فصل: فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ:

(وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ، وَالشَّفَةُ الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِيِ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَالثَّانِي مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِيِ، فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهُ نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا.
إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَمِيلَ الْمَاءُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ إذَا انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ.
وَالثَّالِثُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ» وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشِّرْبَ، وَالشِّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَبَقِيَ الثَّانِي وَهُوَ الشَّفَةُ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ.
وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ؛ فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ وَلَا ضَرُورَةَ.
وَلِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ مَنْفَعَةُ الشِّرْبِ.
وَالرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحَرَّزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ، وَقِيلَ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ.
أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَقْطَعُ الشِّرْكَةَ فِي الشَّفَةِ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ، وَالْمَاءُ فِي الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَقِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ بِعَصًا؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّعْزِيرِ لَهُ؛ وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ يَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا.
وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشِّرْبِ.
وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا: بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ،؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ انْقَطَعَتْ شِرْكَةُ الشِّرْبِ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ قَطْعَ شِرْبَ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ، وَالضِّفَّةِ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتُجْرَى فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي إنَائِهِ.
الشَّرْحُ:
فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ.
فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ:لَمَّا فَرَغَ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ، لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ.
وَالشَّفَةُ أَصْلُهَا شَفَهَةٌ أُسْقِطَتْ الْهَاءُ تَخْفِيفًا، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الشُّرْبُ بِالشِّفَاهِ.
وَجَيْحُونُ: نَهْرُ خُوَارِزْمَ وَسَيْحُونٌ: نَهْرُ التُّرْكِ.
وَدِجْلَةُ نَهْرُ بَغْدَادَ: وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْكُوفَةِ: وَضِفَّةُ النَّهْرِ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: حَافَّتُهُ وَأَنَّثَ ثَلَاثٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» لِأَنَّ الْفَصِيحَ فِي الْكَلَامِ إذَا لَمْ يُذْكَرْ الْمَعْدُودُ أَنْ يُذْكَرَ عَلَى لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ نَظَرًا إلَى لَفْظِ الْأَعْدَادِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» الْحَدِيثَ.
وَالصَّوْمُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَيَّامِ لَا فِي اللَّيَالِي.
وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَعْدُودَ وَهُوَ الْأَيَّامُ أَنَّثَهُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «شُرَكَاءُ») يُرِيدُ بِهِ الْإِبَاحَةَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يُحْرَزْ نَحْوُ الْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَأَمَّا الْكَلَأُ وَهُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْبُتَ فِي أَرْضِ شَخْصٍ أَوْ أَنْبَتَهُ فِيهَا بِكَرْيِ الْأَرْضِ وَسَقْيِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ مُبَاحًا لِلنَّاسِ إلَّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ مِلْكَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ لَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبِهِ وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ.
وَأَمَّا النَّارُ فَمَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي أَرْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاءُ بِهَا وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ وَأَنْ يَعْمَلَ بِضَوْئِهَا، وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَحْمٌ أَوْ حَطَبٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الْمُوقِدُ لَيْسَ مِمَّا تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ.
وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقْطَعْ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} يُورِثُ الشُّبْهَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ يُوَافِقُ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ الْآيَةَ، وَلَا يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِهِ إبْطَالُ الْكِتَابِ.
بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُبْطِلُ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخُصُوصَاتُ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْمُزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ، لِأَنَّ الشَّفَةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ.
فَأَمَّا مَا يَضُرُّ وَيَقْطَعُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْجَدْوَلِ الصَّغِيرِ عُلِمَ مِنْ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) إشَارَةٌ إلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَأْخُذُونَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفَةِ لَا غَيْرُ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَقَوْلُهُ (لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي إذْ قَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ النَّهْرِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمُقَاسِمِ) أَيْ مَتَى دَخَلَ فِي قِسْمَةِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِوَاحِدَةٍ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ.

.فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ:

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ، وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ.
وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ.
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ.
فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ؛ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي.
وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ.
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرْضِينَ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ السَّيْلِ عِمَارَتُهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعَ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ، ثُمَّ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءُ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ مُؤْنَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ الَّتِي كَانَ الشُّرْبُ مِنْهَا.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ إذْ النَّهْرُ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ كَالنَّهْرِ الْعَامِّ أَخَّرَ ذِكْرَهُ.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّهْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ خَاصًّا كَذَلِكَ، أَوْ عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ فَصَلَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ لَهُ) أَيْ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ: أَيْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ (وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ) أَيْ مُؤْنَةَ مَنْ يُطِيقُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ) يَعْنِي حِصَّةً مِنْ الشُّرْبِ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ، أَيْ فَلَا يُعَارَضُ الضَّرَرُ الْعَامُّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ، بَلْ يُغَلَّبُ جَانِبُ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَيُجْعَلُ ضَرَرًا، وَيَجِبُ السَّعْيُ فِي إعْدَامِهِ وَإِنْ بَقِيَ الضَّرَرُ الْخَاصُّ.
وَقَوْلُهُ (خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ) يُقَالُ بَثَقَ السَّيْلُ مَوْضِعَ كَذَا: أَيْ خَرَقَهُ وَشَقَّهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُلُوصِ.
ثُمَّ قِيلَ: يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ) يَعْنِي فِي الْخُصُوصِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْإِجْبَارُ فِي النَّهْرِ الثَّانِي، فَإِنَّ مَنْ أَبَى مِنْ أَهْلِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِأَنَّ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَامٌّ وَالْأُخْرَى خَاصٌّ، فَيُجْبَرُ الْآبِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا جَبْرَ لِحَقِّ الشَّفَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ إحْيَاءُ حَقِّ الشَّفَةِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ عَامٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبَرَ الْآبِي عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الشَّفَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبَرُ الْآبِي لِحَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّهْرِ عَنْ كَرْيِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْكَرْيِ لِحَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الصَّوَابُ نَفْعُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاعَ فِي مَعْنَى النَّفْعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ) يَعْنِي فَكَانُوا مَجْهُولِينَ.

.فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:

قَالَ (وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا)؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشِّرْبُ لَهُ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرَى النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ.
فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِي لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي الشِّرْبِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:
لَمَّا قَرُبَ مِنْ فَرَاغِ بَيَانِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ خَتَمَهُ بِفَصْلٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ (يَجُوزُ دَعْوَى الشُّرْبِ بِلَا أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (تُرِكَ عَلَى حَالِهِ) مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ) يَعْنِي بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَائِهِ مَاءَهُ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ فَعَلَيْهِ: أَيْ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ إنْ كَانَ يَدَّعِي رَقَبَةَ النَّهْرِ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا إنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِجْرَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ، فَإِذَا أَقَامَهَا يُقْضَى لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ: يَعْنِي فِي الْأَوَّلِ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ: يَعْنِي فِي الثَّانِي، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.
وَقَوْلُهُ (فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا) أَيْ اخْتِلَافُ الْمُدَّعِينَ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ (نَظِيرُهُ) أَيْ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الشُّرْبِ. (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ كَانَ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ وَهُوَ فِي الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ، وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَنِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى، وَلَا يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا.
وَلَا ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ.
وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ خَاصَّةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ) مُعَارَضٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّهْرِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ، وَانْتِفَاعُ مَنْ لَهُ عَشْرُ قِطَعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي فِي إثْبَاتِ الْيَدِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى السَّكْرُ (لِمَا فِيهِ) أَيْ فِي السَّكْرِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ سَكْرٍ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ) يَعْنِي إذَا اصْطَلَحُوا عَلَى السَّكْرِ لَيْسَ لِمَنْ يَسْكُرُ أَنْ يَسْكُرَ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَنَحْوِهِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابِ خَشَبٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ فَيَمْنَعُ مَا فَضَلَ عَنْ السَّكْرِ عَنْهُمْ إلَّا إذَا رَضُوا بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الشُّرْبُ إلَّا بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ يَبْدَأُ أَهْلُ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْأَهْلِ لِأَعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثُ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ حَقُّ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءُ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك.
وَقَوْلُهُ (وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى) الدَّالِيَةُ: جِذْعٌ طَوِيلٌ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأَرُزِّ وَفِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ يُسْقَى بِهَا. وَالسَّانِيَةُ الْبَعِيرُ يَسْتَقِي مِنْ الْبِئْرِ.
وَالْجِسْرُ: اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ وَيُرْفَعُ مِمَّا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ الْخَشَبِ وَالْأَلْوَاحِ، وَالْقَنْطَرَةُ: مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْحَجَرِ وَالْآجُرِّ مَوْضُوعًا لَا يُرْفَعُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى) الْكُوَّةُ: ثُقْبُ الْبَيْتِ وَالْجَمْعُ كِوَاءٌ بِالْمَدِّ، وَكُوًى مَقْصُورٌ، وَيُسْتَعَارُ لِمَفَاتِحِ الْمَاءِ إلَى الْمَزَارِعِ وَالْجَدَاوِلِ فَيُقَالُ كُوَى النَّهْرِ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَسِّعَ الْكَوَّةَ وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ فَمِ النَّهْرِ، هَذَا تَقْدِيرٌ اتِّفَاقِيٌّ وَالْعِبْرَةُ لِلِاحْتِبَاسِ.
وَصُورَةُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَلْوَاحُ الَّتِي فِيهَا الْكُوَّةُ فِي فَمِ النَّهْرِ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي وَسَطِ النَّهْرِ وَيَدَعُ فُوَّهَةَ النَّهْرِ بِغَيْرِ لَوْحٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُسْفِلُ كُوَاهُ: أَيْ يَجْعَلُهَا أَعْمَقَ مِمَّا كَانَتْ وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ يَرْفَعُهَا إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شِرْبٌ)؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُسْقَى الْأَرْضُ الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَبَعْضُ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ.
وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشِّرْبِ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ، وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ.
وَلَا يَصْلُحُ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ.
وَلَا يُبَاعُ الشِّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ؟ الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفُ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَزِيدُ فِي الشِّرْبِ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْهُ حَقٌّ فِي الشُّرْبِ وَيَزِيدُ مِنْ الْمَارَّةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمُرُورِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ (سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا) بِأَنْ يَقُولَ لِشَرِيكِهِ اجْعَلْ لِي نِصْفَ الشَّهْرِ وَلَك نِصْفَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي حِصَّتِي سَدَدْت مَا بَدَا لِي مِنْهَا وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك فَتَحْتهَا كُلَّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْكُوَى، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى مُسْتَدَامٌ وَفِي الثَّانِيَةِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ السُّفْلِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ إعَارَةٌ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الشِّرْبِ مِنْ الشَّهْرِ لِتَعَذُّرِ جَعْلِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مُبَادَلَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ وَإِجَارَتَهُ بِهِ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَارِيَّةً فَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ، وَعَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدَّيْنَ وَالْخَمْرَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَإِنْ لَمْ يُمْلَكْ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.
وَقَوْلُهُ (بِعَيْنِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِيصَاءِ بِبَيْعِ الشِّرْبِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشِّرْبَ بِغَيْرِ الْأَرْضِ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، فَإِذَا سَمَّاهُ فِي النِّكَاحِ صَحَّ النِّكَاحُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِذَا سَمَّاهُ فِي الْخُلْعِ صَحَّ الْخُلْعُ وَعَلَيْهَا رَدُّ مَا قَبَضَتْ مِنْ الْمَهْرِ، وَإِذَا جَعَلَهُ بَدَلَ الصُّلْحِ فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ قِصَاصٍ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَقَوْلُهُ (وَالْأَصَحُّ) إشَارَةٌ إلَى وُجُودِ الِاخْتِلَافِ.
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ قِيمَةِ الشِّرْبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَوِّمِينَ إنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الشِّرْبِ بِكَمْ يُشْتَرَى هَذَا الشِّرْبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضَمُّ هَذَا الشِّرْبُ إلَى جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ أَقْرَبِ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الشِّرْبِ وَيُنْظَرُ بِكَمْ يُشْتَرَى مَعَ الشِّرْبِ وَبِكَمْ يُشْتَرَى بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا قِيمَةَ الشِّرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا وَيَجْمَعُ ذَلِكَ الْمَاءَ فِيهِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي جَمَعَهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يَقْضِي دَيْنَهُ بِذَلِكَ.
وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. (وَإِذَا سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً) أَيْ مَلَأَهَا (فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَوْ مَخَرَهَا) قَالَ فِي الصِّحَاحِ مَخَرْت الْأَرْضَ: أَيْ أَرْسَلْت الْمَاءَ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ) يَلُوحُ إلَيَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَمِنَ.
وَعَدَمُ التَّعَدِّي إنَّمَا يَكُونُ إذَا سَقَى أَرْضَهُ سَقْيًا يُسْقَى مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي نَوْبَتِهِ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ جَارُهُ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ ضَمِنَ.
وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَمْ يَضْمَنْ اعْتِبَارًا بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ):

سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا قَالَ (الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى)
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ): ذَكَرَ الْأَشْرِبَةَ بَعْدَ الشِّرْبِ لِأَنَّهُمَا شُعْبَتَا عِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَدَّمَ الشِّرْبَ لِمُنَاسَبَتِهِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ بَيَانُ حُرْمَتِهَا، إذْ لَا شُبْهَةَ فِي حُسْنِ تَحْرِيمِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرُ إنْعَامِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُهُ حَلَّ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إلَى ذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّكْرَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَحَرُمَ شُرْبُ الْقَلِيلِ عَلَيْنَا مِنْ الْخَمْرِ كَرَامَةً لَنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ وَنَحْنُ مَشْهُودٌ لَنَا بِالْخَيْرِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حُرِّمَتْ ابْتِدَاءً وَالدَّاعِي الْمَذْكُورُ مَوْجُودٌ.
أُجِيبَ إمَّا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ إذْ ذَاكَ وَإِمَّا لِتَدْرِيجِ الضَّارِي لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنْ الْإِسْلَامِ (وَسُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ بِهَا) أَيْ بِالْأَشْرِبَةِ (وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ) اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا.
قَالَ (الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ إلَخْ) الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: الْخَمْرُ، وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غُلِيَ وَاشْتَدَّ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِدَادِ صَلَاحِيَتُهُ لِلْإِسْكَارِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ»: وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ») وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ وَهَذَا كَثِيرُ النَّظِيرِ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ؛ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالثَّانِي فِي حَقِّ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ، وَكَمَالُهَا بِقَذْفٍ بِالزَّبَدِ وَسُكُونِهِ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ (فِيمَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ.
وَقَوْلُهُ (فِي غَيْرِهِ) أَيْ وَاشْتُهِرَ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا غَيْرُ لَفْظِ الْخَمْرِ كَالْمُثَلَّثِ وَالطِّلَاءِ وَالْبَاذِقِ وَالْمُنَصَّفِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ، وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ فَيَثْبُتُ بِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا سُمِّيَ) يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ (خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ) أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ، جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ سُمِّيَ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهَا لَكِنْ لَا يُنَافِي اخْتِصَاصَهُ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ مَخْصُوصًا، فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَمَ إذَا ظَهَرَ، ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ بِالثُّرَيَّا، وَكَالْقَارُورَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُوزِ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الْقَرَارُ وَأَنْظَارُهُ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ) يُرِيدُ بِهِ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَالثَّانِي: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَالثَّالِثُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ إمَامًا حَافِظًا مُتْقِنًا حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَيْسَ بِحَدِيثٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالثَّانِي) يُرِيدُ بِهِ الْخَمْرَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ (أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ) يَعْنِي إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ كَانَ حُكْمُهُ فِي الْإِسْكَارِ حُكْمَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ، إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ لِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرَائِعِ لَا لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا) يَعْنِي وَفِي الْحَدِّ يُؤْخَذُ بِقَذْفِ الزَّبَدِ احْتِيَاطًا أَيْضًا وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا، وَقَالَ: إنَّ السُّكْرَ مِنْهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا تَزْدَادُ لِشَارِبِهِ اللَّذَّةُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَعْلِيلُهُ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ إنْكَارُ حُرْمَةِ عَيْنِهَا (كُفْرٌ) مِنْ الْمُنْكِرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لِحُرْمَةِ السُّكْرِ مِنْهُ (لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي (الْإِشْرَاقِ شَرْحِ مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ) عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ فَلْيُطْلَبْ مِنْهُ ثَمَّةَ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً) مَعْنَاهُ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ أَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ، كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُودِ حَاتِمٍ، وَيُسَمَّى هَذَا التَّوَاتُرُ بِالْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ) يَعْنِي دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: مَا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ إلَّا وَلَذَّتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى اللَّذَّةِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا الْخَمْرَ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ لِشَارِبِهَا تَزْدَادُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ) يَعْنِي مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا لِعَيْنِهَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ لِتَعَدِّيهِ اسْمَهَا إلَى غَيْرِهَا. وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ. وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَالٌ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ دَيْنٌ فَأَوْفَاهُ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلَا لِلْمَدْيُونِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ بَيْعٍ بَاطِلٍ وَهُوَ غَصْبٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى ذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَالْمُسْلِمُ الطَّالِبُ يَسْتَوْفِيهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَائِزٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا) لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إتْلَافِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقِيلَ: يُبَاحُ، وَقِيلَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ بِأَنْ كَانَتْ عِنْدَ شِرِّيبٍ خِيفَ عَلَيْهِ الشُّرْبُ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِنْدَ صَالِحٍ فَلَا يُبَاحُ لِأَنَّهُ يُخَلِّلُهَا وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ اقْتِرَابٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا) يُرِيدُ التَّدَاوِيَ بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيَ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارَ فِي الْإِحْلِيلِ وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ فَبَقِيَ الْجَلْدُ مَشْرُوعًا، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بِالْقَلِيلِ فِي النِّيءِ خَاصَّةً، لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا قَدْ طُبِخَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَالُوا) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَمْ يَسْكَرْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ ثُمَّ قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ لُغَةً، فَإِنَّ الْخَمْرَ لُغَةً هُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَهَذَا لَيْسَ بِنِيءٍ وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْخَمْرِ. وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ وَالْمُنَصَّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ: أَيْ الرَّطْبِ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} اُمْتُنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَهُوَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً كُلُّهَا، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ، مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ، إلَى أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ، وَيَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ، وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَلِيظَةٌ فِي أُخْرَى، وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَمَا شَهِدْت دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ تَقَوُّمِهَا، بِخِلَافِ الْخَمْرِ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ (وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ (وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَوْلُهُ (الْأَوَّلُ) مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَبْلُغُ: يَغْلِي وَيَشْتَدُّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَفْسُدُ: لَا يُحَمَّضُ وَوَجْهُهُ أَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَمَّضَ دَلَالَةُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَحْرُمُ أَصْلُ شُرْبِهِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُحَرِّمْ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَرَجَعَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا (وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرِبٍ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْمُنَصَّفَ) قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْبَاذَقَ: أَيْ يُسَمَّى الْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ الْبَاذَقَ، وَيُسَمَّى الْمُصَنَّفَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَالَ: الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: وَهِيَ الْخَمْرُ، وَالْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ.
فَلَوْ كَانَ الْبَاذَقُ غَيْرَ الْمُنَصَّفِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الذَّاهِبِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَصَّفًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ مَعْنًى وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ: أَيْ الرَّطْبُ) إنَّمَا فَسَّرَ التَّمْرَ بِالرَّطْبِ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ اسْمُهُ نَبِيذُ التَّمْرِ لَا السَّكَرُ وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ (فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ) أَرْدَفَ الْحَرَامَ بِالْكَرَاهَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ حُرْمَتَهُ لَيْسَتْ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ يَكْفُرُ وَمُسْتَحِلَّ غَيْرِهَا لَا يَكْفُرُ.
وَقَوْلُهُ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً) لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحُرِّمَ الْخَمْرُ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ كَمَا قَالَ الْخَصْمُ.
وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ، وَمَعْنَاهُ: أَنْتُمْ لِسَفَاهَتِكُمْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا) كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ.
وَأَوْرَدَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ: أَيْ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْخَمْرُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالطِّلَاءُ وَهُوَ الْبَاذَقُ وَالْمُنَصَّفُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ فِيهِ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ مَطْبُوخًا؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْهُ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ، وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ» مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ) الْخَلِيطَانِ مَاءُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا خُلِطَا فَطُبِخَا بَعْدَ ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُتْرَكُ إلَى أَنْ يَغْلِيَ وَيَشْتَدَّ.
وَالْعَجْوَةُ: التَّمْرُ الَّذِي يَغِيبُ فِيهِ الضِّرْسُ لِجَوْدَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (مَحْمُولٌ عَلَى الشِّدَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ فِي وَقْتٍ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ضِيقٌ وَشِدَّةٌ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ وَيَتْرُكَ جَارَهُ جَائِعًا بَلْ يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا وَيُؤْثِرُ بِالْآخَرِ عَلَى جَارِهِ، ثُمَّ لَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ النِّعَمَ أَبَاحَ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ قَالَ (وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ» خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ، ثُمَّ قِيلَ يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ، بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا وَقِيلَ: إنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ؛ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لِمَا فِي إبَاحَتِهِ مِنْ قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ أَوْ لِاحْتِرَامِهِ فَلَا يُتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (قِيلَ لَا يُحَدُّ) هُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ.
قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْبِذَةَ لَيْسَتْ بِمُتَّخَذَةٍ مِمَّا هُوَ أَصْلُ الْخَمْرِ.
وَقِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ، وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ. قَالَ (وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: حَرَامٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ لَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ») وَيُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْخَمْرِ وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ؛ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ ثُمَّ يُطْبَخُ طَبْخَةً حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ، أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ ثُمَّ يُعْصَرُ يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَائِمٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، الشَّرْحُ وَقَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِمَا) أَيْ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّوَادِرِ وَلَنَا: أَيْ لِعُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِمُحَمَّدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَهُمَا: أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ) لِلْعَقْلِ (هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا) لَا مَا قَبْلَهُ.
فَإِنْ قِيلَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ عَلَى انْفِرَادِهِ بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ مَعْنًى وَحُكْمًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَوْلَى وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْحَرَامُ هُوَ الْمُسْكِرُ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازٌ وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةٌ وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْخَمْرِ جَوَابُ سُؤَالٍ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الْمُفْسِدُ هُوَ الْأَخِيرَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَمْرِ كَذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهَذَا وَاضِحٌ.
وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَرَكْنَاهُ لِأَنَّ الْخَمْرَ لِرِقَّتِهَا وَلَطَافَتِهَا تَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ الْقَلِيلُ حُكْمَ الْكَثِيرِ، وَالْمُثَلَّثُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِغِلَظِهِ، وَعَلَى الثَّانِي بِطَرِيقِ الْفَرْقِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» لَيْسَ بِثَابِتٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ طَعْنِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ثُبُوتَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ) وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِيهِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ يُوسُفِيًّا وَيَعْقُوبِيًّا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرًا مَا كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ بَخْتَجًا وَحُمَيْدِيًّا، قَالَ: لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى رَجُلٍ اسْمُهُ حُمَيْدٌ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِإِبَاحَتِهِ عِنْدَهُمَا بَعْدَمَا صَبَّ الْمَاءَ فِيهِ أَدْنَى طَبْخَةٍ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا) يَعْنِي تَارَةً يَذْهَبُ الْمَاءُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ، وَتَارَةً يَذْهَبُ الْعَصِيرُ وَالْمَاءُ مَعًا، فَلَوْ ذَهَبَا مَعًا يَحِلُّ شُرْبُهُ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَهَبَا مَعًا كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَصِيرِ أَيْضًا ثُلُثَيْنِ كَالْمَاءِ، لَكِنْ لَمَّا يُتَيَقَّنْ بِذَهَابِهِمَا مَعًا وَاحْتُمِلَ ذَهَابُ الْمَاءِ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ بِحُرْمَةِ شُرْبِهِ احْتِيَاطًا، لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الْمَاءُ أَوَّلًا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الْبَاذَقُ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ) أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ.
وَقَوْلُهُ (يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) هِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ وَأَنْكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لِأَنَّ التَّمْرَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لابد أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ أُنْقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ، إنْ كَانَ مَا أَنْقَعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ النَّقِيعِ وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ، وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ لِلْحَدِّ فِي دَرْئِهِ. وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ «فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تُشْرِبُوا الْمُسْكِرَ» وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ فَكَانَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُنْتَبَذُ فِيهِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ إلَخْ) جَوَّزَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الِانْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمُ وَهُوَ جِرَارٌ حُمْرٌ أَوْ خُضْرٌ يُحْمَلُ فِيهَا الْخَمْرُ إلَى الْمَدِينَةِ.
الْوَاحِدَةُ حَنْتَمَةٌ.
وَالْمُزَفَّتُ وَهُوَ الظَّرْفُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقِيرُ، وَالنَّقِيرُ وَهُوَ الْخَشَبَةُ الْمَنْقُورَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا، وَعَنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِيَتَّسِعَ بِهِ مُوسِعُكُمْ عَلَى مُعْسِرِكُمْ، وَعَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ» وَلَكِنْ إنَّمَا يُنْبَذُ فِيهِ إنْ كَانَ فِيهِ خَمْرٌ بَعْدَ التَّطْهِيرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَبْسُوطِهِ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ تَشْتَدُّ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَدُّ فِي غَيْرِهَا: يَعْنِي فَصَاحِبُهَا عَلَى خَطَرٍ مِنْ الْوُقُوعِ فِي شُرْبِ الْمُحَرَّمِ قَالَ (وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ حَلَّتْ سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَيْءٍ يُطْرَحُ فِيهَا، وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ التَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ فَلَهُ فِي الْخَلِّ الْحَاصِلِ بِهِ قَوْلَانِ لَهُ أَنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ يُنَافِيه وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ») وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ يَزُولُ الْوَصْفُ الْمُفْسِدُ وَتَثْبُتُ صِفَةُ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ، وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ وَالِاقْتِرَابِ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ، وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الثَّانِي فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَإِذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا يَطْهُرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي نَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ قِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسٌ إلَّا إذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ فَيَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ، وَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ عَلَى مَا قَالُوا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ) يَعْنِي أَنَّ خَلَّ الْخَمْرِ حَلَالٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ خُلِّلَتْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ التَّخَلُّلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ حَرَامٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ وَعَكْسِهِ فَلَهُ قَوْلَانِ.
وَقَالَ فِي الْفَرْقِ: مَا أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهِ الْخَمْرَ، وَالْمُتَنَجِّسُ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَدَلِيلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» هُوَ يَتَنَاوَلُ الْمُخَلَّلَ وَالْمُتَخَلِّلَ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحُ الْمُفْسِدِ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ التَّغَذِّي بِهِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَتَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِصْلَاحُ الْمُفْسِدِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالْمُنَازِعُ مُكَابِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُخَلَّلُ صَالِحٌ لِلْمَصَالِحِ، وَالصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ مُبَاحٌ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ.
وَقَوْلُهُ (وَالِاقْتِرَابُ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ.
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ بَلْ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ إعْدَامُ الْفَسَادِ وَذَلِكَ بِالْإِرَاقَةِ جَائِزٌ فَبِالتَّخْلِيلِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الْمَآلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَمَا بَعْدَهُ إلَّا الْمُكَابَرَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا وَلَكِنْ أَرَقُّهَا حِينَ سَأَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ تَخْلِيلِ خَمْرِ أَيْتَامٍ عِنْدَهُ»، وَبِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ الْخَمْرُ خَلًّا» أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ التَّحْرِيمِ قَمْعًا لَهُمْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْخُمُورِ كَمَا حَرَّمَ الِانْتِبَاذَ فِي الْأَوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِ ثَانِيًا بِأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحَرِّمُهُ.
وَيُوَضِّحُهُ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الزِّقَاقِ» وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّخَاذِ الِاسْتِعْمَالُ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الدَّوَابِّ كَرَاسِيَّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ «وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَتُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ» فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ قَالَ (وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا أَوْ دَبْرَةَ دَابَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا وَلَا أَنْ يَسْقِيَ صَبِيًّا لِلتَّدَاوِي، وَالْوَبَالُ عَلَى مَنْ سَقَاهُ، وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ وَقِيلَ: لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا، أَمَّا إذَا قُيِّدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ وَلَوْ أُلْقِيَ الدُّرْدِيُّ فِي الْخَلِّ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ لَا عَكْسُهُ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
دُرْدِيُّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا: مَا يَبْقَى فِي أَسْفَلِهِ، وَمَعْنَاهُ يَحْرُمُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الِامْتِشَاطَ لِأَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي تَحْسِينِ الشَّعْرِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى التَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ قَالَ (وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ (إنْ لَمْ يَسْكَرْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ وَلَنَا أَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ النَّبْوَةِ عَنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ بِالِامْتِزَاجِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُحَدُّ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ إنْ لَمْ يَسْكَرْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَنَا إلَخْ وَاضِحٌ (وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ)؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ وَهُوَ السَّبَبُ، وَلَوْ جُعِلَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ لَا تُؤْكَلُ لِتَنَجُّسِهَا بِهَا وَلَا حَدَّ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّبْخُ وَيُكْرَهُ أَكْلُ خُبْزٍ عُجِنَ عَجِينُهُ بِالْخَمْرِ لِقِيَامِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ.