فصل: (مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ التَّحْكِيمِ):

(وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا (وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ التَّحْكِيمِ:
هَذَا بَابٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَتَأْخِيرُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُحَكَّمَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْ الْقَاضِي لِاقْتِصَارِ حُكْمِهِ عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي.
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ (وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَصِحُّ تَحْكِيمُهُمَا وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهَا وَقَعَتْ فَإِنَّهُمَا جَائِزَانِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ التَّحْكِيمِ عِنْدَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ صَلَحَ مَعْنًى حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالصُّلْحُ لَا يُعَلَّقُ وَلَا يُضَافُ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ (وَإِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ) اُشْتُرِطَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ (فَلَوْ حَكَّمَا امْرَأَةً فِيمَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيهَا) قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فَمَنْ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُقَلَّدُ حَاكِمًا وَلَا مُحَكَّمًا، فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ إنْ حَكَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ حَكَّمَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا كَتَقْلِيدِ السُّلْطَانِ إيَّاهُ، وَتَقْلِيدُ الذِّمِّيِّ لِيُحَكِّمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَحِيحٌ دُونَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَا تَحْكِيمُهُ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَإِنْ تَابَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَيَأْتِي، وَالْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا لَكِنْ إذَا حُكِّمَ الْفَاسِقُ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ، وَلَوْ قُلِّدَ جَازَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكَّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ (فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ شَيْئَيْنِ لابد لَهُ مِنْ وُجُودِهِمَا، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى عَدَمِهِمَا بَلْ يَعْدَمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْرَاجُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا أَيْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ.
قُلْنَا: مَا تَمَّ الْأَمْرُ وَإِنَّمَا التَّمَامُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَلَا نَقْضَ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلُزُومِ الْحُكْمِ بِصُدُورِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى ثُمَّ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَازِمٌ (وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى حَاكِمٍ فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ؛ لِأَنَّهُ) إذَا نَقَضَهُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِذَلِكَ فَ (لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ) وَفَائِدَةُ إبْرَامِهِ أَنَّهُ لَوْ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَقْضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ لَتَمَكَّنَ؛ لِأَنَّ إمْضَاءَ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ نَفْسِهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ) بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ الثَّانِي وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ فَكَانَ قَضَاؤُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يَرُدَّهُ. (وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا: وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقَوْلِ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَخْ) لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا، وَأَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْمَشَايِخُ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ التَّحْكِيمُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ جَائِزٌ.
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ صُلْحِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْكِيمَ فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَيْهِمَا وَهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ التَّحْكِيمَ لَا يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ، وَهُوَ دَلِيلُ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ الْحُدُودِ.
وَقَالُوا فِي ذَلِكَ:؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ فَكَانَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَا تُسْتَوْفَى بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى أَشْمَلُ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ: وَقَالُوا) أَيْ قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا (وَتَخْصِيصُ الْقُدُورِيِّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ) كَالْكِنَايَاتِ فِي جَعْلِهَا رَجْعِيَّةً وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَصْحَابِنَا (وَهُوَ صَحِيحٌ) لَكِنَّ الْمَشَايِخَ امْتَنَعُوا عَنْ الْفَتْوَى بِذَلِكَ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ تُعْلَمُ وَلَا يُفْتَى بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ النَّسَفِيَّ كَانَ يَقُولُ: يُكْتَمُ هَذَا الْفَصْلُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ الْجُهَّالُ إلَى ذَلِكَ فَيُؤَدِّيَ إلَى هَدْمِ مَذْهَبِنَا.
وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ لَا يَنْفُذُ إلَّا فِي صُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَحُكْمُ الْحَكَمِ لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِ الْمُحَكِّمِينَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ رَأْيَهُ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ «قُومُوا فَدُوهُ» كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا ثَبَتَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي: أَيْ رَدَّ قَضَاءَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ، وَأَمَّا أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا وَقَضَى عَلَى الْجَانِي جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ وَقَدْ رَضِيَ الْجَانِي بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ بِأَنْ كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَتْ خَطَأً لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْجَانِي خَالَفَ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَإِنْ قَضَى عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْعَاقِلَةُ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا صَارَ حَكَمًا عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيطِهِمَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ (وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَإِذَا أَخْبَرَ الْمُحَكَّمُ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ) بِأَنْ يَقُولَ لِأَحَدِهِمَا اعْتَرَفْت عِنْدِي لِهَذَا بِكَذَا (أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَامَتْ عِنْدِي عَلَيْك بَيِّنَةٌ لِهَذَا بِكَذَا فَعُدِّلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهِ لِهَذَا عَلَيْك فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِشَيْءٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَقَضَى الْقَاضِي وَنَفَذَ؛ لِأَنَّ الْمُحَكَّمَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (إذَا كَانَ عَلَى تَحْكِيمِهِمَا) فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ فِي قَضَائِهِ لِإِنْسَانٍ قَضَيْت عَلَيْك لِهَذَا بِإِقْرَارِك أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدِي عَلَى ذَلِكَ (فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ) وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا (وَإِنْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُحَكَّمُ كُنْت حَكَمْت عَلَيْك لِهَذَا بِكَذَا (لَمْ يُصَدَّقْ)؛ لِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ صَارَ مَعْزُولًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنِّي حَكَمْت بِكَذَا كَالْقَاضِي الْمُوَلَّى إذَا قَالَ بَعْدَ عَزْلِهِ حَكَمْت بِكَذَا. (وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لابد مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ لِهَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ (وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ.
وَإِذَا حَكَّمَا رَجُلَيْنِ جَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ) فَلَوْ حَكَّمَ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَيْسَ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا بَعْدَ الْقِيَامِ انْعَزَلَا فَصَارَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ.

.(مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ).

قَالَ (وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ.
قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا خِلَافَ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ: مَسَائِلُ شَتَّى: أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ شَتَّتَ تَشْتِيتًا: إذَا فَرَّقَ.
ذَكَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مَسَائِلَ مِنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْكِتَابِ وَيُتَرْجِمُونَهُ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَنْثُورَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ.
قِيلَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى آخِرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَضَاءَ بِالْمَوَارِيثِ وَالرَّحِمِ وَإِنَّهُ لَجَدِيرٌ بِالتَّأْخِيرِ لَا مَحَالَةَ (وَإِذَا كَانَ عُلُوٌّ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا أَنْ يَنْقُبَ فِيهِ كُوَّةً بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ) وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ وَلَا أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا يُحْدِثَ كَنِيفًا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا مَنَعَ عَمَّا مَنَعَ إذَا كَانَ مُضِرًّا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا فَلَا يُمْنَعُ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا فَكَانَ جَوَازُ التَّصَرُّفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْآخَرُ فَصْلًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِهِ (وَقِيلَ) لَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَإِنَّمَا الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ إلَّا بِعَارِضِ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ لَمْ يُمْنَعْ (بِالِاتِّفَاقِ، وَ) إنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ (إذَا أَشْكَلَ) فَعِنْدَهُمَا (لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ)؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بِيَقِينٍ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ (وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ) صَاحِبُ الْعُلُوِّ؛ لِأَنَّ قَرَارَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ الْهَدْمِ اتِّفَاقًا، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ بِمَنْعِ الْمَالِكِ مِنْ التَّصَرُّفِ كَمَا مُنِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ الْمَالِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ (وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ) وَهُوَ الرِّضَا بِهِ دُونَ عَدَمِ الضَّرَرِ فَتَأَمَّلْ (فَإِذَا أَشْكَلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ) لِمَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلُوِّ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ) اسْتِظْهَارٌ عَلَى الْمَنْعِ لِإِفَادَةِ مَا قَبْلَهُ ذَلِكَ. قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ.
قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ.
وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً إلَخْ) سِكَّةٌ طَوِيلَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ تَنْشَعِبُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ يَسَارِهَا مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ: لَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ لِلْمُرُورِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا لِأَهْلِهَا خَاصَّةً لِكَوْنِهَا غَيْرَ نَافِذَةٍ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَكَذَا هَذَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي تِلْكَ السِّكَّةِ الْقُصْوَى لَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ الْعُظْمَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ لَهُمْ خَاصَّةً، بِخِلَافِ النَّافِذَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ.
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ.
وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ جِدَارِهِ بِالْهَدْمِ فَرَفْعُ بَعْضِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا لَوْ فَتَحَ كُوَّةً أَوْ بَابًا لِلِاسْتِضَاءَةِ دُونَ الْمُرُورِ لَمْ يُمْنَعْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ رُبَّمَا يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّائِغَةَ الْأُولَى غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، إلَّا إذَا جَعَلْت الضَّمِيرَ مَوْضُوعًا مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَتَّى يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الزَّائِغَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إلَى الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ صَحِيحَةٌ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ بِذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِغَةُ الْقُصْوَى مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا: يَعْنِي سِكَّةً فِيهَا اعْوِجَاجٌ حَتَّى بَلَغَ اعْوِجَاجُهَا رَأْسَ السِّكَّةِ وَالسِّكَّةُ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ؛ لِأَنَّهَا سِكَّةٌ وَاحِدَةٌ إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا، وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ إلَخْ) دَارٌ بِيَدِ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا.
وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ثُمَّ صَالَحَ مِنْهَا جَازَ الصُّلْحُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى وَمَعْلُومِيَّةُ مِقْدَارِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الدَّعْوَى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمَانِعُ مِنْهَا مَا أَفْضَى إلَيْهَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: جَهَالَةُ الْمُدَّعَى إمَّا أَنْ تَكُونَ مَانِعَةَ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمَا جَازَ الصُّلْحُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعَى لَكِنَّهُ صَحِيحٌ.
وَالْجَوَابُ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ لِقَطْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْحَقِّ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لِلْمُدَّعِي دَعْوَاك فَاسِدَةٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَيُمْكِنُهُ إزَالَةُ الْفَسَادِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارٍ مِمَّا يَدَّعِي فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ مُفِيدًا. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ إلَخْ) إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ مَثَلًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَجَحَدَ دَعْوَاهُ ذُو الْيَدِ فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنِّي طَلَبْت مِنْهُ فَجَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاضْطُرِرْت إلَى شِرَائِهَا مِنْهُ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ، فَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ حَيْثُ قَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَالشُّهُودُ شَهِدُوا بِشِرَاءٍ قَبْلَهَا فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى.
وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ الدَّعْوَى نَفْسُهَا إنْ ثَبَتَ مُوجِبُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ تَقَدُّمُ وَقْتِ الشِّرَاءِ عَلَى وَقْتِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَائِلًا وَهَبَ لِي هَذِهِ الدَّارَ وَكَانَتْ مِلْكًا لِي بِالشِّرَاءِ قَبْلَ الْهِبَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالشِّرَاءِ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي ادَّعَى فِيهِ الْهِبَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهْم يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهُ: أَيْ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا، وَفِي بَعْضِهَا قَبْلَهَا: أَيْ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ وَقْتَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَ الْهِبَةِ وَدَعْوَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا.
وَأَمَّا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَ الْوَاهِبِ عِنْدَهَا فَلَيْسَ بِمُنَاقِضٍ.
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءً بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْهِبَةَ فَقَدْ فَسَخَهَا مِنْ الْأَصْلِ وَتَوَقَّفَ الْفَسْخُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَلَى رِضَاهُ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ الْفَسْخِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا وَاشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ فَكَانَ صَحِيحًا. (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ.
قَالَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَهُ إنْ أَجْمَعَ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ: أَيْ عَزَمَ بِقَلْبِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يُخَاصِمَ مَعَهُ وَسِعَهُ: أَيْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنْكَارٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالْفَسْخُ رَفْعٌ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَتَلَاقَيَانِ بَقَاءً فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ تَجَاحَدَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
قِيلَ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْجُحُودِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مَقَامَ الْفَسْخِ لَجَازَ لِامْرَأَةٍ جَحَدَ زَوْجُهَا النِّكَاحَ وَعَزَمَتْ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ إقَامَةً لَهُمَا مَقَامَ الْفَسْخِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْءَ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا احْتَمَلَ الْمَحَلُّ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِالضَّرُورَةِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ اللُّزُومِ فَكَيْفَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: مُجَرَّدُ الْعَزْمُ قَدْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ كَعَزْمِ مَنْ لَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ عَلَى الْفَسْخِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِهِ تَنَزَّلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ الْعَزْمُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا مِنْ مَوْضِعِ الْخُصُومَةِ إلَى بَيْتِهِ وَمَا يُضَاهِيهِ كَالِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الْفَسْخِ فَتَحَقَّقَ الِانْفِسَاخُ لِوُجُودِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا دَلَالَةً، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَتَى بَاعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ يَبِعْهَا أَوْ يَتَقَايَلَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقَايُلَ مَوْجُودٌ دَلَالَةً (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ آخَرُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ الْعَقْدَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ، وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْبَيْعِ فَيَسْتَقِلُّ بِفَسْخِهِ فَيُجْعَلُ عَزْمُهُ فَسْخًا عَلَى مَا مَرَّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِينَ أَنَّ الِانْفِسَاخَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَجَعَلَ جُحُودَهُ فَسْخًا مِنْ جَانِبِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ، وَفِي الثَّانِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ بِاسْتِبْدَادِهِ. (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ.
وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَخْ) وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ سِلْعَةٍ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إنَّهُ زُيُوفٌ صُدِّقَ سَوَاءٌ كَانَ مَفْصُولًا أَوْ مَوْصُولًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةُ ثُمَّ فِي الْكِتَابِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ قَبَضَ اقْتَضَى وَالْمَعْنَى هَاهُنَا وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال فِي بَدَلِهِ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا كَانَ التَّجْوِيزُ اسْتِبْدَالًا وَهُوَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَهُوَ الْجِيَادُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ لَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زُيُوفٌ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، فَكَذَا هَذَا.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ مَنْعٌ لِلْمُلَازَمَةِ، وَقَوْلُهُ: حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ مُسَلَّمٌ، وَالزُّيُوفُ لَهُ حَقُّ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْ الْقَبْضِ مَا يَزِيدُ عَلَى حَقِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ مُخْتَصًّا بِالْجِيَادِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَبِدَعْوَاهُ الزُّيُوفَ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ قَبْضَ حَقِّهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ لِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْجِيَادِ وَهُوَ حَقُّهُ أَوْ بِحَقِّهِ أَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ ادَّعَى كَوْنَ الْمَقْبُوضِ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يُصَدَّقْ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ، وَالثَّمَنُ جِيَادٌ وَالِاسْتِيفَاءُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَلَا تَمَامَ دُونَ الْحَقِّ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ مُتَنَاقِضًا.
وَمِنْ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَنْكَرَهُ.
فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لَا الْمُشْتَرِي الَّذِي أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِقَبْضِ حَقِّهِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: فَكَانَ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي: أَعْنِي الْمُقِرَّ بِقَبْضِ الْحَقِّ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ لَا مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا، وَفِيمَا بَقِيَ لَا يُصَدَّقُ مَفْصُولًا وَلَكِنْ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا.
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي عَلَيْهِ جُعِلَ مُقِرًّا بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَصَحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً؛ فَأَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْوَزْنِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا كَذَا هَاهُنَا (قَوْلُهُ: وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ) يَعْنِي لَوْ ادَّعَاهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الْعَشَرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَمْ يَجُزْ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَنَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ ادَّعَى الرَّصَاصَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ، إنْ كَانَ مَفْصُولًا لَمْ يُسْمَعْ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَا يُسْمَعْ.
وَالسَّتُّوقَةُ أَقْرَبُ إلَى الدَّرَاهِمِ مِنْ الرَّصَاصِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الرَّصَاصِ ذَلِكَ فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى وَكَأَنَّ الِاعْتِرَاضَيْنِ وَقَعَا لِذُهُولٍ عَنْ التَّدْقِيقِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ثُمَّ ادَّعَى فَإِنَّهُ لِلتَّرَاخِي، وَلَا نِزَاعَ فِي غَيْرِ الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ لَا تُقْبَلُ مَفْصُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مَوْصُولًا أَوْ لَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَيُقْبَلُ مَوْصُولًا، وَذِكْرُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَّمَ الْجَانِبَ الْآخَرَ.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ عَنْ قَبُولِ الْمَوْصُولِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارٍ عَارِضٍ وَهُوَ لُزُومُ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ كَمَا مَرَّ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ الْأَصْحَابِ أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ وَقَدْ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّهُ مَا عَزَاهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ النُّسَخِ، وَتَمْثِيلُهُ بِاسْتِثْنَاءِ الدِّينَارِ قَدْ لَا يَنْهَضُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَصْفٌ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ، ثُمَّ فَسَّرَ الزُّيُوفَ بِمَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ: أَيْ رَدَّهُ، وَالنَّبَهْرَجَةَ بِمَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَلَعَلَّهُ أَرْدَأُ مِنْ الزَّيْفِ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ، قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ ستو وَهِيَ أَرْدَأُ مِنْ النَّبَهْرَجَةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ. قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ أَوْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ الْمُقِرُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِهِ، وَالثَّانِي يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ خَصْمِهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَيَرْتَدُّ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُجَّةٍ: أَيْ بَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْخَصْمِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ ثَانِيًا لَزِمَهُ الْمَالُ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا قَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْكَرَ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ كَانَ بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِإِثْبَاتِهِ فَلَا يَتَفَرَّدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ: يَعْنِي الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ، كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَتَفَرَّدُ بِإِثْبَاتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَتَفَرَّدُ بِالْإِثْبَاتِ فَيَتَفَرَّدُ الْآخَرُ بِالرَّدِّ.
قُلْت: إنَّ عَزْمَ الْمُقِرِّ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ الْفَسْخَ قَدْ تَمَّ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ وَطْؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَزْمَ وَالنَّقْلَ كَانَا دَلِيلَ الْفَسْخِ، وَبِهِ سَقَطَ مَا قَالَ فِي الْكَافِي ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرَى فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ يَسْتَبِدُّ، وَهَاهُنَا لَمَّا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي فِي مَكَانِهِ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَتَعَذَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ وَافَقَهُ الْمُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا.
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ (وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا إلَخْ) إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَضَاهُ أَوْ عَلَى الْإِبْرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: إنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَقْتَضِي دَعْوَى صَحِيحَةٍ.
وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ كَمَا يُقَالُ قُضِيَ بِحَقٍّ، وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ لَيْسَ لِنَفْيِ الْحَالِ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قَبْلَ زَمَانِ الْحَالِ لَمْ يُتَصَوَّرْ تَنَاقُضٌ أَصْلًا.
قَالُوا: دَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، وَاسْتَدَلَّ الْخَصَّافُ لِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِفَصْلِ دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالرِّقِّ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَمَ عَمْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالْعَفْوِ أَوْ الصُّلْحِ مَعَهُ عَلَى مَالٍ قُبِلَتْ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَقَبَةَ جَارِيَةٍ فَأَنْكَرَتْ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَقَبَتِهَا ثُمَّ أَقَامَتْ هِيَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَوْ كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفٍ وَأَنَّهَا أَدَّتْ الْأَلْفَ إلَيْهِ قُبِلَتْ؛ وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك أَوْ مَا أَشْبَهَ كَقَوْلِهِ وَلَا رَأَيْتُك وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ إذْ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِلَا خُلْطَةٍ وَمَعْرِفَةٍ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ أَيْضًا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَأَرَادَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ.
ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا.
وَالْخَصَّافُ أَثْبَتَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُورَةِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هَاهُنَا أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ لَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبَرِّئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ وَهُوَ قَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ (ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قَوْلِهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا: لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (ذِكْرُ حَقٍّ كَتَبَ فِي أَسْفَلِهِ إلَخْ) إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَكَتَبَ صَكًّا وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ: وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا الصَّكَّ وَطَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ كَتَبَ فِي كِتَابِ شِرَاءٍ مَا أَدْرَكَ فِيهِ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِهِ عَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ وَإِلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، وَالْمَالُ الْمُقَرُّ بِهِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ وَصَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ مُبْطِلٌ، فَمَا فُرِضَ لِلِاسْتِيثَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ فَلَا يَكُونُ مَا فِي الصَّكِّ بَعْضُهُ مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى مَا يَلِيهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ مُطْلَقًا، أَوْ إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَالُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَطْفُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكُلَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ، هَذَا إذَا كَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِ فُرْجَةٍ بِبَيَاضٍ لِيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ فِي الْكَلَامِ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَ فُرْجَةً قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَقَدْ قَالُوا لَا يُلْتَحَقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ.
وَفَائِدَةُ كَتْبِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فِي الشُّرُوطِ إثْبَاتُ الرِّضَا مِنْ الْمُقِرِّ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْخُصُومَةِ مَعَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَصِحُّ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَكَوْنُهُ تَوْكِيلًا مَجْهُولًا لَيْسَ بِضَائِرٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْقَاطِ، فَإِنَّ لِلْمُقِرِّ أَنْ لَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ الْمُقَرِّ لَهُ مَنْ يُخَاصِمُ مَعَهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَعَ الْجَهَالَةِ جَائِزٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ، إلَّا إذَا رَضِيَ بِوَكَالَةِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ لَا عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.