فصل: كتاب العارية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.كتاب العارية:

قَالَ: (الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ وَقَدْ «اسْتَعَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» (وَهِيَ تُمْلِيك الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَلِذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهَا النَّهْيُ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ.
وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ: بِعِوَضٍ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ، فَكَذَا الْمَنَافِعُ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَهِيَ تَمْلِيكٌ.
وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً.
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ، وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ فَلَا يَتَحَصَّلُ الْمَنَافِعَ عَلَى مِلْكِهِ.
وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك)؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ (وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ (وَمَنَحَتْك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ تُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا.
قَالَ (وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ)؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ (وَدَارِي لَك سُكْنَى)؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك (وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمُرِهِ.
وَجَعَلَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ آخِرِهِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْعَارِيَّةِ:
قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ لِمَا قَبْلَهُ, وَمِنْ مَحَاسِنِهَا دَفْعُ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ: قِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّنَاوُبُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ, وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهِ اصْطِلَاحًا فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ (هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ, وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ) قِيلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ (لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ، وَالنَّهْيُ يَعْمَلُ فِيهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ) وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إبَاحَةٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بِضَرْبِ الْمُدَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَجْهُولِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْمُعِيرَ يَمْلِكُ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمَا مَلَكَهُ كَالْأَجِيرِ لَا يَمْلِكُ نَهْيَ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ الِانْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْتَأْجَرَ لِتَمَلُّكِهِ الْمَنَافِعَ، فَلَوْ كَانَتْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكًا لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ (وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ) وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ تَمْلِيكًا (وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَلَّكْتُك مَنْفَعَةَ دَارِي هَذِهِ شَهْرًا وَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَنَافِعُ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَلَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ) وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ (وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ) وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ (ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ فَكَذَا الْمَنَافِعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَرِّفُ إذَا عَرَّفَ شَيْئًا بِالْجَامِعِ وَالْمَانِعِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ النَّقْضِ فَذَاكَ، وَإِنْ اُنْتُقِضَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعِ أَوْ مَانِعٍ يُجَابُ عَنْ النَّقْضِ إنْ أَمْكَنَ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقَاتِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَالْمَوْضُوعَاتُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَوْضُوعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّيًا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ رَسْمِيٌّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا ذُكِرَ فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ وَعَرَّفْنَاهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ.
وَوُجِّهَ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهَا تَمْلِيكًا قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِعَدَمِ اللُّزُومِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَارِيَّةِ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ يَعْمَلُ النَّهْيُ فِيهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ عَمَلَ النَّهْيِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِالنَّهْيِ يُمْنَعُ الْمُسْتَعِيرُ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ يَتَمَلَّكْهَا بَعْدُ، وَلَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ: أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ كَمَا فِي الْهِبَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا أَوْ حُكْمِهَا.
وَشَرْطُهَا قَابِلِيَّةُ الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا.
وَسَبَبُهَا مَا مَرَّ مِرَارًا مِنْ التَّعَاضُدِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ الْمَدَنِيِّ بِالطَّبْعِ، وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ نَوْعُ إحْسَانٍ, وَقَدْ «اسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَإِنَّمَا قَدَّمَ بَيَانَ الْجَوَازِ عَلَى تَفْسِيرِهَا لِشِدَّةِ تَعَلُّقِ الْفِقْهِ بِهِ.
قَالَ (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك إلَخْ) هَذَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْعَارِيَّة وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ: أَيْ حَقِيقَةٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ.
قِيلَ أَيْ مَجَازٌ فِيهِ، وَفِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَنَّهُ مَجَازٌ فَهُوَ صَرِيحٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ وَالْمَجَازُ الْمُتَعَارَفُ صَرِيحٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ: كِلَاهُمَا صَرِيحٌ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ فَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ: أَيْ مَجَازٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآخَرَ حَقِيقَةٌ وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ: أَيْ أَعْطَيْتُك الْمِنْحَةَ وَهِيَ النَّاقَةُ: أَيْ أَوْ الشَّاةُ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ لِيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إذَا ذَهَبَ دَرُّهَا ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ فِي كُلِّ مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مُنِحَ، وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ: أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا الْهِبَةُ لِأَنَّهَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ عُرْفًا، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ الْعَامُّ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْدَامِ وَهِيَ الْعَارِيَّةُ، وَدَارِي سُكْنَى لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك وَهِيَ الْعَارِيَّةُ، وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ قَوْلِهِ لَك، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَك يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا مَيَّزَهُ تَعَيَّنَ فِي الْمَنْفَعَةِ فَحُمِلَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِدَلَالَةِ آخِرِهِ حُمِلَ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ. قَالَ: (وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِمَا عَرَفْت أَنَّ الْمِنْحَةَ عَارِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَفِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ وَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ عَنْهُ. قَالَ: (وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيَضْمَنُهُ، وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا لِنَقْضِ الْقَبْضِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ إلَخْ) إنْ هَلَكَتْ الْعَارِيَّةُ، فَإِنْ كَانَ بِتَعَدٍّ كَحَمْلِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَحْمِلُهُ مِثْلُهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا اسْتِعْمَالًا لَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهَا مِنْ الدَّوَابِّ أَوْجَبَ الضَّمَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ، فَيَضْمَنُ قَوْلُهُ لِنَفْسِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ قَبْضَ الْمُودَعِ فِيهَا لِأَجْلِ الْمُودِعِ لَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ) أَيْ لَا عَنْ اسْتِيجَابِ قَبْضٍ بِحَيْثُ لَا يَنْقُضُهُ الْآخَرُ بِدُونِ رِضَاهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْبِضُ الْمُسْتَأْجَرَ لِحَقٍّ لَهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ النَّقْضُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِدُونِ رِضَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ قَبْضٌ بِإِذْنِهِ وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَالضَّرُورَةُ حَالَةُ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ هَلَكَتْ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْإِذْنُ لِكَوْنِهِ وَرَاءَ الضَّرُورَةِ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ: يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَبْضُ مَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ إذَا هَلَكَ ضَمِنَ فَكَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ: يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْإِذْنِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لَهُ.
أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ.
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا وَقَعَ تَعَدِّيًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ، وَأَمَّا الْإِذْنُ فَلِأَنَّ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ، لِأَنَّ إذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالْإِذْنُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَيْنَ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ نَصًّا وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْعَيْنِ، وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ، لَكِنَّ الْقَبْضَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَكُنْ ثُمَّ تَعَدٍّ وَلَا ضَمَانَ بِدُونِهِ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمُؤْنَةِ الْقَبْضِ الْحَاصِلِ لِلْمُسْتَعِيرِ كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَيْسَ لِنَقْدِ الْقَبْضِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ الرَّدَّ فِيهِ وَاجِبٌ فَنَقَضَ الْقَبْضَ لِكَوْنِهِ بِلَا إذْنٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الرَّدَّ وَجَبَ الضَّمَانُ. وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ؛ فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَلِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لَازِمًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُعِيرِ، وَفِي وُقُوعِهِ لَازِمًا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ، وَضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ.
قَالَ (وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا.
وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً.
وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ.
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ وَالْحِنْطَةُ مِثْلُ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ إذَا كَانَ كَيْلًا.
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ.
وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ، فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ.
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً جُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ، إذْ الْمَالِكُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ مَجَّانًا، وَلِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ نَظَرًا لَهُ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ هُوَ الْقِيمَةُ لِكَوْنِهَا مِثْلًا كَامِلًا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الثَّمَنِ عِنْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ حَقِيقَةً وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ صُيِّرَ إلَى الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ نَسْخَ طَرِيقَةِ الْحَلَّافِ، وَقِيلَ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ مِنْ الْمَبْسُوطِ.
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ إلَخْ) وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْتَعَارَ، فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَانْعِقَادُهُ غَيْرَ لَازِمٍ عَكْسُ الْمَوْضُوعِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطِ الْمُعِيرِ وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الْعَارِيَّةِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِعَارَةِ لَازِمًا، وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ فَأَبْطَلْنَاهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً كَانَ بِالتَّسْلِيمِ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ حِينَ سَلَّمَ وَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لِكَوْنِهِ الْغَاصِبَ.
ثُمَّ إنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ رَجَعَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ.
وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ الْمُسْتَعَارَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ كَالْحَمْلِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ.
وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْإِعَارَةِ إبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ فِي الْإِعَارَةِ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّمْلِيكِ.
وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ جَازَ أَنْ يُعِيرَ لِتَمَلُّكِهِ الْمَنْفَعَةَ (قَوْلُهُ وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةً) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ.
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ فِي الْإِعَارَةِ كَذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَقَدْ مَرَّ لَنَا الْكَلَامُ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَمَا تَفَاوَتَ الْحُكْمُ فِي الصِّحَّةِ بَيْنَ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ وَبَيْنَ مَا لَا يَخْتَلِفُ كَالْمَالِكِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ، وَقَالَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ (إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً) فَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ أَقْسَامَهَا فَقَالَ (وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ) وَهِيَ قِسْمَةٌ عَقْلِيَّةٌ (أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ.
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا.
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ.
وَالرَّابِعُ بِالْعَكْسِ) فَلِلْمُسْتَعِيرِ فِي الْأَوَّلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ.
وَفِي الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ مِنْ الْوَقْتِ وَالْمَنْفَعَةِ (إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ) كَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى (أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ) كَمَا إذَا حَمَلَ مِثْلَ ذَلِكَ شَعِيرًا اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ، فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ، إذْ مَقْصُودُهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ، وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ وَالتَّقْيِيدِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا (وَفِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ مِنْ الْوَقْتِ وَالنَّوْعِ) وَعَلَى هَذَا (فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يُحْمَلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ.
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ كَانَ لَهُ التَّعْيِينُ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ تَعَيَّنَ الرُّكُوبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ، فَلَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَ لِتَعَيُّنِ الرُّكُوبِ فِي الْأَوَّلِ وَالْإِرْكَابِ فِي الثَّانِي) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ: غَيْرُهُ: لَهُ أَنْ يَرْكَبَ بَعْدَ الْإِرْكَابِ وَيَرْكَبَ بَعْدَ الرُّكُوبِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ)؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَذَلِكَ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا فَيَثْبُتُ.
أَوْ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ.
قَالُوا: هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ إلَخْ) إذَا اسْتَعَارَ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ لَهُ أَعَرْتُك دَرَاهِمِي هَذِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ أَقْرَضْتُك، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ اقْتِضَاءً، وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ إمَّا بِالْهِبَةِ أَوْ الْقَرْضِ، وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ.
قِيلَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْمُعْطِي لِأَنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ، وَمَا هُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا فَهُوَ الثَّابِتُ يَقِينًا، وَلِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ.
قَالَ الْمَشَايِخُ: هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ. وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ.
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ، فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً لِيَتَجَمَّلَ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ، يُقَالُ عَايَرْت الْمَكَايِيلَ أَوْ الْمَوَازِينَ إذَا قَايَسْتهَا، وَالْعِيَارُ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ وَيُسَوَّى قَالَ (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) أَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ.
وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ (وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْقَلْعِ)؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.
قَالُوا: إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحُقَّيْنِ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ جَازَ وَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَتَكْلِيفُ قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ.
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا، يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إذَا كَانَ صَحِيحًا بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا، ثُمَّ إنَّ الْمُعِيرَ إمَّا أَنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ، فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ مِنْ جَانِبِ الْمُعِيرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ وَظَنَّ أَنَّهُ يَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ، وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَيَرْجِعُ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ، إذْ الظَّاهِرُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغُرُورُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا مَرَّ وَالْإِعَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْقِيتَ مِنْ الْمُعِيرِ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إنْ أَرَادَ إخْرَاجَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْنًى.
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ ابْنِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ بِنَفْسِك عَلَى أَنْ أَتْرُكَهَا فِي يَدِك إلَى مُدَّةِ كَذَا، فَإِنْ لَمْ أَتْرُكْهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لَك بِقَرِينَةِ حَالِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ، وَحَيْثُ كَانَتْ الْإِعَارَةُ بِدُونِ التَّوْقِيتِ صَحِيحَةً شَرْعًا لابد مِنْ فَائِدَةٍ لِذِكْرِ الْوَقْتِ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ أَنْ يَنْظُرَكُمْ تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إذَا بَقِيَ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ: يَعْنِي إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا، وَإِذَا قَلَعَ فِي الْحَالِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ يَرْجِعُ بِهِمَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ ضَمَانَ مَا نَقَصَ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ الْمُعِيرَ يُضَمِّنُ الْمُسْتَعِيرَ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَيَكُونَانِ لَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.
قَالُوا: يَعْنِي الْمَشَايِخَ إذَا كَانَ بِالْأَرْضِ ضَرَرٌ بِالْقَلْعِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ.
قِيلَ مَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ مَا قَالَ الْقُدُورِيُّ إنَّ الْمُعِيرَ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَلْحَقْ الْأَرْضَ بِالْقَلْعِ ضَرَرٌ، أَمَّا إذَا لَحِقَ فَالْخِيَارُ فِي الْإِبْقَاءِ بِالْقِيمَةِ مَقْلُوعًا وَتَكْلِيفُ الْقَلْعِ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَلْعِ وَتَرْكِ الضَّمَانِ إذَا لَمْ تَتَضَرَّرْ الْأَرْضُ بِالْقَلْعِ، وَأَمَّا إذَا تَضَرَّرَتْ فَالْخِيَارُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يُحْصَدَ الزَّرْعُ بَلْ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ، لِأَنَّ الزَّرْعَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّرْكُ بِأَجْرٍ لَمْ تَفُتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ مَجَّانًا وَلَا زَرْعُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ. قَالَ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَالْأُجْرَةُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَتَكُونُ عَلَيْهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَتَكُونَ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إلَخْ) أُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ أَجْرُهُ، وَالرَّدُّ فِي الْعَارِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَالْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَيْسَ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةً لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ انْتَفَعَ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ وَمَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ، وَالْعَيْنُ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ أُجْرَةُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أُتِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْمَرْبِطِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لَا رَدٌّ، وَصَارَ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ إلَى دَارِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْمُودَعِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لَا إلَى دَارِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى بِالرَّدِّ إلَى عِيَالِهِ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْعَارِيَّةِ عُرْفًا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ لَرَدَّهَا الْمَالِكُ إلَى الْمَرْبِطِ. (وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ، الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي الْعِيَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَاهُ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْعَوَارِيّ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عُقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ؛ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعُرْفِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ اسْتَعَارَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا إلَى الْمُعِيرِ لِلْعُرْفِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِهِ فِي الثَّانِي. قَالَ: (وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ.
(وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ)؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ دَائِمًا يُدْفَعُ إلَيْهِ أَحْيَانًا (وَإِنْ رَدّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ) وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ، وَأَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِإِنْهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَعَبْدِهِ وَأَجِيرِهِ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ وَلَهُ حِفْظُهَا عَلَى يَدِهِمْ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ لِوُجُودِ الرِّضَا بِهِ مِنْ الْمَالِكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهَا إلَى عَبْدِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ هَذَا الْعَبْدِ مِمَّنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ فَقِيلَ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُودِ الدَّفْعِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْكَرْخِيُّ.
وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ وَهُوَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ أَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِانْتِهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا فَكَانَ إذْ ذَاكَ مُودَعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ، فَإِذَا أَوْدَعَهُ وَفَارَقَهُ ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ. قَالَ: (وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ إنَّك أَطْعَمْتنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: يَكْتُبُ إنَّك أَعَرْتنِي)؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ.
وَلَهُ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُهَا وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.(كِتَابُ الْهِبَةِ):

الْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ لابد مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمَلِكِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ الْجَوَازَ بِدُونِهِ ثَابِتٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا إلْزَامَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْهِبَةِ):
قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَدِيعَةِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا جَلْبُ الْمَحَبَّةِ.
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا} وَفِي الشَّرِيعَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ (وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ.
وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ يَهَبُ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بِدُونِ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» أَيْ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ إذْ الْجَوَازُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ) بِالِاتِّفَاقِ (وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ) وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يُتَبَرَّعْ بِهِ (وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ ذَلِكَ إذْ فِيهِ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ).
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِهِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِهِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مُحْدِثٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةٌ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْت مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ أَوْ الشُّرُوعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ مَا يَتِمُّ بِهِ (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ) فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهَا بِدُونِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ ثُمَّ زِيَادَةً عَلَى مَا تَبَرَّعَ، وَذَلِكَ (لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ.
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ كَالْوَصِيَّةِ، أَلْحَقَ الْهِبَةَ بِالْوَصِيَّةِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمَّا كَانَ تَبَرُّعًا كَانَ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ لَازِمٍ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا فَلَا يَزُولُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ، وَهُوَ فِي الْهِبَةِ التَّسْلِيمُ وَفِي الْوَصِيَّةِ مَوْتُ الْمُوصِي لِكَوْنِ الْمَوْتِ يُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَصَحَّ الْإِلْحَاقُ (قَوْلُهُ وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوصِيَ فِي مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَقَّفَ مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَارِثِ إلَيْهِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً لَهُ فِيهَا لِيُقَامَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا قَامَ مَقَامَ الْمَالِكِ فِيهَا قَالَ: (فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ) اسْتِحْسَانًا (وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ، إذْ مِلْكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ إذْنِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتَنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ، وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ) بِالِاتِّفَاقِ (وَالتَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِدُونِ الْإِذْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَلَنَا) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْأَوَّلِ (أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ) فِي الْبَيْعِ (مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) فِيهَا كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنَّ الْقَبْضَ ,لَا بِقَوْلِهِ: الْقَبُولُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَيْ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ (إثْبَاتُ الْمِلْكِ) لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً (وَلَا كَذَلِكَ الْقَبْضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لِلْقَبْضِ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا قَامَ مَقَامَهُ) فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا نَهَى عَنْ الْقَبْضِ فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مَوْجُودٌ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبْضُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ) يَعْنِي صَرِيحًا (فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ) وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ لَمَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ.
وَالثَّانِي أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ لَمْ يُجْعَلْ إيجَابُ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ إذْنِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ لِلثَّمَنِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ شَطْرُ الْعَقْدِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَفِي الْهِبَةِ وَحْدَهُ عَقْدٌ تَامٌّ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بَلْ مَقْصُودُهُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ لَا غَيْرُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ ضِمْنِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت وَأَعْطَيْت)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟» وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ، يُقَالُ: أَعْطَاك اللَّهُ وَوَهَبَك اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (وَكَذَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَكْلَ غَلَّتِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت إلَخْ) هَذَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْهِبَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ، وَكَلَامُهُ وَافٍ بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا (قَوْلُهُ أَكُلُّ أَوْلَادِك نَحَلْت مِثْلَ هَذَا) رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، فَأَبَتْ أُمِّي إلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَلَك وَلَدٌ سِوَاهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْت مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ هَذَا جَوْرٌ» وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ وَلِوَرَثَةِ الْمُعْمَرِ لَهُ مِنْ بَعْدِ الْمُعْمَرِ لَهُ: يَعْنِي تَثْبُتُ بِهِ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ صَرِيحًا يَبْطُلُ شَرْطُهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ، وَقَوْلُهُ (فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً) يَعْنِي أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنَافِعِ (فَيَكُونُ عَارِيَّةً) إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَرَدْت الْهِبَةَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ، فَإِذَا نَوَى مُحْتَمَلَ لَفْظِهِ فِيمَا فِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ.
لَا يُقَالُ: هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ مَجَازًا لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هُنَالِكَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ: يَعْنِي فِي الْعُرْفِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَنَافِعِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً: يَعْنِي فِي اللُّغَةِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ (وَلَوْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ يَكُونُ هِبَةً)؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَيُقَالُ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا ثَوْبًا: أَيْ مَلَّكَهُ مِنْهُ (وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ». (وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَّةٌ)؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحْكَمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةُ تَحْتَمِلُهَا وَتَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَكَذَا إذَا قَالَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نَحْلِي سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةٌ عَارِيَّةً أَوْ عَارِيَّةٌ هِبَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
(وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةُ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةٍ) إنَّمَا هُوَ بِنَصْبِ هِبَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إمَّا عَلَى الْحَالِ أَوْ التَّمْيِيزِ لِمَا فِي قَوْلِهِ دَارِي لَك مِنْ الْإِبْهَامِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحَكَّمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ) كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّ سُكْنَى مُحَكَّمٍ فِي تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ إذْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: سُكْنَى لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْعَارِيَّةَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَارِيَّةِ (وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ) أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هَذَا الطَّعَامُ لَك تَأْكُلُهُ وَهَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَفَعَلَ مَا قَالَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ (بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ سُكْنَى اسْمٌ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرًا لِاسْمٍ آخَرَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَسْكُنُهَا لِكَوْنِهِ فِعْلًا، وَقِيلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ فَلَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقَسَّمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُهُ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ، وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقَسَّمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْقَاصِرَ هُوَ الْمُمْكِنُ فَيُكْتَفَى بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ.
وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ، وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ، وَكَذَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَالْقَبْضُ فِيهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَتُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ، فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ الْقَاصِرَ فِيهِ دُونَ الْقِسْمَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ.
وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ.
قَالَ (وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ) لِمَا ذَكَرْنَا (فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ)؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ.
قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ) وَكَذَا السَّمْنُ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَخْرَجَهُ الْغَاصِبُ بِمِلْكِهِ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لَلتَّمْلِيكِ، وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْرِ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً إلَخْ) الْمَوْهُوبُ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا.
وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَيُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَهُوَ يَحْتَمِلُهَا، فَالثَّانِي كَالْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ، وَالْأَوَّلُ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ الْكَبِيرِ، وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً، وَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَهَبَ التَّمْرَ عَلَى النَّخِيلِ دُونَ النَّخِيلِ أَوْ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَيْسَ بِمَحُوزٍ: أَيْ لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ، وَالثَّانِي عَنْ الْمُشَاعِ.
فَإِنَّهُ إذَا جَزَّ وَقَبَضَ التَّمْرَ الْمَوْهُوبَ عَلَى النَّخِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ التَّمْرَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْسُومٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً، لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي نَفْسِهَا فِيمَا يُقْسَمُ تَقَعُ جَائِزَةً وَلَكِنْ غَيْرَ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ مُفْرَزًا، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ مُشَاعًا فِيمَا يُقْسَمُ ثُمَّ أَفْرَزَهُ وَسَلَّمَ صَحَّتْ وَوَقَعَتْ مُثْبَتَةً لِلْمِلْكِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ وَقَعَتْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا، وَلَكِنْ تُوقَفُ إثْبَاتُهَا الْمُمَلِّكُ عَلَى الْإِفْرَازِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى الْإِفْرَازِ وَالتَّسْلِيمِ لَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ جَائِزَةٌ، وَمَعْنَاهُ هِبَةُ مُشَاعٍ لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْمُشَاعَ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا، وَهِبَةُ النَّصِيبِ الْغَيْرِ الْمَقْسُومِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ جَائِزَةٌ، وَذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَتَصْحِيحُهُ بِمَا ذُكِرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِبَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مَعْنَاهُ مُثْبِتَةٌ لِلْمِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَعَقْدُ التَّمْلِيكِ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ: يَعْنِي الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ وَالصَّرْفَ وَالسَّلَمَ، فَإِنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا بَاعَ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَدَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَالْخُرُوجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَالدُّخُولُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَبْضِ وَكَذَا يَصْلُحُ الْمُشَاعُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلَ الصَّرْفِ، وَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِيهِمَا، وَهَذَا: أَيْ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ: أَيْ لِحُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِرْثِ، وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لِحُكْمِ عَقْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهُ، لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ عَيْنُ الْقَابِلِيَّةِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُبْطِلًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا: يَعْنِي لَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ مُبْطِلًا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ وَبِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يُبْطِلُ التَّبَرُّعَ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا.
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ كَمَالُهُ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِوُجُودِهِ، وَقَبْضُ الْمُشَاعِ نَاقِصٌ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ: أَيْ بِضَمِّ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ إلَى الْمَوْهُوبِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُمَا وَالْغَيْرُ غَيْرُ مَوْهُوبٍ وَغَيْرُ مُمْتَازٍ عَنْ الْمَوْهُوبِ.
فَكُلُّ جُزْءٍ فَرَضْته يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَجِبُ قَبْضُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فَكَانَ مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ النَّافِيَةِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَ الْوَاهِبِ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ، لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هِبَةِ الْمُشَاعِ يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِهِ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ وَالضَّائِرِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَرَضِيًّا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمِلْكِ الْمُشَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِسْمَةٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَلِهَذَا: أَيْ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الْعَقْدِ إلْزَامَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ هُوَ الْقَبْضُ الْقَاصِرُ فَيُكْتَفَى بِهِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَزِمَهُ الْمُهَايَأَةُ، وَفِي إيجَابِهَا إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْزَمْ بِالْعُقْدَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزٌ فَلْتَكُنْ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ وَالْمُتَبَرَّعُ بِهِ هُوَ الْعَيْنُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ إلْزَامَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْوَاهِبُ بِعَقْدِ الْهِبَةِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ جَوَازِهَا فَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ خَصَصْتُمْ بِعَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ كَانَ تَحَكُّمًا.
وَالْجَوَابُ بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ.
وَيُدْفَعُ التَّحَكُّمُ بِأَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى ذَلِكَ إلْزَامَ زِيَادَةِ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا أَتْلَفَ الْوَاهِبُ الْمَوْهُوبَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي ذَلِكَ إلْزَامُ زِيَادَةِ عَيْنٍ عَلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْإِتْلَافِ لَا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ (قَوْلُهُ وَالْوَصِيَّةُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِيمَا يَكُونُ الْقَبْضُ مِنْ شَرْطِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الْمُشَاعِ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا لِلْمِلْكِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا يَكُونُ الْقَبْضُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَفِي الصَّرْفِ لِبَقَائِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَيُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ مِنْ الشَّرِيكِ لَمْ تَلْزَمْ الْقِسْمَةُ، وَمَا جَازَتْ فَالْجَوَابُ سَيَأْتِي، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ، وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الْمُقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، فَلِشَبَهِهِ بِالتَّبَرُّعِ شَرَطْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، وَلِشَبَهِهِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَمْ نَشْتَرِطْ فِيهِ الْقِسْمَةَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُرَاعَى عَلَى الْكَمَالِ (وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ) وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ) فَإِنَّهُ مَانِعٌ عَنْ كَمَالِ الْقَبْضِ فِيمَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ، فَكَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى ذَلِكَ قِيلَ الْوَجْهُ الثَّانِي غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ عِلَّةُ النَّوْعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ نَوْعِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاطِّرَادَ فِي كُلِّ شَخْصٍ (وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ) أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْجِيهِ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً، وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ (فَإِنْ قَسَمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ) وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الشُّيُوعِ مَا كَانَ عِنْدَ الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ لِرَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى وَهَبَ لَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَسَلَّمَهَا جُمْلَةً جَازَتْ.
قَالَ (وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ إلَخْ) بَنِي كَلَامَهُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كَانَ مَعْدُومًا حَالَةَ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُشَاعًا فَإِنَّهُ بَعْدَ الْإِفْرَازِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّجْدِيدِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لِصَلَاحِيَّةِ الْمُشَاعِ لِلْمَحَلِّيَّةِ دُونَ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُك أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ وَقَوْلُهُ (فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ)، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ) هُوَ عَدَمُ إفَادَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَاحْتَاجَ إلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِفْرَازِ فِي الْمُشَاعِ كَمَا فِي الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الرَّهْنُ فِي السِّمْسِمِ وَالدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ مَعْدُومًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْعَصْرِ وَالطَّحْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا بِالْقُوَّةِ لِأَنَّ عَامَّةَ الْمُمْكِنَاتِ كَذَلِكَ وَلَا تُسَمَّى مَوْجُودَةً. قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ، أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الْقَبْضِ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ أَمَانَةً جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَجَانُسَ الْقَبْضَيْنِ يَجُوزُ نِيَابَةُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، وَتَغَايُرُهُمَا يَجُوزُ نِيَابَةُ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى دُونَ الْعَكْسِ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَدِيعَةً فِي يَدِ شَخْصٍ أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ، لِأَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ فَكَانَا مُتَجَانِسَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فَيَنُوبُ عَنْ الضَّعِيفِ، وَلَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ ضَعِيفٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَمَعْنَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ الْعَيْنُ وَيَمْضِيَ وَقْتٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ قَبْضِهَا قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا مِثْلُ الْهِبَةِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ.
(وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ)؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الدَّائِرَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّائِرِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَنَافِعَ.
قَالَ (وَإِذَا وَهَبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةً فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيُّهُ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ جَازَ)؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ (وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ.
وَهَذَا مِنْ بَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَّا بِالْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ وِلَايَةِ التَّحْصِيلِ (وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ)؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا يَتَمَحَّضُ نَفْعًا فِي حَقِّهِ (وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَفِيمَا وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ، وَمَعَ حُضُورِهِ لَا ضَرُورَةَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ) وَالْقَبْضُ فِيهِ بِإِعْلَامِ مَا وَهَبَهُ لَهُ، وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ جُحُودِهِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ (فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ) وَيَدُ مُودَعِهِ كَيَدِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ) يَعْنِي فِي الْأَوَّلَيْنِ (أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ) يَعْنِي فِي الْأَخِيرِ (وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا كَالْهِبَةِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ الْأُمُّ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ) وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا لِيَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ نَوْعُ وِلَايَةٍ، وَقُيِّدَ بِمَوْتِ الْأَبِ وَعَدَمِ الْوَصِيِّ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِهِمَا لَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْقَبْضِ (وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ) نَحْوُ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ جَازَ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ.
قِيلَ: أَطْلَقَ جَوَازَ قَبْضِ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ بَعْدَ الْأَبِ وَوَصِيُّهُ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَقِيَامُ وِلَايَةِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ قَبْضُ مَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِهِ لِثُبُوتِ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ حِينَئِذٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ، فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ يُطْلِقُ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْهِبَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّقْيِيدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمَعْطُوفِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَدَّ الصَّحِيحَ مِثْلُ الْأَبِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، وَوَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْأَبِ (وَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرِ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ) الْأَمْرَ (الدَّائِرَ بَيْنَ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ فَالنَّفْعُ الْمَحْضُ أَوْلَى بِذَلِكَ) قَالَ (وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةٌ إلَخْ) إذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَالْقَبْضُ إلَى مَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَى الْيَتِيمِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ: أَيْ فِي كَنَفِهَا وَتَرْبِيَتِهَا فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا آخَرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا تَمَحَّضَ نَفْعًا فِي حَقِّهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عَاقِلٌ جَازَ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ: أَيْ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ مَا يَتَضَمَّنُ نَفْعًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: عَقْدُ الصَّبِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ قَبْضُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ اعْتِبَارُ الْحَلِفِ مَعَ وُجُودِ أَهْلِيَّتِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ عَقْلَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ مُعْتَبَرٌ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْحَلِفِ تَوْفِيرُهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ بِهِ بَابٌ آخَرُ لِتَحْصِيلِهَا فَكَانَ جَائِزًا نَظَرًا لَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرِّ سَدًّا لِبَابِ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَقْلَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ نَاقِصٌ فَلَا يَتِمُّ بِهِ النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَبْرِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ، وَإِذَا وُهِبَ لِلصَّغِيرِ هِبَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَمَّا إنْ زُفَّتْ إلَيْهِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ فَوَّضَ أُمُورَهَا إلَيْهِ وَهِيَ حِينَ زَفَّهَا إلَيْهِ صَغِيرَةٌ وَأَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا، وَقَبْضُ الْهِبَةِ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ، لَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ وِلَايَةُ الْأَبِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهَا جَازَ، وَكَذَا لَوْ قَبَضَتْ بِنَفْسِهَا وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَوْنِهَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لِأَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُجَامِعُ لَا يَصِحُّ قَبْضُ الزَّوْجِ لَهَا وَحُضُورُ الْأَبِ لَا يَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ حَضَرَ الْأَبُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ لَهَا إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يُمَلِّكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْحُضُورِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَيْسَتْ رِوَايَةً أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا وَأَنَّ لَهُ عَلَيْهَا يَدًا مُسْتَحَقَّةً وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ قَبْلَ الزِّفَافِ. قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ)؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ (وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَصِحُّ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا، إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ.
وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ فَقِبَلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ، وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا، إذْ لَا تَضَايُفَ فِيهِ فَلَا شُيُوعَ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا تَصَدَّقَ عَلَى مُحْتَاجِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَا: يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا) جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا عَنْ الْآخَرِ، وَالصَّلَاحِيَّةُ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ فِي الْحُكْمِ.
وَفِي الْأَصْلِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ.
وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ إلَخْ) وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ دَارًا مِنْ وَاحِدٍ جَازَ لِانْتِفَاءِ الشُّيُوعِ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّسْلِيمِ أَوْ الْقَبْضِ وَهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ التَّمْلِيكِ وَلَا شُيُوعَ فِي هِبَةِ الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ دُونَ الْهِبَةِ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ جَازَ فَالْهِبَةُ أَوْلَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ النِّصْفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَازٍ فَكَانَ الشُّيُوعُ وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَلَيْسَ مَنْعُ الشُّيُوعِ لِجَوَازِ الْهِبَةِ إلَّا لِذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مُشَاعًا وَهُوَ حُكْمُ التَّمْلِيكِ ثَبَتَ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ الشُّيُوعُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا وُجِدَ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا، فَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يُؤَثِّرُ لِأَنَّهُ لَا يُلْحِقُ بِالْمُتَبَرِّعِ ضَمَانَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمَانِعُ عَنْ جَوَازِهَا شَائِعًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الشُّيُوعَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا وُجِدَ فِي الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَأَمَّا الْمَانِعُ هُوَ إلْحَاقُ ضَمَانِ الْقِسْمَةِ بِالْمُتَبَرِّعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حَالُهُ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مُنْحَصِرًا فِيهِ بَلْ الْحُكْمُ يَدُورُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ لِامْتِنَاعِ الْقَبْضِ بِهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ، بَلْ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا، وَلِهَذَا لَوْ قُضِيَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ فِي الصَّدَقَةِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ كَمَا كَانَ يَمْنَعُ عَنْ جَوَازِ الْهِبَةِ، وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي مَنْعِ الشُّيُوعِ فِيهِمَا عَنْ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا حَيْثُ عَطَفَ فَقَالَ: وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَقَعُ جَمِيعُ الْعَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَلَا شُيُوعَ فِيهَا، وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغِنَى وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ.
وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ فَتَكُونُ مَجَازًا لِلْهِبَةِ، وَيَجُوزُ الْمَجَازُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ.
وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ مُرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي الْهِبَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ التَّفْصِيلُ بِالتَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ وَهَبْت لَك ثُلُثَيْهِ لِشَخْصٍ وَوَهَبْت لَك ثُلُثَهُ الْآخَرَ أَوْ بِالتَّسَاوِي كَقَوْلِهِ لِشَخْصٍ وَهَبْت لَك نِصْفَهُ وَلِآخَرَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَسَاوِيًا مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُفَاضَلَةِ، فَفِي الْمُفَاضَلَةِ لَمْ يُجَوِّزْ فِي الْمُسَاوَاةِ جَوَّزَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، هَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَفْصِيلًا ابْتِدَائِيًّا، وَنُقِلَ عَنْ عَامَّةِ النَّسْخِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَطَفَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْتِدَائِيًّا.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صُورَةِ التَّفْصِيلِ بِالتَّفْضِيلِ وَعَلَى صُورَتِهِ بِالتَّسَاوِي عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَوَازِ فَلِكَوْنِهَا غَيْرَ مَعْدُولَةٍ عَنْ أَصْلِهِ وَهُوَ أَصْلُ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجَةٍ إلَى دَلِيلٍ، وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ يَظْهَرُ خَلَلُ مَا قِيلَ إنَّ فِي قَوْلِهِ إنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ نَوْعُ إخْلَالٍ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ بِمَا ذُكِرَ مَوْضِعُ خِلَافِهِ مِنْ الْأَبْعَاضِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْأَبْعَاضِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ بِالتَّنْصِيفِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَهَبْت لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ لَك نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَبْعَاضِ بِالتَّنْصِيفِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ الْإِجْمَالُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا عَدَلَ فِيهِ عَنْ أَصْلِهِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا صُورَةُ الْجَوَازِ فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجَةٍ إلَى الدَّلِيلِ لِجَرَيَانِهَا عَلَى أَصْلِهِ، وَوَضَحَ دَلَالَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ عَلَى تَحَقُّقِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ فِي الرَّهْنِ فَقَالَ: وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ، خَلَا أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُفَاضَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنَى الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فِي الْهِبَةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ التَّفْصِيلَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ مُقْتَضَى الْإِجْمَالِ كَانَ لَغْوًا كَمَا فِي التَّنْصِيفِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ تَمَلُّكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَلَمْ يَزِدْ التَّفْصِيلُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا فَكَانَ لَغْوًا، وَإِذَا خَالَفَهُ كَمَا فِي التَّثْلِيثِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَيُفِيدُ تَفْرِيقَ الْعَقْدِ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الْإِفَادَةِ، وَكَمَا فِي الرَّهْنِ فَإِنَّ حَالَةَ التَّفْصِيلِ فِيهِ تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ وَعِنْدَ التَّفْصِيلِ لَا يَثْبُتُ.