فصل: فصل فيمن شهر على المسلمين سيفًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ:

قَالَ (الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِقَتْلِ كُلِّ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ إذَا قَتَلَ عَمْدًا) أَمَّا الْعَمْدِيَّةُ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا حَقْنُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ وَتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ قَالَ (وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ) لِلْعُمُومَاتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْحُرِّ بِطَرَفِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ تَفَاوُتٌ إلَى نُقْصَانٍ وَلَنَا أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ بِالدِّينِ وَبِالدَّارِ وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا، وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ فَلَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ قَالَ (وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ» وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ وَالدَّارِ وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ دُونَ الْمُسَالِمِ، وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَالْمُرَادُ بِمَا رَوَى الْحَرْبِيَّ لِسِيَاقِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَذَلِكَ كُفْرُهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَقْسَامِ الْقَتْلِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْعَمْدُ وَهُوَ قَدْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَقَدْ لَا يُوجِبُهُ احْتَاجَ إلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ (الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِقَتْلِ كُلِّ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَخْ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ كُلِّيَّةٌ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ، وَحَقْنُ الدَّمِ مَنَعَهُ أَنْ يَسْفِكَ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى التَّأْبِيدِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنَّ فِي دَمِهِ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِالْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْمُزِيلَةِ لِلْمُسَاوَاةِ الْمُنْبِئِ عَنْهَا الْقِصَاصُ، وَلَا بُدَّ مِنْ صِفَةِ الْعَمْدَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَمِنْ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُنَافِي وَصْفَ الْقِصَاصِ بِالْوُجُوبِ.
الثَّانِي أَنَّ حَقْنَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ أَنْهَى مَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَزُولُ بِالِارْتِدَادِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمُسْلِمٍ قَتَلَ ابْنَهُ الْمُسْلِمَ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهِ وَلَا قِصَاصَ، الرَّابِعُ أَنَّ قَيْدَ التَّأْبِيدِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِذَا قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فَأَجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ ثُبُوتُ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَفْوِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقْنِ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَالِارْتِدَادُ عَارِضٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَرُجُوعُ الْحَرْبِيِّ إلَى دَارِهِ أَصْلٌ لَا عَارِضٌ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ انْقَلَبَ مَالًا لِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ.
وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ إلَى نُقْصَانٍ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ.
وَقَوْلُهُ (لِلْعُمُومَاتِ يُرِيدُ بِهِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}) وَقَوْلُهُ ({وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}) وَقَوْلَهُ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعَمْدُ قَوَدٌ} وَذَكَرَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَجْهَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ) أَيْ الْعِصْمَةُ (بِالدَّيْنِ) يَعْنِي عِنْدَهُ (أَوْ بِالدَّارِ) يَعْنِي عِنْدَنَا (وَ) الْعَبْدُ وَالْحُرُّ (يَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا) فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قَالَ جَازَ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ مَانِعَةً وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَحَقِيقَةُ الْكُفْرِ تَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا أَثَرُهُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ) مَعْنَاهُ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ مَانِعًا، إذْ لَوْ صَلَحَ لَمَا جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذَّكَرِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْآيَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِالذَّكَرِ وَهُوَ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى وَلَا الْعَكْسَ بِالْإِجْمَاعِ، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَى أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ تَدَّعِي إحْدَاهُمَا فَضْلًا عَلَى الْأُخْرَى اقْتَتَلَتَا، فَقَالَتْ مُدَّعِيَةُ الْفَضْلِ: لَا نَرْضَى إلَّا بِقَتْلِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ بِالْأُنْثَى مِنَّا وَالْحَرِّ مِنْهُمْ بِقَتْلِ الْعَبْدِ مِنَّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْأَطْرَافِ.
وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ، فَإِنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، بِخِلَافِ النُّفُوسِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا يَعْتَمِدُهَا فِي الْعِصْمَةِ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهَا عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ثُبُوتِ اقْتِصَاصِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِهِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى ثُبُوتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ.
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ: «سَأَلْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ؟ قَالَ لَا، وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا أَنْ يُعْطَى فَهْمًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْت: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
وَبِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي وَقْتِ الْجِنَايَةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ.
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا وَقْتَ الْقَتْلِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ فِتْنَةُ الْكُفْرِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.
وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ» وَفِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ جَلَاءٌ لَا يُمَارَى.
وَرُدَّ بِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى ابْنِ السَّلْمَانِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ رَحِمَهُ اللَّهُ ابْنُ السَّلْمَانِيِّ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، رُوِيَ عَنْهُ رَبِيعَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ» وَهُوَ مُرْسَلٌ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ابْنُ السَّلْمَانِيِّ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إذَا وَصَلَ فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّعْنَ بِالْإِرْسَالِ وَالطَّعْنُ الْمُبْهَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ) يَعْنِي عِنْدَهُ (أَوْ الدَّارِ) يَعْنِي عِنْدَنَا فَيَثْبُتُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ بَلْ الْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وَقَوْلُهُ (وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ) لِدَفْعِ قَوْلِهِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةُ: أَيْ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِالذِّمِّيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَ الذِّمِّيِّ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ إذْ لَوْ أَوْرَثَهَا لَمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْحَرْبِيِّينَ.
فَإِنْ قِيلَ: يُورِثُ الشُّبْهَةَ إذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ.
قُلْنَا: فَيَكُونُ قَبْلَ قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ مَعْصُومًا كَالْمُسْلِمِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُفْرَدًا، وَلَوْ كَانَ مُفْرَدًا لَاحْتَمَلَ مَا قَالُوا وَلَكِنْ مَوْصُولًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ (لِسِيَاقِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ هَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ فَيَكُونُ كَلَامًا تَامًّا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَدَائِهِ إلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ ذُو عَهْدٍ مُدَّةَ عَهْدِهِ وَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} ثُمَّ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو عَهْدٍ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَيُقَدَّرُ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، وَإِذْ لابد مِنْ تَقْدِيرِ حَرْبِيٍّ يُقَدَّرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ وَالْأَعَمُّ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لَا يَكُونُ دَلِيلًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا كَيْفِيَّةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ حَتَّى صَحَّ نَفْيُهُ وَقَتْلُهُمْ وَاجِبٌ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ جِهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمُسْلِمُ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَهُوَ حَرَامٌ لَكِنْ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَعَارِكِ الْآرَاءِ لَا طَائِلَ تَحْتَ تَطْوِيلِهَا فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقْتَلُ) يَعْنِي الْمُسْلِمَ (بِالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ (وَلِأَنَّ كُفْرَهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ لِأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ) إلَى دَارِهِ فَكَانَ كَالْحَرْبِيِّ (وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ لَيْسَ مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْهُ مِثْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ إلَّا إذَا أُرِيدَ هُنَاكَ بِالْحَرْبِيِّ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُحَارِبًا وَهُوَ الْحَقُّ، وَيُغْنِينَا عَنْ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْحَرْبِيِّ وَالْجَوَابِ عَنْهُ.
وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا (وَيُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ) قِيَاسًا لِلْمُسَاوَاةِ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا لِقِيَامِ الْمُبِيحِ (وَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالصَّحِيحُ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَبِنَاقِصِ الْأَطْرَافِ وَبِالْمَجْنُونِ) لِلْعُمُومَاتِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِيمَا وَرَاءَ الْعِصْمَةِ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ وَظُهُورَ التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِلْعُمُومَاتِ) يَعْنِي الْآيَاتِ الدَّالَّةَ بِعُمُومِهَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ إلَخْ) يَصْلُحُ لِجَمِيعِ مَا خَالَفْنَا فِيهِ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ يُقَادُ إذَا ذَبَحَهُ ذَبْحًا، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُسْتَحَقَّ لَهُ إفْنَاؤُهُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَفِّ الْأَعْدَاءِ مُقَاتِلًا أَوْ زَانِيًا وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ، وَإِنْ عَلَا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَكَذَا الْوَالِدَةُ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ إلَخْ) لَا يُقْتَلُ الْإِنْسَانُ بِوَلَدِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ» وَهُوَ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِإِحْيَائِهِ وَهُوَ وَصْفٌ مُعَلَّلٌ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَالِدَهُ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَفِّ الْأَعْدَاءِ مُقَاتِلًا أَوْ وَجَدَهُ زَانِيًا وَهُوَ مُحْصَنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِهِ الْحُكْمُ مِنْ الْوَالِدِ إلَى الْجَدِّ مُطْلَقًا وَإِلَى الْأُمِّ وَالْجَدَّاتِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَسْبَابٌ لِإِحْيَائِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِفْنَائِهِمْ.
قَوْلُهُ (وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ إفْنَاءَهُ لَا الْوَلَدُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِفَنَائِهِ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ ذَبَحَهُ يُقَادُ بِهِ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْخَطَأِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَإِنَّ فِيهِ تَوَهُّمَ التَّأْدِيبِ، لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ وَهُوَ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّجْمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.
لَا يُقَالُ: فَيَجِبُ أَنْ يُحَدَّ إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» صَارَ شُبْهَةً فِي الدَّرْءِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ وَلَا مُدَبَّرِهِ وَلَا مُكَاتَبِهِ وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْقِصَاصَ وَلَا وَلَدِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَلَكَ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا وَلَدُهُ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي يَسْتَوْجِبُ، وَجَازَ ذَلِكَ بِلَا تَأْكِيدٍ بِمُنْفَصِلٍ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ: يَعْنِي وَلَا يَسْتَوْجِبُ وَلَدُهُ عَلَى أَبِيهِ إذَا قَتَلَ الْأَبُ عَبْدَ وَلَدِهِ قَالَ (وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ سَقَطَ) لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ) مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ أُمَّ ابْنِهِ مَثَلًا قَالَ (وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ إنْ كَانَ فِعْلًا مَشْرُوعًا، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزَّ رَقَبَتُهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ فَيُحَزُّ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا فِي كَسْرِ الْعَظْمِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ) يَعْنِي إذَا وُجِدَ الْقَتْلُ الْمُوجَبُ لِلْقَوَدِ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَتْلٌ بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَمَاتَ مِنْهُ فُعِلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيُمْهَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ كَأَنْ سَقَاهُ الْخَمْرَ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ لَاطَ بِصَغِيرٍ فَقَتَلَهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ فِيهِ مُسَاوَاةً فِي أَصْلِ الْوَصْفِ وَالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ بِهِ (وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَهُوَ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ سِلَاحًا) فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا قَوَدَ يَجِبُ إلَّا بِالسَّيْفِ..
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَوَدَ اسْمٌ لِفِعْلٍ هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ كَالْقِصَاصِ دُونَ مَا يَجِبُ شَرْعًا وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ.
فَخْرِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّرَهُ بِلَا قَوَدٍ يَجِبُ إلَّا بِالسَّيْفِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْ الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ.
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ الزِّيَادَةَ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ، لِأَنَّ فِيهِ الْحَزَّ بَعْدَ فِعْلِ مِثْلِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَدَائِهِ إلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا فِي كَسْرِ الْعَظْمِ، فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ عَظْمَ إنْسَانٍ سِوَى السِّنِّ عَمْدًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِذَا جَازَ تَرْكُ الْقِصَاصِ كُلِّهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ الْبَعْضِ أَوْلَى قَالَ (وَإِذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا الْمَوْلَى وَتَرَكَ وَفَاءً فَلَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَرَى فِي هَذَا قِصَاصًا)؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ سَبَبُ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ الْوَلَاءُ إنْ مَاتَ حُرًّا وَالْمِلْكُ إنْ مَاتَ عَبْدًا، وَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتُهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَوْلَى بِيَقِينٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا إلَى اخْتِلَافِ حُكْمٍ فَلَا يُبَالَى بِهِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مِلْكِ الْيَمِينِ يُغَايِرُ حُكْمَ النِّكَاحِ (وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا مَعَ الْمَوْلَى)؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْلَى إنْ مَاتَ عَبْدًا، وَالْوَارِثُ إنْ مَاتَ حُرًّا إذْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوْتِهِ عَلَى نَعْتِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الرِّقِّ، بِخِلَافِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَيَّنٌ فِيهَا (وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا بِلَا رَيْبٍ لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذْ قَتَلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَى الْمَوْلَى إلَخْ) إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَرَى فِي هَذَا قِصَاصًا.
وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَأَنَّهُ حَامَ حَوْلَ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَوْلَى بِيَقِينٍ إلَخْ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيُ اعْتِبَارِ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لِانْحِطَاطِهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ السَّبَبَيْنِ إذَا رَجَعَا إلَى شَخْصٍ وَحُكْمُهُمَا لَمْ يَخْتَلِفْ صَارَا كَسَبَبٍ وَاحِدٍ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا إذَا رَجَعَا إلَى شَخْصَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا كَالْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا قِصَاصَ وَإِنْ اجْتَمَعُوا لِوُجُودِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَوْتِهِ عَلَى نَعْتِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الرِّقِّ، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمُوتُ حُرًّا إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ فَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ لِوَرَثَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى (بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّ الْمَوْلَى مُتَعَيِّنٌ فِيهَا) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَوَاضِحٌ كَمَا ذُكِرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ أَوْ لَهُ وَرَثَةٌ أَرِقَّاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً) يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَعُودُ بِمَوْتِهِ وَلَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ مَا عَتَقَ مِنْهُ (وَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ)؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا يَلِيهِ، وَالرَّاهِنُ لَوْ تَوَلَّاهُ لَبَطَل حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا لِيَسْقُطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِرِضَاهُ قَالَ (وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ فَلِأَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ (وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ)؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ (وَكَذَلِكَ إنْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَعْتُوهِ عَمْدًا) لِمَا ذَكَرْنَا (وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِهِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الصُّلْحُ عَنْ النَّفْسِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ إلَّا الْقَتْلُ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِالِاعْتِيَاضِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِيفَاءِ وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصُّلْحِ الْمَالُ وَأَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ كَمَا يَجِبُ بِعَقْدِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّشَفِّي وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْطَالِ فَهُوَ أَوْلَى وَقَالُوا الْقِيَاسُ أَلَّا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الطَّرَفِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ التَّشَفِّي وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْتُوهِ فِي هَذَا، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الصَّحِيحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ يَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا قَتَلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ) يَعْنِي ابْنَهُ (فَلِأَبِيهِ) وَهُوَ جَدُّ الْمَقْتُولِ الِاسْتِيفَاءُ (لِأَنَّهُ مِنْ) بَابِ (الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا) أَيْ إلَى النَّفْسِ (وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ) وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ مَلَكَ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ كَالْأَخِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ دُونَ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي وَلِلْأَبِ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ يُعَدُّ ضَرَرُ الْوَلَدِ ضَرَرَ نَفْسِهِ فَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّشَفِّي كَالْحَاصِلِ لِلِابْنِ بِخِلَافِ الْأَخِ (وَلَهُ) أَيْ لِوَلِيِّ الْمَعْتُوهِ (أَنْ يُصَالِحَ) لَكِنْ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَقَصَ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الْمَعْتُوهِ (وَهَذَا) أَيْ الِاسْتِيفَاءُ (مِنْ قَبِيلِهِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (إنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ) يَعْنِي عَنْ النَّفْسِ، وَأَمَّا عَمَّا دُونَهَا فَيَمْلِكُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْمَالُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ أَيْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ قَالَ (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الصِّغَارُ)؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْبَعْضِ لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَفِي اسْتِيفَائِهِمْ الْكُلَّ إبْطَالُ حَقِّ الصِّغَارِ فَيُؤَخَّرُ إلَى إدْرَاكِهِمْ كَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْكَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ وَلَهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ مِنْ الصَّغِيرِ مُنْقَطِعٌ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ ثَابِتٌ وَمَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ مَمْنُوعَةٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ إلَخْ) إذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ صِغَارًا وَكِبَارًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ الْأَبُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَلَهُمْ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الصِّغَارُ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا ذُكِرَ.
وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْغُيَّبِ مِنْ حَيْثُ احْتِمَالُ الْعَفْوِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّهُ فِي الْغَائِبِ مَوْهُومٌ فَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَفِي الصَّغِيرِ مَأْيُوسٌ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ فَانْتَفَى الشُّبْهَةُ، وَإِذَا انْتَفَى الشُّبْهَةُ وَهُوَ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّى لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَلًا كَالْوِلَايَةِ فِي الْإِنْكَاحِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَعَدَّدَ الْقَتِيلُ وَعَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ لِغَيْرِهِ وِلَايَةَ اسْتِيفَاءِ قِصَاصِ قَتِيلِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ كَانَ ثَابِتًا سَاقِطًا وَهُوَ مُحَالٌ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَدَّدَ الْقَتِيلُ فَإِنَّ الْحَقَّ ثَمَّةَ مُتَعَدِّدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضٍ سُقُوطُ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ مَمْنُوعَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ، وَسَنَدُ مَنْعِهِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ لَا رِوَايَةَ فِي عَبْدٍ أَعْتَقَهُ رَجُلَانِ ثُمَّ قَتَلَ أَوْ قُتِلَ وَلَهُ مَوْلَيَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَأَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ إنَّمَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَكْمُلْ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْمِلْكِ وَبَعْضَ الْوَلَاءِ لَيْسَ بِسَبَبٍ أَصْلًا فَكَانَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمَا كَنِصْفِ رَجُلٍ وَشَطْرِ عِلَّةٍ قَالَ (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ بِالْحَدِيدِ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ أَصَابَهُ بِالْعُودِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا إذَا أَصَابَهُ بِحَدِّ الْحَدِيدِ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فَكَمُلَ السَّبَبُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِظَهْرِ الْحَدِيدِ فَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا مِنْهُ لِلْآلَةِ، وَهُوَ الْحَدِيدُ وَعَنْهُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا جَرَحَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الضَّرْبُ بِسِنْجَاتِ الْمِيزَانِ؛ وَأَمَّا إذَا ضَرَبَهُ بِالْعُودِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَامْتِنَاعِ الْقِصَاصِ حَتَّى لَا يُهْدَرَ الدَّمُ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ قَتْلًا بِالْمُثْقَلِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَقِيلَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَالَاةِ لَهُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ مَاتَ دَلِيلُ الْعَمْدِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الْمُوجِبُ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ» وَيُرْوَى (شِبْهِ الْعَمْدِ) الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لَعَلَّهُ اعْتَرَاهُ الْقَصْدُ فِي خِلَالِ الضَّرَبَاتِ فَيَعْرَى أَوَّلُ الْفِعْلِ عَنْهُ وَعَسَاهُ أَصَابَ الْمَقْتَلَ، وَالشُّبْهَةُ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَوَجَبَ الدِّيَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ إلَخْ) وَاضِحٌ قَالَ (وَمَنْ غَرَّقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا فِي الْبَحْرِ فَلَا قِصَاصَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: يُقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يُسْتَوْفَى حَزًّا وَعِنْدَهُ يُغَرَّقُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ لَهُمْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» وَلِأَنَّ الْآلَةَ قَاتِلَةٌ فَاسْتِعْمَالُهَا أَمَارَةُ الْعَمْدِيَّةِ، وَلَا مِرَاءَ فِي الْعِصْمَةِ وَلَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» وَفِيهِ «وَفِي كُلِّ خَطَإٍ أَرْشٌ»؛ لِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ، وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: اقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَمِنْهُ الْقُصَّةُ لِلْجَلَمَيْنِ، وَلَا تَمَاثُلَ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالدَّقِّ لِقُصُورِ الثَّانِي عَنْ تَخْرِيبِ الظَّاهِرِ، وَكَذَا لَا يَتَمَاثَلَانِ فِي حِكْمَةِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّلَاحِ غَالِبٌ وَبِالْمُثْقَلِ نَادِرٌ، وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَقَدْ أَوْمَتْ إلَيْهِ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِيهِ وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَا قَوْلُهُ وَمَنْ غَرَّقَ صَبِيًّا وَ (كَمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ إنْ كَانَ فِعْلًا مَشْرُوعًا.
وَقَوْلُهُ (لَهُمْ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، لَكِنَّ اسْتِدْلَالَ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَاسْتِدْلَالهمَا بِالْمَعْقُولِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مِرَاءَ فِي الْعِصْمَةِ) أَيْ لَا شَكَّ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَمِنْهُ الْمَقَصَّةُ لِلْجَلَمَيْنِ) الْجَلَمُ الَّذِي يُجَزُّ بِهِ وَهُمَا جَلَمَانِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ) لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ التَّحْرِيقُ بِالتَّحْرِيقِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُعَذِّبُوا أَحَدًا بِعَذَابِ اللَّهِ» (أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ وَقَدْ أَوْمَتْ) أَيْ أَشَارَتْ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السِّيَاسَةِ (إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ) حَيْثُ قَالَ غَرَّقْنَا وَلَمْ يَقُلْ غَرِّقُوهُ.
وَقَوْلُهُ (وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ) مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكَفَّارَةِ) خَيَّرَهُ: يَعْنِي أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ قَالَ (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا عَمْدًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَعَدَمِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِوُجُودِ السَّبَبِ) يَعْنِي سَفْكَ دَمٍ مَحْقُونٍ عَلَى التَّأْبِيدِ عَمْدًا (وَعَدَمُ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ) يَعْنِي مِنْ عَفْوٍ أَوْ شُبْهَةٍ قَالَ (وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ظَنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَإِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ «وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدِّيَةِ» قَالُوا: إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إذَا كَانُوا مُخْتَلَطِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ لَا تَجِبُ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ) يُرِيدُ بِهِ الْخَطَأَ فِي الْقَصْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الدِّيَةُ) مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الْكَفَّارَةِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً» الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ تَوَالَتْ رَوَى «أَنَّ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ تَوَالَتْ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِيِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلُوهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ فَوَهَبَهَا لَهُمْ حُذَيْفَةُ» قَالَ (وَمَنْ شَجَّ نَفْسَهُ وَشَجَّهُ رَجُلٌ وَعَقَرَهُ أَسَدٌ وَأَصَابَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ هَدَرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى يَأْثَمَ عَلَيْهِ وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَفِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ فَلَمْ يَكُنْ هَدَرًا مُطْلَقًا وَكَانَ جِنْسًا آخَرَ، وَفِعْلُ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةَ أَجْنَاسٍ فَكَأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ شَجَّ نَفْسَهُ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا) يَعْنِي فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِمَكَانِ الِاسْتِحَالَةِ وَالتَّنَافِي.
وَقَوْلُهُ (يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) أَثَرُ كَوْنِ فِعْلِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِمَرَضٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ فِي نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ (وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرَةٌ فَصَارَ كَالْبَاغِي.
وَقَوْلُهُ (فَلَمْ يَكُنْ هَدَرًا مُطْلَقًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ فِي الْآخِرَةِ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ.

.فصل فيمن شهر على المسلمين سيفًا:

قَالَ (وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَقَدْ أَطَلَّ دَمَهُ» وَلِأَنَّهُ بَاغٍ فَتَسْقُطُ عِصْمَتُهُ بِبَغْيِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ وَقَوْلُهُ (فَعَلَيْهِمْ) وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَحَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَالْمَعْنَى وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ وَفِي سَرِقَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ شَهَرَ عَلَى رَجُلٍ سِلَاحًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ شَهَرَ عَلَيْهِ عَصًا لَيْلًا فِي مِصْرٍ أَوْ نَهَارًا فِي طَرِيقٍ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَلْبَثُ وَلَكِنْ فِي اللَّيْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَيُضْطَرُّ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ، وَكَذَا فِي النَّهَارِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَإِذَا قَتَلَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا قَالُوا: فَإِنْ كَانَ عَصًا لَا تَلْبَثُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ السِّلَاحِ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الْقِصَاصَ أَلْحَقَ بِهَا فَصْلًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي لَهَا عَرْضِيَّةُ إيجَابِ الْقِصَاصِ وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (أُطِلَّ دَمُهُ) أَيْ أُهْدِرَ، وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْنَى) أَيْ وَمَعْنَى الْوُجُوبِ (دَفْعُ الضَّرَرِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ لَا عَيْنُ الْقَتْلِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ قَالَ (وَإِنْ شَهَرَ الْمَجْنُونُ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ وَالدَّابَّةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الدَّابَّةِ وَلَا يَجِبُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ بِالْبَالِغِ الشَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى قَتْلِهِ بِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ أَمَّا فِعْلُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَوْ حَقَّقْنَاهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَكَذَا عِصْمَتُهُمَا لِحَقِّهِمَا وَعِصْمَةُ الدَّابَّةِ لِحَقِّ مَالِكِهَا فَكَانَ فِعْلُهُمَا مُسْقِطًا لِلْعِصْمَةِ دُونَ فِعْلِ الدَّابَّةِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ وَفِعْلُ الدَّابَّةِ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا وَكَذَا فِعْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُمَا حَقَّهُمَا لِعَدَمِ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ وَالدَّابَّةُ) يَعْنِي إذَا صَالَا عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَمْدًا يَضْمَنُ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ.
وَقَوْلُهُ (فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ) يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا صَارَ مَسْلُوبَ الِاخْتِيَارِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ أُضِيفَ التَّلَفُ إلَى الْمُكْرِهِ فَكَذَلِكَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ يَعُودُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَيَقْتُلُهُ. قَالَ (وَمَنْ شَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فِي الْمِصْرِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ) مَعْنَاهُ: إذَا ضَرَبَهُ فَانْصَرَفَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا بِالِانْصِرَافِ فَعَادَتْ عِصْمَتُهُ قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَيْلًا وَأَخْرَجَ السَّرِقَةَ فَاتَّبَعَهُ وَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَاتِلْ دُونَ مَالِك» وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ دَفْعًا فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَا اسْتِرْدَادًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إلَّا بِالْقَتْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (قَاتِلْ دُونَ مَالِك) أَيْ لِأَجْلِ مَالِك.
وَقَوْلُهُ (فَكَذَا اسْتِرْدَادًا فِي الِانْتِهَاءِ) لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ: الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:

قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا مِنْ الْمِفْصَلِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ أَكْبَرَ مِنْ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ رِعَايَتُهَا فِيهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا فَلَا، وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ فَاعْتُبِرَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ لَا تَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَمَارِنُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنُ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَتْبَعَهُ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ قَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ وَهُوَ الْبَطْشِ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَلَا تَرِدُ الشَّجَّةُ الْمُوضِحَةُ إذَا أَخَذَتْ مَا بَيْنِ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَمْ تَأْخُذْهُ مِنْ الشَّاجِّ لِكِبَرِ رَأْسِهِ فَإِنَّ الْكِبَرَ قَدْ اُعْتُبِرَ وَخُيِّرَ الْمَشْجُوجِ بَيْنِ الْقِصَاصِ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ وَبَيْنِ أَخْذِهِ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الشَّيْنُ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ بِمِقْدَارِهَا يَقِلُّ شَيْنُ الشَّاجِّ وَيَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ بِالشَّجَّةِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَانْتَفَى الْمُمَاثَلَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْقِصَاصِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ مَعْنًى وَهُوَ مِقْدَارُ شَجَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّورَةَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَهَا. قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ عَيْنَ رَجُلٍ فَقَلَعَهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ) لِامْتِنَاعِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَلْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَذَهَبَ ضَوْءُهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: تُحْمَى لَهُ الْمِرْآةُ وَيُجْعَلُ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِالْمِرْآةِ فَيَذْهَبُ ضَوْءُهَا، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ هَذَا حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ حَتَّى جَاءَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِذَلِكَ وَعَمِلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: (وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (وَإِنْ كَانَ سِنُّ مَنْ يُقْتَصُّ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنْ سِنِّ الْآخَرِ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّنِّ لَا تَتَفَاوَتُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ.
قَالَ: (وَفِي كُلِّ شَجَّةٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ الْقِصَاصُ) لِمَا تَلَوْنَا.
قَالَ (وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ» وَالْمُرَادُ غَيْرُ السِّنِّ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ فِي غَيْرِ السِّنِّ مُتَعَذِّرٌ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، بِخِلَافِ السِّنِّ لِأَنَّهُ يُبْرَدُ بِالْمِبْرَدِ، وَلَوْ قَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ يُقْلَعُ الثَّانِي فَيَتَمَاثَلَانِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (لِمَا تَلَوْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) فَإِنْ كَانَ السِّنُّ عَظْمًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ الْعِظَامِ وَهُوَ إمْكَانُ الْقِصَاصِ فِيهَا بِأَنْ يُبْرَدَ بِالْمِبْرَدِ بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْهَا أَوْ إلَى أَصْلِهَا إنْ قَلَعَهَا وَلَا يُقْلَعُ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ بِهِ لِثَاتُهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَظْمٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ» حَيْثُ لَمْ يُسْتَثْنَ السِّنُّ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبَّاءُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ وَيَنْمُو بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَظْمٌ وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ عَظْمٌ حَتَّى قَالَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُ السِّنِّ. قَالَ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ) لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَعُودُ إلَى الْآلَةِ، وَالْقَتْلُ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا دُونَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ إتْلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ) قَدْ ذَكَرَهُ مَرَّةً، لَكِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ عَمْدٌ وَهَاهُنَا أَنَّهُ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ إذَا حَصَلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَأَمْكَنَ الْقِصَاصُ جُعِلَ عَمْدًا.
رُوِيَ «أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بِلَطْمَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ» وَاللَّطْمَةُ إذَا أَتَتْ عَلَى النَّفْسِ لَا تُوجِبُ الْقَوَدَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْقِصَاصُ جُعِلَ خَطَأً وَوَجَبَ الْأَرْشُ (وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا فِي الْحُرِّ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ.
وَيُعْتَبَرُ الْأَطْرَافُ بِالْأَنْفُسِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِتَقْوِيمِ الشَّرْعِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ.
بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ فِي الْبَطْشِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَاعْتُبِرَ أَصْلُهُ، وَبِخِلَافِ الْأَنْفُسِ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ إزْهَاقُ الرُّوحِ وَلَا تَفَاوَتَ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي الْحُرِّ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ) يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسَلَكَا فِي الْبَابِ طَرِيقًا سَهْلًا وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَطْرَافِ بِالنُّفُوسِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنُّفُوسِ فَكَمَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النُّفُوسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا (وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ وَهُوَ) أَيْ التَّفَاوُتُ (مَعْلُومٌ قَطْعًا بِتَقْوِيمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ الشَّرْعَ قَوَّمَ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ لِلْحُرِّ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَطْعًا وَيَقِينًا، وَلَا تَبْلُغُ قِيمَةُ يَدِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَلَغَتْ كَانَ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِيَدِ الْحُرِّ يَقِينًا، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ مَعْلُومًا قَطْعًا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ (بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ فِي الْبَطْشِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَاعْتُبِرَ أَصْلُهُ) فَإِنْ قِيلَ: إنْ اسْتَقَامَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَمْ يَسْتَقِمْ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِإِمْكَانِ التَّسَاوِي فِي قِيمَتِهِمَا بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ كَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ التَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ لَكِنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ مَنْعُ اسْتِيفَاءِ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ فَإِنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْطَعُونَ يَدَ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّفَاوُتُ الْمَالِيُّ مَانِعًا مُطْلَقًا، وَالشَّلَلُ لَيْسَ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ تَفَاوُتًا مَالِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي الْمَنْفَعَةِ تَنْتَفِي بِهِ الْمُمَاثَلَةُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ، فَقُلْنَا: يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ جَائِزٌ دُونَ الْبَدَلِ بِالْأَطْرَافِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ (وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْشِ. قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ جَرَحَهُ جَائِفَةً فَبَرَأَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، إذْ الْأَوَّلُ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا ضَابِطَ فِيهِ، وَكَذَا الْبُرْءُ نَادِرٌ فَيُفْضِي الثَّانِي إلَى الْهَلَاكِ ظَاهِرًا.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْيَدَ الْمَعِيبَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ كَامِلًا) لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ كَامِلًا مُتَعَذَّرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْعِوَضِ كَالْمِثْلِيِّ إذَا انْصَرَمَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَاهَا نَاقِصًا فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ كَمَا إذَا رَضِيَ بِالرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ (وَلَوْ سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فَصَارَتْ سَالِمَةً لَهُ مَعْنًى.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ) لِأَنَّهُ لَوْ زَالَ الشَّلَلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى الْأَرْشُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ: إمَّا الْقِصَاصُ، أَوْ الْأَرْشُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَاسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَهِيَ لَا تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فَالْمَشْجُوجُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ يَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ) لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِكَوْنِهَا مَشِينَةٌ فَقَطْ فَيَزْدَادُ الشَّيْنُ بِزِيَادَتِهَا، وَفِي اسْتِيفَائِهِ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ الشَّيْنِ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْرَ حَقِّهِ مَا يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ فَيَنْتَقِصُ فَيُخَيَّرُ كَمَا فِي الشَّلَّاءِ وَالصَّحِيحَةِ، وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ كَامِلًا لِلتَّعَدِّي إلَى غَيْرِ.
حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ الرَّأْسِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ إلَى قَفَا الشَّاجِّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا) قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ أَكْبَرُ مِنْ يَدِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ لِأَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى الْمَشْجُوجُ مِثْلَ حَقِّهِ مِسَاحَةً كَانَ أَزْيَدَ فِي الشَّيْنِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَكُونُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الشَّيْنِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، وَالْبَاقِي إلَى آخِرِهِ ظَاهِرٌ قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ (إلَّا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ) لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مَعْلُومٌ كَالْمَفْصِلِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ، بِخِلَافِ الْأُذُنِ إذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ وَلَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ، وَالشَّفَةُ إذَا اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَ بَعْضُهَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُهَا.