فصل: فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِصِفَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بِالْقَبْضِ، إذْ مَالِيَّةُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَةِ الْقَبْضِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَاجِعَةٌ إلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَتَصِيرُ كَزِيَادَةِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَلَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مَالِكِ الْقَابِضِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ فَيَمْلِكُهُ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ، وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَوْرُوثِ بَيْنَهُمَا وَقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشْتَرَكِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ الْقَابِضَ قَبَضَ نَصِيبَهُ لَكِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ (وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَ) لِمَا قُلْنَا (ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْبَاقِي) لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْمَقْبُوضِ لابد أَنْ يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:
أَخَّرَ بَيَانَ حُكْمِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ يَتْلُو الْمُفْرَدَ.
قَالَ (وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ إلَخْ) إذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ بِنِصْفِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ مِنْ الشَّرِيكِ، إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبْعَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لِشَرِيكِهِ فِي اتِّبَاعِ الْغَرِيمِ أَوْ شَرِيكِهِ الْقَابِضِ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ أَوْ غَيْرُهُمَا، لِأَنَّ الدَّيْنَ ازْدَادَ خَيْرًا بِالْقَبْضِ، إذْ مَالِيَّةُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَةِ الْقَبْضِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَاجِعَةٌ إلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَيَصِيرُ كَزِيَادَةِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَلَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الدَّيْنِ بِالْقَبْضِ كَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ لَمَا جَازَ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ لَكِنَّهُ: أَيْ الْمَقْبُوضَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ مُشَارَكَةَ الْقَابِضِ فِيهِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ فَيَمْلِكُهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ، عُرِفَ الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ مَبِيعٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِأَنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنٌ عَلَى حِدَةٍ فَبَاعَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنُ مَالٍ مُشْتَرَكٍ وَمَوْرُوثٍ مُشْتَرَكٍ وَقِيمَةٍ مُسْتَهْلَكٍ مُشْتَرَكٍ.
وَقَيَّدَ الصَّفْقَةَ بِالْوَحْدَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ رَجُلٍ بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَكًّا وَاحِدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّحَادِ الصَّكِّ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا وَيُقَالَ: إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ بَاعَاهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ نَصِيبَ فُلَانٍ مِنْهُ مِائَةٌ وَنَصِيبَ فُلَانٍ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، لِأَنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعِينَ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ نَصِيبَهُ خَمْسَمِائَةٍ بَخِّيَّةً وَنُصِيبُ الْآخَرِ خَمْسُمِائَةٍ سُودٌ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَهُ، لِأَنَّ بِالتَّسْمِيَةِ تَفَرَّقَتْ وَتَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَصْفًا، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَهُ لِأَنَّهُ شَرَطَ الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ قَالَ (إذَا عَرَفْنَا هَذَا) وَنَزَلَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ هَذَا إذَا كَانَ صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ ثُمَّ يَرْجِعَانِ بِالْبَاقِي عَلَى الْغَرِيمِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْمَقْبُوضِ لابد مِنْ بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ مِنْ الشَّرِكَةِ. قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ سِلْعَةً كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ كَامِلًا، لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالْحَطِيطَةِ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ دَفْعَ رُبْعِ الدَّيْنِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَخَيَّرُ الْقَابِضُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ.
وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتْبَعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ، فَلَوْ سَلَّمَ لَهُ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، وَلَوْ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَضٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَلَيْسَ بِقَبْضٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ كَانَتْ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ السِّهَامِ، وَلَوْ أَخَّرَ أَحَدَهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا عَيْنًا مِنْهُ أَوْ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَهُوَ قَبْضٌ وَالِاسْتِئْجَارُ بِنَصِيبِهِ قَبْضٌ، وَكَذَا الْإِحْرَاقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالتَّزَوُّجُ بِهِ إتْلَافٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ إلَخْ) وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ ثَوْبًا كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبْعَ الدَّيْنِ وَلَيْسَ الشَّرِيكُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِ رُبْعِ الدَّيْنِ وَنِصْفِ الثَّوْبِ كَمَا كَانَ فِي صُورَةِ الصُّلْحِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ مَا لَزِمَهُ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ كَمَلًا: أَيْ مِنْ غَيْرِ حَطِيطَةٍ وَإِغْمَاضٍ، لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَمِثْلُهُ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ وَالْإِغْمَاضُ وَالْحَطِيطَةُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ فِي الصُّلْحِ تَضْمِينَ رُبُعِ الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ تَضَرَّرَ فَيُخَيَّرُ الْقَابِضُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ أَمَّا كَانَ بِبَعْضِ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَقْبُوضِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَمْ يَقَعْ بِمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَلْ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، إذْ الْبَيْعُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَالْإِضَافَةُ إلَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ مِنْ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ إنْ تَحَقَّقَتْ لَا تُنَافِي ذَلِكَ، لِأَنَّ النُّقُودَ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ.
وَإِذَا ظَهَرَتْ الْمُقَاصَّةُ انْدَفَعَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَزِمَتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا، وَأَمَّا الصُّلْحُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُصَالِحِ شَيْءٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَكَانَ الشَّرِيكُ بِسَبِيلٍ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ (وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَّبِعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الصُّلْحِ عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ وَاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ بِالنُّقُودِ وَشِرَاءِ السِّلْعَةِ بِنَصِيبِهِ (لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ بَاقٍ، لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ) لِئَلَّا يَنْقَلِبَ مَالُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ خَلَفٌ بَاطِلٌ (فَلَوْ سَلَّمَ السَّاكِتُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ) فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ (لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ) كَمَا إذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَيْنٌ لِلْغَرِيمِ قَبْلَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَضٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ أَوَّلِهِمَا، إذْ الْعَكْسُ يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَالْقَضَاءُ لَا يَسْبِقُهُ (وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَلَيْسَ بِقَبْضٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ كَانَتْ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ السِّهَامِ) حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُمَا عَلَى الْمَدْيُونِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَأَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْخَمْسَةِ وَلِلسَّاكِتِ بِالْعَشَرَةِ (وَلَوْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) خِلَافًا لَهُمَا، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَةِ الِاخْتِلَافِ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَيْثُ ذُكِرَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَذَلِكَ سَهْلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ التَّأْخِيرَ لِكَوْنِهِ إبْرَاءً مُؤَقَّتًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ، وَقَالَا: يَلْزَمُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِاتِّصَافِ أَحَدِهِمَا بِالْحُلُولِ وَالْآخَرِ بِالتَّأْجِيلِ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِتَأْخِيرِ الْبَعْضِ هَلْ يَتَمَيَّزُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَطَلَ قَوْلُكُمْ وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِكَذَا وَكَذَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَعْضِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ التَّمْيِيزَ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُهُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِيهِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لِاسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ الِامْتِيَازَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ إبْرَاءُ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِهِ وَذِكْرُ الْإِبْرَاءِ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِكَوْنِ بَعْضِهِ مَطْلُوبًا وَبَعْضَهُ لَا فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ بِمَوْجُودٍ فَلَا قِسْمَةَ.
لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْقِسْمَةُ أَمْرًا وُجُودِيًّا لَزِمَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ رَفْعُ الِاشْتِرَاكِ أَوْ الِاتِّحَادِ أَوْ مَا شِئْت فَسَمِّهِ وَذَلِكَ عَدَمِيٌّ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْقِسْمَةُ إفْرَازُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَارْتِفَاعُ الشَّرِكَةِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ (وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا عَيْنًا مِنْهُ أَوْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَهُوَ قَبْضٌ) لِأَنَّ ضَمَانَ الْهَالِكِ قِصَاصٌ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ فَيَصِيرُ قَضَاءً لِلْأَوَّلِ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ الْغَرِيمِ بِنَصِيبِهِ دَارًا وَسَكَنَهَا فَأَرَادَ شَرِيكُهُ اتِّبَاعَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَضِيًا نَصِيبَهُ وَقَدْ قَبَضَ مَالَهُ حُكْمُ الْمَالِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ مَا عَدَا مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ الْمَنَافِعِ جُعِلَ مَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا (وَكَذَا الْإِحْرَاقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) وَصُورَتُهُ: مَا إذَا رَمَى النَّارَ عَلَى ثَوْبِ الْمَدْيُونِ فَأَحْرَقَهُ وَهُوَ يُسَاوِي نَصِيبَ الْمُحْرَقِ، وَأَمَّا إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ ثُمَّ أَحْرَقَهُ فَإِنَّ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُحْرِقَ بِالْإِجْمَاعِ.
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِحْرَاقَ إتْلَافٌ لِمَالٍ مَضْمُونٍ فَكَانَ كَالْغَصْبِ، وَالْمَدْيُونُ صَارَ قَاضِيًا لِنَصِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَيُجْعَلُ الْمُحْرِقُ مُقْتَضِيًا، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُتْلِفَ نَصِيبَهُ بِمَا صَنَعَ لَا قَابِضَ، لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ إتْلَافٌ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى نَفْسِ الْمَدْيُونِ حَتَّى سَقَطَ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَذَا إذَا جَنَى بِالْإِحْرَاقِ، وَإِذَا تَزَوَّجَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ حِصَّتِهِ شَيْئًا مَضْمُونًا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ فَكَانَ كَالْجِنَايَةِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ بِالنَّصِيبِ لَفْظًا فَهُوَ بِمِثْلِهِ مَعْنًى فَيَكُونُ دَيْنُ الْمَهْرِ الْوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ آخِرَ الدَّيْنَيْنِ فَيَصِيرُ قَضَاءً لِلْأَوَّلِ فَيَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ وَالِاقْتِضَاءُ، وَالصُّلْحُ عَلَى نَصِيبِهِ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ إتْلَافٌ كَالتَّزَوُّجِ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا قَابِلًا لِلشَّرِكَةِ بَلْ أَتْلَفَ نَصِيبَهُ.
قِيلَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَمْدًا لِأَنَّهُ فِي الْخَطَإِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ فِي الْإِيضَاحِ فَقَالَ: وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ عَلَى حِصَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْ الشَّرِيكَ شَيْءٌ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُوضِحَةِ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، وَأَرَى أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْشَ قَدْ يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فَلَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ، وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لابد مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى عَوْدِ السَّلَمِ بَعْدَ سُقُوطِهِ.
قَالُوا: هَذَا إذَا خَلَطَا رَأْسَ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ خَلَطَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ إلَخْ) إذَا أَسْلَمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَفْسَخَ عَقْدَ السَّلَمِ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا بِإِجَازَةِ الْآخَرِ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَمَا بَقِيَ مِنْ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَازَ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ، فَإِنَّ أَحَدَ الدَّائِنَيْنِ إذَا صَالَحَ الْمَدْيُونَ عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى بَدَلٍ جَازَ وَكَانَ الْآخَرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدْيُونِ بِنَصِيبِهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ بِجَامِعِ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إقَالَةٌ وَفَسْخٌ لِعَقْدِ السَّلَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فَإِمَّا أَنْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً أَوْ فِي النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ نَصِيبِهِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالتَّمْيِيزِ، وَلَا تَمْيِيزَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ لِتَنَاوُلِهِ بَعْضَ نَصِيبِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ الْمُتَنَازِعَ عَلَى شِرَاءِ الْعَبْدِ وَتَقْرِيرِهِ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ فَإِنَّا إذَا اخْتَرْنَا فِيهِ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ التَّرْدِيدِ لَمْ يَلْزَمْ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِيهِ فِي السَّلَمِ وَهُوَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ.
وَاسْتَظْهَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ إنَّمَا صَارَ وَاجِبًا بِعَقْدِ السَّلَمِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ جَازَ الصُّلْحُ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ يَرْجِعُ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي قَبَضَهُ الشَّرِيكُ حَيْثُ لَمْ يُسْلِمْ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَقَدْ كَانَ سَاقِطًا بِالصُّلْحِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ سُقُوطِهِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ، فَإِذَا شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِي النِّصْفِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَرِيمِ وَفِيهِ عَوْدُ الدَّيْنِ بَعْدَ سُقُوطِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَ الدَّيْنِ وَأَخْذُهُ يُؤْذِنُ بِتَقْرِيرِ الْمُبْدَلِ لَا بِسُقُوطِهِ، بَلْ يَتَقَاصَّانِ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَفِي السَّلَمِ يَكُونُ فَسْخًا وَالْمَفْسُوخُ لَا يَعُودُ بِدُونِ تَجْدِيدِ السَّبَبِ (قَالُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا (هَذَا) الِاخْتِلَافُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا إنَّمَا هُوَ (إذَا خَلَطَا رَأْسَ الْمَالِ) وَعَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَخْلِطَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَخْلُوطًا أَوْ غَيْرَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِي الْجَوَازِ، وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شِرْكَتِهِمَا فِي الْمَقْبُوضِ وَلَا مُشَارَكَةَ عِنْدَ انْفِرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمُنْشَأُ اخْتِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي صُورَةِ خَلْطِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي الْبُيُوعِ مَعَ ذِكْرِ الْخَلْطِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مَعَ تَصْرِيحِ عَدَمِ الْخَلْطِ أَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا قَبَضَ الْمُصَالِحُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ لِأَجْلِ الِاتِّفَاقِ.
وَقِيلَ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ: لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلشَّرِكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ هُوَ الشَّرِكَةُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ بِاتِّحَادِ الْعَقْدِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِيمَا خَلَطَا أَوْ لَمْ يَخْلِطَا.

.فَصْلٌ فِي التَّخَارُجِ:

(وَإِذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ وَالتَّرِكَةُ عَقَارٌ أَوْ عُرُوضٌ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ إيَّاهُ أَوْ كَثِيرًا) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا.
وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ صَالَحَ تَمَاضُرَ الْأَشْجَعِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رُبُعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ كَانَ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً فَهُوَ كَذَلِكَ) لِأَنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي وَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إنْ كَانَ جَاحِدًا يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لابد مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ (وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ) احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَرَضًا جَازَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَبَدَلُ الصُّلْحِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ أَيْضًا جَازَ الصُّلْحُ كَيْفَمَا كَانَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِلصَّرْفِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي التَّخَارُجِ) التَّخَارُجُ تَفَاعُلٌ مِنْ الْخُرُوجِ، وَهُوَ أَنْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ بِمَالٍ مَعْلُومٍ.
وَوَجْهُ تَأْخِيرِهِ قِلَّةُ وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَرْضَى أَحَدٌ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَيْنِ بِغَيْرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.
وَسَبَبُهُ طَلَبُ الْخَارِجِ مِنْ الْوَرَثَةِ ذَلِكَ عِنْدَ رِضَا غَيْرِهِ بِهِ، وَلَهُ شُرُوطٌ تُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَتَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الضَّوْءِ وَالرِّسَالَةِ.
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ إلَخْ) وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ حَالَ كَوْنِ التَّرِكَةِ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا جَازَ قَلَّ مَا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثُرَ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ النُّقُودِ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ سَنَذْكُرُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ إبْرَاءً لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ لَا يَصِحُّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ بَيْعًا لَشُرِطَ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ التَّرِكَةِ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْسِدُ الْبَيْعَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ تُفْسِدُ الْبَيْعَ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِمُقْتَضَى الْبَيْعِ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ فَلَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَصَارَ كَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا وَاشْتَرَاهُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مِقْدَارَهُ.
وَفِي جَوَازِ التَّخَارُجِ مَعَ جَهَالَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ أَثَرُ عُثْمَانَ.
وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَهِيَ تُمَاضِرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ، ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ وَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَوْلَادٌ فَحَظُّهَا رُبْعُ الثُّمُنِ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَلَمْ يُفَسَّرْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ.
وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي لَكِنْ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا غَيْرَ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إنْ كَانَ جَاحِدًا لِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ: أَيْ الْقَبْضِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ بِأَنْ يَكُونَ قَبْضَ أَمَانَةٍ أَوْ قَبْضَ ضَمَانٍ نَابَ أَحَدُهُمَا مَنَابَ الْآخَرِ، أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَالْمَضْمُونُ يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ دُونَ الْعَكْسِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّتُهَا مُقِرًّا فَإِنَّهُ لابد مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ إلَى مَكَان يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ (وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِيَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ) فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِنَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ بَطَلَ الصُّلْحُ لِوُجُودِ الرِّبَا، أَمَّا إذَا كَانَ مُسَاوِيًا فَلِزِيَادَةِ الْعُرُوضِ وَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَلِزِيَادَةِ الْعُرُوضِ وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَفِيهِ شُبْهَةُ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ أَيْضًا لِمَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ حِصَّتَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ.
وَقِيلَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ عَلَى مِثْلِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدَّرَاهِمِ حَالَةَ التَّصَادُقِ، أَمَّا إذَا ادَّعَتْ مِيرَاثَ زَوْجِهَا وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجِيَّةَ فَصَالَحُوهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ جَازَ، لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهَا حِينَئِذٍ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا (وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَرْضًا جَازَ مُطْلَقًا) قَلَّ أَوْ كَثُرَ وُجِدَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَبَدَلُ الصُّلْحِ كَذَلِكَ جَازَ كَيْفَمَا كَانَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، لَكِنْ لابد مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ صَرْفًا. قَالَ (وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْمُصَالِحَ عَنْهُ وَيَكُونَ الدَّيْنُ لَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ (وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَهُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذِهِ حِيلَةُ الْجَوَازِ، وَأُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مُتَبَرِّعِينَ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.
وَالْأَوْجُهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوا عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ.
وَيُجِيلهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَقِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَكِنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَيْعًا إذْ الْمُصَالَحُ عَنْهُ عَيْنٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِقِيَامِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ فِي يَدِ الْبَقِيَّةِ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَلَا الْقِسْمَةُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا الْوَارِثُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحُوا مَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهُ فَتُقَدَّمُ حَاجَةُ الْمَيِّتِ، وَلَوْ فَعَلُوا قَالُوا يَجُوزُ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَتَجُوزُ قِيَاسًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ إلَخْ) وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ صَالَحَ عَنْ الدَّيْنِ وَيَكُونُ الدَّيْنُ لَهُمْ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ، وَأَمَّا فِي الْعَيْنِ فَلِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ.
وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِطُوا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ (وَأُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ مُتَبَرِّعِينَ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ) أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لُزُومُ النَّقْدِ عَلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ نَسِيئَةٌ وَالنَّقْدُ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ (وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوا عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ وَيُحِيلُ الْوَرَثَةَ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا) وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ بِأَنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الصُّلْحِ أَوْ أَقَلُّ (وَقِيلَ يَجُوزُ) وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ أَوْ أَقَلَّ فَفِيهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ (وَلَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَكِنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ) فَصَالَحُوا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (قِيلَ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَيْعًا) إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً (لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ عَيْنٌ) وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَ بَيْعًا كَانَتْ الْجَهَالَةُ مَانِعَةً (وَقِيلَ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُفْضِيَةٍ إلَى النِّزَاعِ لِقِيَامِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ فِي يَدِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ) فَمَا ثَمَّةَ احْتِيَاجٌ إلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى النِّزَاعِ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ التَّرِكَةِ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ وَلَا يَعْلَمُونَ مِقْدَارَهُ لَمْ يَجُزْ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ غَيْرَهُ؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَلَا الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَمْ يَتَمَلَّكْ التَّرِكَةَ، وَفِي الثَّانِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحُوا مَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهُ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ فَعَلُوا قَالُوا يَجُوزُ.
وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ إنَّهَا لَا تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَتَجُوزُ قِيَاسًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ تَمَلُّكَ الْوُرَّاثِ، إذْ مَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ قَبْلَ قَضَائِهِ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّرِكَةَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ فَتُقْسَمُ نَفْيًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كتاب المضاربة:

الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ؛ سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَبَيْنِ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ عَنْهُ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِيَنْتَظِمَ مَصْلَحَةُ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ.
وَبُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ، وَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لِتَمَلُّكِهِ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا فَسَدَتْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ حَتَّى اسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ.
قَالَ (الْمُضَارَبَةُ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ) وَمُرَادُهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ (وَالْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ) وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ لَوْ شُرِطَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً، وَلَوْ شُرِطَ جَمِيعُهُ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا.
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا وَقَالَ بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ لَهُ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِك حَيْثُ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ لَكِنْ يَقَعُ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْآمِرِ فَيَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعَرَضِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ:
قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَارِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ (وَالْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ)؛ وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَالِبًا طَلَبًا لِلرِّبْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَفِي الِاصْطِلَاحِ: دَفْعُ الْمَالِ إلَى مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا (وَمَشْرُوعِيَّتهَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَبَيْنَ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ) أَيْ خَالِي الْيَدِ عَنْ الْمَالِ فَكَانَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا انْتِظَامُ مَصْلَحَةِ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ سَبَبِ الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا.
وَرُكْنُهَا اسْتِعْمَالُ أَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ: دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً أَوْ مُعَامَلَةً أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ أَوْ اعْمَلْ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَكَذَا.
وَشُرُوطُهَا نَوْعَانِ: صَحِيحَةٌ وَهِيَ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ، وَفَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ.
وَحُكْمُهَا الْوَكَالَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالشَّرِكَةُ بَعْدَ الرِّبْحِ (قَوْلُهُ وَبُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيَانُ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ (وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ) عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ «الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ إذَا دَفَعَ مُضَارَبَةً شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَأَنْ لَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْسَنَهُ».
وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُعَايِنُهُ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ عَلَى مَا عُلِمَ (وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ) مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا.
قَالَ (ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إلَخْ) الْمَدْفُوعُ إلَى الْمُضَارِبِ مِنْ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَكُلُّ مَقْبُوضٍ كَذَلِكَ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ، فَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لِتَمَلُّكِهِ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ بِعَمَلِهِ وَهُوَ شَائِعٌ فَيُشْرِكُهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ فَيَصِيرُ مَا شَرَطَ مِنْ الرِّبْحِ كَالْأُجْرَةِ عَلَى عَمَلِهِ فَلِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْإِجَارَةِ إذَا فَسَدَتْ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ.
قَالَ (الْمُضَارَبَةُ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَخْ) هَذَا تَفْسِيرُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ، وَكَانَ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ لِأَنَّهُ قَالَ: عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِيمَا ذَا؟ فَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَمُرَادُهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ لَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ الرِّبْحِ: أَيْ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَمَلِ مِنْ جَانِبِ الْمُضَارِبِ، وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهَا: أَيْ بِدُونِ الشَّرِكَةِ إشَارَةً إلَى انْتِفَاءِ الْعَقْدِ بِانْتِفَائِهَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِ الشَّرِكَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ لَوْ شُرِطَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً، وَلَوْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَوْ فُلُوسًا رَائِجَةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِمَا سِوَاهَا لَا تَجُوزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَرْضًا وَقَالَ بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ: يَعْنِي أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْكِيلِ، وَالْإِجَارَةُ بِالرَّاءِ وَالْإِجَازَةُ بِالزَّايِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْكُلُّ الْجُزْءَ فَلَا مَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِك فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ هَذَا التَّوْكِيلَ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ: أَيْ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ إلَخْ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْمُشْتَرِي وَالدَّيْنُ بِحَالِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي كَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَصِحُّ وَلَكِنْ يَقَعُ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْآمِرِ فَيَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعَرْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ (وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً) مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا بُدَّ مِنْهَا كَمَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) لِفَسَادِهِ فَلَعَلَّهُ لَا يَرْبَحُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَتَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْ لِفَسَادِهِ، وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ وَلَا تُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ، وَيَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَجْرَ الْأَجِيرِ يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ أَوْ الْعَمَلِ وَقَدْ وُجِدَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا فَوْقَهَا، وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ اعْتِبَارًا بِالصَّحِيحَةِ، وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي يَدِهِ، وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهُ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا إلَخْ) وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ مِنْ الرِّبْحِ مُسَمَّاةً لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ يُنَافِي الشَّرِكَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِجَوَازِهَا، وَالْمُنَافِي لِشَرْطِ جَوَازِ الشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ انْتَفَى الْآخَرُ كَمَا إذَا ثَبَتَ الْوُجُودُ انْتَفَى الْعَدَمُ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِفَسَادِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَتَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ وَهَذَا) أَيْ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ (لِأَنَّهُ) عَمِلَ لِرَبِّ الْمَالِ بِالْعَقْدِ وَ (ابْتَغَى بِهِ عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ) وَلَا بُدَّ مِنْ عِوَضِ مَنَافِعَ تَلِفَتْ بِالْعَقْدِ (وَ) لَيْسَ ذَلِكَ فِي الرِّبْحِ (لِكَوْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ) فَتَعَيَّنَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ (وَلَا تُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجِبُ) بَالِغًا مَا بَلَغَ (كَمَا بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَأُجْرَةُ الْأَجِيرِ تَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ) كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ فَإِنَّ فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ تَسْلِيمَ مَنَافِعِهِ (أَوْ) بِتَسْلِيمِ (الْعَمَلِ) كَمَا فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ (وَقَدْ وُجِدَ) ذَلِكَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ) لَهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يَرْبَحْ (اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ) فَإِنَّهُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا (مَعَ أَنَّهَا فَوْقَ الْفَاسِدَةِ) فَفِي الْفَاسِدَةِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: مَا جَوَابُ وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الصَّحِيحِ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ إذَا كَانَ انْعِقَادُ الْفَاسِدَةِ مِثْلَ انْعِقَادِ الْجَائِزِ كَالْبَيْعِ، وَهَاهُنَا الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً لَا إجَارَةً، وَالْفَاسِدَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً فَتُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عِنْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالصَّحِيحَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَيْنٌ اُسْتُؤْجِرَ الْمُضَارِبُ لِيَعْمَلَ بِهِ هُوَ لَا غَيْرُهُ، وَلَا يَضْمَنُ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ أَجِيرِ الْوَحْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَجِيرٌ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِآخَرَ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا يُمْكِنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ.
وَقِيلَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَضْمَنُ إذَا تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَحَّتْ أَوْ فَسَدَتْ أَمَانَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ عِنْدَهُ مُضَارَبَةً فَقَدْ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا وَلَهُ وِلَايَةُ جَعْلِهِ أَمِينًا.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَمِنْهَا مَا يُبْطِلُ فِي نَفْسِهِ وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ إلَى ذَلِكَ بِأَمْرٍ جُمْلِيٍّ فَقَالَ (وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ) كَمَا إذَا قَالَ لَك نِصْفُ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثُهُ وَشَرَطَا أَنْ يَدْفَعَ الْمُضَارِبُ دَارِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِيَسْكُنَهَا أَوْ أَرْضَهُ سَنَةً لِيَزْرَعَهَا (فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ) وَهُوَ الرِّبْحُ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ وَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَمَلِ مَجْهُولَةً (وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا وَيُفْسِدُ الشَّرْطَ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ) أَوْ عَلَيْهِمَا.
وَالْوَضِيعَةُ اسْمٌ لِجُزْءٍ هَالِكٍ مِنْ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ غَيْرَ رَبِّ الْمَالِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ الْجَهَالَةَ فِي الرِّبْحِ لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ.
قِيلَ شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ وَلَا يَبْطُلُ فِي نَفْسِهِ بَلْ يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ كَمَا سَيَجِيءُ فَلَمْ تَكُنْ الْقَاعِدَةُ مُطَّرِدَةً.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَالَ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا: أَيْ الْمُضَارَبَةَ، وَإِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُضَارَبَةٍ، وَسَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ الْمَعْدُومِ صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ زِيدَ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِبَصِيرٍ، وَقَوْلُهُ (بَعْدَ هَذَا بِخُطُوطٍ) وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ مَعْنَاهُ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِهِ. قَالَ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ وَلَا يَدَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ) لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْعَمَلَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْلُصَ الْمَالُ لِلْعَامِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
أَمَّا الْعَمَلُ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَوْ شَرَطَ خُلُوصَ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ تَنْعَقِدْ الشَّرِكَةُ، وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ خُلُوصَ يَدِ الْمُضَارِبِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ لَهُ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُضَارِبِ، وَكَذَا أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَاقِدِ مَعَ الْمُضَارِبِ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ يُفْسِدُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا فَكَذَا اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِمَا بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ إلَخْ) لابد أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُسَلَّمًا إلَى الْمُضَارِبِ وَلَا يَدَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ بِتَصَرُّفٍ أَوْ عَمَلٍ، لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ جَانِبٍ وَالْعَمَلَ مِنْ جَانِبٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّخَلُّصِ لِلْعَمَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَبَقَاءُ يَدِ غَيْرِهِ يَمْنَعُ التَّخَلُّصَ.
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فَالْعَمَلُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَوْ شَرَطَ خُلُوصَ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا انْتَفَى الشَّرِكَةُ وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ إذَا دَفَعَ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مَالَهُ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ لَهُ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُضَارِبِ، وَكَذَا أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهِ فَسَدَتْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا، وَإِذَا شَرَطَ الْعَاقِدُ الْغَيْرُ الْمَالِكِ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمُضَارَبَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا دَفَعَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَا الْعَمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ جَازَتْ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً فَكَانَا كَالْأَجْنَبِيِّ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَالْمَأْذُونِ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً فَسَدَتْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَلَكِنَّ يَدَ تَصَرُّفِهِ ثَابِتَةٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَرُّفِ فَكَانَ قِيَامُ يَدِهِ مَانِعًا عَنْ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ وَيُودِعَ) لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْعَقْدُ صُنُوفَ التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَكَذَا الْإِبْضَاعُ وَالْإِيدَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى، كَيْفَ وَأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ.
وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ دَفَعَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ (وَلَا يُضَارِبُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك) لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوْ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ إلَيْهِ وَكَانَ كَالتَّوْكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا إذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك، بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ وَالْإِبْضَاعِ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَيَتَضَمَّنُهُ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَاضِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ.
وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ وَهُوَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ وَهُوَ الرِّبْحُ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، أَمَّا الدَّفْعُ مُضَارَبَةً فَمِنْ صَنِيعِهِمْ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْقَوْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ مَا لَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان نَحْوُ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَيَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ سَائِرِ التِّجَارَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ، فَالْعَقْدُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ صُنُوفِهَا وَيَصْنَعُ مَا هُوَ صُنْعُ التُّجَّارِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ فَيُوَكِّلُ وَيُبْضِعُ وَيُودِعُ لِأَنَّهَا مِنْ صَنِيعِهِمْ وَيُسَافِرُ، لِأَنَّ الْمُسَافَرَةَ أَيْضًا مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَلَفْظُ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ يُمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ دُفِعَ إلَيْهِ فِي بَلَدِ الْمُضَارِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَدِيمُ الْغُرْبَةَ مَعَ إمْكَانِ الرُّجُوعِ، فَلَمَّا أَعْطَاهُ عَالِمًا بِغُرْبَتِهِ كَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُسَافَرَةِ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى وَطَنِهِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يُرِيدُ قَوْلَهُ وَالْمُسَافَرَةُ: يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُضَارِبَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ) وَلَا يَرِدُ جَوَازُ إذْنِ الْمَأْذُونِ لِعَبْدِهِ وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْإِجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ فَإِنَّهَا أَمْثَالٌ لِمَا يُجَانِسُهَا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ أَمْثَالَهَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَضَمَّنَتْ الْأَمَانَةَ أَوَّلًا وَالْوَكَالَةَ ثَانِيًا، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ الْإِيدَاعُ وَالتَّوْكِيلُ فَكَذَا الْمُضَارِبُ لَا يُضَارِبُ غَيْرُهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْبَوَاقِي سَيَجِيءُ فِي مَوَاضِعِهَا (بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ وَالْإِبْضَاعِ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فَيَتَضَمَّنُهُمَا، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَاضِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهِ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ الْإِقْرَاضُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَرْضِ، وَأَمَّا الدَّفْعُ مُضَارَبَةً وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ فَمِنْ صَنِيعِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْقَوْلِ) يَعْنِي قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَالْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ يَحْصُلُ بِهَا تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ عَلَى جِهَةِ الْعَدَمِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ جِهَتَيْ الْجَوَازِ وَالْعَدَمِ صَالِحٌ لِلْعِلِّيَّةِ فَلَا يَتَرَجَّحُ غَيْرُهَا بِهَا كَمَا عُرِفَ قَالَ (وَإِنْ خَصَّ لَهُ رَبُّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ.
وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَيَتَخَصَّصُ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِضَاعَةً إلَى مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ.
قَالَ (فَإِنْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَاشْتَرَى ضَمِنَ) وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَهُ رِبْحُهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى رَدَّهُ إلَى الْكُوفَةِ وَهِيَ الَّتِي عَيَّنَهَا بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ثُمَّ تَرَكَ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، وَكَذَا إذَا رَدَّ بَعْضَهُ وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي الْمِصْرِ كَانَ الْمَرْدُودُ وَالْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ شَرَطَ الشِّرَاءَ بِهَا هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ ضَمِنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالشِّرَاءِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ احْتِمَالِ الرَّدِّ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ، أَمَّا الضَّمَانُ فَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الشِّرَاءَ لِلتَّقَرُّرِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفِيدُ التَّقْيِيدُ، إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالنَّهْيِ بِأَنْ قَالَ اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِ السُّوقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ وَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، وَكَذَا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، أَوْ قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ أَوْ قَالَ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، أَمَّا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشُورَةِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَوْ دَفَعَ فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ، وَفَائِدَةَ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ خَصَّ لَهُ رَبُّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ سِلْعَةً بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ) وَالتَّوْكِيلُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ يَخْتَصُّ بِهِ (وَفِي التَّخْصِيصِ) فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ (فَائِدَةٌ) مِنْ حَيْثُ صِيَانَةُ الْمَالِ عَنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ وَصِيَانَةُ الْمُضَارِبِ وَتَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَفِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا لَمْ يُسَافِرْ فَيَجِبُ رِعَايَتُهَا تَوْفِيرًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْضِعَ مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ خَرَجَ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَاشْتَرَى ضَمِنَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي وَرِبْحُهُ لَهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ بِخِلَافِ أَمْرِهِ) فَصَارَ غَاصِبًا (وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ وَرَدَّهُ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي عَيَّنَهُ سَقَطَ الضَّمَانُ كَالْمُودَعِ الْمُخَالِفِ إذَا تَرَكَ الْمُخَالَفَةَ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ) فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَائِلَةٌ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَزُلْ، لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالشِّرَاءِ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ رَجَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهَا زَالَتْ زَوَالًا مَوْقُوفًا حَيْثُ ضَمِنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ (وَإِذَا اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ مِنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الَّذِي عَيَّنَهُ كَانَ الْمَرْدُودُ وَالْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا) مِنْ الْبَقَاءِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِيهِ وَبِبَعْضٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا اشْتَرَاهُ فِي غَيْرِهِ وَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا لِبَعْضِ الْمَالِ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا بَقِيَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيفُهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْءَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ مَوْضُوعٌ إذَا اسْتَلْزَمَ ضَرَرًا، وَلَا ضَرَرَ عِنْدَ الضَّمَانِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَبْسُوطِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالشِّرَاءِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ احْتِمَالِ الرَّدِّ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ، أَمَّا الضَّمَانُ فَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الشِّرَاءَ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (لِلتَّقَرُّرِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِالنَّهْيِ فَقَالَ اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ وَالْوِلَايَةِ إلَيْهِ) وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا تَبِيعَ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ صَحَّ وَلَمْ يُعَدَّ مُخَالِفًا وَجَوَابُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَيْدَ الْمُفِيدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَّبَعٌ وَغَيْرُهُ كَذَلِكَ لَغْوٌ وَالْمُفِيدُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مُتَّبَعٌ عِنْدَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ وَلَغْوٌ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْهُ، فَالْأَوَّلُ كَالتَّخْصِيصِ بِبَلَدٍ وَسِلْعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي كَصُورَةِ النَّقْضِ فَإِنَّ الْبَيْعَ نَقْدًا بِثَمَنٍ كَانَ ثَمَنُ النَّسِيئَةِ خَيْرٌ لَيْسَ إلَّا فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُضِرًّا.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالنَّهْيِ عَنْ السُّوقِ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْبَلَدَ ذَاتُ أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ الْحِفْظَ عَلَى الْمُودَعِ فِي مَحَلِّهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْأَسْعَارُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهِ، وَغَيْرُ مُفِيدٍ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ كَمَا كَانَ وَاحِدٌ كَمَا إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي السَّلَمِ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْمِصْرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَحَلَّةَ فَاعْتَبَرْنَاهُ حَالَةَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ لِوِلَايَةِ الْحَجْرِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ إلَخْ) ذَكَرَ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ: وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ: وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا: أَيْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ مَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى التَّخْصِيصِ وَمَا لَا يَدُلُّ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ: سِتَّةٌ مِنْهَا تُفِيدُ التَّخْصِيصَ وَاثْنَانِ مِنْهَا تُعْتَبَرُ مَشُورَةً، وَالضَّابِطُ لِتَمْيِيزِ مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ عَمَّا لَا يُفِيدُهُ هُوَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَعْقَبَ لَفْظَ الْمُضَارَبَةِ كَلَامًا لَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَيَصِحُّ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِئَلَّا يَلْغُوَ، وَإِذَا أَعْقَبَهُ مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ لَمْ يُجْعَلْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ لِانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، أَوْ قَالَ خُذْهُ تَعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ مَجْزُومًا وَمَرْفُوعًا، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَحْتَمِلُهُمَا، أَوْ قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ أَوْ قَالَ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ أَوْ قَالَ لِتَعْمَلَ بِهِ بِالْكُوفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعْمَلُ بِهِ بِالرَّفْعِ يُعْطِي مَعْنَاهُ فَقَدْ أَعْقَبَ لَفْظَ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ بِقَوْلِهِ تَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ لَكِنَّهُ يَصِحُّ جَعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ شَرْطًا وَالْمُفِيدُ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ، وَهَذَا يُفِيدُ صِيَانَةَ الْمَالِ فِي الْمِصْرِ، وَقَوْلُهُ (تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَقَوْلُهُ (فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ) فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِيهَا لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ وَالْمُتَّصِلُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْمُبْهَمِ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَيَقْتَضِي الْإِلْصَاقَ مُوجِبُ كَلَامِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَالِ مُلْصَقًا بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهَا، وَإِذَا قَالَ دَفَعْت إلَيْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ اعْمَلْ بِالْكُوفَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ أَوْ بِهِ فَقَدْ أَعْقَبَ مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ، أَمَّا بِغَيْرِ الْوَاوِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَاعْتُبِرَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيُجْعَلُ مَشُورَةً كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا كَانَ أَنْفَعَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَجْعَلُ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ؟ أُجِيبَ بِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا حَالَ الْأَخْذِ، وَلَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَضَاءً وَاقْتِضَاءً وَمُنَاقَشَةً فِي الْحِسَابِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ دَفَعَ فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ جَازَ، لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْكُوفَةُ، وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ رَجُلٍ كُوفِيٍّ.
وَفَائِدَةُ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ وَهُوَ الصَّرْفُ وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ لَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ) يَعْنِي غَيْرَ الْمَكَانِ فِي الْأَوَّلِ، وَالنَّوْعُ فِي الثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَيَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَمَّا يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَإِنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهُ مِنْ كُوفِيٍّ لَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ قَدْ يُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ الْمَنْعُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْكُوفَةِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ الْمُعَامَلَةَ فِي الصَّرْفِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ مَعَ تَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعُ الصَّرْفِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ وَقْتًا بِعَيْنِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّهِ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَيَتَوَقَّتُ بِمَا وَقَّتَهُ وَالتَّوْقِيتُ مُفِيدٌ وَأَنَّهُ تَقْيِيدٌ بِالزَّمَانِ فَصَارَ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْمَكَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ) مَعْنَاهُ أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالزَّمَانِ مُفِيدٌ فَكَانَ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْمَكَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِقَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ بِالتَّصَرُّفِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لِعِتْقِهِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمُضَارَبَةِ شِرَاءُ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالشِّرَاءِ بِالْمَيْتَةِ.
بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ.
قَالَ (وَلَوْ فَعَلَ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي نَفَذَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ يُعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَيُفْسِدُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ أَوْ يُعْتِقُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ ضَمِنَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِالنَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ، إذْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ لِيُعْتَقَ عَلَيْهِ (فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ) لِمِلْكِهِ بَعْضَ قَرِيبِهِ (وَلَمْ يَضْمَنْ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا) لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْ جِهَتِهِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَلَا فِي مِلْكِهِ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ (وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهُ) لِأَنَّهُ اُحْتُسِبَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ فَيَسْعَى فِيهِ كَمَا فِي الْوَرَثَةِ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَوَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ صَحِيحَةٌ فِي الظَّاهِرِ حَمْلًا عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَعْنِي الْأُمَّ وَالْوَلَدَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَارَ أَعْيَانًا كُلُّ عَيْنٍ مِنْهَا يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ كَذَا هَذَا، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ الْآنَ ظَهَرَ الرِّبْحُ فَنَفَذَتْ الدَّعْوَةُ السَّابِقَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ ثُمَّ ازْدَادَتْ الْقِيمَةُ.
لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ، فَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، أَمَّا هَذَا فَإِخْبَارٌ فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ عَتَقَ الْوَلَدُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إلَيْهِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي وَلَمْ يُوجَدْ (وَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ) لِأَنَّهُ اُحْتُبِسَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالْخَمْسَمِائَةِ رِبْحٌ وَالرِّبْحَ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ.
ثُمَّ إذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَتَوَقَّفَ نَفَاذُهَا لِفَقْدِ الْمِلْكِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمِلْكُ نَفَذَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ كَذَا هَذَا؛ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إلَخْ) وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِقَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَالْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّصَرُّفِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ لِعِتْقِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ.
وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ مُطْلَقًا إنْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبْحَ الْمُحْتَاجَ إلَى تَكَرُّرِ التَّصَرُّفِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْوَكَالَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَبِيعُهُ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَانَ مُخَالِفًا، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ هَذَا الْعَقْدِ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ لَا يُدْخِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ شِرَاءَ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَالْخَمْرِ وَالشِّرَاءِ بِالْمَيِّتَةِ لِانْتِفَاءِ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ بَيْعَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَيَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ، وَلَوْ فَعَلَ أَيْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي نَفَذَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ، وَقَوْلُهُ (مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا) احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فَإِنَّ شِرَاءَهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَالْمَوْلَى، ثُمَّ إنْ كَانَ نَقْدُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَتَخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا شِرَاءُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى الْمُضَارِبِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ وَيَفْسُدُ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ لِانْتِفَاءِ جَوَازِ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَسْعًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ يَعْتِقُ الْكُلُّ عِنْدَهُمَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ ضِمْنَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ إنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حَيْثُ لَا شَرِكَةَ لَهُ، فَإِذَا ازْدَادَتْ قِيمَتُهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ لِتَمَلُّكِهِ بَعْضَ قَرِيبِهِ، وَلَمْ يَضْمَنْ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا لِأَنَّ ازْدِيَادَ الْقِيمَةِ وَتَمَلُّكُهُ الزِّيَادَةَ: أَيْ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ، كَامْرَأَةٍ اشْتَرَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فَمَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأَخًا عَتَقَ نَصِيبُ الزَّوْجِ وَلَا يَضْمَنُ لِأَخِيهَا شَيْئًا لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ وَحِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَيَسْعَى الْعَبْدُ فِيهِ كَمَا فِي الْوِرَاثَةِ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ إلَخْ) وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَوَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ لِنَفْيِ شُبْهَةٍ هِيَ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ صَحِيحَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِصُدُورِهَا مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا حَمْلًا عَلَى الْفِرَاشِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْبَائِعُ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْهُ فَوَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ لَكِنَّهُ: أَيْ الِادِّعَاءَ لَمْ يَنْفُذْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمِّ وَالْغُلَامِ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَارَ أَعْيَانًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ فِي الْجَارِيَةِ مِلْكٌ وَبِدُونِ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْوَلَدِ فَتَبْقَى كَذَلِكَ وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ كُلُّهُ رِبْحًا.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَرَسَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا كَانَ لَهُ رُبْعُهُمَا حَتَّى لَوْ وَهَبَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهُ صَحَّ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَعَيُّنَهَا كَانَ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ لَا لِأَنَّهَا رَأْسُ الْمَالِ، فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الدَّرَاهِمُ وَبَعْدَ الْوَلَدِ تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَذَهَبَ تَعَيُّنُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِ فَاشْتَغَلَا بِرَأْسِ الْمَالِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْيَانًا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْفَرَسَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ يُقْسَمَانِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا اُعْتُبِرَا جُمْلَةً حَصَّلَ الْبَعْضَ رِبْحًا، بِخِلَافِ الْعَبْدَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يُقْسَمَانِ جُمْلَةً بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَالِهِ لِيَكُونَ الرَّقِيقُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ: وَإِذَا امْتَنَعَتْ الْقِسْمَةُ لَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ عَلَى مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَدْ ظَهَرَ الرِّبْحُ وَنَفَذَتْ الدَّعْوَةُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ سَبَبَهَا كَانَ مَوْجُودًا وَهُوَ فِرَاشُ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَنْفُذْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الْمِلْكِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ صَارَ نَافِذًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَ الْوَلَدُ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ وَلَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِخْبَارٌ فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ حُدُوثِهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَةُ وَنَفَذَتْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَعَتَقَ الْوَلَدُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا.
وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْمُسْكِرِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ، وَإِنْ انْتَفَى الضَّمَانُ بَقِيَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ وَالْإِعْتَاقِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلْعِتْقِ، فَإِنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَخَمْسَمِائَةٍ رِبْحٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ.
قِيلَ لِمَ لَا تُجْعَلُ الْجَارِيَةُ رَأْسَ الْمَالِ وَالْوَلَدُ كُلُّهُ رِبْحًا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ بِالسِّعَايَةِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَالْجَارِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ تَعْيِينُ الْأَلْفِ مِنْ السِّعَايَةِ لِرَأْسِ الْمَالِ أَنْسَبَ لِلتَّجَانُسِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْجَارِيَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْوَلَدِ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الرِّبْحِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَمَلَّكَ الْمُدَّعِي نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا بِجَعْلِهَا أُمَّ وَلَدٍ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَيَضْمَنُ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا بَلْ يَعْتَمِدُ التَّمَلُّكَ وَقَدْ حَصَلَ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، كَالْأَخِ تَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ أَخِيهِ فَاسْتَوْلَدَهَا فَمَاتَ الْمُزَوِّجُ وَتَرَكَ الْجَارِيَةَ مِيرَاثًا بَيْنَ الزَّوْجِ وَأَخٍ آخَرَ فَمَلَكَهَا الزَّوْجُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ وَهُوَ إتْلَافٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ صُنْعِهِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْعُقْرَ وَهُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ فَصَارَ كَالْكَسْبِ.