فصل: (كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ):

قَالَ (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ: الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَرْعُ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَاسْتَحَقَّتْ التَّأْخِيرَ فِي الذِّكْرِ، وَجَوَازُهَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَزِمَتْ الْأَصْلَ لَاحِقًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهَا لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَأَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ وَلِهَذَا جُوِّزَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ: أَعْنِي الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ بَعُدَتْ (إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً) أَيْ لَكِنْ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ وَهَذِهِ كَذَلِكَ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ لَمَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ جَوَازِهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، لَكِنْ لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ وَهُوَ أَصْلٌ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ آخَرَ جَازَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ هُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ هُوَ مَا عَايَنُوهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ بَدَلًا عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَلَمْ يَمْتَنِعُ إتْمَامُ الْأُصُولِ بِالْفُرُوعِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَدَلِيَّةُ فِيهَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ) احْتِمَالٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ: يَعْنِي أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، فَإِنَّ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ تُهْمَةَ الْكَذِبِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَفِي شَهَادَةِ الْفُرُوعِ تِلْكَ التُّهْمَةُ مَعَ زِيَادَةِ تُهْمَةُ كَذِبِهِمْ مَعَ إمْكَانِ احْتِرَازٍ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي عَدَدِ الْأُصُولِ عِنْدَ إشْهَادِهِمْ حَتَّى إنْ تَعَذَّرَ إقَامَةُ بَعْضٍ قَامَ بِهَا الْبَاقُونَ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (وَيَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ غَيْرِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ فَذَلِكَ أَرْبَعٌ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتِمَّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمَا (وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ كُلِّ أَصْلٍ فَرْعَانِ (وَلِأَنَّ نَقْلَ الشَّهَادَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ مَعْنًى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ، فَإِذَا شَهِدَا بِهَا فَقَدْ تَمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ إذَا شَهِدَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّ النِّصَابَ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ.
قَالَ: الْفَرْعُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ مُعَبِّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَنْ الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ. (وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لابد مِنْ شَهَادَتِهِ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ: شَاهِدُ الْأَصْلِ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَكَمِّيَّةِ الشُّهُودِ الْفُرُوعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِشْهَادِ وَأَدَاءِ الْفُرُوعِ فَقَالَ: وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ: شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحَمُّلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ بَلْ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْفَرْعِ كَمَا يَشْهَدُ الْأَصْلُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ مِثْلَ مَا سَمِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَشْهَدُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِقَوْلِهِ لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْأَصْلُ عِنْدَ التَّحْمِيلِ أَشْهَدَنِي نَفْسَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.
قَالَ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَخْ) هَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْفُرُوعِ الشَّهَادَةَ (يَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ شَهَادَتِهِ: أَعْنِي الْفَرْعَ وَذَكَرَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَذَكَرَ التَّحْمِيلَ) وَالْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ تَفِي بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ أَوْسَطُ الْعِبَارَاتِ (وَلَهَا) أَيْ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ (لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ الْآنَ فَذَلِكَ ثَمَانِي شِينَاتٍ وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا خَمْسُ شِينَاتٍ (وَأَقْصَرُ مِنْهُ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْعُ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِكَذَا وَفِيهِ شِينَانِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شَيْءٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. (وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي: فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي) لِأَنَّهُ لابد مِنْ التَّحْمِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لابد مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ) لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي؛ لِأَنَّهُ (لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ) بِالِاتِّفَاقِ.
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ يَقَعُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ: يَعْنِي يَتَخَيَّرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ حَتَّى لَوْ أَشْهَدَ إنْسَانًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ يَصِحَّ مَنْعُهُ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَكِنْ لابد مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِتَصِيرَ الشَّهَادَةُ حُجَّةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي نَفْسِهَا مَا لَمْ تُنْقَلْ، وَلَا بُدَّ لِلنَّقْلِ مِنْ التَّحْمِيلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُضْطَرِبٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ فِي كَلَامِهِ التَّحْمِيلَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ النَّقْلِ لِيَصِيرَ حُجَّةً وَعُطِفَ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ بِالنَّصْبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّحْمِيلُ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ النَّقْلِ وَالنَّقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ.
ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِقِيَامِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مُزَيَّفٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ شَهِدَ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ فِي نَقْلِ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ إقَامَتُهَا وَيَأْثَمُ بِكِتْمَانِهَا مَتَى وُجِدَ الطَّلَبُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ عَنْهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ لِصِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا مَضَرَّةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِبْطَالُ وِلَايَتِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ مَضَرَّةٌ فِي حَقِّهِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا يُشْتَرَطُ الْأَمْرُ وَصَارَ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ إذَا أَنْكَحَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لِسَدِّ الْخَلَلِ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ الْمَشَايِخِ فَهِيَ مُشْكِلَةٌ لَيْسَ فِيهَا إشْعَارٌ بِالْمَطْلُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ كَلَامٌ فِي أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ بِوَجْهٍ آخَرَ مُفِيدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ.
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُجَوِّزَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِسَاسُ الْحَاجَةِ فَلَا تَجُوزُ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْأُصُولُ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا يَمْنَعُهُمْ الْحُضُورَ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِعَجْزِ الْأُصُولِ عَنْ إقَامَتِهَا، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ السَّفَرُ؛ لِأَنَّ الْمُعَجِّزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ وَامْتِدَادِ الْمَسْحِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ وَحُرْمَةِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ لَهُ الْإِشْهَادُ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَ (إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ قَالُوا: الْأَوَّلُ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (أَحْسَنُ)؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ شَرْعًا يَتَحَقَّقُ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا فَكَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ أَحْسَنَ (وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ قَوْلَهُمْ فَكَانَ كَنَقْلِ إقْرَارِهِمْ قَالَ (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ) لِمَا قُلْنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ.
قَالَ (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازَ وَنَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا.
قَالَ (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودُ الْأَصْلِ شُهُودَ الْفُرُوعِ جَازَ) وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: إمَّا أَنْ يَعْرِفَهُمَا الْقَاضِي أَوْ لَا يَعْرِفَهُمَا، أَوْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنْ عَرَفَهُمَا بِالْعَدَالَةِ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمَا يَسْأَلْ عَنْهُمَا، وَإِنْ عَرَفَ الْأُصُولَ دُونَ الْفُرُوعِ يَسْأَلُ عَنْ الْفُرُوعِ، وَإِنْ عَرَفَ الْفُرُوعَ يَسْأَلْ عَنْ الْأُصُولِ، فَإِنْ عَدَّلَ الْفُرُوعُ الْأُصُولَ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ لِكَوْنِهِمْ عَلَى صِفَةِ الشَّهَادَةِ.
(وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ، وَقَوْلُهُ: (غَايَةُ الْأَمْرِ) رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَنْفِيذَ شَهَادَةِ نَفْسِهِ بِهَذَا التَّعْدِيلِ فَكَانَ مُتَّهَمًا، فَأَشَارَ إلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ: أَيْ غَايَةُ مَا يَرِدُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الشُّبْهَةِ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَعْدِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِسَبَبِ (أَنَّ فِي تَعْدِيلِهِ مَنْفَعَةً) لَهُ مِنْ حَيْثُ تَنْفِيذُ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ (لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا شَهِدَ فِيمَا شَهِدَ لِيَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْقَاضِي قَوْلَهُ عَلَى مُوجِبِ مَا شَهِدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِيهِ فِي الْوَاقِعِ (كَيْفَ) يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْعٌ يَفُوتُ بِتَرْكِ التَّعْدِيلِ (لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ) حَتَّى إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْعُدُولِ حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا (فَلَا تُهْمَةَ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ) وَقَالُوا لَا نُخْبِرُك (جَازَتْ) شَهَادَتُهُمْ (وَ) لَكِنْ (يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْأُصُولِ) بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ الْمُزَكِّينَ غَيْرِ الْفُرُوعِ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا تُقْبَلُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ الشَّهَادَةِ دُونَ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا نَقَلُوا) فَقَدْ أَقَامُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ الْقَاضِي (يَتَعَرَّفُ الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرَ الْأُصُولُ بِأَنْفُسِهِمْ فَشَهِدُوا) وَإِذَا قَالُوا لَا نَعْرِفُ أَنَّ الْأُصُولَ عُدُولٌ أَوْ لَا؟ قِيلَ: ذَلِكَ وَقَوْلُهُمْ لَا نُخْبِرُك سَوَاءٌ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: لَا يَرُدُّ الْقَاضِي شَهَادَةَ الْفُرُوعِ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ غَيْرَهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْأَصْلِ بَقِيَ مَسْتُورًا وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ بِأَنْ قَالُوا مَا لَنَا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ شَهَادَةٌ ثُمَّ جَاءَ الْفُرُوعُ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَتِهِمْ (لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرِ الْأُصُولِ وَخَبَرِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ) أَيْ التَّحْمِيلُ (شَرْطُ) صِحَّةِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ. (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا: لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لابد مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَخْ) إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلَيْنِ (عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَا أَخْبَرَانَا) الْأَصْلَانِ (أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ الْمُدَّعِي بِامْرَأَةٍ وَقَالَا) الْفَرْعَانِ (لَا نَعْلَمُ أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا هِيَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةُ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ.
وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعِ مَحْدُودَةٍ بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي) بَعْدَمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْدُودُ بِهَا فِي يَدِهِ (لَا بُدَّ مِنْ) شَاهِدَيْنِ (آخَرَيْنِ) يَشْهَدَانِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ. قَالَ (وَكَذَا)

.(كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي):

لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ (وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لابد مِنْهُ فِي هَذَا، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ.
وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ والأوزجندية خَاصَّةٌ، (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ.
ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَلِكَ (إذَا كَتَبَ قَاضِي بَلَدٍ إلَى آخَرَ) شَاهِدَانِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَذَا فَاقْضِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي فُلَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ يَقُولُ الْقَاضِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَحْضَرْته هُوَ فُلَانٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَمَكُّنِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ أَيْ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي (فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ) عَلَى الشَّهَادَةِ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ) فَلَا يَلْزَمُ مَا قِيلَ تَمْثِيلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، إذْ الْعَدَدُ مِنْ شَأْنِهِمْ دُونَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُ وَوُفُورَ وِلَايَتِهِ قَامَ مَقَامَ الْعَدَدِ (وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ) يَعْنِي بَابَ الشَّهَادَةِ وَبَابَ كِتَابِ الْقَاضِي (فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخْذِهَا وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ) يَعْنِي الَّتِي لَا خَاصَّةَ دُونَهَا.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْفَخْذُ آخَرُ الْقَبَائِلِ السِّتِّ: أَوَّلُهَا الشَّعْبُ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ، ثُمَّ الْفَصِيلَةُ، ثُمَّ الْعِمَارَةُ، ثُمَّ الْبَطْنُ، ثُمَّ الْفَخْذُ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: إنَّ الْفَصِيلَةَ بَعْدَ الْفَخْذِ؛ فَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبَائِلُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْفَخْذُ بِسُكُونِ الْخَاءِ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ الْجَوَازِ (لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لابد مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ الْعَامَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةُ عَامَّةٌ) بِالنِّسْبَةِ إلَى بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ فَكَمْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ نِسَاءٌ اتَّحَدَتْ أَسَامِيهِنَّ وَأَسَامِي آبَائِهِنَّ (وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخْذِ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ) ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخْذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْفَخْذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَسَدِ الْأَدْنَى فِي النِّسْبَةِ وَهُوَ أَبٌ الْأَبِ

.(فَصْلٌ) في شهادة الزور:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ.
وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.
وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ إلَخْ) شَاهِدُ الزُّورِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ أَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَجَاءَ حَيًّا يُعَزَّرُ، وَتَشْهِيرُهُ تَعْزِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَوْلُهُ: وَلَا أُعَزِّرُهُ: يَعْنِي لَا أَضْرِبُهُ، وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ.
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، مِنْ السُّخَامِ: وَهُوَ سَوَادُ الْقَدْرِ، أَوْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ.
لَا يُقَالُ: الِاسْتِدْلَال بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِجَوَازِ التَّسْخِيمِ لِكَوْنِهِ مُثْلَةً وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ إلَى أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا إثْبَاتُ مَا نَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الضَّرْبِ مَشْرُوعٌ فِي تَعْزِيرِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى السِّيَاسَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ هَذِهِ) أَيْ شَهَادَةَ الزُّورِ (كَبِيرَةٌ) ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْت لَا يَسْكُتُ» (وَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ) بِإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ (وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزِّرُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ) وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرَةٌ، وَمَا كَانَ يَخْفَى مَا يَعْمَلُهُ عَلَيْهِمْ وَسَكَتُوا عَنْهُ فَكَانَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا وَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ (وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيُكْتَفَى بِهِ.
وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ) فَإِنَّهُ إذَا تَصَوَّرَ الضَّرْبَ يَخَافُ فَلَا يَرْجِعُ وَفِيهِ تَضْيِيعٌ لِلْحُقُوقِ (فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَذَلِكَ بِتَرْكِ الضَّرْبِ (وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ) وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ».
(وَ) بِدَلَالَةِ (التَّسْخِيمِ) هَذَا تَأْوِيلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَأَوَّلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْخِيمِ التَّخْجِيلُ بِالتَّفْضِيحِ وَالتَّشْهِيرِ، فَإِنَّ الْخَجِلَ يُسَمَّى مُسْوَدًّا مَجَازًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (وَتَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَا نُقِلَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ إلَى سُوقِهِ، إنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ إلَى قَوْمِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَكُنْ سُوقِيًّا بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا) أَيْ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ أَكْثَرَ جَمْعًا لِلْقَوْمِ (وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا أَيْضًا يُشَهَّرُ، وَالْحَبْسُ وَالتَّعْزِيرُ مِقْدَارُهُ مُفَوَّضٌ إلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِيمَنْ كَانَ تَائِبًا أَوْ مُصِرًّا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ.
وَقَدْ قِيلَ إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ لَا يُعَزَّرُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قُلْنَا.
ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَابَ هَلْ تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ إنْ كَانَ فَاسِقًا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الزُّورِ فِسْقُهُ وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ، وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ سَنَةٌ.
قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا تُقْبَلُ أَصْلًا، وَكَذَا إنْ كَانَ عَدْلًا عَلَى رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً، وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ.
قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) وَذَكَرَ أَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ رِوَايَتِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ شَاهِدِ الزُّورِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الَّذِي شَهِدَ بِقَتْلِ شَخْصٍ وَظَهَرَ حَيًّا أَوْ بِمَوْتِهِ وَكَانَ حَيًّا إمَّا لِنُدْرَتِهِ وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ فَشَهِدَتْ وَهُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ):

(قَالَ: إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ (وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ: تَنَاسُبُ هَذَا الْكِتَابِ لِكِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ فَصْلِ شَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرٌ، إذْ الرُّجُوعُ عَنْهَا يَقْتَضِي سَبْقَ وُجُودِهَا وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ كَوْنُهَا زُورًا وَهُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلَاصًا مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ، فَإِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ بِأَنْ قَالُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ رَجَعْنَا عَمَّا شَهِدْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا بِزُورٍ فِيمَا شَهِدْنَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ بِهَا عَلَى الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا قَضَاءَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا إتْلَافَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَمَّا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْمُدَّعِي فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنْ كَانَتْ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ وَرَجَعُوا عَنْهَا صَارُوا كَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ يَكْتُمُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، وَالْكَلَامُ الْمُنَاقِضُ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ عَقْلًا وَشَرْعًا فَلَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّسَلْسُلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ رُجُوعِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَيْسَ لِبَعْضٍ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحٌ فَيَتَسَلْسَلُ الْحُكْمُ وَفَسْخُهُ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْآخَرَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ كَالْأَوَّلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ سَاوَاهُ وَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّرْجِيحِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، فَقَضَاءُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلتَّلَفِ لَكِنَّهُ كَالْمَلْجَإِ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَكَانَ التَّسْبِيبُ مِنْهُمْ تَعَدِّيًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِمْ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ وَذَلِكَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ فَعَلَامَ الضَّمَانُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَوَعَدَ بِتَقْرِيرِهِ مِنْ بَعْدُ، وَاكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ التَّعْزِيرِ فِي الْفَصْلَيْنِ بِذَكَرِهِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ.
قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ إلَخْ) الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالرُّجُوعُ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الشَّهَادَةِ يَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إقْرَارٌ بِضَمَانِ مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَرْتَفِعُ مَا دَامَتْ الْحُجَّةُ بَاقِيَةً فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهَا، وَالرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَيْسَ بِرَفْعٍ لِلْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ كَمَا مَرَّ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ مُرَتَّبٌ عَلَى ارْتِفَاعِهَا أَوْ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ.
لَا يُقَالُ: الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بَقَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَقَاءُ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَجْلِسُ الْحُكْمِ مَحَلُّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَوُجُودِ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَصِحَّةِ الْفَسْخِ (وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ) وَشَهَادَةُ الزُّورِ جِنَايَةٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا تَتَقَيَّدُ بِهِ (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا) وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَوْ عَجَزَ عَنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّاهِدَيْنِ (لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي بَيِّنَةً عَلَيْهِمَا وَلَا يُحَلِّفُهُمَا)؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَدَعْوَى الرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بَاطِلَةٌ (حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ) بَيِّنَتُهُ (لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ) وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ضَمَّنَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي، وَمَعْنَاهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُعْطِ شَيْئًا إلَى الْآنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي وَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَضْمِينَهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بَدَلٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ: أَيْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ دَعْوَى الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَقِيلَ هُوَ الضَّمَانُ، وَمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ صَحِيحٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهَا قَبُولُ الْبَيِّنَةِ لَا وُجُوبُ الضَّمَانِ فَتَأَمَّلْ. (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ.
قُلْنَا: تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، وَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ.
قَالَ (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ عُلِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ وَلِمَا يَأْتِي مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ الشُّهُودِ دُونَ بَعْضٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْإِتْلَافِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ.
وَقُلْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذْ لَمْ يُمْكِنْ إضَافَتُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ هُوَ الْقَاضِي، وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمُلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ يَفْسُقُ وَلَيْسَ بِمُلْجَإٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْمُلْجَأَ حَقِيقَةً مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْقَاضِي لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ صَرْفَ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَامٌّ فَيُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِأَجْلِهِ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَاعْتُبِرَ السَّبَبُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ كُلٍّ مِنْكُمْ وَمِنْ الشَّافِعِيِّ تَرَكَ أَصْلَهُ الْمَعْهُودَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ ثُمَّ الرُّجُوعِ، فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا عِنْدَكُمْ، وَمَا جَعَلْتُمْ كَالْمُبَاشِرِ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، جَعَلَ الْمُسَبَّبَ كَالْمُبَاشِرِ.
قُلْنَا: فِعْلُ الْمُبَاشِرِ الِاخْتِيَارِيُّ قَطَعَ النِّسْبَةَ أَوْ صَارَ شُبْهَةً كَمَا سَيَجِيءُ، وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهُ مُبَاشِرًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَاهِدَيْ السَّرِقَةِ إذَا رَجَعَا: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَجَازَ أَنْ يُهَدِّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرُجِمْت، وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ: يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْإِتْلَافِ، وَالْإِتْلَافُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَبْضِ، وَفِي ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا أُلْزِمَا دَيْنًا بِشَهَادَتِهِمَا، فَلَوْ ضَمِنَا قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمُدَّعِي كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا بِمُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَا وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا.
وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ، وَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ بِشَهَادَتِهِمَا أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ، وَإِذَا كَانَ دَيْنًا فَبِإِزَالَةِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ إلَخْ) الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ، إلَّا أَنَّ الشُّهُودَ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الِاثْنَيْنِ يُضَافُ الْقَضَاءُ وَوُجُوبُ الْحَقِّ إلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ.
وَإِذَا رَجَعَ وَاحِدٌ زَالَ الِاسْتِوَاءُ وَظَهَرَ إضَافَةُ الْقَضَاءِ إلَى الْمُثَنَّى وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ فَرَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِشَهَادَةِ مَنْ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ.
قِيلَ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فَرْدٌ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ شَيْءٍ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصْلُحَ فِي الْبَقَاءِ لِلْإِثْبَاتِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِذَلِكَ، كَمَا فِي النِّصَابِ فَإِنَّ بَعْضَهُ لَا يَصْلُحُ فِي الِابْتِدَاءِ لِإِثْبَاتِ الْوُجُوبِ وَيَصْلُحُ فِي الْبَقَاءِ بِقَدْرِهِ. (وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ (سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ (الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِلْمَشْهُودِ بِهِ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ) التَّامَّةِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُتْلِفِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ فِيمَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ زَيْدٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمُتْلِفُ عَمْرٌو وَأَخَذَ الضَّمَانَ مِنْ الْمُتْلِفِ سَقَطَ الضَّمَانُ الثَّابِتُ لِزَيْدٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتْلِفِ فَلَأَنْ يَمْنَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْحَقِّ) قِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاجِعِ الْأَوَّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ، وَبَعْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ كَانَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بَاقِيًا فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي أَتْلَفَ نِصْفَ الْحَقِّ فَيَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ أَوْ الِانْقِلَابِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ إذَا رَجَعَ الْأَوَّلُ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَاحْتُمِلَ كَذِبُ غَيْرِهِ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا، أَوْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعِنْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ وُجِدَ الْإِتْلَافُ، وَلَكِنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ بَقَاءُ النِّصَابِ مَنَعَ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجَعَ الثَّانِي ارْتَفَعَ الْمَانِعُ وَوَجَبَ الضَّمَانُ بِالْمُقْتَضِي. (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ (وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ (وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ) لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، «قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ)؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْحَقِّ بَاقٍ لِشَهَادَةِ الرَّجُلِ (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبُعُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبُعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ) فَتَعَيَّنَ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ) بِالنَّصِّ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» وَإِذَا كَانَتَا كَرَجُلٍ صَارَ كَأَنَّهُ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا وَفِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا تَمَّ أَنْ لَوْ قَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ مُكَرَّرٌ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ كَكَلِمَةِ كُلٍّ (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ، فَالرَّجُلُ يَبْقَى بِبَقَائِهِ نِصْفُ الْحَقِّ. (وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ مُضَافًا إلَى شِهَادِ رَجُلَيْنِ دُونَهَا فَلَا تَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا. قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ (وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ إلَخْ) وَإِنْ شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ هَاهُنَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ عِنْدَنَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ مُتَقَوِّمَةً لَكَانَتْ بِالتَّمَلُّكِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ هُوَ عَيْنُ الدَّاخِلِ فِي الْمِلْكِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّقَوُّمِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهَا فِي الْأُخْرَى لَكِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الدُّخُولِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا إنَّمَا تُضْمَنُ وَتَتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ خَطِيرٌ لِحُصُولِ النَّسْلِ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي حَالَةِ الْإِزَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ عِنْدَ التَّمَلُّكِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِهِ عِنْدَ الْإِزَالَةِ كَالْمَشْهُودِ وَالْوَلِيِّ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا عَلَى زَوْجٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ، كَمَا لَوْ شَهِدَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَضْمُونٌ بِالنَّصِّ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يُلْتَحَقُ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ) وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى.
نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ (وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَخْ) شَهِدَا بِأَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا، فَإِنْ كَانَ الْأَلْفُ قِيمَتَهُ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ، وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ضَمِنَا لِلْبَائِعِ أَلْفًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ مِنْ قِيمَتِهِ بِلَا عِوَضٍ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِأَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَتَقَرَّرَ الْبَيْعُ ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ لِإِتْلَافِهِمَا الزَّائِدَ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ وَالْبَائِعُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ وَالرِّضَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ لَكِنَّ حُكْمَهُ مُضَافٌ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ، وَالْبَائِعُ لَمَّا كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، إذْ الْعَاقِلُ يُتَحَرَّزُ عَنْ الِانْتِسَابِ إلَى الْكَذِبِ حَسَبَ طَاقَتِهِ، فَلَوْ أَوْجَبَا الْبَيْعَ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِتْلَافُ. (وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالِارْتِدَادِ أَوْ مُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ، وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ لِشُبْهَةٍ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ شَخْصٌ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالتَّخْلِيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ لِعَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ إلَى الْمَرْأَةِ كَمَا كَانَ، وَالْفَسْخُ يُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِالرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ اللُّزُومِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ كُلُّ الْمُبْدَلِ إلَى مِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ أَشْبَهَ الْفَسْخَ. قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ) فَقُضِيَ بِذَلِكَ (ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ) وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ.
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْعِتْقَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي ذَلِكَ شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْحُجَّةِ.
وَقِيلَ لَمَّا ثَبَتَ الْوَلَاءُ ثَبَتَ الْعِوَضُ فَانْتَفَى الضَّمَانُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ الضَّمَانُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. (وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا إلَخْ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا (وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِوُجُودِ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ) أَيْ فَأَشْبَهَ الْمُسَبِّبَ هَاهُنَا وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُكْرَهُ إنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُلْجَإِ بِشَهَادَتِهِمَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَرَ الْوُجُوبَ كَفَرَ إنْ كَانَ اسْمَ مَفْعُولٍ.
وَقِيلَ أَشْبَهَ الْوَلِيَّ الْمُكْرَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجَإٍ إلَى الْقَتْلِ.
وَقَوْلُهُ: (بَلْ أَوْلَى) أَيْ التَّسْبِيبُ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْإِفْضَاءُ وَالْإِفْضَاءُ هَاهُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُمْنَعُ عَنْ الْقَتْلِ وَلَا يُعَانُ عَلَيْهِ، وَالْوَلِيُّ يُعَانُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ إفْضَاءً، وَمَعَ ذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرَهِ لِلتَّسْبِيبِ فَمِنْ الشَّاهِدِ أَوْلَى (وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً لَمْ يُوجَدْ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إيمَاءً إلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقَتْلِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَكَذَا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ إلَى الشَّيْءِ هُوَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظُهُورُ إيثَارِ حَيَاتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعًا أَوْ طَبْعًا، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ فَصَارَ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مُعَارَضٌ بِطَبْعِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ التَّشَفِّيَ بِالْقِصَاصِ ظَاهِرًا وَلِهَذَا تَنَزَّلَ فَقَالَ (وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ تَسْبِيبًا، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِهِ، وَالْفِعْلُ هَاهُنَا وَهُوَ الْقَتْلُ وُجِدَ مِنْ الْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ الصَّحِيحِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الشُّهُودِ لَكِنْ لَا أَقَلَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً يَنْدَرِئُ بِهَا الْقِصَاصُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَا تَدْفَعُ الدِّيَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ مَا سَقَطَ بِالشُّبُهَاتِ سُقُوطُ مَا ثَبَتَ بِهَا، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الدَّلِيلُ الْجَوَابَ عَنْ صُورَةِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ هُنَاكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ فَاسِدٌ وَاخْتِيَارَ الْمُكْرَهِ صَحِيحٌ، وَالْفَاسِدُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَجُعِلَ الْمُكْرَهُ كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ كَالْمَوْجُودِ مِنْ الْمُكْرَهِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ وَتَضْمِينِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ حَقِيقَةً وَالشَّاهِدَيْنِ حُكْمًا، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْحَقِيقِيِّ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَلِيُّ لَمْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَا: كَانَا عَامِلَيْنِ لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ضُمِّنَا لِإِتْلَافِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ بِتَسْبِيبِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ، وَعَلَيْهِ يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ تَصْنِيفِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لَا تَصْنِيفِ عَلَاءِ الدِّينِ الْعَالِمِ. قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ (وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ.
وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ.
وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نُشْهِدْ الْفُرُوعَ عَلَى شَهَادَتِنَا، أَوْ يَقُولُوا أَشْهَدْنَاهُمْ غَالِطِينَ أَوْ رَجَعْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُمْ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْأُصُولُ وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: ضَمِنُوا (لَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ) وَقَدْ عَايَنَ شَهَادَتَهُمْ، وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْأُصُولِ شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَكُونَ سَبَبًا لِلْإِتْلَافِ (وَلَهُ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْأَصْلَيْنِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي) وَالْقَضَاءُ يَحْصُلُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمَا فَصَارَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا، وَفِي ذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ الضَّمَانُ فَكَذَا هَاهُنَا. (وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا) فَعِنْدَهُمَا (يَجِبُ الضَّمَانُ) عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ) بَيْنَ تَضْمِينِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ) وَالْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ حَتَّى يَضْمَنَ كُلُّ فَرِيقٍ نِصْفَ الْمُتْلَفِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ)؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ كَانَتْ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا لِيُجْعَلَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ كَالْمُنْفَرِدِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَأْخِيرُ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ.
قَوْلَ مُحَمَّدٍ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ) وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا. قَالَ (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ) (ضَمِنُوا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ.
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا إلَخْ) إذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا، فَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى التَّزْكِيَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا مِنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ إذْ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا ضَمِنُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُثْنِي عَلَى الشُّهُودِ كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ.
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ؛ إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ أُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ لِتَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا غَيْرَ الْمُوجِبِ مُوجِبًا. (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ إلَخْ) إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى دُخُولِهَا ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً، وَقَوْلُهُ: خَاصَّةً رَدٌّ لِقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا.
وَقُلْنَا: السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لَا يُصَارُ إلَى الشَّرْطِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ مَعَ الْمُلْقِي فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ (قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْيَمِينِ وَيْحُكُمْ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالدُّخُولِ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ) وَمَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ ثَابِتَةً بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَرَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ ظَنَّ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا هَاهُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَعَدٍّ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ وَشَبَّهَهُ بِحَفْرِ الْبِئْرِ.
قِيلَ وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشَرَةٌ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي أَوْ لَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ (قَوْلُهُ: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ) يُرِيدُ بِهِ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي صَدْرِ الْبَحْثِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ