ثَبت فِي حَقّهمَا وَإِن لم يعلمَا بِالْخِطَابِ أَلا ترى أَن كثيرا من الْعِبَادَات يثبت وُجُوبهَا فِي حَقّهمَا وَيجب عَلَيْهِمَا فعلهَا بعد الانتباه والإفاقة وَلَو لم يثبت الْخطاب فِي حَقّهمَا لما وَجَبت تِلْكَ الْعِبَادَات عَلَيْهِمَا بعد الانتباه والإفاقة.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ ثُبُوت الْخطاب قبل الْعلم بِهِ لثبت ذَلِك قبل نزُول الْوَحْي بِهِ وَلما لم يثبت ذَلِك قبل نزُول الْوَحْي لم يثبت قبل الْعلم.
قُلْنَا قبل نزُول الْوَحْي لم يثبت لَهُ أَحْكَام الدُّنْيَا وَلَيْسَ كَذَلِك بعد نزُول الْوَحْي بِهِ فَإِنَّهُ قد ثَبت كَونه شرعا فَثَبت فِي حق كل أحد.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْخطاب قبل الْعلم بِهِ لتَعلق المأثم بمخالفته كَمَا تعلق بِهِ بعد الْعلم وَلما لم يتَعَلَّق المأثم بمخالفته دلّ على أَنه لَا يثبت حكمه.
قُلْنَا لَا يمْتَنع أَن لَا يثبت المأثم وَيثبت حكم الْخطاب أَلا ترى أَنه إِذا علم بِالْخِطَابِ ثمَّ نَسيَه أَو نَام عَنهُ لم يلْحقهُ المأثم ثمَّ حكم الْخطاب يثبت فِي حَقه.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ مُخَاطب بالمنسوخ وَإِذا تَركه صَار عَاصِيا فَلَا يجوز أَن يكون حكم النَّاسِخ ثَابتا فِي حَقه.
وَالْجَوَاب: هُوَ أَنه لَيْسَ إِذا كَانَ مُخَاطبا بِالْأَمر الأول وَتعلق الْعِصْيَان بمخالفته دلّ على أَن الْخطاب الثَّانِي غير ثَابت فِي الحكم فِي حَقه.
أَلا ترى أَن الْمَرْأَة بعد الطَّلَاق وَقبل أَن يتَّصل ذَلِك بهَا مُخَاطبَة بِأَحْكَام الزَّوْجِيَّة وعاصية بالمخالفة ثمَّ حكم الطَّلَاق ثَابت فِي حَقّهَا فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يكون مُخَاطبا بِالْأَمر الأول عَاصِيا بمخالفته ثمَّ حكم الْخطاب الثَّانِي قَائِم فِي حَقه.