فصل: بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ:

(وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنْ رَجَعَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي أَوَانِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَسْقُطُ الدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ عَلَى مَا مَرَّ.
غَيْرَ أَنَّ التَّدَارُكَ عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ كَمَا إذَا مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِنًا.
وَعِنْدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ فَكَانَ التَّلَافِي بِعَوْدِهِ مُلَبِّيًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ مَكَانَ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ (وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (إذَا كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ، وَهُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِقَصْدِهِ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ، وَلِلْبُسْتَانِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، فَكَذَا وَقْتُ الدَّاخِلِ الْمُلْحَقِ بِهِ (فَإِنْ أَحْرَمَا مِنْ الْحِلِّ وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ) يُرِيدُ بِهِ الْبُسْتَانِيَّ وَالدَّاخِلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا مِنْ مِيقَاتِهِمَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ): قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ بَابَ الْجِنَايَاتِ وَأَنْوَاعَهَا أَعْقَبَهُ ذِكْرَ بَابِ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْجِنَايَاتِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ بَابِ الْجِنَايَاتِ وَمَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَمُطْلَقُ ذِكْرِ جِنَايَةِ الْمُحْرِمِ يَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَكَانَ كَامِلًا فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْجِنَايَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ عَلَى هَذَا الْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ وَالْإِحْرَامُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَمَكَّنَ بِهِ فِي حَجِّهِ نُقْصَانٌ، وَنُقْصَانُهُ يُجْبَرُ بِالدَّمِ إلَّا إذَا تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي أَوَانِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ مُلَبِّيًا قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ (وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ) وَتَخْصِيصُهُ بِذَاتِ عِرْقٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْكُوفِيِّ وَإِلَّا فَالرُّجُوعُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُنْظَرُ إنْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ.
وَذَلِكَ الْمِيقَاتُ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ إلَى الْحَرَمِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ وَإِلَّا فَلَا (وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: إنْ رَجَعَ مُحْرِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ، وَالرَّاجِعُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُنْشِئٍ (وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ) وَتَدَارُكُ الْمَتْرُوكِ فِي أَوَانِهِ يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ (بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُنَاكَ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِالْعَوْدِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ.
وَبِهَذَا الْكَلَامِ تَمَّ الْحُجَّةُ عَلَى زُفَرَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ التَّدَارُكَ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَوْدِ أَوْ مَعَ التَّلْبِيَةِ (عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ) وَهُوَ الْمُرُورُ بِهِ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَمَرَّ بِهِ سَاكِتًا صَحَّ (وَعِنْدَهُ بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ) فَإِذَا أَحْرَمَ مِنْهَا صَارَتْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ فَتُشْتَرَطُ التَّلْبِيَةُ هُنَاكَ، فَإِذَا لَبَّى ثَمَّةَ ثُمَّ سَكَتَ عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْمِيقَاتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ، فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ كَالْخِلَافِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَوْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي وَجْهٍ يَسْقُطُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ جَاوَزَ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ سَقَطَ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّلْبِيَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ الطَّوَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَافَ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَعَ شَوْطًا مُعْتَدًّا بِهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي إسْقَاطَ الدَّمِ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ مِنْ الْمِيقَاتِ تَقْدِيرًا وَبَعْدَمَا وَقَعَ مِنْهُ شَوْطٌ مُعْتَدٌّ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مُبْتَدِئًا، وَظَهَرَ لَك مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الشَّوْطِ وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ) يَعْنِي سَوَاءً نَوَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرَطَ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ. (وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْوَقْتِ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ) ذَلِكَ (مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ، كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُونَ الْعَامِ الثَّانِي.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ) مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ (ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ) وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَإِنَّهَا تَنُوبُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ (اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَجَبَتْ بِالنَّذْرِ وَحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَا الْمَنْذُورَةُ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاجِبَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، فَكَمَا لَا تَتَأَدَّى الْمَنْذُورَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَكَذَا الْمَشْرُوعُ فِيهَا (وَصَارَ) ذَلِكَ (كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ) ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ (وَلَنَا) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ) وَهُوَ السَّنَةُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ) لَا غَيْرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ (كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ) فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي نَوَى وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ) بِمُضِيِّ وَقْتِ الْحَجِّ (فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةٍ نَذَرَ فِيهَا دُونَ الْعَامِ الثَّانِي) فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَجَّةَ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ تَصِيرُ دَيْنًا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعُمْرَةَ تَصِيرُ دَيْنًا لِعَدَمِ تَوَقُّتِهَا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ الْعُمْرَةُ الْوَاجِبَةُ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا تَسْقُطُ بِهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى.
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ إلَى أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ، فَإِذَا أَخَّرَهَا إلَى وَقْتٍ مَكْرُوهٍ صَارَ كَالْمُفَوِّتِ لَهَا فَصَارَتْ دَيْنًا. (وَمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَفْسَدَهَا مَضَى فِيهَا وَقَضَاهَا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ لَازِمًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ) وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَفِيمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّتَهُ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ.
وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ) بِغَيْرِ إحْرَامٍ.
ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: الْمُضِيُّ فِيهَا، وَقَضَاؤُهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَسُقُوطُ الدَّمِ.
أَمَّا الْمُضِيُّ؛ فَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ عَنْهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يَفْعَلْ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّمِ فَلِأَنَّهُ إذَا قَضَاهَا بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ يَنْجَبِرُ بِهِ مَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ الْمِيقَاتِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا سَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَنَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ قَضَاهُ فَإِنَّ دَمَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، قَالَ: لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ (وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمِيقَاتِ (فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ) أَيْ الْقَضَاءُ (يَحْكِي الْفَائِتَ) أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ مَا فَاتَ وَهُوَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ وَقَضَائِهِ. (وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحَرَمِ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْحَرَمُ وَقَدْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْحَرَمِ وَلَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْآفَاقِيِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ مِنْ الْحَرَمِ إلَخْ) ظَاهِرٌ (وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ، وَإِحْرَامُ الْمَكِّيِّ مِنْ الْحَرَمِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ (فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ فَأَهَلَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِيِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ: إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ).
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَتَعَذَّرَ رَفْضُهَا كَمَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا، وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرُ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إبْطَالَ الْعَمَلِ.
وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ دَمُ جَبْرٍ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى، فَإِنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَا: إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ، فَإِذَا حَلَقَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى حَجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ وَشَرْطُ التَّقْصِيرِ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
بَابُ: إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ.
إضَافَةُ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ جِنَايَةٌ، وَكَذَلِكَ إضَافَةُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، بِخِلَافِ إضَافَةِ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ؛ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَ الْجِنَايَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِهِ جَعَلَهُ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) قَيَّدَ بِالْمَكِّيِّ؛ لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مَضَى فِيهِمَا، وَلَا يَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ أَعْمَالِ الْحَجِّ عَلَى أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ طَافَ لَهَا أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ كَانَ قَارِنًا، وَإِنْ طَافَ لَهَا الْأَكْثَرَ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ بَعْدَ عَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَلِأَكْثَرِ الطَّوَافِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْقَارِنُ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَيَّدَ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَطَافَ لَهُ شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ، وَقَبْلَ التَّأَكُّدِ كَانَ يُؤْمَرُ بِرَفْضِهَا فَبَعْدَهُ أَوْلَى.
وَقُيِّدَ بِالشَّوْطِ: يَعْنِي الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ إذَا طَافَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَا خِلَافَ فِي رَفْضِ الْحَجِّ، وَأَمَّا فِي الشَّوْطَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الَّذِي ذُكِرَ إذَا طَافَ لَهَا شَوْطًا.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ لابد مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا) بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا حَذَرًا مِنْ الِاسْتِدَامَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ (وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا) لِكَوْنِهِ فَرْضًا دُونَهَا (وَأَقَلُّ أَعْمَالًا)؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا غَيْرُ (وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ) هَذَا إذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ تَطَوُّعًا فَيُعَلَّلُ بِالْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ) يَعْنِي رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ لَكِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَهُوَ مُلَبِّسٌ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ هَاهُنَا فِي بَعْضِهَا عِنْدَهُمَا وَفِي بَعْضِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي بَعْضِهَا: وَكَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَذْفِ كَلِمَةِ لَا مِنْ قَوْلِهِ وَلَا كَذَلِكَ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُسَامُ الدِّينِ الْأَخْسِيكَتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالصَّوَابُ وَكَذَلِكَ يَعْنِي النُّسْخَةَ الْأَخِيرَةَ قَالَ: وَهَكَذَا أَيْضًا وَجَدْته بِخَطِّ شَيْخِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ النُّسَخِ وَجْهٌ، أَمَّا وَجْهُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لِدَفْعِ سُؤَالِ سَائِلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا أَخَذَ الْأَكْثَرُ حُكْمَ الْكُلِّ يَكُونُ الْأَقَلُّ مَعْدُومًا حُكْمًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ شَيْئًا وَهُنَاكَ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ كَمَا مَرَّ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَعْدُومِ الْحُكْمِيِّ، فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَقَدْ تَأَكَّدَتْ الْعُمْرَةُ وَلَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَجُّ أَصْلًا فَكَانَ رَفْعُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَسْهَلَ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ مِنْ جَانِبِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ؛ (وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ) يَعْنِي وَالْحَالَ أَنَّهُ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ (إبْطَالَ الْعَمَلِ) أَيْ الطَّوَافِ الَّذِي أَتَى بِهِ (وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ) وَالِامْتِنَاعُ أَهْوَنُ مِنْ إبْطَالِ مَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ) يَعْنِي الْحَجَّ عِنْدَهُ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا (لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ) بِكَوْنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ (فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ) وَعَلَى الْمُحْصَرِ دَمٌ لِلتَّحَلُّلِ وَيَكُونُ الدَّمُ دَمَ جَبْرٍ لَا دَمَ شُكْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا لَزِمَهُ دَمَانِ لِحُرْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ دَمٌ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالنُّقْصَانِ حَيْثُمَا تَمَكَّنَ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِي أَحَدِهِمَا فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ (إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ) أَمَّا الْحَجُّ فَلِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَضَهُ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِهَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ فِي الْعُمْرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مَنْهِيٌّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يَرْفُضْ الْمَكِّيُّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ الْعُمْرَةَ أَوْ الْحَجَّ وَمَضَى عَلَيْهِمَا وَأَدَّاهُمَا (أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا) أَيْ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي نُسْخَةِ شَيْخِي بِخَطِّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَيْ عَنْ الْعُمْرَةِ إذْ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ لِلرَّفْضِ إجْمَاعًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ لِأَنَّهَا هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ الْعِصْيَانُ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا) أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ دُونَ النَّفْيِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَكَانَ التَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ كَامِلًا كَمَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَاضِحٌ.
قَالَ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى) اعْلَمْ أَنَّ إضَافَةَ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ: إدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِدْخَالُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ.
وَقَدَّمَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ذَكَرَ إدْخَالَ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فَرْضًا، ثُمَّ إدْخَالَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَكَمِّيَّةِ الْأَفْعَالِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ، لَكِنْ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا، وَلَا كَلَامَ هَاهُنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَعِنْدَنَا شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ، لَكِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلْأَدَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ.
وَأَدَاءُ حَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْرَامُ لَهُمَا كَالتَّحْرِيمَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ الْتِزَامٌ مَحْضٌ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مُنْفَصِلًا عَنْ الْأَدَاءِ وَالذِّمَّةُ تَسَعُ حِجَجًا كَثِيرَةً فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالنَّذْرِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمَةِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ لابد لَهُ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا إمَّا احْتِرَازًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ لِلْأَدَاءِ لَا لِلِالْتِزَامِ وَالْجَمْعُ أَدَاءٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَبَعْدَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا تَوَجَّهَ إلَى أَدَاءِ أَحَدِهِمَا صَارَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ يَصِيرُ رَافِضًا أَحَدَهُمَا.
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قِيمَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْتَاجُ إلَى هَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
إذَا عَرَفْت هَذَا نَعُودُ إلَى تَطْبِيقِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى (فَإِنْ حَلَقَ فِي) الْحَجَّةِ (الْأُولَى) ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى (لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْتِزَامٌ مَحْضٌ (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ نِهَايَتَهَا (وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى) وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ، فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَحْلِقَ لِلْأُولَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَلْقَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ حَلَقَ فَقَدْ تَحَلَّلَ عَنْ الْأُولَى، وَلَكِنْ جَنَى عَلَى الثَّانِيَةِ بِالْحَلْقِ، وَإِنْ أَخَّرَ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ فِي الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ، وَالتَّأْخِيرُ عَنْ الْوَقْتِ مَضْمُونٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ (وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ) أَيْ حَلَقَ أَوْ لَمْ يَحْلِقْ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّقْصِيرِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الْحَلْقِ ثُمَّ لَفْظَ التَّقْصِيرِ لِمَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْحَلْقُ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ (وَقَالَا: إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِيمَا سَبَقَ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.
وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ، وَإِنْ قَصَّرَ لِعَدَمِ لُزُومِ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَهْوًا فِي نَقْلِ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَمَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِهِمَا، وَإِنَّمَا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ (وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِأُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ دَم يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ (لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ (لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ) لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيَّنَ فِيهَا لُزُومَ دَمِ الْجَمْعِ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ بَيَانُ وُجُوبِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَوْجَبَهُ فِي مَنَاسِكِ الْمَبْسُوطِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ فَذَلِكَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ فِي لُزُومِ الْإِحْرَامَيْنِ كَمَذْهَبِهِمَا، وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِعَدَمِ لُزُومِ أَحَدِهِمَا، إلَّا إذْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ إدْخَالَ الْإِحْرَامِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَحَدُهُمَا فَيَسْتَقِيمُ. (وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا (وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِعُمْرَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا حَتَّى يَقِفَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ (ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا) لِأَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ (لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ لَا إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} جَعَلَ الْحَجَّ آخِرَ الْغَايَتَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ صَحَّ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ وُجِدَ فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ فَاتَ فِي الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، حَتَّى (لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ كَانَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ) بَلْ الْمَشْرُوعُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْحَجِّ مَبْنِيَّةً عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (مَبْنِيَّةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ).
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ فِي هِيَ فَلِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ سَيَجِيءُ وَفِيهِ نَظَرٌ (فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا) حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَانَ قَارِنًا (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ الْقِرَانِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ (فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ رُكْنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا لَوْ مَضَى عَلَيْهِمَا جَازَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ.
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ)؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ، وَإِذَا رَفَضَ عُمْرَتَهُ يَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ) لِرَفْضِهَا (وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ) لِمَا قُلْنَا (وَيَرْفُضُهَا) أَيْ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْضُهَا، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِرَفْضِهَا (وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا) لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا) إمَّا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ أَيْضًا.
وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ.

الشَّرْحُ:
(فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ) يَعْنِي طَوَافَ التَّحِيَّةِ (ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا) وَتَفْسِيرُ الْمُضِيِّ أَنْ يُقَدِّمَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ الْمَسْنُونُ فِي الْقِرَانِ (لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ (فَصَحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ ذَلِكَ دَمُ الْقِرَانِ فَيَكُونُ دَمَ شُكْرٍ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فِي بِنَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ كَقِرَانِ الْمَكِّيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَيُسْتَحَبُّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ أَهَلَّ بِهَا بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ الْحَجَّةِ بِالْحَلْقِ يَأْتِي ذِكْرُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ (لَزِمَتْهُ لِمَا قُلْنَا) يُرِيدُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَيَرْفُضُهَا) قَالُوا مَعْنَاهُ: يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ، وَهُوَ الْوُقُوفُ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ) وَجْهٌ آخَرُ فِي لُزُومِ الرَّفْضِ (عَلَى مَا نَذْكُرُ) إشَارَةً إلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْفَوَاتِ بِقَوْلِهِ الْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا) أَيْ قَضَاءً لِلْمَرْفُوضَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهُ وَهُنَا يَلْزَمُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِيهِ تَحْصُلُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ وَهِيَ تَرْكُ إجَابَةِ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْمَرُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا تَحْصُلُ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ أَدَاءُ أَفْعَالِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ لَهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا: أَيْ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (أَجْزَأَهُ) وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، إمَّا فِي الْإِحْرَامِ) يَعْنِي إنْ كَانَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ (أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ) يَعْنِي إذَا كَانَ بَعْدَ الْحَلْقِ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِمَا قَبْلَ الْحَلْقِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ لاسيما وَقَدْ ذُكِرَ بِكَلِمَةِ أَوْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا حَلَقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ مُطْلَقًا (وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الرَّفْضَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَجَوَابُهُ فِي الْأَصْلِ مُشْتَبَهٌ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا (وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ) يَعْنِي النَّهْيَ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا ذَكَرْنَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا (فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا)؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: عَلَى هَذَا) الْقَوْلِ وَهُوَ رَفْضُ الْعُمْرَةِ.
وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُهَا: أَيْ لَا تُرْتَفَضُ مِنْ غَيْرِ رَفْضٍ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ) يَعْنِي فَائِتَ الْحَجِّ وَهُوَ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا.
أَمَّا إذَا كَانَتْ عُمْرَةً؛ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ لُزُومِ الرَّفْضِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخْرَى، فَعِنْدَهُمَا يَرْفُضُهَا كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرْفُضُهَا بَلْ يَمْضِي فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا يَأْتِيك) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَا قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَاكَ.
وَقَوْلُهُ (فَيَصِيرُ جَامِعًا) أَيْ فَائِتُ الْحَجِّ الَّذِي أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يَصِيرُ جَامِعًا (بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ) أَفْعَالًا فَيَجِبُ أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَجَّةً فَإِنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

.بَابُ: الْإِحْصَارِ:

(وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ.
وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ، وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ.
قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ، وَتَجُوزُ الشَّاةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَعَذَّرُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَحَلَّلَ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ».
وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ.
(وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ) لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْإِحْصَارِ.
لَمَّا كَانَ مِنْ الْإِحْصَارِ مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ أَعْقَبَهُ بَابَ الْجِنَايَاتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أُحْصِرَ إذَا مَنَعَهُ خَوْفٌ أَوْ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى إتْمَامِ حَجَّتِهِ أَوْ عُمْرَتِهِ، وَإِذَا حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ قَاهِرٌ مَانِعٌ يَقُولُونَ حُصِرَ، فَالْمُحْصَرُ مُحْرِمٌ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ إلَى إتْمَامِ أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ (فَإِذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فَمُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُصِرَ الْإِحْصَارُ فِي الْعَدُوِّ وَقَالَ: الْمَرِيضُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ (لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ) بِالْإِحْلَالِ وَالنَّجَاةُ بِالْإِحْلَالِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْمَرَضِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ شَرُّ عَدُوِّهِ (وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ) وَإِذَا وَرَدَتْ فِيهِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ أَقْوَى، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا تَعَلُّقَ لَهُمْ بِوُرُودِ الْآيَةِ وَسَبَبِ نُزُولِهَا.
وَالثَّانِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ.
وَعَنْ الثَّانِي بِمَا قِيلَ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ مُطْلَقَةٌ يُعْمَلُ بِهَا عَلَى إطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْأَسْبَابِ الْوَارِدَةِ هِيَ لِأَجْلِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ) اسْتِدْلَالٌ بِمَعْقُولٍ فِيهِ شَائِبَةُ التَّنَزُّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ، لَكِنَّ الْمَرَضَ مُلْحَقٌ بِهِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ (لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ) لَا مَحَالَةَ لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِ مُدَاوَاةً وَمُدَارَاةً إلَى مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ جَوَازُ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ (يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلْ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ لِيُعْرَفَ وَقْتُ الْإِحْلَالِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَدَمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ مُوَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُوَاعَدَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعُمْرَةِ، فَإِذَا بَعَثَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَقَامَ بِمَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالِانْصِرَافِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْمُحْصَرُ بِهِ ذَبْحَ هَدْيِهِ فَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الَّذِي ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ) فَدَمُ الْإِحْصَارِ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً بِدُونِ أَحَدِ هَذَيْنِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ الْمَكَانَ بِإِشَارَةٍ (قَوْلُهُ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لَمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ) وَالْمَحِلُّ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ، نَهْيٌ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَوْضِعَ حِلِّهِ، ثُمَّ فُسِّرَ الْمَحِلُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمَ، وَهَذَا وَاضِحٌ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ.
قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ) وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ التَّخْفِيفَ مَتَى لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ بَلْ يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا،؛ وَلِأَنَّ نِهَايَتَهُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ الشَّاةُ) ظَاهِرٌ، وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ قِيمَةَ شَاةٍ أَقَامَ حَرَامًا حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى كَمَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ) أَيْ الْحَلْقُ, وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِمَا أَنَّ مُجَرَّدَ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي لَا يُفْعَلُ قُرْبَةً دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ، وَفِي أُخْرَى وَاجِبٌ.
وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَ دَلِيلَ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يُورِدْ دَلِيلَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً) يَعْنِي أَنَّ كَوْنَ الْحَلْقِ قُرْبَةً عُرِفَ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ الْأَوْصَافِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُهُ (مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ) فَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُرَتَّبِ قُرْبَةٌ، وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَلِيَعْرِفَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْصِرَافِ فَيَأْمَنُوا جَانِبَهُمْ وَلَا يَشْتَغِلُوا بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الصُّلْحِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْمُحْصَرُ (قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامَيْهِ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ, ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا.
فَإِنْ قِيلَ: دَمُ الْإِحْصَارِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ فِي التَّحَلُّلِ وَالْقَارِنُ يَتَحَلَّلُ بِحَلْقٍ وَاحِدٍ عَنْ الْإِحْرَامَيْنِ فَمَا بَالُهُ لَا يَتَحَلَّلُ عَنْهُمَا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؟ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا صَارَ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ فَكَانَ قُرْبَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَنُوبُ الْوَاحِدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدُونِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا جَازَ النَّذْرُ بِهِ، وَمَا هُوَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَنُوبُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ.
فَإِنْ تَكَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحَلُّلُ وَاقِعًا بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ بِالْأَوَّلِ كَانَ الثَّانِي لَغْوًا، وَإِنْ وَقَعَ بِالثَّانِي كَانَ الْأَوَّلُ جِنَايَةً، فَأَمَّا الذَّبْحُ فَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَصَحَّ الْجَمْعُ. (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ) اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ) إنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِيَجْعَلَهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ زِيَادَةً فِي بَيَانِ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ أَعْرَفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَصْحَابُنَا مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) تَعْلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ الذَّبْحِ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ) فَبِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيلٍ (وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلِّلٌ) فَكَمَا لَمْ يَجُزْ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَلِكَ الذَّبْحُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ بِهِمَا (لِأَنَّهُ) أَيْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ (دَمُ نُسُكٍ) وَمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَكَذَا هَذَا.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمَا الْآخَرِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَلَى نَوْعَيْنِ: تَحَلُّلٌ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ، وَتَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِهِ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لابد لَهُ مِنْ التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ (وَهُوَ يَنْتَهِي بِهِ) أَيْ بِوَقْتِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ الْحَلْقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى التَّوْقِيتِ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
قَالَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ زَمَانٍ، فَاشْتِرَاطُهُ بِالْقِيَاسِ نَسْخٌ. قَالَ: (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ.
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ وَفَوَاتُهُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْحَجَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي فَائِتِ الْحَجِّ لِلتَّحَلُّلِ، وَالتَّحَلُّلُ هَاهُنَا حَصَلَ بِالْهَدْيِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْعُمْرَةِ.
قُلْنَا: هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْبَيْتِ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا».
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ مُتَصَوَّرٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْعُمْرَةِ (لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ.
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا) صَحَّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْعُمْرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَضَوْهَا مِنْ قَابِلٍ وَكَانَتْ تُسَمَّى عُمْرَةَ الْقَضَاءِ؛ (وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ) (وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ) أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا.
الشَّرْحُ:
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي الْمُفْرِدِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا) (فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ) لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ بِيَوْمِ النَّحْرِ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَهُوَ الْهَدْيُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ، وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذِكْرُ الْقَارِنِ هَاهُنَا وَقَعَ غَلَطًا ظَاهِرًا مِنْ النَّاسِخِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ.
وَبَيَانُ الْغَلَطِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ بَعْثُ الْهَدْيَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ.
وَأَقُولُ: لَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا فِي الْقَارِنِ لَمْ يُرِدْ فَكَّ النَّظْمِ فَقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا، وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ دَمَيْنِ أَوْ دَمًا وَاحِدًا أَوْ ثَوْبًا، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ دَمَانِ وَهُمَا هَدْيُ الْقَارِنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ دَمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا هُوَ غَلَطٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا مَنْ نَسَخَهُ، بَلْ رُبَّمَا لَوْ قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ كَانَ مُلَبِّسًا فِي حَقِّ الْقَارِنِ، وَلَوْ قَالَ هَدْيَيْنِ كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ مَا يُهْدَى فَلَا يُثَنَّى إلَّا إذَا قَصَدَ الْأَنْوَاعَ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَوْ الْعَدَدَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا (وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ) ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا وُجُوهًا أَرْبَعَةً بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يُدْرِكَ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ أَوْ يُدْرِكَهُمَا أَوْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْكُلُّ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.
فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ (لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصِيرُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ الْهَدْيِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ) فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوَجُّهِ وَالتَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتْمًا كَفَائِتِ الْحَجِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحَلُّلُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَهُ لِيُنْحَرَ عَنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ (لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ) كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ إتْمَامِ الْكَفَّارَةِ بِهِ (وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ) وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (وَهَذَا التَّقْسِيمُ) يَعْنِي الْوَجْهَ الرَّابِعَ (لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ خَوْفَ النَّفْسِ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ.
فَإِنْ قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ فَأَيْنَ يُمَاثِلُ الْمَالِكُ الْمُبْتَذَلَ، وَلَكِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ إتْلَافِهِ ظُلْمًا لِقِيَامِ عِصْمَةِ صَاحِبِهِ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا تَقْتَضِي اتِّحَادَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَإِلَّا لَارْتَفَعَ التَّشْبِيهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ الْخِيَارُ) يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، لَمَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (إنْ شَاءَ صَبَرَ) إلَى أَنْ يُنْحَرَ عَنْهُ الْهَدْيُ فِي الْمِيعَادِ فَيَتَحَلَّلَ (وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِأَدَاءِ النُّسُكِ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ (وَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا)؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُكْمِ الْإِحْصَارِ خَوْفُ الْفَوَاتِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَعَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ: دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَدَمٌ لِتَرْكِ رَمْيِ الْجِمَارِ.
وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ.
وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ.
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ شَيْءٌ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ازْدِيَادَ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ يُثْبِتُ حُكْمَ الْإِحْصَارِ كَمَا فِي إحْصَارِ الْعُمْرَةِ وَهَاهُنَا قَدْ ازْدَادَتْ فَلْيَثْبُتْ حُكْمُهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ. (وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَهُوَ مُحْصَرٌ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَلِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ (خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، فَقُلْت: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ) مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ يَكُونُ مُحْصَرًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.