فصل: بَابُ: الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْفَوَاتِ:

(وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ)؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ (وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ)؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْفَوَاتِ) مَعْنَى الْإِحْصَارِ مِنْ الْفَوَاتِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ إحْرَامٌ بِلَا أَدَاءً فِي الْفَوَاتِ إحْرَامٌ وَأَدَاءٌ فَلَا جَرَمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا) أَيْ نَافِذًا لَازِمًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ، فَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ إحْرَامِ الرَّقِيقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا وَلَيْسَ بِاحْتِرَازٍ عَنْ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، كَمَا إذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ (لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ) مَنْقُوضٌ بِالْمُحْصَرِ فَإِنَّ الْهَدْيَ طَرِيقٌ لَهُ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْوَضْعُ وَمَسْأَلَةُ الْإِحْصَارِ مِنْ الْعَوَارِضِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ) أَيْ الْمُبْهَمِ مِنْ النُّسُكَيْنِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ أَبْهَمَ فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ إحْرَامُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، لَكِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَفْعَالًا وَأَيْسَرُ مَئُونَةً (وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ) لِفَوَاتِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ (فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ) فَكَانَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْإِحْرَامِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) يَعْنِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ.
وَقُلْنَا: التَّحَلُّلُ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرٌ وَعَاجِزٌ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْآخَرُ وَعَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا، وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ) أَيْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْهَا وَيَقُولُ: الْحَجُّ فِي الْأَشْهُرِ وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِهَا أَكْمَلُ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا بِلَا كَرَاهَةٍ بِدَلِيلِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَر إلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ».
وَأَمَّا كَرَاهَتُهَا فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُكْرَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي كَرَاهَةَ الْعُمْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ (وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ» وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ»؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ.
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ.
قَالَ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) أَيْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ) اسْتَشْكَلَ بِالْإِيمَانِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهُمَا فَرْضَانِ وَلَيْسَا بِمُؤَقَّتَيْنِ، وَبِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ وَهُوَ فَرْضٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ كُلَّ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَنَعْنِي بِذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَوْقَاتِ الْعُمْرِ إذَا وَقَعَ فِيهِ انْتَفَى الْفَرْضِيَّةُ، وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ دَائِمٌ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ حُضُورِهَا، وَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَكُونُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَقُولُ: مَنْشَأُ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ الذُّهُولُ عَنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا أَمَارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَلِأَنَّهُ لَا غَيْرُ ثَمَّةَ حَتَّى يَتَأَدَّى بِنِيَّتِهِ إذْ هُوَ لَا يَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ» (أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ أَوْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ) فَإِنَّ مَا رُوِيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} عَطَفَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ، وَأَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَمْرُ إنَّمَا هُوَ بِالْإِتْمَامِ، وَالْإِتْمَامُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ سُنَّةً.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) ظَاهِرٌ.

.بَابُ: الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ:

الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ» جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ.
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ: مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي».
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ.
لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ أَنْ تَقَعَ عَمَّنْ تَصْدُرُ مِنْهُ كَانَ الْحَجُّ عَنْ الْغَيْرِ خَلِيقًا بِأَنْ يُؤَخَّرَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَجَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ،؛ وَلِأَنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْجَنَّةُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَمْلِيكُهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهَا.
وَقُلْنَا: لَمَّا جَعَلَ سَعْيَهُ لِلْغَيْرِ صَارَ سَعْيُهُ كَسَعْيِ الْغَيْرِ، وَلَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَصِيرَ سَاعِيًا لِغَيْرِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ.
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَقَوْلُهُ (الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ) إشَارَةً إلَى أَنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ لِلْآمِرِ بِجَعْلِ الْمَأْمُورِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَجِّ هَلْ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ أَوْ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَذْكُرُ بُعَيْدَ هَذَا مَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ (بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ) يُقَالُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فِيهِ مُلْحَةٌ: وَهِيَ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شَعَرَاتٌ سُودٌ وَهِيَ مِنْ لَوْنِ الْمِلْحِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ) أَيْ حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ (لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَهِيَ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْفُقَرَاءِ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَحْصُلُ بِهِ) أَيْ بِفِعْلِ النَّائِبِ.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ عِنْدَ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ تَلْحَقُهُ أَيْضًا عِنْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ بِمَالِهِ (وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ، فَالْحَجُّ لَا يَتَعَيَّنُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَجْزُ دَائِمِيًّا وَقَدْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ زَالَ عَنْهُ الْعَجْزُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَصْلِهِ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ النِّيَابَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تُبْطِلُ الْخَلَفَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْخَلَفِ وَهُوَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَسْلُكْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْلَكَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ الْحَجَّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُهَا، فَعَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ نُجَوِّزْ النِّيَابَةَ وَبِالْآخَرِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَجَوَّزْنَاهَا، لَكِنْ شَرَطْنَا لِكَوْنِهِ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ دَائِمِيًّا لِمَا مَرَّ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ الدَّائِمِ لِتَخَلُّفِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْفِدْيَةِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي عَنْ الصَّوْمِ وَالصَّوْمُ لَيْسَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَدْلُولَ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَكُلُّ مَا كَانَ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ الدَّائِمُ تَكُونُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ) ظَاهِرٌ (ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ) يَعْنِي الْأَمْرَ (وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ) «فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ قَالَتْ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي» (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ) يَعْنِي الْمَأْمُورَ (وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ) وَصَارَ إنْفَاقُ الْمَأْمُورِ كَإِنْفَاقِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ أَصْلُ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ فِعْلِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ الْإِنْفَاقُ فِيهِ مَقَامَ الْفِعْلِ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، فَإِنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ قَامَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصَّوْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْفِدْيَةُ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ إذَا قَامَ مَقَامَ الصَّوْمِ وَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَأَنْ يَقُومَ مَقَامَ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ أَوْلَى.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَجَّةً فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَهُنَا يَفْعَلُ بِحُكْمِ الْآمِرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُ.
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ نَوَى عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْمُضِيِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِبْهَامُ يُخَالِفُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا الْمَجْهُولُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ.
وَالْمُبْهَمُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فَاكْتَفَى بِهِ شَرْطًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْأَفْعَالَ عَلَى الْإِبْهَامِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ فَصَارَ مُخَالِفًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَذَهَبَ الشَّارِحُونَ إلَى أَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَدْلُولِ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ قَوْلُهُ (فَهِيَ) أَيْ الْحَجَّةُ (عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) وَدَلِيلُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلُ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُمَا، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ إذَا وَافَقَ أَمْرَ الْآمِرِ؛ (لِأَنَّ الْحَجَّ) حِينَئِذٍ (يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) وَهَاهُنَا قَدْ خَالَفَ فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ بَلْ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ تَعْلِيلًا لِمَا إذَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ فِي صُورَةِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، وَلَا إخَالُ ذَلِكَ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ) فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ كَانَ هَذَا مُسْتَدْرَكًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَلَّ فِيهِ أَقْدَامُ الشَّارِحِينَ حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَقَالُوا: لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَلَا يُوَافِقُ التَّعْلِيلَ الْمُدَّعَى، وَنَقَلَ تَقْرِيرَ الْكَلَامِ كَمَا قُلْنَا ثُمَّ قَالَ: فَأَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَلَوْ سَكَتُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَكَانَ أَوْلَى، بَلْ الْمُطَابَقَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ بِأَنْ يُقَالَ هِيَ عَنْ الْحَاجِّ: أَيْ الْحَجَّةُ تَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْمُؤَدَّى فِي هَذِهِ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآمِرَيْنِ أَمَرَ بِأَنْ يُخْلَصَ لَهُ الْحَجُّ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلَمَّا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا خَالَفَ الْآمِرَ فَوَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْحَاجِّ وَضَمِنَ النَّفَقَةَ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ هَذَا كَلَامُهُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى الْحِكَايَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ: وَأَقُولُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى: فِي تَقْرِيرِ كَلَامِهِ الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ هَاهُنَا إيقَاعُهُ عَنْ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ شَخْصَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَقَعُ عَنْهُمَا وَلَا عَنْ أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، لَكِنْ فِي كَلَامِهِ إغْلَاقٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ فَمَذْكُورٌ بَعْدَ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَقَعَ عَنْ الْحَاجِّ فَلْيُجْعَلْ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ كَمَا إذَا أَهَلَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَمَا وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُلْتَزَمِ غَيْرُ مَانِعَةٍ عَنْ وُجُوبِ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا جَهَالَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَهِيَ مَانِعَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمَجْهُولٍ لِمَعْلُومٍ جَائِزٌ دُونَ عَكْسِهِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا) بِدَلِيلِ صِحَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ (فَاكْتَفَى بِهِ) أَيْ بِالْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ الشُّرُوطَ يُرَاعَى وُجُودُهَا كَيْفَمَا كَانَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينُ فِي ابْتِدَائِهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا عَيَّنَ لَا عَلَى الْإِبْهَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى ثُمَّ عَيَّنَ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْإِبْهَامِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ التَّعْيِينُ يَرِدُ عَلَى مَا مَضَى وَاضْمَحَلَّ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا قَالَ (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ فَفَعَلَ فَالدَّمُ عَلَى الْمَأْمُورِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ) صَدَرَتْ (مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخَذُ فِي كَوْنِ الدَّمِ وَاجِبًا عَلَى الْمَأْمُورِ كَوْنُهُ نُسُكًا كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ، وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمَأْمُورِ فَكَذَا هَذَا، لَا كَوْنُهُ شُكْرًا لِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِمُتْعَةِ الْقِرَانِ بِسُقُوطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ ذِمَّتِهِ مَعَ فَضِيلَةِ الْقِرَانِ (وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ) فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا إلَخْ؛ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِهِمَا، فَلَوْ قَرَنَ كَانَ مُخَالِفًا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ فَالدَّمُ عَلَيْهِ وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِإِذْنِهِمَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَالدَّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَبِأَنَّهُ إنْ خَالَفَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ خَالَفَ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الْقِرَانُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَالْمُخَالَفَةُ إلَى خَيْرٍ غَيْرُ ضَائِرَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَذِنَا لَهُ بِذَلِكَ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنَا فَأَزَالَ الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ وَبِأَنَّ خَيْرِيَّةَ الْقِرَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَامِعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا إلَى الْآمِرِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَقَرَنَ عَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُخَالِفًا وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ (وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ دَفْعًا لِضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الدَّمُ عَلَيْهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ (فَإِنْ كَانَ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَأُحْصِرَ فَالدَّمُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ) عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ دَيْنًا (وَدَمُ الْجِمَاعِ عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) مَعْنَاهُ: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهُ بِاخْتِيَارِهِ.
أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ.
وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) وَوَجْهُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَنَّ الْآمِرَ إذَا أَمَرَ بِالْقِرَانِ فَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الْمَأْمُورَ فِي عُهْدَةِ الدَّمِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ، وَقَدْ دَفَعَ الْآمِرُ النَّفَقَةَ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا، بِخِلَافِ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ صِلَةٌ) الصِّلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَا لَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ.
وَقَوْلُهُ (وَغَيْرُهَا) يَعْنِي النُّذُورَ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ) يَعْنِي بِإِدْخَالِهِ الْآمِرَ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَالدَّيْنُ مَحَلُّهُ جَمِيعُ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ) أَيْ الْحَجُّ الصَّحِيحُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَإِذَا أَفْسَدَهُ لَمْ يَقَعْ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ عَلَى حَجِّهِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إذَا قَضَى الْحَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَجُّ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْإِفْسَادِ صَارَ الْإِحْرَامُ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ وَالْحَجُّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْحَجِّ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ الْمَأْمُورِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا عُلِمَ أَنَّ الدِّمَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَدَمُ جِنَايَةٍ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَدَمُ مَئُونَةٍ كَدَمِ الْإِحْصَارِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: كُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ: يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نُسُكًا فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَّارَةً فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دَمًا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ إلَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ. (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَاتَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ وَقَدْ أَنْفَقَ النِّصْفَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَا: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ) فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَفِي مَكَانِ الْحَجِّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا بِتَعْيِينِ الْمُوصِي إذْ تَعْيِينُ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحَلُّ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ وَطَنِهِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَبْطُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ» وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ سَفَرُهُ اُعْتُبِرَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ) صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمَاتَ وَكَانَ مِقْدَارُ الْحَجِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَصِيُّ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَسُرِقَ فِي الطَّرِيقِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ سُرِقَ ثَانِيًا يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَكَذَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُؤْخَذُ مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ.
فَإِنْ سُرِقَتْ ثَانِيًا لَا يُؤْخَذُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا سُرِقَتْ الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا أَوَّلًا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحُجُّ بِهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ، وَلَوْ أَفْرَزَهَا الْمُوصِي ثُمَّ هَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ.
فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَحَلُّ نَفَاذِهَا الثُّلُثُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ) وَفِي ذَلِكَ يَحُجُّ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فَكَذَا فِي هَذَا.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُحَجُّ بِهِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَكَانِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ مُنْقَطِعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا يُثَابُ عَلَيْهَا.
وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَعْمَالٌ عَمِلَهَا فَمَضَتْ، وَأَعْمَالٌ لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا فَهِيَ بَعْدُ مَعْدُومَةٌ، وَأَعْمَالٌ شَرَعَ فِيهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا.
وَالطَّرَفَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالِانْقِطَاعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِمَا يُحْبِطُ ثَوَابَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ.
وَالْمَاضِي بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَتَعَيَّنَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ.
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَمُوجِبِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مَسُوقٌ لِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَالْخَبَرَ لِحُكْمِ الدُّنْيَا، فَيَجُوزُ انْقِطَاعُ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْآخِرَةِ، كَمَا إذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ وَصَامَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَمَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِفِدْيَةِ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ كَامِلًا مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ هُوَ مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ مَا صَامَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ شَرَعَ فِيهِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيَاهُ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ تَأْخِيرُ تَعْلِيلِهِمَا عَنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ قَوْلِهِمَا مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُمَا اسْتِحْسَانٌ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسٌ، وَالْمَأْخُوذُ فِي عَامَّةِ الصُّوَرِ حُكْمُ الِاسْتِحْسَانِ. قَالَ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ يَجْزِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ ثَوَابَهُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ يَجْعَلُ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا إلَخْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ: الْهَدْيِ:

(الْهَدْيُ أَدْنَاهُ شَاةٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: أَدْنَاهُ شَاةٌ» قَالَ (وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الشَّاةَ أَدْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْلَى وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْجَزُورُ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ لِيُتَقَرَّبَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْهَدْيِ.
لَمَّا كَثُرَ دَوْرُ لَفْظِ الْهَدْيِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ نُسُكًا وَجَزَاءً وَمَئُونَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ الْهَدْيِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلَمَّا لَمْ يَخْلُ وُجُوبُهُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. (وَلَا يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إلَّا مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ كَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتَخَصَّصَانِ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ (وَالشَّاةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا.
وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا الْبَدَنَةُ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقَاتِ) فَتَغَلَّظَ مُوجِبُهُ. (وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ» وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِمَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُرِفَ فِي الضَّحَايَا (وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) لِأَنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا»
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ) يَعْنِي لِلْمُهْدِي وَالْأَغْنِيَاءِ إذَا ذُبِحَ فِي مَحِلِّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَيَجُوزُ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ جَمِيعِ الْهَدَايَا.
وَقَوْلُهُ (وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ) أَيْ شَرِبَ.
وَقَوْلُهُ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْجَوَازُ مُسْتَلْزِمًا لِلِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ ثَانِيًا بَيَانًا لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلَوْ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ أَوَّلًا اسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْجَوَازِ لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِحْبَابِ إيَّاهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ».
وَإِنَّمَا أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا لِلرُّجُوعِ إلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا») إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَفِي الْأَصْلِ يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الْحَرَمِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ جَازَ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِيهَا أَظْهَرُ، أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ (وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ اعْتِبَارًا بِدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَمُ جَبْرٍ عِنْدَهُ.
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ) ظَاهِرٌ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحَرُوهَا (وَقَضَاءُ التَّفَثِ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ) فَيَكُونُ النَّحْرُ كَذَلِكَ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَرُبَّمَا يَكُونُ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَضَاءُ التَّفَثِ فِيهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ ثُمَّ فِي التَّرَاخِي يَتَحَقَّقُ بِالتَّأْخِيرِ سَاعَةً، فَلَوْ جَازَ الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ جَازَ قَضَاءُ التَّفَثِ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمُ نُسُكٍ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كَالْأُضْحِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) ظَاهِرٌ.
وَالْفِجَاجُ جَمْعُ الْفَجِّ: وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إلَّا فِي الْحَرَمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ دَمٍ هُوَ كَفَّارَةٌ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قُرْبَةٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ) يَعْنِي بَعْدَمَا ذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ. قَالَ (وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) لِأَنَّ الْهَدْيَ يُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ إلَى مَكَان لِيَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فِيهِ لَا عَنْ التَّعْرِيفِ فَلَا يَجِبُ، فَإِنْ عُرِفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَعَسَى أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَسَبَبُهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السَّتْرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) أَيْ الْإِتْيَانُ بِهَا إلَى عَرَفَاتٍ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ قَالَ (وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالذِّبْحُ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ،» ثُمَّ إنْ شَاءَ نَحَرَ الْإِبِلَ فِي الْهَدَايَا قِيَامًا وَأَضْجَعَهَا، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْحَرَهَا قِيَامًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْهَدَايَا قِيَامًا»، وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَلَا يَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ قِيَامًا لِأَنَّ فِي حَالَةِ الِاضْطِجَاعِ الْمَذْبَحَ أَبْيَنُ فَيَكُونُ الذَّبْحُ أَيْسَرَ وَالذَّبْحُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ) يَعْنِي انْحَرْ الْجَزُورَ وَكَلَامُهُ فِي الْبَاقِي وَاضِحٌ. قَالَ (وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَهَا بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ»، وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَالتَّوَلِّي فِي الْقُرُبَاتِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ وَلَا يُحْسِنُهُ فَجَوَّزْنَا تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ) النَّيِّفُ بِالتَّشْدِيدِ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ وَقَدْ يُخَفَّفُ، وَعَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ، وَالنَّضْحُ الرَّشُّ وَالْبَلُّ.
وَمِنْهُ يُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِكَسْرِ الضَّادِ. قَالَ (وَيَتَصَدَّقُ بِجَلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا) «لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجَلَالِهَا وَبِخَطْمِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا» (وَمَنْ سَاقَ بَدَنَةً فَاضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْكَبْهَا) لِأَنَّهُ جَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَك» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا مُحْتَاجًا وَلَوْ رَكِبَهَا فَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلُبْهَا) لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ (وَيُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِد حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ) وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ يَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا كَيْ لَا يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ (وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ (وَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ (وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ كَبِيرٌ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْمَعِيبَ بِمِثْلِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَيْرِهِ (وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ) ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَكُونُ كَأُضْحِيَّةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إذَا ضَلَّتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لَهَا، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى غَيْرَهَا ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْفَقِيرُ بِلِسَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ اشْتَرَى الْفَقِيرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَمَاتَتْ أَوْ بَاعَهَا لَا تَلْزَمُهُ أُخْرَى وَكَذَا لَوْ ضَلَّتْ.
وَالْعَيْبُ الْكَبِيرُ هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الْأُذُنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهَا، وَالْعَطَبُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْهَلَاكُ، وَمَعْنَى عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ: أَيْ قَرُبَتْ إلَى الْعَطَبِ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ هَذَا وَقَعَ مُكَرَّرًا بِمَا قَالَ أَوَّلًا وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي حَقِيقَةِ الْعَطَبِ وَهَذَا فِي الْإِشْرَافِ عَلَيْهِ.
وَالْجَزَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: اللَّحْمُ الَّذِي يَأْكُلُهُ السِّبَاعُ. (وَإِذَا عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهَا وَصَبَغَ نَعْلَهَا بِدَمِهَا وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ) مِنْهَا بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِتَنَاوُلِهِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ جَزَرًا لِلسِّبَاعِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَقَرُّبٍ وَالتَّقَرُّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ (فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَقَامَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِمَا عَيَّنَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ (وَيُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ (وَلَا يُقَلِّدُ دَمَ الْإِحْصَارِ وَلَا دَمَ الْجِنَايَاتِ) لِأَنَّ سَبَبَهَا الْجِنَايَةُ وَالسَّتْرُ أَلْيَقُ بِهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ جَابِرٌ فَيَلْحَقُ بِجِنْسِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْهَدْيَ وَمُرَادُهُ الْبَدَنَةُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الشَّاةَ عَادَةً.
وَلَا يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ) إشَارَةً إلَى مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ بَابِ الْقِرَانِ بِقَوْلِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.