فصل: مَسْأَلَة: (6) إِذا نَص الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ ثمَّ أعَاد الْمَسْأَلَة وَذكر فِيهَا أحد الْقَوْلَيْنِ أَو فرع على أحد الْقَوْلَيْنِ كَانَ ذَلِك اخْتِيَارا لِلْقَوْلِ الْمعَاد وَالْقَوْل المفرع عَلَيْهِ :

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبصرة في أصول الفقه



.مَسْأَلَة: (6) إِذا نَص الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ ثمَّ أعَاد الْمَسْأَلَة وَذكر فِيهَا أحد الْقَوْلَيْنِ أَو فرع على أحد الْقَوْلَيْنِ كَانَ ذَلِك اخْتِيَارا لِلْقَوْلِ الْمعَاد وَالْقَوْل المفرع عَلَيْهِ :

فِي قَول الْمُزنِيّ رَحمَه الله.
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على الِاخْتِيَار.
لنا أَن الظَّاهِر أَن مذْهبه هُوَ الَّذِي أَعَادَهُ أَو فرع عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُقيما على الْقَوْلَيْنِ لأعادهما وَفرع عَلَيْهِمَا وَلما أفرد أَحدهمَا بِالْإِعَادَةِ والتفريع دلّ على أَنه هُوَ الَّذِي يذهب إِلَيْهِ ويختاره من الْقَوْلَيْنِ.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ يجوز أَن لَا يُعِيد أحد الْقَوْلَيْنِ اكْتِفَاء بِمَا عرف لَهُ من الْقَوْلَيْنِ وَيجوز أَن يفرع على أَحدهمَا على معنى أَن هَذَا القَوْل أوضح فَلَا يكون ذَلِك اخْتِيَارا لَهُ قطعا.
قُلْنَا يحْتَمل مَا ذَكرُوهُ وَلَكِن الظَّاهِر مَا قُلْنَاهُ وَلِأَن الْإِنْسَان لَا يُفْتِي إِلَّا بِمَا ذهب إِلَيْهِ وَلَا يفرع إِلَّا على مذْهبه.

.مَسْأَلَة: (7) إِذا نَص رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة على حكم وَنَصّ فِي غَيرهَا على حكم آخر وَأمكن الْفَصْل بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ لم ينْقل جَوَاب إِحْدَاهمَا إِلَى الْأُخْرَى بل تحمل كل وَاحِدَة مِنْهُمَا على ظَاهرهَا:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: ينْقل جَوَاب كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَيخرج الْمَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ:
لنا أَن القَوْل إِنَّمَا يجوز أَن يُضَاف إِلَى الْإِنْسَان إِذا قَالَه أَو دلّ عَلَيْهِ بِمَا يجْرِي مجْرى القَوْل فَأَما مَا لم يقلهُ وَلم يدل عَلَيْهِ فَلَا يحل أَن ينْسب إِلَيْهِ.
وَلِأَن الظَّاهِر أَن مذْهبه فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ خلاف مذْهبه فِي الْأُخْرَى لِأَنَّهُ نَص فيهمَا على الْمُخَالفَة فَلَا يجوز الْجمع بَين مَا خَالف.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ لما نَص فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ على قَول وَفِي نظائرها على غَيره وَجب أَن تحمل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى لما نَص فِي كَفَّارَة الْقَتْل على الْإِيمَان وَأطلق فِي كَفَّارَة الظِّهَار قسنا إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى واعتبرنا الْإِيمَان فيهمَا كَذَلِك هَاهُنَا.
قُلْنَا نَص على الْإِيمَان فِي إِحْدَى الكفارتين وَأطلق فِي الْأُخْرَى فقسنا مَا أطلق على مَا قيد وَفِي مَسْأَلَتنَا صرح فِي كل وَاحِدَة من الْمَسْأَلَتَيْنِ بِخِلَاف الْأُخْرَى فَلَا يجوز حمل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى كَمَا تَقول فِي صِيَام الظِّهَار والتمتع لما نَص على التَّتَابُع فِي إِحْدَاهمَا وعَلى التَّفْرِيق فِي الْأُخْرَى لم يَجْعَل حمل إِحْدَاهمَا على الآخر.

.مَسْأَلَة: (8) لَا يجوز أَن ينْسب إِلَى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَا يخرج على قَوْله فَيجْعَل قولا لَهُ:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: يجوز.
لنا هُوَ أَن قَول الْإِنْسَان مَا نَص عَلَيْهِ أَو دلّ عَلَيْهِ بِمَا يجْرِي مجْرى النَّص وَمَا لم يقلهُ وَلم يدل عَلَيْهِ فَلَا يحل أَن يُضَاف إِلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَلَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول.
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن مَا اقْتَضَاهُ قِيَاس قَوْله جَازَ أَن ينْسب إِلَيْهِ كَمَا ينْسب إِلَى الله عز وَجل وَإِلَى رَسُوله مَا دلّ عَلَيْهِ قِيَاس قَوْلهمَا.
قُلْنَا مَا دلّ عَلَيْهِ الْقيَاس فِي الشَّرْع لَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه قَول الله عز وَجل وَلَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا يُقَال إِن هَذَا دين الله وَدين رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام بِمَعْنى أَنَّهُمَا دلا عَلَيْهِ وَمثل هَذِه الْإِضَافَة لَا تصح فِي قَول إِلَى الشَّافِعِي فَسقط مَا قَالُوهُ.
قَالُوا لَا خلاف أَنه لَو قَالَ فِيمَن بَاعَ شِقْصا مشَاعا من دَار أَن للشَّفِيع فِيهِ الشُّفْعَة كَانَ ذَلِك قَوْله فِي الأَرْض والبستان والحانوت وَإِن لم يذكرهما فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قُلْنَا إِنَّمَا جعلنَا قَوْله فِي الدَّار قَوْله فِي سَائِر مَا ذكرْتُمْ من الْعقار لِأَن طَرِيق الْجمع مُتَسَاوِيَة وَالْفرق بَين الدَّار وَغَيرهَا لَا يُمكن فَجَوَابه فِي بَعْضهَا جَوَابه فِي الْجَمِيع وكلامنا فِي مَسْأَلَتَيْنِ يُمكن الْفرق بَينهمَا فَأجَاب فِي إِحْدَاهمَا بِجَوَاب فَلَا يجوز أَن يَجْعَل ذَلِك قَوْله فِي الْأُخْرَى.

.مَسْأَلَة: (9) إِذا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة بقول ثمَّ قَالَ وَلَو قَالَ قَائِل بِكَذَا كَانَ مذهبا لم يجز أَن يَجْعَل ذَلِك قولا لَهُ:

وَمن أَصْحَابنَا من جعل ذَلِك قولا لَهُ.
لنا أَن قَوْله وَلَو قَالَ قَائِل بكذلك كَانَ مذهبا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَنه مذْهبه وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن بَيَان احْتِمَال الْمَسْأَلَة لما فِيهَا من وُجُوه الِاجْتِهَاد فَلَا يجوز أَن يَجْعَل لَهُ هَذَا القَوْل قولا.
وَاحْتَجُّوا بِأَن قَوْله وَلَو قَالَ قَائِل بِكَذَا كَانَ مذهبا ظَاهر أَنه يحْتَمل هَذَا القَوْل وَيحْتَمل مَا ذَكرُوهُ فَصَارَ كَمَا لَو قَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة تحْتَمل قَوْلَيْنِ.
وَالْجَوَاب: أَن أَكثر مَا فِيهِ أَنه دلّ على ذَلِك فَيحْتَمل فِي الِاجْتِهَاد وَهَذَا لَا يدل على أَنه مَذْهَب لَهُ، أَلا ترى أَنا نقُول أبدا فِي مسَائِل الْخلاف هَذِه مَسْأَلَة يسوغ فِيهَا الِاجْتِهَاد ثمَّ لَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن تكون تِلْكَ الْمَذْهَب أقوالا لَهُ.

.مَسْأَلَة: (10) يجوز الِاجْتِهَاد بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يجوز وَقَول قَول بَين الْمُتَكَلِّمين.
وَمن النَّاس من قَالَ يجوز بِالْإِذْنِ وَلَا يجوز لغير الْإِذْن.
لنا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «أَمر سعد بن معَاذ أَن يحكم فِي بني قُرَيْظَة بِاجْتِهَادِهِ وَهُوَ حَاضر».
وَرُوِيَ أَنه أَمر عَمْرو بن الْعَاصِ أَن يحكم بَين نفسين على أَنه من أصَاب فَلهُ عشر حَسَنَات فَقَالَ يَا رَسُول الله أجتهد وَأَنت حَاضر فَقَالَ نعم فَدلَّ على جَوَاز ذَلِك.
وَلِأَن مَا جَازَ الحكم فِيهِ فِي غيبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَازَ الحكم بِهِ فِي حَضرته كالكتاب وَالسّنة؛
وَلِأَنَّهُ إِذا جَازَ الِاجْتِهَاد فِي غيبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخطؤه لَا يسْتَدرك فبحضرته أولى لِأَنَّهُ إِذا أَخطَأ استدرك خطأه فيحضر وينبه عَلَيْهِ.
احْتَجُّوا بِأَن الحكم بِالِاجْتِهَادِ يعلم بغالب الظَّن فَلَا يجوز مَعَ إِمْكَان الرُّجُوع إِلَى الْعلم وَالْقطع.
وَالْجَوَاب: أَنه لَا يمْتَنع أَن يحكم الْحَاكِم بِغَلَبَة الظَّن وَإِن أمكن الرُّجُوع إِلَى الْعلم.
أَلا ترى أَنه يجوز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن أمكنه الرُّجُوع إِلَى خبر جمَاعَة يَقع الْعلم بخبرهم فَكَذَلِك يجوز أَن يحكم بِمَا بلغه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما وَإِن أمكنه الرُّجُوع إِلَى قَوْله فَيقطع بِصِحَّتِهِ، وعَلى أَن الحكم بِحَضْرَتِهِ بِالِاجْتِهَادِ حكم بِالْعلمِ لِأَنَّهُ إِن أَخطَأ مَنعه فَيجب أَن يجوز ذَلِك.

.مَسْأَلَة: (11) كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد فِي الْحَوَادِث وَيحكم فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِك وَبِه قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة.
لنا قَوْله عز وَجل {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله} وَلم يفرق بَين مَا أرَاهُ بِالنَّصِّ أَو بِالِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَن دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام حكما باجتهادهما وَلم يُنكر الله عز وَجل عَلَيْهِمَا فَدلَّ على جَوَازه.
وَلِأَن الْقيَاس دَلِيل عَن الله عز وَجل فِي الْأَحْكَام فَجَاز لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَسْتَفِيد الحكم من جِهَته كالكتاب.
وَلِأَن الْقيَاس استنباط معنى الأَصْل ورد الْفَرْع إِلَيْهِ وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بذلك من غَيره فَهُوَ أولى؛ وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَرَأَ الْآيَة وَعرف مِنْهَا الحكم وَعلة الحكم لم يخل أما إِنَّه يعْتَقد مَا تَقْتَضِيه الْعلَّة أَو لَا يعْتَقد ذَلِك.
فَإِن اعْتقد ذَلِك فَهُوَ عمل بِالِاجْتِهَادِ وَصَارَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ.
وَإِن لم يعْتَقد صَار مخطئا وَذَلِكَ منفي عَنهُ.
وَلِأَن الِاجْتِهَاد مَوضِع لرفع الْمنَازل وَالزِّيَادَة فِي الدَّرَجَات وأحق النَّاس بذلك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَبَ أَن يكون لَهُ مدْخل فِيهِ.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فَدلَّ على أَنه لَا يحكم إِلَّا عَن وَحي.
وَالْجَوَاب: أَن الحكم بِالِاجْتِهَادِ حكم عَن وَحي وَلَيْسَ عَن الْهوى لِأَن الْهوى مَا تهواه النَّفس وتشتهيه من غير دَلِيل فقد قُلْنَا بِمُوجب الْآيَة.
قَالُوا الِاجْتِهَاد طَرِيقه الظَّن وَهُوَ قَادر على إِظْهَار الحكم على جِهَة الْعلم وَالْوَحي فَلَا يجوز أَن يصير إِلَى الظَّن وَلِهَذَا لَا يجوز فِي طلب الْقبْلَة لمن عاينها حَيْثُ قدر على الْإِدْرَاك من جِهَة الْعلم.
قُلْنَا إِنَّمَا يحكم عِنْد انْقِطَاع الْوَحْي وَالْوَحي مُتَعَذر فِي حَالَة الحكم فَيجب أَن يجوز لَهُ الِاجْتِهَاد، وعَلى أَن اجْتِهَاده عَلَيْهِ السَّلَام مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ لِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ فِي الْأَحْكَام فَلَا يكون حكمه بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَة ظن بل هُوَ حكم عَن علم وَقطع.
قَالُوا وَلِأَن من خَالف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حكمه صَار كَافِرًا فَلَو جَوَّزنَا لَهُ أَن يحكم بِالِاجْتِهَادِ لم يُمكن تَكْفِير من خَالفه فِيهِ لِأَن الِاجْتِهَاد طَرِيقه الظَّن فَلَا يجوز أَن يكفر من خَالفه فِيهِ وَلِهَذَا لما نزل بِاجْتِهَادِهِ فِي بعض الْمنَازل خَالفه بعض.
أَصْحَابه فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَرَحل عَنهُ وَقد أَجمعت الْأمة على تَكْفِير من خَالفه فِي الحكم فَدلَّ على أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يحكم من طَرِيق الِاجْتِهَاد.
الْجَواب أَنا نكفر من خَالفه فِي الْأَحْكَام.
وَقَوْلهمْ إِنَّه لَا يُمكن تكفيره فِيمَا طَرِيقه الظَّن غير صَحِيح لِأَن مَا يحكم بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ وَإِن كَانَ عَن اجْتِهَاده لِأَنَّهُ مَعْصُوم فِيهِ عَن الْخَطَأ محروس عَن الزلل وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ فِي أَمر الْمنزل لِأَن ذَلِك من أُمُور الدُّنْيَا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ «أَنْتُم أعرف بِأَمْر دنياكم وَأَنا أعرف بِأَمْر دينكُمْ».
قَالُوا وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسْأَل عَن أَشْيَاء فَيتَوَقَّف فِيهَا إِلَى أَن يرد الْوَحْي كالظهار وَاللّعان وَلَو جَازَ الِاجْتِهَاد لما توقف.
وَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا يجوز لَهُ أَن يجْتَهد فِيمَا لَهُ أصل من الْكتاب فَيحمل غَيره عَلَيْهِ من طَرِيق الِاجْتِهَاد وَأما فِيمَا لَا أصل لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى الِاجْتِهَاد وَأما الظِّهَار وَاللّعان فَلم يكن لَهما أصل فِي الْقُرْآن فيجتهد فِي حكمهمَا فَلذَلِك انْتظر النَّص.
وعَلى أَنه إِن كَانَ قد توقف فِيمَا ذَكرُوهُ فقد اجْتهد فِي مَوَاضِع، أَلا ترى أَنه قضى فِي أُسَارَى بدر بِالْفِدَاءِ من جِهَة الِاجْتِهَاد وَقضى فِي بني قُرَيْظَة بِالِاجْتِهَادِ فَقتل من أنبت مِنْهُم واسترق من لم ينْبت فَلَيْسَ لَهُم أَن يتعلقوا بِمَا ذَكرُوهُ إِلَّا وَلنَا أَن نتعلق بِمَا ذَكرْنَاهُ.
قَالُوا وَلِأَن الِاجْتِهَاد رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره وَلِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُخَالف بَين المتفقين فِي الحكم وَيتْرك مُوجب الْقيَاس وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن للْقِيَاس فِي حَقه معنى.
وَالْجَوَاب: أَن تَقْدِير هَذَا الدَّلِيل حجَّة عَلَيْهِم لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يُخَالف بَين متفقين وَيحكم بِمَا خَالف الْقيَاس فَلِأَن يجوز لَهُ أَن يحكم بِمَا يَقْتَضِيهِ الْقيَاس أولى.
على أَنا لَا نسلم هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجمع بَين مُخْتَلفين وَلَا يفرق بَين متفقين إِلَّا عَن نَص أَو معنى مستنبط من النَّص وَإِذا ثَبت هَذَا سقط مَا قَالُوهُ.

.مَسْأَلَة: (12) يجوز الْخَطَأ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اجْتِهَاده إِلَّا أَنه لَا يقْرَأ عَلَيْهِ بل يُنَبه عَلَيْهِ:

وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ.
لنا قَوْله عز وَجل {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ قد أَخطَأ فِي الْأذن لَهُم، وَأَيْضًا قَوْله فِي أهل بدر لما فاداهم {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام «لَو نزل من السَّمَاء عَذَاب مَا نجا مِنْهُ إِلَّا ابْن الْخطاب» فَدلَّ على أَنه كَانَ أَخطَأ بِالْفِدَاءِ.
ولأنه يجوز عَلَيْهِم السَّهْو وَالنِّسْيَان فِي أَفعاله فَجَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَاده كآحاد الْأمة.
وَاحْتَجُّوا بِأَن تَجْوِيز الْخَطَأ عَلَيْهِ يُوجب التَّوَقُّف فِي قَوْله وَالشَّكّ عِنْد سَمَاعه وَذَلِكَ فسق وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}.
وَالْجَوَاب: أَن تَجْوِيز الْخَطَأ لَا يُوجب التَّوَقُّف فِي قَوْله، أَلا ترى أَن الْمُفْتِي منا يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده ثمَّ لَا يجوز التَّوَقُّف فِي قَوْله وَلَا الشَّك عِنْد سَمَاعه، وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول إِن تَجْوِيز الْخَطَأ عَلَيْهِ يُوجب التَّوَقُّف فِي قَوْله وَلَا الشَّك عِنْد سَمَاعه فَيجب أَن يكون منزها عَن الْخَطَأ فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قَالُوا إِذا كَانَت الْأمة معصومة من الْخَطَأ فَلِأَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْصُوما مِنْهُ أولى.
قُلْنَا هَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ إِذا كَانَت الْأمة معصومة عَن الْخَطَأ وَجب أَن يكون النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بذلك أولى وَمَا الَّذِي يدل على ذَلِك.
ثمَّ نقُول لَهُم مَا أنكرتم على من يَقُول إِن الْأمة إِنَّمَا عصمت لانْقِطَاع الْوَحْي عَنْهَا فَلَو جَوَّزنَا عَلَيْهَا الْخَطَأ فِي اجتهادها اسْتمرّ ذَلِك وَلم يكن للنَّاس من يبين لَهُم الْخَطَأ فيحكمون فِي دين الله بِغَيْر حكمه وَهَذَا لَا يجوز وَلَيْسَ كَذَلِك الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن الْوَحْي غير مُنْقَطع عَنهُ فَإِذا أَخطَأ فِي اجْتِهَاده عرف ذَلِك وَنبهَ فَلَا يُؤَدِّي إِلَى أَن يحكم فِي دين الله تَعَالَى بِغَيْر حكمه فَافْتَرقَا.

.مَسْأَلَة: (13) اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف لَيْسَ بِدَلِيل:

وَقَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد والصيرفي هُوَ دَلِيل.
لنا أَن مَوضِع الْخلاف غير مَوضِع الْإِجْمَاع فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِالْإِجْمَاع من غير عِلّة كَمَا لَو وَقع الْخلاف فِي مَسْأَلَة لَا يجوز الِاحْتِجَاج فِيهَا بِالْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة أُخْرَى.
وَلِأَن الْإِجْمَاع غير مَوْجُود فِي مَوضِع الْخلاف وَمَا كَانَ حجَّة لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ فِي الْموضع الَّذِي لَا يُوجد فِيهِ كألفاظ صَاحب الشَّرْع إِذا تناولت موضعا خَاصّا لم يجز الِاحْتِجَاج بهَا فِي الْموضع الَّذِي تتناوله فَكَذَلِك هَاهُنَا.
وَلِأَن المستصحب للْحَال لَيْسَ مَعَه فِي مَوضِع الْخلاف دَلِيل من جِهَة الْعقل وَلَا من جِهَة الشَّرْع وَلَا يجوز لَهُ إِثْبَات الحكم كَمَا لَو لم يتَقَدَّم مَوضِع الْخلاف إِجْمَاع.
وَلِأَن الِاحْتِجَاج لاستصحاب الْحَال يُؤَدِّي إِلَى التكافؤ والتعارض وَذَلِكَ أَن مَا من أحد يستصحب حَال الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف فِي صِحَة فعل وَسُقُوط فرض إِلَّا ولخصمه أَن يسصحب حَال الْإِجْمَاع فِي اشْتِغَال ذمَّته بِالشَّرْعِ وَبَقَاء الْعِبَادَة فيتساويان فِي اسْتِصْحَاب حَال الْإِجْمَاع فيتكافآن وَبَيَان ذَلِك، أَنه من قَالَ فِي الْمُتَيَمم إِذا رأى المَاء فِي صلَاته إِن صلَاته لَا تبطل لأَنا أجمعنا على صِحَة صلَاته فِي انْعِقَاد إِحْرَامه وَلَا يجوز إبِطَال مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل قيل قد أجمعنا على اشْتِغَال ذمَّته بِفَرْض الصَّلَاة فَلَا يجوز إِسْقَاط مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل وَلَا يكون التَّعَلُّق بِأحد الإجماعين بِأولى من التَّعَلُّق بِالْإِجْمَاع الآخر وَمَا أدّى إِلَى مثل هَذَا كَانَ بَاطِلا.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا} فَدلَّ على أَن مَا ثَبت لَا يجوز نقضه.
وَالْجَوَاب: أَن الْآيَة تَقْتَضِي الْمَنْع من نقض مَا هُوَ ثَابت وَمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فِي مَوضِع الْخلاف غير ثَابت فَلَا يدْخل فِي الْآيَة.
قَالُوا وَلِأَن الْإِجْمَاع يَقِين وَالْخلاف شكّ فَلَا يجوز أَن يزَال الْيَقِين بِالشَّكِّ، أَلا ترى أَن من تَيَقّن الطَّهَارَة وَشك فِي الْحَدث لم يزل الْيَقِين بِالشَّكِّ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام «إِن الشَّيْطَان ليَأْتِي أحدكُم يَنْفَسِخ بَين ألييه فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» فَأمر بِالْبَقَاءِ على الأَصْل وَالْبناء على الْيَقِين فَكَذَلِك هَاهُنَا.
الْجَواب أَنا لَا نسلم أَن الْيَقِين لَا يزَال بِالشَّكِّ غير أَنه لَيْسَ مَعنا فِي مَوضِع الْخلاف يَقِين قد زَالَ بِوُقُوع الْخلاف.
وَيُخَالف هَذَا مَا ذَكرُوهُ من يَقِين الطَّهَارَة فَإنَّا قد تَيَقنا الطَّهَارَة وَلم نتيقن زَوَالهَا وَالظَّاهِر بقاءها وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا لِأَن مَا تيقناه من الْإِجْمَاع قد تَيَقنا زَوَاله فوزانه مِمَّا قَالُوهُ أَن نتيقن زَوَال الطَّهَارَة بِالْحَدَثِ فَلَا يستصحب حكم الطَّهَارَة.
قَالُوا وَلِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ من الحكم لَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَالْخلاف يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط فَلَا يجوز ترك مَا لَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط بِمَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط كَمَا نقُول فِي ترك الْإِجْمَاع بِالْقِيَاسِ.
قُلْنَا فَيجب على مُقْتَضى هَذَا الدَّلِيل أَن لَا يسْتَدلّ بِالْقِيَاسِ أصلا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي نقدمها فَيُقَال أَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ لَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط فَلَا يجوز تَركه بِالْقِيَاسِ الَّذِي يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَلما جَازَ هَذَا بِالْإِجْمَاع سقط مَا قَالُوهُ.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَن الْإِجْمَاع لَا يتْرك بِالْقِيَاسِ لِأَن الْإِجْمَاع مَوْجُود وَالْقِيَاس دونه فَلَا يجوز ترك أَعلَى الدَّلِيلَيْنِ بأدونهما وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا لِأَن الْإِجْمَاع قد زَالَ بِوُقُوع الْخلاف فَلم يجب الْبَقَاء على حكمه من غير دَلِيل.
قَالُوا وَلِأَن قَول المجمعين حجَّة فَوَجَبَ استصحابه فِي مَوضِع الْخلاف وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
وَالْجَوَاب: أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْجُود فِي مَوضِع الْخلاف متناول لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا لِأَن الْإِجْمَاع قد زَالَ فِي مَوضِع الْخلاف فوزانه من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَن يرد اللَّفْظ خَاصّا فِي مَوضِع وَلَا يجب استصحابه فِي الْموضع الَّذِي لَا يتَنَاوَلهُ.
قَالُوا وَلِأَن الْإِجْمَاع يصدر عَن لفظ وَإِن لم يظْهر ذك فالاستدلال بِهِ كالاستدلال بِاللَّفْظِ وَقد ثَبت أَن اللَّفْظ يجب الْعَمَل بِهِ فِي مَوضِع الْخلاف فَكَذَلِك الْإِجْمَاع.
وَالْجَوَاب: أَن الْإِجْمَاع قد يصدر عَن لفظ فَيجب الْبَقَاء على حكمه وَقد يصدر عَن معنى فَلَا يجب الْبَقَاء على حكمه وَلَيْسَ لَهُم أَن يحملوا ذَلِك على أحد الْأَمريْنِ إِلَّا وَلنَا أَن نحمله على الْأَمر الآخر، وعَلى أَنه إِن كَانَ ذَلِك عَن لفظ فَيجوز أَن يكون ذَلِك عَن لفظ مَقْصُور على مَوضِع الْإِجْمَاع لَا يتعداه فَلَا يجوز إِثْبَات حكمه فِي مَوضِع الْخلاف بِالشَّكِّ.
قَالُوا وَلِأَن مَا ثَبت بِالْعقلِ من بَرَاءَة الذِّمَّة يجب استصحابه فِي مَوضِع الْخلاف فَكَذَلِك مَا ثَبت بِالْإِجْمَاع.
قُلْنَا إِنَّمَا وَجب اسْتِصْحَاب بَرَاءَة الذِّمَّة لِأَن دَلِيل الْعقل فِي بَرَاءَة الذمم قَائِم فِي مَوضِع الْخلاف فَوَجَبَ اسْتِصْحَاب حكمه وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا لِأَن الْإِجْمَاع الَّذِي أوجب الحكم قد زَالَ فِي مَوضِع الْخلاف فَوَجَبَ طلب الدَّلِيل على إِثْبَات حكمه.

.مَسْأَلَة: (14) النَّافِي للْحكم عَلَيْهِ الدَّلِيل:

وَمن النَّاس من قَالَ لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَهُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا.
لنا قَوْله عز وَجل {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ} فذمهم الله تَعَالَى بِأَن قطعُوا بِالنَّفْيِ من غير دَلِيل؛ وَلِأَن الْقطع بِالنَّفْيِ لَا يكون إِلَّا عَن طَرِيق كَمَا أَن الْقطع فِي الْإِثْبَات لَا يكون إِلَّا عَن طَرِيق فَلَمَّا وَجب على الْمُثبت إِظْهَار مَا اقْتَضَاهُ الْإِثْبَات عِنْده وَجب على النَّافِي إِظْهَار مَا اقْتَضَاهُ النَّفْي عِنْده.
وَاحْتَجُّوا بِأَن من أنكر النُّبُوَّة لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجب الدَّلِيل على مدعي النُّبُوَّة وَكَذَلِكَ من أنكر الْحق لَا بَيِّنَة عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْبَيِّنَة على مدعي الْحق فَكَذَلِك هَاهُنَا يجب أَن يكون الدَّلِيل على من أثبت الْحق دون من نَفَاهُ.
وَالْجَوَاب: أَن من يُنكر النُّبُوَّة إِذا انْقَطع بِالنَّفْيِ وَقَالَ لست بِنَبِي فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة على نَفْيه وَهُوَ أَن يَقُول لَو كنت نَبيا مَبْعُوثًا لَكَانَ مَعَك دَلِيل على صدقك لِأَن الله تَعَالَى لَا يبْعَث نَبيا إِلَّا وَمَعَهُ مَا يدل على صدقه فَلَمَّا لم أر مَعَك دَلِيلا دلّ على أَنَّك لست بِنَبِي وَإِن لم يقطع بِالنَّفْيِ بل قَالَ لَا أعلم أَنَّك نَبِي أَو لست بِنَبِي فَهَذَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يقطع بِالنَّفْيِ بل هُوَ شَاك والشاك لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَفِي مَسْأَلَتنَا قطع بِالنَّفْيِ فَلَا يجوز أَن يقطع بذلك إِلَّا عَن طَرِيق يَقْتَضِيهِ وَدَلِيل يُوجِبهُ فَوَجَبَ إِظْهَاره.
وَأما مُنكر الْحق فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة على إِنْكَاره وَهُوَ الْيَمين فَلَا نسلم مَا ذَكرُوهُ.
وَجَوَاب آخر: وَهُوَ أَنه إِن كَانَ الْمُدعى عينا فاليد بَيِّنَة لَهُ وَإِن كَانَ دينا فبراءة الذِّمَّة بِالْعقلِ بَيِّنَة لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا لِأَن نَفْيه لم يقم على نَفْيه مَا يدل على صِحَّته فَلم يَصح نَفْيه.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَو نفى صَلَاة سادسة لم يكن عَلَيْهِ دَلِيل فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قُلْنَا لَا بُد فِي نَفيهَا من دَلِيل وَهُوَ أَن يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يتعبد الْخلق بِفَرْض إِلَّا وَيجْعَل إِلَى مَعْرفَته طَرِيقا من جِهَة الدَّلِيل فَلَمَّا لم نجد مَا يدل على الْوُجُوب دلنا ذَلِك على أَنه لَا وَاجِب هُنَاكَ فيستدل بِعَدَمِ الدَّلِيل على نفي الْوُجُوب.

.مَسْأَلَة: (15) الْأَعْيَان المنتفع بهَا قبل أَن يرد الشَّرْع على الْوَقْف:

فِي قَول كثير من أَصْحَابنَا فَلَا نقُول إِنَّهَا مُبَاحَة وَلَا محظورة وَهُوَ قَول الصَّيْرَفِي وَأبي عَليّ الطَّبَرِيّ وَمذهب الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة هِيَ على الْحَظْر إِلَّا أَن يرد الشَّرْع بإباحتها وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة البغداديين، وَقَالَ القَاضِي أَبُو حَامِد هِيَ على الْإِبَاحَة وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة الْبَصرِيين.
لنا أَن الْمُبَاح مَا أذن فِيهِ صَاحب الشَّرْع والمحظور مَا حرمه صَاحب الشَّرْع فَإِذا لم يرد الشَّرْع وَجب أَن لَا يكون مُبَاحا وَلَا مَحْظُورًا فَوَجَبَ أَن يكون على الْوَقْف.
وَلِأَن هَذِه الْأَعْيَان ملك لله تَعَالَى لَهُ أَن يمْنَع من الِانْتِفَاع بهَا وَله أَن ينْسَخ الِانْتِفَاع بهَا وَله أَن يُوجب الِانْتِفَاع بهَا وَقبل أَن يرد الشَّرْع لَا مزية لأحد هَذِه الْوُجُود على الْبَاقِي فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِي الْجَمِيع؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعقل يُوجب حكما معينا فِي هَذِه الْأَعْيَان من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم لما جَازَ وُرُود الشَّرْع فِيهَا بِخِلَاف ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِخِلَاف مَا يُوجِبهُ الْعقل ويقتضيه وَلما جَازَ وُرُود الشَّرْع بالتحليل وَالتَّحْرِيم دلّ على أَن الْعقل لم يُوجب فِيهَا حكما معينا.
فَإِن قيل: إِن كَانَ هَذَا دَلِيلا على إبِطَال القَوْل بالحظر وَالْإِبَاحَة فَيجب أَن يكون دَلِيلا على إبِطَال القَوْل بِالْوَقْفِ لِأَن الشَّرْع لَا يجوز أَن يرد بِخِلَاف مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل وَلما جَازَ عنْدكُمْ أَن يكون على الْوَقْف لم يرد الشَّرْع بالتحليل وَالتَّحْرِيم جَازَ أَن يكون على الْحَظْر وَيرد الشَّرْع فِيهِ بِالْإِبَاحَةِ أَو على الْإِبَاحَة وَيرد فِيهِ الشَّرْع بالحظر.
قُلْنَا لَيْسَ القَوْل بِالْوَقْفِ من القَوْل بالحظر وَالْإِبَاحَة بسبيل لِأَن من قَالَ بالحظر أَو بِالْإِبَاحَةِ جعل ذَلِك حكما يُوجب بِالْعقلِ فيستحيل أَن يرد الشَّرْع بِمَا يُخَالِفهُ وَلَيْسَ كَذَلِك من قَالَ بِالْوَقْفِ بِعَدَمِ الدَّلِيل الْمُقْتَضِي للحظر أَو الْإِبَاحَة وَالْوَقْف بِعَدَمِ الدَّلِيل يجوز أَن يرد عَلَيْهِ مَا يزِيل الْوَقْف بالكشف عَن الدَّلِيل.
وَأَيْضًا إِن الشَّرْع ورد أَيْضا بِتَحْرِيم أَشْيَاء وَتَحْلِيل أَشْيَاء فَلَو كَانَ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع الْحَظْر لما ورد الشَّرْع بِالْإِبَاحَةِ لِأَن الْحَظْر مَعْلُوم بِالْعقلِ فَلَو كَانَت الْأَشْيَاء فِي الأَصْل على الْإِبَاحَة لما ورد الِاتِّبَاع إِلَّا بالحظر لِأَن الْإِبَاحَة مَعْلُومَة بِالْعقلِ وَلما ورد الشَّرْع بالحظر مرّة وبالإباحة أُخْرَى دلّ على أَن الْعقل مَا أوجب حظرا وَلَا إِبَاحَة يدل على ذَلِك أَن من قَالَ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْحَظْر لَا ينْفَصل عَمَّن قَالَ إِن الأَصْل فِيهَا الْإِبَاحَة وَإِذا عَارض أحد الْقَوْلَيْنِ الآخر بَطل الْجمع وَصَحَّ القَوْل بِالْوَقْفِ.
وَاحْتج من قَالَ بالحظر أَن هَذِه الْأَعْيَان ملك الله تَعَالَى وَالِانْتِفَاع بِملك الْغَيْر لَا يجوز بِغَيْر إِذْنه كَمَا نقُول فِي أَمْلَاك الْآدَمِيّين.
وَالْجَوَاب: أَن أَمْلَاك الْآدَمِيّين إِنَّمَا لم يجز الِانْتِفَاع بهَا بِالشَّرْعِ وكلامنا فِيمَا لم يرد الشَّرْع بِهِ فَتكون مَنْزِلَته من أَمْوَال الْآدَمِيّين قبل أَن يرد الشَّرْع فَنَقُول إِنَّهَا على الْوَقْف؛ وَلِأَن أَمْلَاك الْآدَمِيّين حجَّة عَلَيْهِم فَإِن مَا لَا ضَرَر على الْمَالِك فِيهِ لَا يمْنَع من الِانْتِفَاع بِهِ كالاستظلال بظله والأنس بِصُحْبَتِهِ والمسير فِي ضوء سراجه فَيجب أَن لَا يحرم هَا هُنَا الِانْتِفَاع بِمَا هُوَ لله عز وَجل من الْأَعْيَان لِأَنَّهُ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاع بهَا وَفِي هَذَا إبِطَال قَوْلهم.
ثمَّ نقُول إِن كَانَ الِانْتِفَاع بِهَذِهِ الْأَعْيَان لَا يجوز لِأَنَّهَا لله تَعَالَى فَلَا يجوز الْإِقْدَام عَلَيْهَا من غير إِذن اعْتِبَارا بأملاك الْآدَمِيّين وَالنَّاس عبيد الله تَعَالَى فَيجب أَن لَا يمنعوا من الِانْتِفَاع بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لصلاح أبدانهم وأحوالهم اعْتِبَارا بعبيد الْآدَمِيّين حِين لم يمنعوا من الِانْتِفَاع بِمَال الموَالِي بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لصلاح أبدانهم، وأحوالهم فيلزمهم نقضيه وسبيلهم أَن لَا يحظروا الِانْتِفَاع بِهَذِهِ الْأَعْيَان وَفِي ذَلِك إبِطَال لقَولهم وإفساد مَذْهَبهم.
قَالُوا ولأنا إِذا أقدمنا على الِانْتِفَاع بِهَذِهِ الْأَعْيَان لم نَأْمَن أَن يعاقبنا الله تَعَالَى على ذَلِك فَيجب أَن نتجنب ذَلِك خوفًا من الْعقُوبَة على فعله.
قُلْنَا نقلب هَذَا عَلَيْكُم فَنَقُول إِذا لم نقدم عَلَيْهِ لم نَأْمَن أَن يعاقبنا على تَركه فَإِن لَهُ أَن يُعَاقب على التّرْك كَمَا أَن لَهُ أَن يُعَاقب على الْفِعْل فَيجب أَن يقدم على الْفِعْل على أَن هَذَا لَو كَانَ طَرِيقا صَحِيحا فِي إِثْبَات الْحَظْر لوَجَبَ أَنِّي جعل ذَلِك دَلِيلا على إِيجَاب الصَّوْم وَالْحج وَسَائِر الْعِبَادَات قبل وُرُود الشَّرْع وَيُقَال إِنَّا لَا نَأْمَن من الْعقَاب على تَركهَا فَيجب أَن يكون ذَلِك وَاجِبا قبل الشَّرْع وَلما لم يَصح هَذَا بِالْإِجْمَاع لم يَصح مَا ذَكرُوهُ.
وَاحْتج من قَالَ بِالْإِبَاحَةِ بقوله عز وَجل {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق} فَدلَّ على أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة.
وَالْجَوَاب: أَنا نحمل ذَلِك على مَا ورد الشَّرْع بإباحته من الطَّيِّبَات بِدَلِيل مَا ذَكرْنَاهُ.
وعَلى أَنه يُعَارضهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} فَمنع الله تَعَالَى من الحكم فِي الشَّيْء بِأَنَّهُ حَلَال أَو حرَام فَدلَّ على أَنه مُتَوَقف على مَا يرد الشَّرْع.
قَالُوا الِانْتِفَاع بِملك الْغَيْر على وَجه لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِيهِ جَائِز كالمشي فِي ضوئه والاستظلال بظله وَهَذِه الْأَعْيَان لَا ضَرَر على الله فِي الِانْتِفَاع بهَا فَوَجَبَ أَن لَا يكون الِانْتِفَاع بهَا جَائِزا.
قُلْنَا لَو كَانَ هَذَا طَرِيقا فِي إِبَاحَة الِانْتِفَاع بهَا قبل وُرُود الشَّرْع لوَجَبَ أَن يُقَال لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِتَحْرِيم الِانْتِفَاع بهَا لِأَن مَا لَا ضَرَر على الْمَالِك فِيهِ، لَا يجوز أَن يمْنَع من الِانْتِفَاع بِهِ كَمَا لَا يجوز للْوَاحِد منا أَن يُسَمِّي غَيره من الْمَشْي فِي ضوئه والاستظلال بظله وَلما أجمعنا على جَوَاز الْمَنْع من الِانْتِفَاع بهَا دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْحَكِيم لَا يخلق شَيْئا إِلَّا لغَرَض وَوجه من الْحِكْمَة يَقْتَضِي خلقه وَقد خلق هَذِه الْأَعْيَان فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون خلقهَا ليضربها وَهَذَا لَا يَلِيق بالحكيم أَو لينْتَفع بهَا فَلَو يَخْلُو إِمَّا أَن يكون قصد نفع نَفسه وَهَذَا محَال لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَى شَيْء فَثَبت أَنه إِنَّمَا خلقهَا لينْتَفع بهَا النَّاس وَإِلَّا خرج عَن أَن يكون خلقهَا بحكمة وَصَارَ عَبَثا فتعالى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وعَلى هَذَا يدل قَوْله تَعَالَى {الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} فَأخْبر أَنه خلق الْجَمِيع لنا فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ.
الْجَواب أَنهم بنوا ذَلِك على أصلهم فِي تَعْلِيل أَفعَال الله تَعَالَى وَنحن لَا نقُول بذلك ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يجوز تَحْرِيم الْخمر وَالْخِنْزِير وَيُقَال إِنَّه لَا يَخْلُو من أَن يكون خلقهما ليضربهما وَهَذَا لَا يجوز فِي الْحِكْمَة بهما أَو لينفع نَفسه وَهُوَ غير مُحْتَاج إِلَى شَيْء أَو لينفع بهما النَّاس فقد حرمهما عَلَيْهِم فَيجب أَن يكون عَبَثا وَلما بَطل هَذَا بعد التَّحْرِيم بِالشَّرْعِ بَطل قبل التَّحْرِيم بِالشَّرْعِ.
وعَلى أَنه يجوز أَن يكون خلقهما ليمتحنهم بالكف عَنْهَا ليثبتهم على ذَلِك أَو خلقهَا ليستدل بهَا على أَن لَهَا خَالِقًا أَو خلقهَا لقوم آخَرين يأْتونَ بعدهمْ أَو خلقهَا ليوصلهم إِلَى الِانْتِفَاع بهَا على صفة مَخْصُوصَة كَمَا خلق لَهُم الْجنَّة ليوصلهم إِلَيْهَا على صفة مَخْصُوصَة وَإِذا احْتمل هَذِه الْوُجُوه لم يجز أَن يحمل الْأَمر فِيهَا على الْإِبَاحَة وَلَا على الْحَظْر وَلَا على الْعَبَث.
وَأما الْآيَة فَنحْن نقُول بهَا لِأَنَّهُ خلق ذَلِك لنا وَلَكِن ليوصله إِلَيْنَا على الْوَجْه الَّذِي بَيناهُ فَسقط مَا قَالُوهُ.
قَالُوا وَلِأَن الْمُبَاح مَا لَا ثَوَاب فِي فعله وَلَا عِقَاب فِي تَركه وعندكم أَن من فعل شَيْئا قبل وُرُود الشَّرْع لم يسْتَحق عَلَيْهِ ثَوابًا وَلَا عقَابا فَهَذَا اسْم لَهُ حكم الْإِبَاحَة.
وَالْجَوَاب: أَن الْمُبَاح مَا أخبر صَاحب الشَّرْع بِأَنَّهُ لَا ثَوَاب فِيهِ وَلَا عِقَاب عَلَيْهِ وَهُوَ وَإِن قُلْنَا إِنَّه لَا ثَوَاب عَلَيْهِ فَإنَّا لَا نقُول إِنَّه مُبَاح لِأَن الشَّرْع لم يرد فِيهِ بالثواب وَالْعِقَاب وَهَذَا كَمَا نقُول فِي أَفعَال الْبَهِيمَة إِنَّه لَا ثَوَاب فها وَلَا عِقَاب ثمَّ لَا نقُول إِن ذَلِك مُبَاح وَلَا مَحْظُور حَيْثُ لم يرد الشَّرْع فِيهَا بالثواب وَالْعِقَاب فَكَذَلِك هَاهُنَا.
قَالُوا وَلِأَن القَوْل بِالْوَقْفِ يُؤَدِّي إِلَى ترك الْوَقْف وَذَلِكَ أَن القَوْل بِهِ لَا يَخْلُو من أَن يكون حَقًا يجب اعْتِقَاده وَالْقَوْل بِهِ أَو بَاطِلا فَلَا يجوز اعْتِقَاده، فَإِن كَانَ حَقًا يجب اعْتِقَاده بَطل القَوْل بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ وَجب الِاعْتِقَاد، وَإِن كَانَ بَاطِلا لم يجز القَوْل بِهِ.
قُلْنَا الْوَقْف هُوَ الْحق وَمَعْنَاهُ أَنه لَا عِقَاب على أحد فِيهَا بِفِعْلِهِ وَلَا ثَوَاب فِي شَيْء بِفِعْلِهِ وَلَا وجوب فِي شَيْء من الْأَشْيَاء حَتَّى يرد الشَّرْع بِهِ فِي الْوَقْف الَّذِي قُلْنَاهُ وَلَيْسَ إِذا كَانَ ذَلِك هُوَ الْحق وَجب فِيهِ الِاعْتِقَاد إِذا لم يكن على صفة الْوُجُوب فَيجب أَن يُقيم الدَّلِيل على ذَلِك وَأَنه إِذا كَانَ حَقًا وَجب اعْتِقَاده وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجب الِاعْتِقَاد، وعَلى أَنه يجوز أَن يكون الشَّيْء على صفة من الصِّفَات ثمَّ لَا يجب على الْإِنْسَان فِيهِ معرفَة وَلَا اعْتِقَاد.
أَلا ترى أَن كثيرا من الْمَخْلُوقَات لَهَا صِفَات هِيَ عَلَيْهَا فِي الْحَقِيقَة ثمَّ لَا يجب الْبَحْث عَنْهَا والكشف عَن حَقِيقَتهَا وصفتها ثمَّ لَا يُقَال إِنَّه لما لم تجب مَعْرفَتهَا على حَقِيقَتهَا وصفاتها لم تكن تِلْكَ الصِّفَات ثَابِتَة لَهَا فِي الْحَقِيقَة فَكَذَلِك هَاهُنَا، وَالله أعلم.