فصل: بَابُ: التَّمَتُّعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ: التَّمَتُّعِ:

(التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ عِنْدَنَا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ إرَاقَةُ الدَّمِ وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْحَجِّ كَتَخَلُّلِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ إلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
بَابُ: التَّمَتُّعِ.
وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ بَابِ الْقِرَانِ قَدْ سَبَقَ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ, قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ إلَخْ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ مَنْ تَرَفَّقَ بِأَدَائِهِمَا وَالْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ تَرَفَّقَ بِهِ فِيهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامَيْنِ وَهُمَا لَيْسَا بِمُتَمَتِّعَيْنِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ إلَخْ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّرَفُّقِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَهُوَ شَرْطُهُ وَسَنَذْكُرُهُ.
وَالْإِلْمَامُ هُوَ النُّزُولُ، يُقَالُ: أَلَمَّ بِأَهْلِهِ: إذَا نَزَلَ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ.
وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ النُّزُولِ فِي وَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ صِفَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ سَاقَهُ، فَقَوْلُهُ: إلْمَامًا صَحِيحًا احْتِرَازٌ عَنْ الْإِلْمَامِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا يَأْتِي. (وَالْمُتَمَتِّعُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَمَتِّعٌ بِسَوْقِ الْهَدْيِ وَمُتَمَتِّعٌ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ) وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا، وَيَدْخُلُهُ اخْتِلَافَاتٌ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَصِفَتُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ لَهَا وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ) وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَلْقَ عَلَيْهِ، إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا.
وقَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسكُمْ} الْآيَةَ.
نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا تَحَرُّمٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ لَهَا تَحَلُّلٌ بِالْحَلْقِ كَالْحَجِّ (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَتَتِمُّ بِهِ.
وَلَنَا {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ} وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ فَيَقْطَعُهَا عِنْدَ افْتِتَاحِهِ، وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ.
قَالَ (وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَالًّا)؛ لِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ، قَالَ (فَإِذَا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَالشَّرْطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ، وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ)؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى مَرَّةً، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً (وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ) لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَاهُ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقِرَانِ (فَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ اعْتَمَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الثَّلَاثَةِ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ التَّمَتُّعُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ (وَإِنْ صَامَهَا) بِمَكَّةَ (بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ جَازَ عِنْدَنَا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَقْتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْقِرَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: هَذَا التَّخْيِيرُ إنَّمَا كَانَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَعْرُهُ مُلَبَّدًا أَوْ مَعْقُوصًا أَوْ مُضَفَّرًا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُلَبَّدًا فَإِنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا بِالْقَصِّ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَيَّنُ الْحَلْقُ.
وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ) أَيْ: لَيْسَ لَهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَالصَّدْرِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِيهَا هُوَ الطَّوَافُ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: (وَتَتِمُّ بِهِ) أَيْ: تَتِمُّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ بِوُقُوعِ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ، فَكَمَا تُقَدَّمُ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، (وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ}.
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ كَالرَّمْيِ فِي كَوْنِهِ نُسُكًا مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ فَكَمَا أَنَّ التَّلْبِيَةَ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ تُقْطَعُ عِنْدَ افْتِتَاحِ هَذَا الطَّوَافِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نُسُكٍ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَطَوَافُ الْقُدُومِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» قَالَ: (وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا) الْمُتَمَتِّعُ إذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا، (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ)، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا شَرْطًا، فَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ جَازَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ، وَقَوْلُهُ: (وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ) يَعْنِي خَلَا أَنَّهُ لَا يَطُوفُ طَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ صَارَ هُوَ وَالْمَكِّيُّ سَوَاءً وَلَا تَحِيَّةَ لِلْمَكِّيِّ.
وَ (يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ)، وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ) يَعْنِي طَوَافَ الْقُدُومِ (وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً) وَلَا تَكْرَارَ فِيهِ، ثُمَّ الرَّمَلُ هَاهُنَا يَسْقُطُ سَوَاءً رَمَلَ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَوْ لَمْ يَرْمُلْ وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَقُلْ: طَافَ وَرَمَلَ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَلَا سَعْيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مَرَّةً.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مَشْرُوعٌ لِلتَّمَتُّعِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ رَمَلُهُ وَسَعْيُهُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ) وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى التَّمَتُّعِ، وَأَدَاءُ الْمُسَبَّبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ جَائِزٌ.
وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقِرَانِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا. (وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ وَسَاقَ هَدْيَهُ) وَهَذَا أَفْضَلُ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ»؛ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْدَادًا وَمُسَارَعَةً (فَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ.
وَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى مِنْ التَّجْلِيلِ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَالتَّجْلِيلِ لِلزِّينَةِ، وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ.
وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَقُودَهَا «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا.
قَالَ (وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُ اللَّهُ (وَيُكْرَهُ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً (وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ (مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ) قَالُوا: وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً، إلَّا أَنَّهُ عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِصِيَانَةِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَعَرُّضِهِ إلَّا بِهِ.
وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةَ، وَقِيلَ: إنَّمَا كَرِهَ إيثَارَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا أَفْضَلُ) يَعْنِي مِنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ.
وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} (وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى عَلَى مَا سَبَقَ) فِي فَصْلٍ قُبَيْلَ الْقِرَانِ، وَالشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالتَّقْلِيدُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمْكَانِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ السَّوْقُ فِي الْهَدْيِ أَفْضَل مِنْ الْقَوَدِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيقَتْ هَدَايَاهُ إذْ أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ».
وَقَوْلُهُ: (قَالُوا وَالْأَشْبَهُ) يَعْنِي إلَى الصَّوَابِ فِي الرِّوَايَةِ (هُوَ الْأَيْسَرُ) وَذَلِكَ أَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ مُقْبِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ كُلِّ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ.
وَكَانَ الرُّمْحُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ يَقَعُ طَعْنُهُ عَادَةً أَوَّلًا عَلَى يَسَارِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ كَانَ يَعْطِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَيُشْعِرُ الْآخَرَ مِنْ قِبَلِ يَمِينِ الْبَعِيرِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا إلَيْهِ، فَصَارَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ فِي الْهَدْيِ إذَا كَانَ وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ) أَيْ: لَا يُنَفَّرُ وَلَا يُطْرَدُ عَنْ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ (أَوْ يُرَدَّ إذَا ضَلَّ، وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ)؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ قَدْ تَحِلُّ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهَا وَالْإِشْعَارُ لَا يُفَارِقُهَا.
(فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً إلَّا أَنَّهُ عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً) وَالْمُثْلَةُ هِيَ أَنْ يَصْنَعَ بِالْحَيَوَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُثُلًا، وَقِيلَ هِيَ إيلَامُ مَا وَجَبَ قَتْلُهُ أَوْ أُبِيحَ قَتْلُهُ (فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ: الْإِشْعَارَ (مُثْلَةٌ وَإِنَّهُ) أَيْ: فِعْلُ الْمُثْلَةِ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ) بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُثْلَةً (فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ) فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِأُحُدٍ وَالْإِشْعَارُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فَأَيْنَ التَّعَارُضُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَوَى: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَامَ خَطِيبًا إلَّا نَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ»، فَكَانَ الْإِشْعَارُ مَنْسُوخًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ لِلْمُحْرِمِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَكْرَارِ النَّسْخِ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (: «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت») أَيْ: لَوْ عَلِمْت أَوَّلًا مَا عَلِمْت آخِرًا (لَمَا سُقْت الْهَدْيَ)، وَقِصَّةُ ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَفْسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ وَيُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ لَمَّا بَلَغُوا مَكَّةَ تَحْقِيقًا لِمُخَالَفَةِ الْكَفَرَةِ، وَكَانُوا لَا يَفْسَخُونَ وَلَا يَحْلِقُونَ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَحْلِقُ أَوْ لَا؟ فَاعْتَذَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت» إلَخْ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ يَمْنَعُهُ عَنْ التَّحَلُّلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَحَلَّلَ. قَالَ: (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى) وَهَذَا لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مُتَمَتِّعٍ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا» وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ جَازَ، وَمَا عَجَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهُوَ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} (وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُحَلِّلٌ فِي الْحَجِّ كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ) يَعْنِي إحْرَامَ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامَ الْحَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّحَلُّلُ مِنْهُمَا يَقْتَضِي قِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْحَلْقِ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بَاقِيًا عِنْدَهُ لَزِمَ الْقَارِنَ دَمَانِ إذَا جَنَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ قَبْلَ الْحَلْقِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا لَزِمَ قِيمَتَانِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَاقٍ لِلتَّحَلُّلِ لَا غَيْرٍ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِبَاقٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ غَايَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ الْحَجَّ، وَالْمَضْرُوبُ لَهُ الْغَايَةُ لَا يَبْقَى بَعْدَ وُجُودِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحَلُّلِ لَا غَيْرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَجِبُ لِأَجْلِهِ شَيْءٌ كَإِحْرَامِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي حَقِّ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ وَيَبْقَى فِي حَقِّ الْجِمَاعِ ضَرُورَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْإِفْرَادُ خَاصَّةً) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ) اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَا تَمَتُّعَ لَهُمْ وَلَا قِرَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَإِمَامُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَوْ تَمَتَّعُوا جَازَ وَأَسَاءُوا وَلَزِمَهُمْ دَمُ الْجَبْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلَكِنْ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْآفَاقِيِّ وَغَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ إشَارَةً إلَى التَّمَتُّعِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَمَتَّعَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَهْلِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَمَتُّعٌ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْهَدْيِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَلِأَجْلِ هَذَا قُلْت: إنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَوْضُوعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدِ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ عَلَى لِسَانِهِمْ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْهَدْيِ قَرِيبٌ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَهُ، وَالتَّمَتُّعُ الْمَفْهُومُ مِنْ تَمَتَّعَ بَعِيدٌ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُصَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا أَمْكَنَ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِإِطْلَاقِهِ؟ قُلْت: لَا إطْلَاقَ ثَمَّةَ بَلْ كَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ خُصَّتْ بِقَوْلِهِ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ لَنَا، وَتَقْرِيرُ شَرْعِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ (بِإِسْقَاطِ إحْدَى السُّفْرَتَيْنِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالتَّرَفُّهُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَقُّ عَلَيْهِ هَذَا السَّفَرُ لِقُرْبِهِ حَتَّى يُتْرِفَهُ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لَكِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا عَدَاهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْقِرَانَ وَالْمُتْعَةَ إبَانَةً لِنَسْخِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِهِمْ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالنَّسْخُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً، وَرُجُوعُ الْإِشَارَةِ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهُ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَدَمُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ قَطَعَ مُتْعَتَهُ كَمَا قَطَعَ مُتْعَةَ الْآفَاقِيِّ إذَا رَجَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلَى أَهْلِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُتْعَةِ لَا عَلَى عَدَمِ إدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ مُتْعَتَهُ نَقَصَتْ عَنْ مُتْعَةِ الْآفَاقِيِّ بِصَيْرُورَةِ دَمِهِ دَمَ جَبْرٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ) هَذَا رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَعِنْدَنَا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ سَفَرٍ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ: يَعْنِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، بِخِلَافِ مَا (إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحُّ) بِلَا كَرَاهَةٍ (لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ) قَالَ الْمَحْبُوبِيُّ: هَذَا إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَهَا فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْقِرَانِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ.
وَإِنَّمَا خُصَّ الْقِرَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ وَاعْتَمَرَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. (وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُمَا بِسَفْرَتَيْنِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ) بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا (لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا)، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، (وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ كَذَا رُوِيَ عَنْ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَ (عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ)، وَهَذَا لِأَنَّ حَدَّ التَّمَتُّعِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ حَيْثُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا: يَعْنِي الْآفَاقِيَّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلْمَامُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ (إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ هُوَ مَا يَكُونُ عَنْ الْوَطَنِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى مَكَّةَ وَلَيْسَ هَاهُنَا بِمَوْجُودٍ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي مَكَّةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَوْدُ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ إذَا لَمْ يَسُقْ كَانَ أَوْلَى. (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَتَمَّمَهَا وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا شَرْطٌ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ) فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ أَدَّى الْأَعْمَالَ فِيهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهَا إذَا كَانَ التَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِيهَا.
وَقُلْنَا: إنْ أَدَّى أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِيهَا كَانَ مُتَمَتِّعًا وَإِلَّا فَلَا.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِتَقَدُّمِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْإِحْرَامُ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ بِاعْتِبَارِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ التَّحَلُّلُ فِيهَا، وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالِاعْتِبَارُ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ فِيهَا وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ.
قِيلَ: إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ فَإِنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ مِنْ الظُّهْرِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْكُلِّ لِمُعَارَضَةِ النَّصِّ النَّاطِقِ بِرُبَاعِيَّةِ الظُّهْرِ. (وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (فَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَأَرَادَ بِالنُّسُكِ الْعُمْرَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُسُكَ الْعُمْرَةِ يَفْسُدُ إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يَفْسُدْ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، فَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَوْ تَحَلَّلَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْمَذْكُورُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ وَهَذَا فِي حُكْمِ الْإِتْمَامِ فِي حَقِّ عَدَمِ الْفَسَادِ فَكَذَا فِي حَقِّ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ؛ (وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ) إنَّمَا يَكُونُ (بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَتِّعُ هُوَ الْمُتَرَفِّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) فَلَا بُدَّ أَنْ تُوجَدَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا فِيهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمَتِّعًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّافِعِيِّ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بَلْ هُوَ مِنْ الشُّرُوطِ قَالَ (: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الَّذِي يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْأَشْهُرَ فَقَالَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
فَإِنْ قُلْت: هَلْ لِلْمُتَمَتِّعِ اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ أَوْ الْقَارِنُ أَيْضًا لابد لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قُلْت: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَجَدْت رِوَايَةً فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ ذَلِكَ.
قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ: أَيْ أَحْرَمَ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ قَارِنًا وَلَكِنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ)، إنَّمَا فَصَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَهْم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُفْهَمُ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ إطْلَاقِ الْعَبَادِلَةِ إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ فَالْعَبَادِلَةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ؛ (وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ) وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَالِكٍ إنَّ وَقْتَ الْحَجِّ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ.
فَإِنْ قُلْت: الْحَجُّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ.
قُلْت: هُوَ مُتَمَسَّكُ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: فَوَاتُ الْحَجِّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لَا لِأَنَّهُ خَرَجَ وَقْتُ الْحَجِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهُ وَهُوَ رُكْنٌ وَالرُّكْنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ اعْتَبَرْتُمْ الْفَوَاتَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَجُوزُ فِيهِمَا، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ اللَّيَالِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي دُخُولِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا وَجْهُ دُخُولِ شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ فِي وَقْتِهِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ فِيهِمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ يَصِحُّ فِيهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ وَطَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَسَعَى بَعْدَهُ فَإِنَّ هَذَا السَّعْيَ يَكُونُ السَّعْيَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ: مَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ (يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شَهْرَانِ وَبَعْضُ الشَّهْرِ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ) وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ: لَفْظُ أَشْهُرٍ عَامٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ بَعْضٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْخُصُوصُ إذَا كَانَ الْعَامُّ جَمَعَا الثَّلَاثَةَ، وَلِأَنَّ الْخُصُوصَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا بِإِخْرَاجِ بَعْضِ كُلِّ فَرْدٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اسْمُ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ.
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِلْبَاسِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُلْبِسٌ.
وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ.
فَإِنْ قُلْت: فَيَكُونُ مَجَازًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ.
قُلْت: سِيَاقُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} وَالْحَجُّ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَشْهُرٍ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ، وَالظَّرْفُ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْرَاقَ فَكَانَ الْبَعْضُ مُرَادًا.
وَعَيْنُهُ مَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ إحْرَامُهُ وَانْعَقَدَ حَجًّا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهُ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ قَدِمَ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ.
(جَازَ إحْرَامُهُ) عِنْدَنَا (وَانْعَقَدَ حَجًّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ) فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ أَوَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ الْحَجِّ وَالْمُدَّعِي وُقُوعَهُ إحْرَامًا لِلْعُمْرَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ إذَا وُجِدَ وَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ كَمَنْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ مِنْ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَارِعًا فِي النَّفْلِ، (وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ) فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا كُرِهَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِلتَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ بَلْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِطُولِ الزَّمَانِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ) أَيْ: يَسْتَلْزِمُهُ كَتَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، (وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ) كَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَأَمْثَالِهِمَا، (وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ) يَعْنِي الْمِيقَاتَ.
لَا يُقَالُ: هَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ» وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيمُهُ.
لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ قَالَ (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَغَ مِنْهَا وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَنُسُكَاهُ هَذَانِ مِيقَاتِيَّانِ.
وَلَهُ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ فِيهَا فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ (فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَقَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَا: هُوَ مُتَمَتِّعٌ)؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَقَدْ تَرَفَّقَ فِيهِ بِنُسُكَيْنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى وَطَنِهِ (فَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ سَفَرٍ لِانْتِهَاءِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ فِيهِ، وَلَوْ بَقِيَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ مَكِّيَّةٌ وَالسَّفَرُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا) يَعْنِي أَقَامَ بِهَا بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ وَحَلَقَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مُتَمَتِّعٌ.
وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ (أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ) وَقَالَ: وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا.
وَالثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ الْمِيقَاتَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا مُتَمَتِّعٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْلَمُ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَالرَّابِعُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ وَيَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مُتَمَتِّعًا (لِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَمِثْلُهُ مُتَمَتِّعٌ.
(وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ) ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُلْبِسٌ لِأَنَّهُ قَالَ فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَفِي كَوْنِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ: يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُسُكَيْهِ مِيقَاتِيَّانِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا وَعَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَانَ كَالْمُلِمِّ بِأَهْلِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى عَادَ وَحَجَّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ.
وَعِنْدَهُمَا أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَصَلَ إلَى أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَلَمْ يَقُلْ: فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدَّمِ، فَقَالَ: وَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ دَمُ قُرْبَةٍ لِكَوْنِهِ دَمَ شُكْرٍ؛ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَيُصَارُ إلَى إيجَابِهِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ) أَيْ: بِإِحْرَامِ عُمْرَةٍ (فَأَفْسَدَهَا) بِأَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ (وَفَرَغَ مِنْهَا) يَعْنِي مَضَى (وَقَصَّرَ) وَتَحَلَّلَ (ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) أَيْ: قَضَى الْعُمْرَةَ الَّتِي أَفْسَدَهَا، (وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى الْبَصْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِلَا خِلَافٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. (وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَيُّهُمَا أَفْسَدَ مَضَى فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ (وَسَقَطَ دَمُ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقْ بِأَدَاءِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمْ يُجِزْهَا عَنْ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمَّا يُجْزِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا) إذْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا دَمُ الْمُتْعَةِ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَئِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَنْ اشْتَرَتْ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ آخَرُ عَلَيْهَا غَيْرَ مَا وَجَبَ بِالتَّمَتُّعِ، (وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ) وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ السَّائِلَةَ كَانَتْ امْرَأَةً فَوَضَعَتْ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا وَقَعَ وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِنَّ الْجَهْلُ وَنِيَّةُ التَّضْحِيَةِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ جَهْلٍ.
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُجْزِهَا عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ كَانَ عَلَيْهَا دَمَانِ سِوَى مَا ذَبَحَتْ: دَمُ الْمُتْعَةِ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا، وَدَمٌ آخَرُ لِأَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ قَبْلَ الذَّبْحِ (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ) وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيك لَعَلَّك نَفِسْت؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، دَعِي عَنْك الْعُمْرَةَ، أَوْ قَالَ: اُرْفُضِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا هُوَ بِقَوْلِهِ: وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَلَكِنْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: «نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ» دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ؛ (وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ) وَالْحَائِضُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ دُخُولِهِ، (وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ) وَلَيْسَتْ بِمَنْهِيَّةٍ عَنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْحَيْضِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا) لِلنَّظَافَةِ. (فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ انْصَرَفَتْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ)؛ «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ) أَيْ: لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ؛ «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ»، رَوَتْ عَائِشَةُ: «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَقْرَى حَلْقَى إنَّك لَحَابِسَتُنَا، أَمَا كُنْت طُفْت يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَلَا بَأْسَ انْفِرِي» فَلَمَّا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ كَفَّارَةٌ، وَعَقْرَى وَحَلْقَى عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَعْلَى، وَمَعْنَاهُ: عَقَرَ جَسَدُهَا وَأَصَابَهَا فِي حَلْقِهَا وَجَعٌ. (وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يُصْدَرُ إلَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا بَعْدَمَا حَلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَرْوِيهِ الْبَعْضُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: (بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ) يَعْنِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ) كَمَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.
فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ صَارَ كَمُقِيمٍ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ بَاقٍ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَقِيَ الْوَقْتُ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْقُطُ بِالْعَارِضِ الْمُعْتَبَرِ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي حَاضَتْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.