فصل: حكم الإنماء بالنّسبة لمن لا يملك الرقبة ولا التّصرّف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


انفصال

التّعريف

1 - الانفصال لغةً‏:‏ الانقطاع، يقال‏:‏ فصل الشّيء فانفصل أي قطعه فانقطع، فهو مطاوع فصل، وهو ضدّ الاتّصال‏.‏ والانفصال هو الانقطاع الظّاهر، والانقطاع يكون ظاهراً وخافياً، وهذا من حيث اللّغة‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البينونة‏:‏

2 - البينونة تأتي بمعنى الانفصال، وكثرت على ألسنة الفقهاء في الطّلاق غير الرّجعيّ‏.‏

الحكم الإجمالي، ومواطن البحث

4 - الأجزاء الّتي تنفصل من البدن تارةً تبقى لها الأحكام المتعلّقة بها قبل الانفصال، وتارةً تتغيّر، فالأوّل نحو كلّ عضوٍ يحرم النّظر إليه قبل الانفصال فإنّه يحرم النّظر إليه بعد الانفصال‏.‏ فأجزاء العورة لا فرق في حرمة النّظر إليها قبل الانفصال وبعده، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في أحكام النّظر من باب الحظر والإباحة‏.‏

5- وممّا يتغيّر حكمه بالانفصال استدخال المرأة الذّكر المقطوع، فلا حدّ فيه، وإن حرم ذلك الفعل‏.‏

6- وما انفصل من أجزاء الميّت أخذ حكمه عند البعض، يغسّل ويصلّى عليه، ويدفن، لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم، قال أحمد‏:‏ صلّى أبو أيّوب على رِجْلٍ، وصلّى عمر على عظامٍ بالشّام، وصلّى أبو عبيدة على رءوسٍ بالشّام، روى ذلك عبد اللّه بن أحمد بإسناده، وقال الشّافعيّ‏:‏ ألقى طائر يداً بمكّة من وقعة الجمل فعرفت بالخاتم، وكانت يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيدٍ، فصلّى عليها أهل مكّة، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة، ولم يعرف من الصّحابة مخالف في ذلك‏.‏

وقال أبو حنيفة، ومالك‏:‏ إن وجد الأكثر صلّي عليه، وإلاّ فلا، لأنّه بعض لا يزيد على النّصف فلم يصلّ عليه، كالّذي بان في حياة صاحبه كالشّعر والظّفر‏.‏

ولم يفرّق الحنفيّة والمالكيّة بين أجزاء الحيّ وأجزاء الميّت المنفصلة عنه، وقال الشّافعيّة‏:‏ يستحبّ لفّ ودفن ما انفصل من حيٍّ كيد سارقٍ، وظفرٍ، وعلقةٍ، وشعرٍ، واستظهر بعضهم وجوب لفّ اليد ودفنها‏.‏ وتنتهي العدّة بانفصال الولد عن رحم أمّه انفصالاً كاملاً، وفي انفصال المضغة تفصيل يذكر في ‏(‏العدّة‏)‏‏.‏

انفصال السّقط

7 - السّقط إن انفصل حيّاً ثمّ مات فإنّه كالكبير في التّسمية، والإرث، والجناية عليه، وفي غسله وتكفينه، والصّلاة عليه، ودفنه، واستثنى بعض المالكيّة من ذلك التّسمية إن مات قبل اليوم السّابع من ولادته‏.‏

وإن انفصل ميّتاً، فإنّه لا يصلّى عليه، لكنّه يدفن، وفي غسله خلاف بين الفقهاء‏:‏ منهم من أوجب الغسل إن نفخ فيه الرّوح، ومنهم من كره تغسيل السّقط مطلقاً، وبعض الفقهاء يوجب تكفينه، والبعض يكتفي بلفّه بخرقةٍ، ويفصّل الفقهاء ذلك في كتاب ‏(‏الجنائز‏)‏‏.‏ وتسمية من ولد ميّتاً فيها خلاف كذلك، فالبعض يقول بالتّسمية، والبعض يمنعها، ويتكلّمون عن ذلك في مبحث ‏(‏العقيقة والجنائز‏)‏‏.‏

ولا يرث من انفصل بنفسه ميّتاً باتّفاق الفقهاء، وكذا إذا انفصل بفعلٍ عند أغلب الفقهاء لا يرث، وقال الحنفيّة‏:‏ إنّه من جملة الورثة يرث ويورث، لأنّ الشّرع لمّا أوجب على الجاني الغرّة فقد حكم بحياته، ويذكر الفقهاء ذلك في ‏(‏الإرث‏)‏، والبعض يذكره في ‏(‏الجنائز‏)‏‏.‏

8 - وانفصال الزّوجين يكون بواحدٍ من ثلاثة أمورٍ، الفسخ أو الانفساخ، والطّلاق، والموت‏.‏

9 - وانفصال المستثنى عن المستثنى منه زمناً طويلاً في صيغ الإقرار واليمين ونحوهما يبطل الاستثناء، وقيل يصحّ التّأخير ما دام المجلس، ويتكلّم الأصوليّون عن ذلك في شرائط الاستثناء، والفقهاء في الإقرار، والطّلاق غالباً‏.‏

وبالإضافة إلى ما تقدّم بذكر الانفصال في الغسل، والبيع - الزّيادة المنفصلة - وفي الرّهن - زيادة المرهون المنفصلة، وفي الوصيّة‏.‏

أنقاض

التّعريف

1 - أنقاض‏:‏ جمع مفرده نقض‏.‏

والنّقض - بكسر النّون وضمّها - المنقوض أي المهدوم‏.‏

والنّقض‏:‏ اسم لبناء المنقوض إذا هدم، والنّقض - بالفتح - الهدم‏.‏

واستعمله الفقهاء بالمعنى نفسه‏.‏

الأحكام الّتي تتعلّق به

أوّلاً‏:‏ حكم التّصرّف في أنقاض الوقف‏:‏

2 - ما انهدم من بناء الوقف فإنّه ينتفع بأنقاضه في عمارته، فإن تعذّر إعادة عينه بيع وصرف الثّمن في عمارته‏.‏

وكذلك الحكم في المسجد إذا انهدم، فإذا لم يمكن الانتفاع بالمسجد ولا إعادة بنائه انتفع بأنقاضه أو بثمنها في مسجدٍ آخر‏.‏

وهذا عند الحنابلة، والحنفيّة غير محمّدٍ، وبعض المالكيّة كابن زربٍ وابن لبابة، وكذلك عند الشّافعيّة‏.‏ إلاّ أنّه عندهم إذا لم ينتفع بأنقاض المسجد في مسجدٍ آخر فإنّه يحفظ ولا يباع‏.‏ وعند محمّد بن الحسن يعود إلى الباني أو إلى الورثة‏.‏

وقال الشّيخ خليل والشّيخ عليش من المالكيّة بعدم جواز بيع نقض العقار الموقوف‏.‏

ثانياً‏:‏ حكم نقض الأبنية المقامة‏:‏

الأبنية إمّا أن يقيمها الإنسان في ملك نفسه أو في ملك غيره‏.‏

ما يقيمه الإنسان في ملك نفسه‏:‏

3 - ما يقيمه الإنسان في ملك نفسه وكان فيه ضرر على الغير يجب نقضه، وذلك كمن أخرج جناحاً إلى الطّريق وكان يضرّ بالمارّة فإنّه يجب نقضه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ضرر ولا ضرار»‏.‏ وهذا باتّفاقٍ‏.‏ وما تولّد من سقوطه فهو مضمون على صاحبه‏.‏ وهذا في الجملة وفي ذلك تفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ جناية - تلف - ضمان‏)‏‏.‏

ما يقيمه الإنسان في ملك غيره‏:‏

4 - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره، إمّا أن يكون بإذن صاحبه أو بدون إذنه‏.‏

أ - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره بإذن صاحبه وذلك كمن يستعير أرضاً للبناء بإذن صاحبها‏.‏ فإن كانت العاريّة مطلقةً أو مؤقّتةً بوقتٍ، وشرط المعير على المستعير نقض البناء عند انتهاء الوقت أو عند الرّجوع، فإنّ المستعير يلزم بنقض البناء لحديث‏:‏

«المسلمون على شروطهم»‏.‏

وإن كان المعير لم يشترط النّقض، فإن رضي المستعير بالنّقض نقض، وإن أبي لم يجبر عليه لمفهوم حديث‏:‏ «ليس لعرقٍ ظالمٍ حقّ»، ولأنّه بني بإذن ربّ الأرض، ولم يشترط عليه قلعه، وفي القلع ضرر بنقص قيمته بذلك‏.‏ ويكون - في هذه الحالة - الخيار للمعير بين أخذ البناء بقيمته، وبين قلعه مع ضمان نقصانه جمعاً بين الحقّين، أو يبقيه بأجر مثله‏.‏ وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة‏.‏

وعند الحنفيّة إن كانت العاريّة مطلقةً أو مؤقّتةً وانتهى وقتها فللمالك أن يجبر المستعير على نقض البناء، لأنّ في التّرك ضرراً بالمعير، لأنّه لا نهاية له ولا غرر من جهته‏.‏

وإن كانت مؤقّتةً وأراد إخراجه قبل الوقت فلا يجبر المستعير على النّقض بل يكون بالخيار إن شاء ضمّن صاحب الأرض قيمة البناء قائماً سليماً وتركه له، وإن شاء أخذ بناءه ولا شيء على صاحب الأرض‏.‏ ثمّ إنّما يثبت نقض البناء إذا لم يكن النّقض مضرّاً بالأرض، فإن كان مضرّاً بها فالخيار للمالك، لأنّ الأرض أصل والبناء تابع، فكان المالك صاحب أصلٍ فله الخيار، إن شاء أمسك البناء بالقيمة، وإن شاء رضي بالنّقض‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ إذا انقضت مدّة الإعارة المشترطة أو المعتادة وفي الأرض بناء، فالمعير بالخيار بين إلزام المستعير بالهدم، وبين أخذ البناء ودفع قيمته منقوضاً‏.‏

ب - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره بغير إذن صاحبه، كمن غصب أرضاً وبنى فيها، فإنّ الغاصب يجبر على نقض البناء متى طالبه ربّ الأرض بذلك، ويلزم بتسويتها وأرش نقصها، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

إلاّ أنّه عند الحنفيّة إذا كانت الأرض تنقص بالنّقض فللمالك أخذ البناء وضمان قيمته منقوضاً، وهو أيضاً رأي المجد ابن تيميّة من الحنابلة‏.‏ وقال الكرخيّ من الحنفيّة‏:‏ إن كانت قيمة البناء أكثر فإنّ الغاصب يضمن قيمة الأرض ولا يؤمر بالقلع‏.‏

وعند المالكيّة يخيّر المالك بين أخذ البناء ودفع قيمته منقوضاً، وبين أمر الغاصب بهدمه وتسوية أرضه‏.‏ ومن غصب لبناً أو آجرّاً أو خشبةً فأدخلها في البناء، فعند الحنابلة والشّافعيّة يلزم الغاصب بردّها وإن انتقض البناء‏.‏

وعند الحنفيّة لا يملك المالك الاسترداد لأنّ المغصوب بالإدخال في البناء صار شيئاً آخر غير الأوّل، ولذلك لا ينقض البناء‏.‏ وقال الكرخيّ وأبو جعفرٍ‏:‏ لا ينقض البناء إذا كان البناء حول الخشبة، لأنّه غير متعدٍّ في البناء، أمّا إذا بنى عليها ينقض البناء‏.‏ وعند المالكيّة يخيّر المالك بين هدم البناء وأخذ ما غصب منه، وبين إبقائه وأخذ قيمته يوم الغصب‏.‏

مواطن البحث

5 - نقض البناء يأتي في مواطن متعدّدةٍ في كتب الفقه، فهو يرد في إحياء الموات في ملك الغير أو بدون إذن الإمام، وفي الشّفعة فيمن اشترى أرضاً وبنى فيها ثمّ حضر الشّفيع وقضى له بشفعة الأرض، وفي باب الإجارة فيما إذا بنى المستأجر وانتهت مدّة الإجارة، وفي الشّركة إذا طلب الشّريك نقض حائطٍ مشتركٍ، وفي الصّلح‏.‏

انقراض

التّعريف

1 - الانقراض لغةً‏:‏ الانقطاع، والموت ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - أ - يختلف الأصوليّون في انقراض عصر أهل الإجماع، أهو شرط في حجّيّة الإجماع‏؟‏ ذهب الجمهور إلى أنّه لا يشترط، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه يشترط، وقيل إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط، وإن كان الإجماع بالسّكوت عن مخالفة القائل فيشترط، روي هذا عن أبي عليٍّ الجبّائيّ، وقال الجوينيّ‏:‏ إن كان عن قياسٍ كان شرطاً‏.‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ ‏(‏إجماع‏)‏‏.‏

3- ب - وفي الوقف، يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوقف لا يصحّ على من ينقرض كالوقف على الأولاد، لأنّهم يشترطون التّأبيد في الوقف، ويصحّ عند المالكيّة، وفي هذه الحال، إذا انقرض الموقوف عليهم، لهم تفصيلات فيمن يرجع إليه الوقف، تنظر في مصطلح ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

انقضاء

التّعريف

1 - الانقضاء‏:‏ مطاوع القضاء‏.‏ ومن معانيه لغةً‏:‏ ذهاب الشّيء وفناؤه، وانقضى الشّيء‏:‏ إذا تمّ‏.‏ ويأتي بمعنى الخروج من الشّيء والانفصال منه‏.‏ قال الزّهريّ والقاضي عياض‏:‏ قضى في اللّغة على وجوهٍ، مرجعها إلى انقطاع الشّيء وتمامه والانفصال منه‏.‏

ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - إمضاء‏:‏

2 - يستعمل لفظ الإمضاء بمعنى الإنهاء، يقال‏:‏ أمضت المرأة عدّتها أي أنهتها،

ويستعمل كذلك في إنفاذ الشّيء، يقال أمضى القاضي حكمه‏:‏ بمعنى أنفذه‏.‏

ب - انتهاء‏:‏

3 - يستعمل لفظ الانتهاء بمعنى الانقضاء فيقال‏:‏ انتهت المدّة بمعنى انقضت، وانتهى العقد بمعنى انقضى، ويستعمل كذلك بمعنى الكفّ عن الشّيء، وبمعنى بلوغ الشّيء والوصول إليه‏.‏ يقال‏:‏ انتهى عن الشّيء وانتهى إليه‏.‏

الحكم الإجمالي

ما يتعلّق بالانقضاء من أحكامٍ يكاد ينحصر في أسبابه وآثاره، وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أسباب الانقضاء وآثاره

4 - تختلف أسباب الانقضاء وآثاره باختلاف الموضوعات والمسائل الفقهيّة، فما قد يكون سبباً لانقضاء شيءٍ لا يكون سبباً لانقضاء غيره، بل قد تتنوّع الأسباب والآثار في موضوعٍ واحدٍ كما في العقود، وعدّة المرأة، وغيرهما‏.‏ ولمّا كان الانقضاء هو بلوغ النّهاية في كلّ شيءٍ بحسبه، لأنّ كلّ حادثٍ لا بدّ له من نهايةٍ، فإنّه من العسير استقصاء ذلك في كلّ الموضوعات‏.‏ لذلك سنكتفي بذكر الأمثلة الّتي توضّح ذلك‏.‏

أوّلاً‏:‏ العقود‏:‏

تنقضي العقود لأسبابٍ متنوّعةٍ‏.‏ ومنها‏:‏

انتهاء المقصود من العقد‏:‏

5 - كلّ عقدٍ له غاية أو غرض من إنشائه، ويعتبر العقد منقضياً بتحقّق الغاية أو الغرض منه، ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - عقد الإجارة‏:‏

إذا كان عقد الإجارة لمدّةٍ معيّنةٍ أو لمنفعةٍ معيّنةٍ فإنّ العقد ينقضي بانتهاء ذلك، لأنّ الثّابت إلى غايةٍ ينتهي عند وجود الغاية‏.‏ وهكذا كلّ عقدٍ مقيّد بزمنٍ أو منفعةٍ ينقضي بانتهاء ذلك، مثل عقد الهدنة والعاريّة والمساقاة والمزارعة‏.‏

وإذا انقضى العقد ترتّبت عليه أحكامه من وجوب الرّدّ، وثبوت حقّ الاسترداد، واستقرار الأجرة، أو القدر المعقود عليه‏.‏ والضّمان بالتّعدّي، أو التّفريط، وإنذار الأعداء بعد انقضاء الهدنة، وهكذا‏.‏ والانقضاء في هذه العقود مقيّد بما إذا لم يكن هناك عذر يستدعي امتدادها فترةً أخرى دفعاً للضّرر‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إجارة‏.‏ هدنة‏.‏ مساقاة‏)‏‏.‏

ب - عقد الوكالة‏:‏

ينقضي عقد الوكالة بتمام الموكّل فيه‏.‏ فالوكالة بالشّراء مثلاً تنقضي بشراء الوكيل ما وكّل في شرائه، لأنّ المقصود قد حصل فينقضي العقد بذلك، وتترتّب عليه أحكامه من انعزال الوكيل ومنعه من التّصرّف، ومثل ذلك يقال في الرّهن ينقضي بسداد الدّين، وكذلك الكفالة تنقضي بالأداء أو الإبراء، وتترتّب أحكام العقود من سقوط حقّ المطالبة، وردّ المرهون، والضّمان بالتّفريط أو التّعدّي وهكذا‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ وكالة‏.‏ رهن‏.‏ كفالة‏)‏‏.‏

فساد العقد

6 - إذا كان العقد من العقود اللّازمة كالبيع، ولكنّه وقع فاسداً، كان من الواجب على كلٍّ من طرفيه فسخه، لأنّ العقد الفاسد يستحقّ الفسخ حقّاً للّه عزّ وجلّ لما في الفسخ من رفع الفساد، ورفع الفساد حقّ للّه تعالى على الخلوص، فيظهر في حقّ الكلّ فكان فسخاً في حقّ النّاس كافّةً، فلا تقف صحّته على القضاء ولا على الرّضى‏.‏ ويجوز للقاضي فسخه جبراً على العاقدين‏.‏ وينقضي العقد بالفسخ للفساد، ويترتّب على ذلك وجوب ردّ المبيع، والثّمن، والضّمان عند تعذّر الرّدّ‏.‏ وللفقهاء في ذلك تفصيل ‏(‏ر‏:‏ بيع - فساد - عقود‏)‏‏.‏

إنهاء صاحب الحقّ حقّه

7 - ينقضي العقد بإنهاء من يملك ذلك، سواء أكان الإنهاء من طرفٍ واحدٍ أم من الطّرفين، ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - العقود الجائزة غير اللّازمة كالوكالة والشّركة والمضاربة والعاريّة‏:‏

هذه العقود يجوز فيها لكلّ واحدٍ من المتعاقدين فسخ العقد لأنّه غير لازمٍ، ويعتبر العقد منقضياً بذلك، وتترتّب عليه أحكام الفسخ من وجوب الرّدّ، وثبوت حقّ الاسترداد، ومن الضّمان بالتّفريط أو التّعدّي، ومن ثبوت الحقّ في الرّبح‏.‏

هذا مع التّفصيل فيما إذا تعلّق بالوكالة حقّ، أو كان رأس المال في المضاربة لم ينضّ وغير ذلك وينظر في ‏(‏وكالةٍ - مضاربةٍ - شركةٍ‏)‏‏.‏

ب - الإقالة‏:‏

قد يصدر العقد مستكملاً أركانه وشروطه، ومع ذلك يجوز للمتعاقدين فسخه برضاهما، وذلك ما يسمّى بالإقالة، فإذا تقايلا انفسخ العقد عند من يقول بأنّ الإقالة فسخ، وانقضى العقد بذلك ويترتّب على الإقالة ردّ كلّ حقٍّ لصاحبه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إقالة‏)‏‏.‏

ج - عقد النّكاح‏:‏

ينقضي عقد النّكاح بالفرقة بين الزّوجين، وذلك بإنهاء الزّوج له بالطّلاق البائن، وكذلك يملك الزّوجان إنهاءه بالخلع، وبذلك ينقضي عقد النّكاح وتترتّب أحكام الفرقة من عدّةٍ وغيرها‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏نكاحٍ - طلاقٍ‏)‏‏.‏

د - العقود الموقوفة‏:‏

من العقود ما هو موقوف على إجازة غير العاقد، كعقد الفضوليّ الّذي يتوقّف على إجازة صاحب الشّأن، عند من يرى مشروعيّة هذا العقد، كالحنفيّة والمالكيّة، وللمالك أيضاً إنهاء العقد بعدم إجازته، وبذلك ينقضي العقد‏.‏

استحالة التّنفيذ

8 - قد يتعذّر تنفيذ العقد، وذلك كما إذا هلك المبيع القيميّ في يد البائع قبل أن يتسلّمه المشتري، وكذهاب محلّ استيفاء المنفعة في الإجارة، وكموت الموكّل أو الوكيل أو الشّريك، ففي هذه الحالات ينفسخ العقد وينقضي لاستحالة تنفيذه، وتترتّب الأحكام المقرّرة في ذلك من سقوط الثّمن والأجرة، وفي ذلك تفصيل ‏(‏ر‏:‏ هلاك - انفساخ‏)‏‏.‏

هذه هي أسباب انقضاء العقود غالباً مع وجود غيرها كالجنون، وتعدّي الأمين في عقود الأمانات‏.‏

ثانياً‏:‏ العدّة‏:‏

9 - تنقضي عدّة المعتدّة، إمّا بوضع الحمل، أو بانتهاء الأشهر أو بالأقراء‏.‏

وإذا انقضت العدّة ترتّب عليها أحكامه، من انقطاع الرّجعة للمطلّقة رجعيّاً، وانقطاع الإرث، وانقطاع النّفقة، والسّكنى، وانتهاء الإحداد للمتوفّى عنها زوجها، وإباحة الخروج من المنزل، وحلّها للأزواج‏.‏ وغير ذلك وينظر تفصيله في ‏(‏عدّةٍ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الحضانة والكفالة‏:‏

10 - إذا كان الطّفل بين أبويه فإنّ حضانته تكون لهما، وتنقضي ببلوغ الطّفل ذكراً كان أو أنثى، وهذا عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏‏.‏ وعند المالكيّة تكون حضانة الذّكر لبلوغه، والأنثى لدخول الزّوج بها‏.‏

أمّا إذا افترق الأبوان فإنّ الحضانة تكون للأمّ أوّلاً عند جميع الفقهاء، لكنّهم يختلفون في وقت انقضاء حضانتها‏.‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة تنقضي حضانة الأمّ عند سنّ التّمييز، وحدّدها الحنابلة بسبع سنين‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ أو ثماني سنين، ثمّ تكون الحضانة لمن يختاره الطّفل من أبويه إلى وقت البلوغ، سواء أكان الطّفل ذكراً أم أنثى كما يقول الشّافعيّة أمّا الحنابلة فيجعلون التّخيير للذّكر، أمّا الأنثى فتنتقل حضانتها إلى الأب دون تخييرٍ وعند المالكيّة تظلّ الحضانة للأمّ قائمةً بعد طلاقها، ولا تنقضي حضانتها إلاّ ببلوغ الذّكر ودخول الأنثى‏.‏ ويقول الحنفيّة‏.‏ تنقضي حضانة الأمّ ببلوع الأنثى وباستغناء الذّكر، بأن يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، دون تقدير سنٍّ، وذكر الخصّاف سبع سنين أو ثماني سنين‏.‏ وإذا استغنى الذّكر أو بلغ سبع سنين أو ثمانياً كما يقول الخصّاف انعقلت حضانته للأب إلى بلوغه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حضانة‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ الإيلاء‏:‏

11 - ينقضي الإيلاء - وهو الحلف على ترك وطء الزّوجة - بالآتي‏:‏

أ - تعجيل مقتضي الحنث بالفيء قبل مضيّ مدّة الإيلاء - وهي أربعة أشهرٍ - بأن يفعل ما حلف على تركه وهو الوطء، ويلزمه التّكفير‏.‏

ب - تكفير اليمين والوطء بعد المدّة المحلوف عليها‏.‏

ج - مضيّ مدّة الإيلاء وهي الأربعة الأشهر عند الحنفيّة، إذ تبين الزّوجة منه بذلك من غير حاجةٍ إلى قضاء القاضي، ويترتّب على انقضاء أجل الإيلاء إمّا وجوب الفيء أو الطّلاق الرّجعيّ كما يقول الجمهور، أو البائن كما يقول الحنفيّة، إلاّ إذا رضيت الزّوجة بالمقام معه دون فيءٍ كما يقول الجمهور‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏إيلاءٍ‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ المسح على الخفّين‏:‏

12 - ينقضي حكم المسح على الخفّين بالغسل الواجب، وبتخرّق الخفّ كثيراً، وبنزعه، وبمضيّ المدّة، وغير ذلك‏.‏ ويترتّب على ذلك بطلان المسح‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ المسح على الخفّين‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ صلاة المسافر‏:‏

13 - ممّا ينقضي به حكم قصر الصّلاة للمسافر انقضاء مدّة الإقامة المبيحة للقصر، على خلافٍ بين الفقهاء في كونها أربعة أيّامٍ أو خمسة عشر، وكذلك ينقضي بنيّة الإتمام، وبدخول الوطن، وغير ذلك‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ صلاة المسافر‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ انقضاء الأجل‏:‏

14 - ينقضي الأجل إمّا بالإسقاط أو بالسّقوط‏.‏ ومثاله في الإسقاط‏:‏ إسقاط المدين حقّه من الأجل‏.‏ ويترتّب على ذلك أن يصبح الدّين حالّاً‏.‏ ومثاله في السّقوط‏:‏ انتهاء مدّته، ويترتّب عليه إمّا بدء تنفيذ الالتزام، كوجوب الزّكاة بانقضاء الحول على ملك النّصاب، وإمّا إنهاء الالتزام كالإجارة المقيّدة بزمنٍ، فإنّها تنقضي بانقضاء الأجل‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏أجلٍ‏)‏‏.‏ هذه بعض أمثلةٍ للانقضاء، وغيرها كثير، كانقضاء الحيض والنّفاس بانقطاع الدّم، وانقضاء الحجر بالرّشد، وانقضاء خيار الشّرط بانتهاء مدّته أو بالتّصرّف ممّن له الحقّ‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مواضعه‏.‏

الاختلاف في الانقضاء

15 - إذا تنازع طرفان في انقضاء شيءٍ أو بقائه، فإنّ الحكم بالانقضاء وعدمه يختلف باختلاف التّصرّفات‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏

أ - في الهداية‏:‏ إذا قالت المعتدّة انقضت عدّتي وكذّبها الزّوج، كان القول قولها مع اليمين، لأنّها أمينة في ذلك، وقد اتّهمت في ذلك فتحلف كالمودع‏.‏

ب - في جواهر الإكليل‏:‏ إن اختلف البائع والمشتري في انقضاء الأجل ‏(‏بالنّسبة للثّمن‏)‏ لاختلافهما في مبدئه بأن قال البائع‏:‏ أوّل الشّهر وقال المبتاع منتصفه، ولا بيّنة لأحدهما، وفاتت السّلعة فالقول لمنكر التّقضّي، أي انقضاء الأجل مشترياً كان أو بائعاً، بيمينه إن أشبه سواء أشبه الآخر أم لا، لأنّ الأصل عدم انقضائه، فإن لم تفت السّلعة حلفا وفسخ البيع‏.‏

ج - في المهذّب‏:‏ إن اختلف الزّوجان في انقضاء مدّة الإيلاء فادّعت المرأة انقضاءها وأنكر الزّوج فالقول قول الزّوج، لأنّ الأصل أنّها لم تنقض، ولأنّ هذا اختلاف في وقت الإيلاء فكان القول فيه قوله‏.‏

انقطاع

التّعريف

1 - يأتي الانقطاع في اللّغة بمعانٍ عدّةٍ منها‏:‏ التّوقّف والتّفرّق‏.‏

ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني، كما يطلقون لفظ المنقطع على الصّغير الّذي فقد أمّه من بني آدم‏.‏

والانقطاع عند المحدّثين‏:‏ عدم اتّصال سند الحديث، سواء سقط ذكر الرّاوي من أوّل الإسناد أو وسطه أو آخره، وسواء أكان الرّاوي واحداً أم أكثر، على التّوالي أو غيره، فيشمل المرسل، والمعلّق، والمعضل، والمدلّس، إلاّ أنّ الغالب استعماله في رواية من دون التّابعيّ عن الصّحابيّ كمالكٍ عن ابن عمر‏.‏

وهذا أحد معانيه، وله بعض المعاني يتكلّم عنها الأصوليّون في مبحث السّنّة ‏(‏المرسل‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الانقراض‏:‏

2 - يعبّر الفقهاء بالانقطاع عن الشّيء الّذي لم يوجد أصلاً كالوقف على منقطع الأوّل، أمّا الانقراض فيكون في الأشياء الّتي وجدت ثمّ انعدمت‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يختلف الحكم في الانقطاع باختلاف ما يضاف إليه، ففي انقطاع دم الحيض أو النّفاس يكون الحكم كالآتي‏:‏

اتّفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض والنّفساء قبل انقطاع دمهما، واختلفوا هل يكون الغسل شرطاً لحلّ الاستمتاع بعد انقطاع الدّم، أو يكفي أن تكون في حكم الطّاهرات‏؟‏‏.‏ فذهب الجمهور إلى تحريم الوطء حتّى تغتسل أو تتيمّم إن كانت أهلاً له، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيّامٍ عنده حلّ الوطء في الحال، وإن انقطع لأقلّه لم يحلّ حتّى تغتسل أو تتيمّم، أو تصير الصّلاة ديناً في ذمّتها، بأن يمضي وقت بعد انقطاع الدّم يتّسع للغسل أو التّيمّم والصّلاة، وتفصيل ذلك في باب الحيض والنّفاس‏.‏

انقطاع الاقتداء بنيّة المفارقة

4 - ينقطع الاقتداء في الصّلاة من جانب المأموم إن نوى مفارقة إمامه، وفي كون الصّلاة مع المفارقة صحيحةً أو باطلةً خلاف بين الفقهاء، منهم من يرى أنّها صحيحة مطلقاً، ومنهم من يرى أنّها باطلة مطلقاً، ويفرّق البعض بين نيّة المفارقة مع العذر وبدونه، فهي مع العذر صحيحة، وباطلة بدونه‏.‏ ويفصّل الفقهاء ذلك في صلاة الجماعة والاقتداء‏.‏ وكذلك تنقطع القدوة بخروج الإمام من صلاته ومع خروجه تنشأ بعض الأحكام، فقد تبطل صلاته وصلاة المأمومين، وقد يستخلف وتصحّ الصّلاة‏.‏

ويفصّل الفقهاء ذلك في ‏(‏صلاة الجماعة، واستخلاف‏)‏‏.‏

مواطن البحث

5 - يذكر الفقهاء الانقطاع في المواضع الآتية‏:‏ في انقطاع التّتابع في صوم الكفّارات الّتي يجب فيها التّتابع، ككفّارة القتل والظّهار والإفطار في رمضان‏.‏ وفي الوقف في شرط الموقوف عليه، وهل يصحّ الوقف إن كان على منقطع الأوّل أو الآخر أو الوسط‏؟‏‏.‏

وفي إحياء الموات، وحقوق الارتفاق أو المنافع المشتركة‏:‏ أثناء الكلام عن بذل مياه الآبار إذا كانت تنقطع أو تستخلف، وعمّا إذا حفر بئراً فانقطع به ماء بئر جاره‏.‏

وفي النّكاح‏:‏ عند الكلام عن الغيبة المنقطعة، ونقل الولاية بسببها‏.‏

وفي القضاء‏:‏ عند الكلام على انقطاع الإنسان للقضاء والفتيا، ورزق القاضي للمنقطع لهما، وعند الكلام عن انقطاع الخصومة باليمين‏.‏

انقلاب العين

انظر‏:‏ تحوّل‏.‏

إنكار

التّعريف

1 - الإنكار لغةً‏:‏ مصدر أنكر ويأتي في اللّغة لثلاثة معانٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ الجهل بالشّخص أو الشّيء أو الأمر‏.‏ تقول‏:‏ أنكرت زيداً وأنكرت الخبر إنكاراً، ونكّرته، إذا لم تعرفه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء إخوة يوسفَ فدخلوا عليه فعَرَفَهُمْ وهم له مُنْكرون‏}‏‏.‏ وقد يكون في الإنكار مع عدم المعرفة بالشّيء النّفرة منه والتّخوّف، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا جاء آل لوطٍ المرسلون‏.‏ قال إنّكم قوم مُنْكَرون‏}‏ أي تنكركم نفسي وتنفر منكم، فأخاف أن تطرقوني بشرٍّ‏.‏

الثّاني‏:‏ نفي الشّيء المدّعى، أو المسئول عنه‏.‏

والثّالث‏:‏ تغيير الأمر المنكر وعيبه والنّهي عنه‏.‏

والمنكر هو الأمر القبيح، خلاف المعروف‏.‏

واسم المصدر هنا ‏(‏النّكير‏)‏، ومعناه ‏(‏الإنكار‏)‏

أمّا في اصطلاح الفقهاء فيرد استعمال ‏(‏الإنكار‏)‏ بمعنى الجحد، وبمعنى تغيير المنكر، ولم يستدلّ على وروده بمعنى الجهل بالشّيء في كلامهم‏.‏

أوّلاً‏:‏ الإنكار بمعنى الجحد

المقارنة بين الإنكار بهذا المعنى والجحد والجحود

2 - ساوى بعض علماء اللّغة في المعنى بين الإنكار وبين الجحد والجحود‏.‏

قال في اللّسان‏:‏ الجحد والجحود نقيض الإقرار، كالإنكار والمعرفة‏.‏

وقال الجوهريّ‏:‏ الجحود الإنكار مع العلم‏.‏ يقال‏:‏ جحده حقّه وبحقّه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّفي‏:‏

3 - النّفي يكون بمعنى الإنكار أو الجحد، وهو مقابل الإيجاب‏:‏ وقيل الفرق بين النّفي وبين الجحد أنّ النّافي إن كان صادقاً سمّي كلامه نفياً ولا يسمّى جحداً، وإن كان كاذباً سمّي جحداً ونفياً أيضاً، فكلّ جحدٍ نفي‏.‏ وليس كلّ نفيٍ جحداً‏.‏ ذكره أبو جعفرٍ النّحّاس‏.‏ قالوا‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَحَدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظلماً وعلوّاً‏}‏‏.‏

ب - النّكول‏:‏

4 - النّكول أن يمتنع من الحلف من توجّهت عليه اليمين في الدّعوى، بقوله‏:‏ أنا ناكل، أو يقول له القاضي‏:‏ احلف، فيقول‏:‏ لا أحلف‏.‏ أو سكت سكوتاً يدلّ على الامتناع‏.‏

ج - الرّجوع‏:‏

5 - الرّجوع عن الشّيء تركه بعد الإقدام عليه‏.‏ فالرّجوع في الشّهادة أن يقول الشّاهد أبطلت شهادتي، أو فسختها، أو رددتها‏.‏

وقد يكون الرّجوع عن الإقرار بادّعاء الغلط ونحوه‏.‏

د - الاستنكار‏:‏

6 - الاستنكار يأتي بمعنى عدّ الشّيء منكراً، وبمعنى الاستفهام عمّا تنكره، وبمعنى جهالة الشّيء مع حصول الاشتباه‏.‏

وبهذا يتبيّن أنّ الاستنكار يوافق الإنكار في مجيئهما بمعنى الجهالة، وينفرد الإنكار بمجيئه بمعنى الجحد، وينفرد الاستنكار بمجيئه بمعنى الاستفهام عمّا ينكر‏.‏

الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالإنكار في الدّعوى

7- يجب على المدّعي لإثبات حقّه أن يأتي ببيّنةٍ تثبت دعواه، فإن لم تكن له بيّنة فإنّ المدّعى عليه يلزمه الجواب عمّا ادّعى عليه به، فإمّا أن يقرّ، وإمّا أن ينكر‏.‏

فإن أقرّ لزمه الحقّ، وإن أنكر فعلى المدّعي البيّنة، فإن أقام البيّنة قضى له، وإن لم يقمها وطلب اليمين من المدّعى عليه حلّفه الحاكم، فإن حلف برئ من المدّعي، وإن نكل حكم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ تردّ اليمين على المدّعي‏.‏ هذا طريق الحكم إجمالاً، لقول النّبيّ‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»

وفي ذلك تفصيلات تنظر في ‏(‏إثباتٍ، ودعوى، حلفٍ، إقرارٍ، نكولٍ‏)‏‏.‏

ما به يتحقّق الإنكار

أوّلاً‏:‏ النّطق‏:‏

8 - يتحقّق الإنكار بالنّطق‏.‏ ويشترط في النّطق أن يكون صريحاً بحيث لا يحتمل إلاّ الإنكار، كأن يقول لم تسلّفني ما تدّعيه‏.‏ وهناك ألفاظ اختلف العلماء في كونها صريحةً أو غير صريحةٍ، كأن يقول‏:‏ لا حقّ له عندي‏.‏ فإنّه لا يكون إنكاراً، وهذا هو القول المقدّم عند المالكيّة، وهو قول ابن القاسم، ومذهب الحنفيّة‏.‏

والقول الآخر عند المالكيّة، وهو قول للشّافعيّة، وقول الحنابلة أن يكون إنكاراً، لأنّ نفي المطلق يشمل نفي المقيّد، فقوله ليس له عليّ حقّ نفي مطلق لحقّ المدّعي، أيّاً كان سببه، فيعتبر جواباً كافياً وإنكاراً موجباً للحلف بشروطه‏.‏

ثانياً‏:‏ الامتناع من الإقرار والإنكار‏:‏

9 - لو قال المدّعى عليه‏:‏ لا أقرّ ولا أنكر، فقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم امتناعه هذا‏.‏ فقال صاحبا أبي حنيفة رحمهم الله‏:‏ هو إنكار، فيستحلف بعده‏.‏

وعند الحنابلة - وهو قول للمالكيّة - إنّ قوله لا أقرّ ولا أنكر بمنزلة النّكول، فيقضي بلا استحلافٍ، كما يقضي على النّاكل عن اليمين، وذلك بعد أن يعلمه القاضي أنّه إن لم يقرّ ولم ينكر حكم عليه‏.‏ وقال أبو حنيفة، وهو قول المالكيّة المقدّم عندهم‏:‏ إن قال لا أقرّ ولا أنكر لا يستحلف، لأنّه لم يظهر الإنكار، ويحبس حتّى يقرّ وينكر‏.‏

وفي مذهب المالكيّة التّصريح بأنّ القاضي يؤدّبه حتّى يقرّ أو ينكر، فإن استمرّ على امتناعه حكم عليه بغير يمينٍ‏.‏ ونقل الكاسانيّ عن بعض الحنفيّة أنّ قوله لا أقرّ ولا أنكر إقرار‏.‏

ولم نر للشّافعيّة نصّاً في هذه المسألة‏.‏

ثالثاً‏:‏ السّكوت‏:‏

10 - من ادّعى عليه أمام القضاء فسكت، ففي اعتبار سكوته إنكاراً أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ إنّ سكوته إنكار، وهذا قول أبي يوسف من الحنفيّة، وعليه الفتوى عندهم، لأنّ الفتوى على قوله فيما يتعلّق بالقضاء، وهو مذهب الشّافعيّة‏.‏ قال صاحب البدائع‏:‏ لأنّ الدّعوى أوجبت الجواب عليه، والجواب إمّا إقرار وإمّا إنكار، فلا بدّ من حمل السّكوت على أحدهما، والحمل على الإنكار أولى، لأنّ العاقل المتديّن لا يسكت عن إظهار الحقّ المستحقّ لغيره مع القدرة عليه، فكان حمل السّكوت على الإنكار أولى، فكان السّكوت إنكاراً دلالةً‏.‏ وهذا إن كان سكوته لغير عذرٍ، فإن كان لعذرٍ كما لو كان في لسانه آفة تمنعه عن التّكلّم، أو في سمعه ما يمنعه من سماع الكلام، فلا يعدّ سكوته إنكاراً‏.‏

وذكر الشّافعيّة من الأعذار أيضاً أن يسكت لدهشةٍ أو غباوةٍ‏.‏ أمّا الأخرس فقالوا‏:‏ إنّ تركه الإشارة بمنزله السّكوت‏.‏ فعلى هذا القول يطلب القاضي من المدّعي البيّنة، على ما صرّح به في درر الحكّام‏.‏

11 - القول الثّاني مذهب المالكيّة والحنابلة، وهو ثاني قولين للشّافعيّة‏:‏ أنّ سكوت المدّعى عليه بمنزلة النّكول، فيحكم عليه القاضي بالسّكوت كما يحكم على المنكر النّاكل عن اليمين، بعد أن يعلمه القاضي بحكم سكوته، فيقول له‏:‏ إن أجبت عن دعواه وإلاّ جعلتك ناكلاً وقضيت عليك، وهذا هو المذهب عند الحنابلة‏.‏ على أنّه لا يحكم عليه إلاّ بعد ردّ اليمين على المدّعي عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

12 - القول الثّالث‏:‏ وهو قول للحنابلة أيضاً‏:‏ يحبسه القاضي حتّى يجيب عن الدّعوى‏.‏

غيبة المدّعى عليه بعد إنكاره

13 - إذا حضر المدّعى عليه بين يدي القاضي، فأنكر ما ادّعى عليه به، ثمّ غاب قبل إقامة البيّنة عليه، لم يجز الحكم عليه عند أبي حنيفة‏.‏

وكذا إذا سمعت البيّنة عليه ثمّ غاب قبل القضاء، لأنّ الشّرط قيام الإنكار وقت القضاء‏.‏

وخالفه أبو يوسف رحمه الله، فقال بصحّة القضاء في هذه الحال، لأنّ الشّرط عنده الإصرار على الإنكار إلى وقت القضاء، والإصرار ثابت بعد غيبته بالاستصحاب‏.‏

وكذلك الحكم عند الشّافعيّة القائلين بجواز القضاء على الغائب أصلاً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يقضى على الغائب في الحقوق كلّها والمعاملات والمداينات والوكالات وسائر الحقوق إلاّ العقار وحده، فإنّه لا يحكم عليه فيه إلاّ أن تطول غيبته ويضرّ ذلك بخصمه‏.‏

حكم المنكر

14 - إذا ادّعي على إنسانٍ بشيءٍ فأنكر، فإنّ البيّنة تطلب من خصمه، فإن أقامها حكم له، وإن لم يتمكّن من إقامتها فإنّ القاضي يستحلف المنكر إذا طلب خصمه تحليفه، فإن حلف حكم ببراءته من المدّعي، وإن نكل قضى عليه عند الحنفيّة والحنابلة، أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فلا يقضي عليه حتّى يردّ اليمن على طالب الحقّ، فإن حلف الطّالب حينئذٍ قضى له‏.‏ ودليل استحلاف المنكر حديث‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» السّابق، وحديث وائل بن حجرٍ، وفيه «أنّ رجلاً من حضرموت، ورجلاً من كندة أتيا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ‏:‏ إنّ هذا غلبني على أرضٍ لي ورثتها عن أبي‏.‏ وقال الكنديّ‏:‏ أرضي وفي يدي لا حقّ له فيها‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ شاهداك أو يمينه‏.‏ قال‏:‏ إنّه لا يتورّع عن شيءٍ‏.‏ قال‏:‏ ليس لك إلاّ ذلك»‏.‏

شرط استحلاف المنكر

15 - انفرد المالكيّة عن بقيّة المذاهب باشتراط شرطين لاستحلاف المنكر، وعليه فقهاء المدينة السّبعة على ما ذكره ابن حجرٍ الهيتميّ في شرح الأربعين‏:‏

أ - أن يكون بين المتخاصمين مخالطة بدينٍ أو تكرّر بيعٍ ولو مرّةً، فإن لم يكن بينهما مخالطة، وأنكر، ولم تكن بيّنة، لم يثبت على المنكر شيء، ولم يطالب بيمينٍ‏.‏

والمخالطة عندهم في كلّ معاملةٍ بحسبها‏.‏

واستثنوا مواضع تجب فيها اليمين بدون خلطةٍ‏:‏ منها‏:‏ أهل الظّلم، والضّيف، والمتّهم، والمريض، والصّنّاع فيما ادّعي عليهم استصناعه، وأرباب الأسواق والحوانيت فيما ادّعي عليهم بيعه، والرّفقاء في السّفر يدّعي بعضهم على بعضٍ، الوديعة إذا ادّعيت على أهلها، والمزايدة إذا ادّعي على من حضرها أنّه اشترى المعروض للبيع‏.‏

ب - أن يكون المدّعى عليه في دعوى التّعدّي والغصب ونحوهما معروفاً بمثل ما ادّعي عليه به، فإن لم يكن متّهماً بمثله لم يستحلف‏.‏

وتفصيل ذلك في‏:‏ دعوى، وقضاءٍ، ويمينٍ‏.‏

المواضع الّتي يستحلف فيها المنكر والّتي لا يستحلف فيها

16- إنّه وإن كانت القاعدة أنّ «اليمين على من أنكر» إلاّ أنّ بعض الأمور لا استحلاف فيها، لأنّ الحقوق نوعان‏:‏

الأوّل‏:‏ حقوق اللّه تعالى، كالعبادات والكفّارات والحدود‏:‏ فيرى أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ واللّيث، أنّ المنكر يستحلف فيها إذا اتّهم‏.‏ وقد حكي عن الشّافعيّ فيمن تزوّج من لا تحلّ له، ثمّ ادّعى الجهل‏.‏ أنّه يحلف على دعواه‏.‏ وكذا قال إسحاق في طلاق السّكران‏:‏ يحلف أنّه ما كان يعقل، وفي طلاق النّاسي‏:‏ يحلف على نسيانه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا استحلاف في حقوق اللّه تعالى أصلاً‏.‏ نصّ عليه أحمد في الزّكاة، وبه قال طاووس والثّوريّ‏.‏

الثّاني‏:‏ حقوق العباد‏.‏ أجمع الفقهاء على الاستحلاف في الأموال، واختلفوا في غيرها‏:‏ فقال الشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايات عنه‏:‏ يستحلف في جميع حقوق الآدميّين‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يستحلف إلاّ في كلّ دعوى لا تحتاج إلى شاهدين‏.‏

وعن أحمد‏:‏ لا يستحلف إلاّ فيما يصحّ بذله‏.‏ وفي روايةٍ ثالثةٍ‏:‏ لا يستحلف إلاّ فيما يقضى فيه بالنّكول‏.‏ ومثّل له ابن القيّم بمن ادّعى ديناً على ميّتٍ، وللميّت وصيّ بقضاء دينه وتنفيذ وصاياه، فأنكر‏.‏ فإن كان للمدّعي بيّنة حكم بها، وإن لم تكن له بيّنة، وأراد تحليف الوصيّ على نفي العلم، لم يكن له ذلك، لأنّ مقصود التّحليف أن يقضى عليه بالنّكول، والوصيّ لا يقبل إقراره بالدّين، ولو نكل لم يقض عليه، فلا فائدة في تحليفه‏.‏

وهذا الخلاف المتقدّم في حقوق الآدميّين هو في غير المؤتمن‏.‏

أمّا المؤتمن ففيه للعلماء ثلاثة أقوالٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ وهو قول أبي حنيفة ومالكٍ في روايةٍ عنه، والشّافعيّ وأكثر الحنابلة، عليه اليمين، لأنّه منكر فيدخل في عموم الحديث السّابق‏:‏ «اليمين على من أنكر»‏.‏

الثّاني‏:‏ لا يمين، لأنّه صدّقه، ولا يمين مع التّصديق، وهو قول الحارث العكليّ‏.‏

الثّالث‏:‏ وهو الرّواية الأخرى عن مالكٍ، وهو نصّ أحمد‏.‏ لا يمين عليه إلاّ أن يتّهم، لأنّه إذا قامت قرينة تنافي معنى الائتمان فقد اختلّ الائتمان‏.‏

وتفصيل ما عند الحنفيّة في هذه المسألة، أنّ الاستحلاف لا يكون في الحدود واللّعان، بأن ادّعت على زوجها أنّه قذفها بما يوجب اللّعان وأنكر الزّوج ذلك، لأنّ الحدود تندرئ بالشّبهات، واللّعان في معناها، فلا يؤخذ فيهما بالنّكول‏.‏

واختلف قولهم فيما عدا ذلك‏.‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ لا يستحلف المنكر في النّكاح والرّجعة والفيء في الإيلاء والرّقّ والاستيلاد والولاء‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ يستحلف فيها‏.‏ والفتوى على قولهما‏.‏ وقيل عند المتأخّرين‏:‏ ينبغي للقاضي أن ينظر في حال المدّعى عليه، فإن رآه متعنّتاً يحلّفه أخذاً بقولهما، وإن رآه مظلوماً لا يحلّفه أخذاً بقول أبي حنيفة‏.‏

ثمّ قد قال صاحب الأشباه‏:‏ لا يستحلف في إحدى وثلاثين صورةً‏.‏

ونقل هذا صاحب الدّرّ وعدّدها بالتّفصيل، وأضاف إليها هو وابن عابدين من الصّور ما تمّت به تسعاً وستّين صورةً‏.‏

حكم الإنكار كذباً

17 - يجوز للمدّعى عليه الإنكار إن لم يكن للمدّعي عنده حقّ وكان مبطلاً في دعواه‏.‏ أمّا إن كان المدّعى عليه عالماً بحقّ المدّعي عنده فلا يحلّ له الإنكار‏.‏

واستثنى الحنفيّة مسألتين يجوز فيهما الإنكار، مع علمه بأنّ المدّعي محقّ‏:‏

الأولى‏:‏ دعوى العيب القديم، كما إذا ادّعى المشتري أنّ المال الّذي اشتريته منك فيه كذا، فللبائع - ولو كان واقفاً على العيب القديم - أن ينكر وجوده حتّى يثبته المشتري، ويردّه إليه ليتمكّن بدوره أن يردّه على من باعه إيّاه‏.‏

الثّانية‏:‏ لوصيّ المتوفّى أن ينكر دين الميّت ولو كان عالماً بذلك‏.‏

هذا ما ذكره في درر الحكّام‏.‏ وفي شرح الأتاسيّ على المجلّة ما يفيد أنّ القاعدة في ذلك أنّه يسوغ له الإنكار إن تحقّقت حاجته إلى البيّنة‏.‏ قال‏:‏ وهذا في مسائل منها‏:‏ استحقّ المبيع في يد المشتري يعذر في الإنكار، وإن علم صدق المدّعي، إذ لو أقرّ هو لم يرجع على بائعه باليمين‏.‏ وعند الشّافعيّة إذا نصب القاضي مسخّراً ‏(‏أي ممثّلاً للمدّعى عليه‏)‏ ينكر عن البائع جاز للمسخّر الإنكار وإن كان كاذباً‏.‏ وعلّلوا ذلك بالمصلحة‏.‏ ولعلّهم يقصدون مصلحة تمكين المدّعي من إقامة البيّنة، لتكون البيّنة بناءً على إنكار منكرٍ‏.‏

وذكر المالكيّة أنّه يجوز الإنكار في حال الخوف على النّفس أو المال، وجعلوا ذلك من باب الإكراه‏.‏ قالوا‏:‏ إذا استخفى الرّجل عند الرّجل من السّلطان الجائر الّذي يريد دمه أو ماله، فسأله السّلطان عنه، فستر عليه، وجحد أن يكون عنده، فقال له‏:‏ احلف أنّه ليس عندك، فحلف أنّه ليس عندي، ليدفع عن نفسه ودمه، أو ما دون ذلك من ماله، فلا شيء عليه إن كان خائفاً على نفسه‏.‏ أمّا إن كان آمناً على نفسه، وإنّما أراد أن يقيه بيمينه فقد أجر فيما فعل، ولزمه الحنث فيما حلف‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك فعل مالك في هذا بعينه‏.‏

أمّا التّخلّص من مثل هذا المأزق بالتّأويل والتّورية فينظر في مصطلح ‏(‏تورية‏)‏

جحد من عليه الحقّ كذباً، إن كان الآخر جاحداً لحقّه

18 - ذكر المالكيّة والحنابلة أنّ من عليه الدّين ليس له أن يجحده حتّى في حالة ما لو كان له دين قبل المدّعي، وكان المدّعي قد جحده، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»‏.‏

ولأنّ الدّين الّذي على المدّعى عليه إن كان من غير جنس دينه، كأن يكون دين أحدهما ذهباً ودين الآخر فضّةً، فإنّ الجحد هنا يكون كبيع الدّين بالدّين، وهو لا يجوز ولو تراضيا‏.‏ وإن كان الدّينان من جنسٍ واحدٍ كان ذلك من قبيل المقاصّة، وهي لا تجوز إلاّ بالتّراضي‏.‏ إذن ليس له تعيين حقّه بغير صاحبه‏.‏

وأجاز الشّافعيّة للمدين جحد دين من جحد دينه، إذا كان على الجاحد مثل ما له عليه، أو أكثر منه، فتحصل المقاصّة بين الدّينين، وإن لم توجد شروطها للضّرورة‏.‏

فإن كان له دون ما للآخر جحد من حقّة بقدره‏.‏ ولم نجد للحنفيّة تعرّضاً لهذه المسألة‏.‏

تعريض القاضي بالإنكار في الحدود

19 - للفقهاء في حكم تعريض القاضي بالإنكار للمقرّ بحدٍّ، ثلاثة أقوالٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ وهو قول الحنفيّة والحنابلة وهو اختيار بعض المالكيّة، والقول الصّحيح عند الشّافعيّة - كما قال النّوويّ - أنّ من أقرّ لدى الحاكم ابتداءً، أو بعد دعوى بما يستوجب عقوبةً لحقّ اللّه تعالى، كالزّنى والسّرقة، فإنّ للحاكم أن يعرض له بالرّجوع عن الإقرار‏.‏ وهذا عند الشّافعيّة على سبيل الجواز، وعند الحنفيّة، والحنابلة على سبيل الاستحباب‏.‏ واحتجّوا لذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لماعزٍ لمّا أقرّ بالزّنى‏:‏ «لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت»‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم للّذي أقرّ بالسّرقة‏.‏«ما أخالك سرقت»‏.‏ القول الثّاني‏:‏ وهو للشّافعيّة، أنّه لا يجوز التّعريض بالإنكار في ذلك أصلاً‏.‏

والقول الثّالث‏:‏ وهو للشّافعيّة أيضاً، أنّه يعرض له بالرّجوع إن كان المقرّ لا يعلم أنّ له الرّجوع‏.‏ فإن كان يعلم ذلك لا يعرض له‏.‏

أمّا التّصريح بالرّجوع عن الإقرار بالحدّ، وتلقين المقرّ ذلك، فقد صرّح الشّافعيّة بعدم جوازه‏.‏ قالوا‏:‏ لا يقول له‏:‏ ‏"‏ ارجع عن إقرارك ‏"‏ وأجازه الحنفيّة والحنابلة، فقالوا‏:‏ لا بأس بتلقينه الرّجوع‏.‏ وهذا يفهم منه جواز التّصريح‏.‏ ويؤيّده احتجاج صاحب المغني من الحنابلة بما رواه سعيد بن منصورٍ عن أبي الدّرداء أنّه أتي بجاريةٍ سوداء قد سرقت، فقال لها‏:‏ ‏"‏ أسرقت‏؟‏ قولي‏:‏ لا ‏"‏ فقالت‏:‏ لا‏.‏ فخلّى سبيلها‏.‏

الضّمان بعد إنكار الحقّ

20 - إذا أنكر المودع الوديعة بعد طلب ربّها لها، دخلت في ضمانه، فإن تلفت بعد إنكاره، كأن كانت دابّةً فماتت، أو داراً فانهدمت، يتقرّر عليه ضمانها، ويضمنها بقيمتها، لأنّه بإنكاره لها يكون غاصباً، ولأنّ العقد ينفسخ بطلب المالك الوديعة وإنكار المودع لها، لأنّه بإنكاره عزل نفسه عن الحفظ الّذي هو مقتضى العقد، فيبقى مال الغير بيده بغير إذنه، فيكون مضموناً، فإذا هلك ضمنه‏.‏

ولو أنّ المودع عاد بعد إنكاره، فأقرّ الوديعة، لم يزل عنه الضّمان‏.‏

وقال بعض الحنفيّة‏:‏ لا يضمن المودع الوديعة بالإنكار، إلاّ إن نقلها من مكانها الّذي كانت فيه وقت الإنكار، إن كانت ممّا ينقل، وإن لم ينقلها من ذلك المكان بعد الجحود، فهلكت، لا يضمن‏.‏ أمّا إن ردّ الوديعة إلى صاحبها بعد الإنكار وقبل تلفها فيزول الضّمان، فلو أودعه إيّاها مرّةً ثانيةً فتلفت فإنّه لا يضمن‏.‏

قطع منكر العاريّة

مذهب الحنفيّة والشّافعيّة، وهو رواية عن أحمد‏:‏ أنّه لا قطع على منكر الوديعة أو العاريّة أو الأمانة، وكذلك مذهب المالكيّة، كما يفهم من كلامهم، وذلك لعدم الأخذ من حرزٍ‏.‏

قالوا‏:‏ ولحديث‏:‏ «ليس على خائنٍ، ولا منتهبٍ، ولا مختلسٍ، قطع»‏.‏

والخائن هو جاحد الوديعة ونحوها‏.‏

والرّواية الأخرى عند الحنابلة، وهي المذهب، عدم وجوب القطع عليهم، إلاّ جاحد العاريّة خاصّةً يجب قطعه باعتبار أنّه سارق، لما ورد «أنّ امرأةً كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها»‏.‏ قال أحمد‏:‏ لا أعلم شيئاً يدفعه‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ في حديث المخزوميّة هذا، إنّ أكثر رواياته أنّها ‏"‏ سرقت ‏"‏ فيؤخذ بها‏.‏

ويحتمل أنّها كانت تستعير وتجحد، وكانت تسرق فقطعت لسرقتها لا لجحودها‏.‏

ويرجع في تفصيل هذه المسألة والخلاف فيها إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

الإنكار بعد الإقرار

21 - من أقرّ بحقٍّ ثمّ رجع عن إقراره، فإمّا أن يكون إقراره في الحدود الّتي لحقّ اللّه، أو في غير ذلك‏:‏

أ - الإنكار بعد الإقرار بما هو حقّ للّه‏:‏

22 - لو أقرّ رجل بالزّنى أو نحوه ممّا فيه حقّ اللّه، ثمّ أنكره أو رجع عنه، فللفقهاء في ذلك اتّجاهات ثلاثة‏:‏

الأوّل‏:‏ وهو قول الحنفيّة والحنابلة، والقول المقدّم عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ لا يلزمه حكم إقراره، بل إذا رجع وأنكر السّبب أو أكذب نفسه، أو أنكر إقراره به، أو أكذب الشّهود - أي شهود الإقرار - سقط الحدّ، فلم يقم عليه‏.‏ ولو كان رجوعه أثناء إقامة الحدّ سقط باقيه‏.‏ قال المرغينانيّ‏:‏ لأنّ الرّجوع خبر محتمل للصّدق، كالإقرار، وليس أحد يكذّبه فيه، فتتحقّق الشّبهة في الإقرار، بخلاف ما فيه حقّ العبد وهو القصاص وحدّ القذف، لوجود من يكذّبه، وليس كذلك ما هو حقّ خالص للشّرع‏.‏

ومثل حدّ الزّنى في ذلك حدّ السّرقة وشرب الخمر‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ الحدّ إذا ثبت بالإقرار لم يسقط بإنكاره أو الرّجوع عنه‏.‏

وهذا قول للشّافعيّة في السّرقة خاصّةً‏.‏

الثّالث‏:‏ وهو قول للمالكيّة قاله أشهب، وروي عن مالكٍ، أنّ الرّجوع لا يقبل إلاّ بأمرٍ يعذر به المقرّ - لا مطلقاً - ومثال ما يعذر به المقرّ أن يقول وطئت زوجتي أو أمتي وهي حائض، فظننت أنّه زنًى‏.‏

ب - الإنكار بعد الإقرار فيما هو حقّ للعباد‏:‏

23 - قال ابن قدامة‏:‏ حقوق الآدميّين وحقوق اللّه الّتي لا تدرأ بالشّبهات كالزّكاة والكفّارات لا يقبل رجوعه عن إقراره بها‏.‏ لا نعلم في هذا خلافاً‏.‏ حتّى أنّه لو أقرّ بالسّرقة، ثمّ رجع عنها ثبت المال، لأنّه حقّ العبد، وسقط القطع، لأنّه حقّ اللّه‏.‏

غير أنّ الشّبهة الّتي عرضت من احتمال أن يكون صادقاً في رجوعه عن إقراره، دعت بعض الفقهاء أن يقولوا إنّ القاضي، إن رجع المقرّ في إقرارٍ، لا يقضي عليه إلاّ بعد استحلاف خصمه أنّ الإقرار لم يكن باطلاً‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لو أقرّ أنّه وهب وأقبض الهبة، أو أنّه قبض المبيع، أو آجر المستأجر، ثمّ أنكر ذلك وسأل إحلاف خصمه، فإنّه لا يستحلف على روايةٍ عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ، لأنّ دعواه تكذيب لإقراره، ولأنّ الإقرار أقوى من البيّنة، ولو شهدت البيّنة فقال‏:‏ حلّفوه لي مع بيّنته لم يستحلف‏.‏ فكذلك هنا‏.‏ قال‏:‏ وفي الرّواية الثّانية يستحلف وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفيّة، لأنّ العادة جارية بالإقرار قبل القبض، فيحتمل صحّة ما قاله، فينبغي أن يستحلف خصمه لنفي الاحتمال‏.‏

أثر جحود العقود في انفساخها

24 - إذا جحد أحد المتبايعين البيع أو غيره من العقود اللّازمة - غير النّكاح - لم يترتّب على إنكاره له انفساخ العقد، وكان للآخر التّمسّك بالعقد، وله بعد الإثبات المطالبة بتنفيذه‏.‏ لكن إن رضي هذا الآخر بالفسخ قولاً، أو بتركه الخصومة مع فعلٍ يدلّ على الرّضى بالفسخ، كنقله المبيع إلى منزله، ينفسخ العقد‏.‏ فلو قال المالك‏:‏ اشتريت منّي هذه الدّابّة، وأنكر الآخر الشّراء، فرضي البائع، انفسخ البيع، وكان له أن يركب الدّابّة، ولو أنّ المشتري ادّعى الشّراء بعد رضى البائع بالفسخ لا يقبل، لانفساخ العقد‏.‏

أمّا النّكاح فلو جحد الرّجل أنّه تزوّج المرأة، ثمّ ادّعى الزّواج وبرهن، يقبل منه برهانه عند الحنفيّة، لأنّ النّكاح لا يحتمل الفسخ بسائر الأسباب فكذا بهذا السّبب‏.‏ ويوافق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الحنفيّة على أنّ إنكار الزّوج النّكاح لا يكون فسخاً‏.‏

وليس هو أيضاً طلاقاً عند الحنفيّة، والشّافعيّة والحنابلة ولو نواه، لأنّ الجحود هنا لعقد النّكاح، لا لكونها امرأته‏.‏ بخلاف ما لو قال‏:‏ ليست هي امرأتي، فإنّه إن نوى الطّلاق وقع طلاقاً‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ لو نوى الطّلاق بجحد النّكاح يكون طلاقاً، كأنّهم جعلوه من كنايات الطّلاق‏.‏

أثر إنكار الرّدّة في حصول التّوبة منها

25 - إذا ثبتت ردّة إنسانٍ بالبيّنة، فأنكر أن يكون ارتدّ، فللفقهاء في اعتبار ذلك الإنكار منه توبة قولان‏:‏

الأوّل‏:‏ وهو قول الحنفيّة‏:‏ أنّ من شهدت عليه البيّنة بالرّدّة، وهو ينكرها، وهو مقرّ بالتّوحيد وبمعرفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام، فلا يتعرّض له، لا لتكذيب الشّهود، بل لأنّ إنكاره توبة ورجوع، فيمتنع القتل فقط، وتثبت بقيّة أحكام الرّدّة، كحبوط عملٍ وبطلان وقفٍ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

الثّاني‏:‏ وهو قول الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يحكم بردّته، ويلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلماً، فإن لم يفعل استتيب، فإن تاب وإلاّ قتل‏.‏

ولم يتعرّض المالكيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه من كلامهم‏.‏ هذا وقد نصّ الحنابلة على أنّه إن كان ثبوت ردّته بالإقرار‏.‏ فإنّ إنكاره يكون توبةً، ولا يتعرّض له، كما في سائر الحدود‏.‏ ولم نجد لغير الحنابلة نصّاً في ذلك، والظّاهر أنّه موضع اتّفاقٍ‏.‏

الصّلح مع الإنكار

26 - الصّلح عقد يتوصّل به إلى الإصلاح بين المتخاصمين‏.‏

والصّلح في الأموال نوعان‏:‏ صلح مع الإنكار، وصلح مع الإقرار‏.‏

والصّلح مع الإنكار عندما يكون المدّعى عليه يرى أنّه لا حقّ عليه، فيدفع إلى المدّعي شيئاً افتداءً ليمينه وقطعاً للخصومة، وصيانةً لنفسه عن التّبذّل بالمخاصمة في مجالس القضاء‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في صحّة مثل هذا الصّلح، فأجازه الجمهور، منهم أبو حنيفة ومالك وأحمد، ومنعه الشّافعيّ‏.‏ وأمّا متى كان المدّعى عليه مقرّاً بالحقّ فصالح عنه ببعضه، فهو المسمّى بالصّلح مع الإقرار‏.‏ وينظر تفصيل القول في نوعي الصّلح تحت عنوان ‏(‏صلح‏)‏‏.‏

إنكار شيءٍ من أمور الدّين

27 - لا يجوز للمسلم أن ينكر شيئاً من دين الإسلام‏.‏ ولكن من أنكر شيئاً من أمور الدّين لا يحكم بكفره، إلاّ إن كان ما أنكره أمراً مجمعاً عليه قد علم قطعاً مجيء النّبيّ صلى الله عليه وسلم به‏.‏ كوجوب الصّلاة والزّكاة، ولم يكن ذلك المنكر جاهلاً بالحكم ولا مكرهاً، وهذا قول جمهور الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏.‏

واشترط بعض الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة أن يكون المجحود قد علم مجيء النّبيّ صلى الله عليه وسلم به بالضّرورة، أي علماً ضروريّاً لا يتوقّف على نظرٍ واستدلالٍ‏.‏ أو كما عبّر البعض‏:‏ يعرفه كلّ المسلمين‏.‏

قال ابن الهمام في المسايرة‏:‏ وأمّا ما أجمع عليه، ولم يبلغ حدّ الضّرورة، كاستحقاق بنت الابن السّدس مع البنت بإجماع المسلمين، فظاهر كلام جمهور الحنفيّة الإكفار بجحده، فإنّهم لم يشرطوا سوى القطع في الثّبوت‏.‏ وأمّا عند من شرط كونه معلوماً بالضّرورة فلا يكفر عنده من جحد مثل هذا الحكم‏.‏

ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفيّة أنّ المسائل الإجماعيّة تارةً يصحبها التّواتر عن صاحب الشّرع، وتارةً لا يصحبها‏.‏ فالأوّل يكفر جاحده لمخالفته التّواتر لا لمخالفته الإجماع‏.‏ ونقل ابن حجرٍ الهيتميّ مثل ذلك عن بعض الشّافعيّة‏.‏ وقريب من قول من اشترط في المجحود أن يكون معلوماً من الدّين بالضّرورة قول الحنابلة، فإنّهم اشترطوا لما يكفر بإنكاره أن يكون ظاهراً بين المسلمين لا شبهة فيه، وعبارة شرح المنتهى‏:‏ من جحد حكماً ظاهراً بين المسلمين - بخلاف ‏(‏نحو‏)‏ فرض السّدس لبنت الابن مع بنت الصّلب، وكان ذلك الحكم مجمعاً عليه إجماعاً قطعيّاً لا سكوتيّاً، لأنّ فيه - أي الإجماع السّكوتيّ - شبهةً، كجحد تحريم الزّنى، أو جحد تحريم لحم الخنزير، أو مذكّاة بهيمة الأنعام والدّجاج، ومثله لا يجهله لكونه نشأ بين المسلمين، أو كان مثله يجهله وعرف حكمه، وأصرّ على الجحد، كفر‏.‏ وينظر التّفصيل في هذه المسألة تحت عنوان ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الإنكار في المنكرات

28 - إنكار المنكر هو النّهي عن معصية اللّه باليد أو باللّسان، أو بالقلب‏.‏ فمن رأى حدود اللّه تنتهك شرع له التّغيير، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خيرَ أمّةٍ أُخْرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»‏.‏

وتفصيل القول في هذا الأمر، وبيان آداب النّهي عن المنكر ينظر تحت عنوان‏.‏ ‏(‏الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏)‏‏.‏

هذا، وإنّ ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإنكار على ما يراه من الأفعال، أو ما يسمعه من الأقوال، يدلّ على جواز ذلك الفعل أو القول، وأنّه لا بأس به شرعاً‏.‏

وهذا التّرك هو أحد أصول الأدلّة الشّرعيّة، وهو نوع من أنواع السّنّة النّبويّة، ويسمّيه الأصوليّون ‏(‏الإقرار‏)‏ أو ‏(‏التّقرير‏)‏ وينظر تفصيل مباحثه تحت عنوان ‏(‏تقرير‏)‏ وفي باب ‏(‏السّنّة‏)‏ من الملحق الأصوليّ‏.‏

إنماء

التّعريف

1 - الإنماء لغةً‏:‏ مصدر أنمى، وهو من نمى ينمي نمياً، ونماءً، وفي لغةٍ‏:‏ نما ينمو نموّاً، أي زاد وكثر، ونمّيت الشّيء تنميةً جعلته ينمو‏.‏ فالإنماء والتّنمية‏:‏ فعل ما به يزيد الشّيء ويكثر‏.‏ ونمى الصّيد‏:‏ غاب، والإنماء أن يرمي الصّيد فيغيب عن عينه ثمّ يدركه ميّتاً، وعن ابن عبّاسٍ مرفوعاً‏:‏ «كل ما أصميت، ودع ما أنميت»‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عمّا ورد في المعنى اللّغويّ‏.‏

ثمّ النّماء هو الزّيادة، أي ما يكون نتيجة الإنماء غالباً، كما يقول الفقهاء، وقد يكون النّماء ذاتيّاً‏.‏

والنّماء نوعان‏:‏ حقيقيّ وتقديريّ، فالحقيقيّ الزّيادة بالتّوالد والتّناسل والتّجارات‏.‏ والتّقديريّ‏:‏ التّمكّن من الزّيادة بكون المال في يده أو يد نائبه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّثمير والاستثمار‏:‏

2 - التّثمير والاستثمار كالإنماء أيضاً، يقال‏:‏ ثمّر ماله إذا نمّاه‏.‏

ب - التّجارة‏:‏

3 - التّجارة تقليب المال بالمعاوضة لغرض الرّبح‏.‏

فهي بذلك من الأعمال الّتي يطلب بها زيادة المال وتعتبر وسيلةً من وسائل تنميته‏.‏

ج - الاكتساب‏:‏

4 - الاكتساب هو طلب الرّزق‏.‏ وأصل الكسب السّعي في طلب الرّزق والمعيشة، وفي الحديث‏:‏ «أطيب ما أكل الرّجل من كسبه، وولده من كسبه»‏.‏

فالاكتساب هو طلب المال، سواء أكان بتنمية مالٍ موجودٍ، أم بالعمل بغير مالٍ، كمن يعمل بأجرةٍ‏.‏ أمّا الإنماء فهو العمل على زيادة المال، وبذلك يكون الاكتساب أعمّ من الإنماء‏.‏

د - الزّيادة‏:‏

5 - الإنماء هو فعل ما يزيد به الشّيء، كما سبق، أمّا الزّيادة فهي الشّيء الزّائد أو المزيد على غيره، وفي الفروق في اللّغة‏:‏ الفعل نما يفيد زيادةً من نفسه، وزاد لا يفيد ذلك‏.‏ يقال‏:‏ زاد مال فلانٍ بما ورثه عن والده ولا يقال ذلك في نما‏.‏

ومعنى ذلك أنّ الإنماء هو العمل على أن تكون الزّيادة نابعةً من نفس الشّيء وليست من خارجٍ، أمّا الزّيادة فقد تكون من خارجٍ فهي أعمّ‏.‏

ويقسّم الفقهاء الزّيادة إلى متّصلةٍ ومنفصلةٍ، ويقسّمون كلّاً منهما إلى متولّدةٍ وغير متولّدةٍ، فالزّيادة المتّصلة المتولّدة كالسّمن والجمال، وغير المتولّدة كالصّبغ والخياطة، والزّيادة المنفصلة المتولّدة كالولد والثّمر، وغير المتولّدة كالأجرة‏.‏

هـ- الكنز‏:‏

6- الكنز مصدر كنز، وهو أيضاً اسم للمال إذا أحرز في وعاءٍ‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز المال المدفون، وتسمّي العرب كلّ كثيرٍ مجموعٍ يتنافس فيه كنزاً، ويطلق على المال المخزون والمصون، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «كلّ مالٍ لا تؤدّى زكاته فهو كنز»‏.‏

فالكنز ضدّ الإنماء‏.‏

و- تعطيل‏:‏

7 - التّعطيل التّفريغ، والمعطّل الموات من الأرض، وإبل معطّلة لا راعي لها، وعطّل الدّار أخلاها، وتعطّل الرّجل إذا بقي لا عمل له، ويقول الفقهاء‏:‏ من تحجّر أرضاً وترك عمارتها، قيل له‏:‏ إمّا أن تعمّر وإمّا أن ترفع يدك، فإن استمرّ تعطيلها فمن عمّرها فهو أحقّ بها، لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ من تحجّر أرضاً فعطّلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحقّ بها‏.‏ فالتّعطيل أيضاً ضدّ الإنماء‏.‏

ز - القنية‏:‏

8 - القنية ‏(‏بكسر القاف وضمّها‏)‏ الكسبة، واقتنيته‏:‏ كسبته، ويقال‏:‏ اقتنيته أي اتّخذته لنفسي قنيةً لا للتّجارة، والقنية الإمساك، وفي الزّاهر‏:‏ القنية‏:‏ المال الّذي يؤثّله الرّجل ويلزمه، ولا يبيعه ليستغلّه‏.‏

والفقهاء يفرّقون في وجوب الزّكاة بين ما يتّخذ للقنية أي للملك وما يتّخذ للتّجارة‏.‏

فالقنية أيضاً تعطيل للمال عن الإنماء‏.‏

ح - ادّخار‏:‏

9 - الادّخار‏:‏ إعداد الشّيء وإمساكه لاستعماله لوقت الحاجة، وفي الحديث‏:‏

«كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاثٍ، فأمسكوا ما بدا لكم»‏.‏

فالمال في حال الادّخار معطّل عن الإنماء‏.‏

أوّلاً‏:‏ الإنماء بمعنى زيادة المال

حكم إنماء المال

تمهيد‏:‏

10 - الإنسان بالنّسبة للمال‏:‏ إمّا أن يكون مالكاً للرّقبة ‏(‏العين‏)‏ وللتّصرّف فيها، كالشّيء الّذي يتملّكه الإنسان بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ ويكون تحت يده وأهلاً للتّصرّف فيه، وإمّا أن يكون مالكاً للرّقبة فقط دون التّصرّف كالمحجور عليه، وإمّا أن يكون مالكاً للتّصرّف فقط دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ والوكيل وناظر الوقف والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال، وإمّا أن يكون لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف كالغاصب والفضوليّ والمرتهن والمودع والملتقط في مدّة التّعريف‏.‏

حكم الإنماء بالنّسبة لمالك الرّقبة والتّصرّف

مشروعيّته‏:‏

11 - إنماء المال الّذي يملكه الإنسان ويملك التّصرّف فيه جائز مشروع، والدّليل على مشروعيّته، أنّ اللّه تعالى أحلّ البيع والتّجارة حتّى في مواسم الحجّ، وذلك العمل وسيلة للإنماء كما يقول الفقهاء‏.‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا‏}‏، ويقول‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم‏}‏ ويقول‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه‏}‏ أي يسافرون للتّجارة، ويقول‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم‏}‏ يعني في مواسم الحجّ‏.‏

كما ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينارٍ وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ فدعا له بالبركة» وكذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء»‏.‏ ويقول‏:‏ «الجالب مرزوق والمحتكر محروم أو ملعون»، ويقول‏:‏ «لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابّة ولا شيء إلاّ كانت له صدقة»‏.‏ ويقول‏:‏ «نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح»‏.‏

ولتحصيل هذا الغرض ‏(‏وهو الإنماء‏)‏ أباحت الشّريعة أنواعاً من العقود كالشّركات‏.‏

وقد روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً، كذلك بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّاس يتعاملون بالشّركة والمضاربة فأقرّهم ولم ينكر عليهم‏.‏

حكمة المشروعيّة‏:‏

12 - شرع للإنسان تنمية ماله حفاظاً على المال لمصلحته ومصلحة الجماعة، والحفاظ على المال مقصد من مقاصد الشّريعة، ولذلك منع منه السّفهاء حتّى لا يضيّعوه‏.‏ ومن وسائل حفظه تنميته بتجارةٍ أو زراعةٍ أو صناعةٍ أو غير ذلك، ولذلك يقول الفقهاء في الحكمة من مشروعيّة الشّركة‏:‏ الشّركة وضعت لاستنماء المال بالتّجارة لأنّ غالب نماء المال بالتّجارة، والنّاس في الاهتداء إلى التّجارة مختلفون بعضهم أهدى من بعضٍ، فشرعت الشّركة لتحصيل غرض الاستنماء، وحاجة النّاس إلى استنماء المال متحقّقة، فشرعت هذه العقود لمصالح العباد‏.‏

وفي القراض يقول الفقهاء، إنّ الضّرورة تدعو إليه لاحتياج النّاس إلى التّصرّف في أموالهم وتنميتها بالتّجر فيها، فهو من المصالح العامّة، وليس كلّ أحدٍ يقدر عليه بنفسه، فيضطرّ إلى الاستنابة عليه‏.‏

إنماء المال بحسب نيّة الشّخص‏:‏

13 - الإنماء نوع من أنواع الاكتساب، ويختلف حكمه بحسب الغرض منه‏.‏

فيفرض إن كان لتحصيل المال بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه‏.‏

ويستحبّ الزّائد على الحاجة إذا كان الغرض منه مواساة الفقير ونفع القريب وهو حينئذٍ أفضل من التّفرّغ لنفل العبادة‏.‏

ويباح الزّائد إذا كان بغرض التّجمّل والتّنعّم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ «نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح»‏.‏

ويكره ‏(‏أي كراهة تحريمٍ‏)‏ الزّائد إذا كان للتّفاخر والتّكاثر والبطر والأشر وإن كان من حلٍّ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من طلبها حلالاً مكاثراً لها مفاخراً لقي اللّه تعالى وهو عليه غضبان»‏.‏

حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك التّصرّف دون الرّقبة

14 - من يملك التّصرّف في المال دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ وناظر الوقف والوكيل والقاضي والسّلطان‏.‏ هؤلاء يتصرّفون فيما يلونه من أموال اليتامى والقصّر وأموال الوقف والموكّل وبيت المال بإذنٍ شرعيٍّ، وهم أمناء على هذه الأموال، ونظرهم فيها يكون بما فيه الحظّ لأربابها، ولذلك يجوز لهم إنماء هذه الأموال لأنّه أوفر حظّاً‏.‏

يقول الفقهاء‏:‏ الوكيل والوصيّ والوليّ والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال يتصرّفون بإذنٍ شرعيٍّ‏.‏

وللوصيّ دفع المال إلى من يعمل فيه مضاربةً نيابةً عن اليتيم، وللقاضي - حيث لا وصيّ - إعطاء مال الوقف والغائب واللّقطة واليتيم مضاربةً‏.‏ ولناظر الوقف تنميته بإيجارٍ أو زرعٍ أو غير ذلك‏.‏ وللإمام النّظر فيما يرجع إلى بيت المال بالتّثمير والإصلاح، وقد استدلّ الفقهاء على جواز تصرّف هؤلاء المذكورين بالإنماء فيما يلونه من أموالٍ بالآتي‏:‏

أ - ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من ولي يتيماً له مال فليتّجر له بماله ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة»‏.‏

ب - ما روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً، منهم‏:‏ عمر وعثمان وعليّ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهم‏.‏

ج - ما روي أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينارٍ، وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له بالبركة»‏.‏

د - استدلّوا على أنّ الإمام له النّظر في أموال بيت المال بالتّثمير والإصلاح، بما روي‏"‏ أنّ عبد اللّه وعبيد اللّه ابني عمر بن الخطّاب أخذا من أبي موسى الأشعريّ - وهو أمير البصرة - مالاً من بيت المال ليبتاعا ويربحا، ثمّ يؤدّيا رأس المال إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، فأبى عمر، وجعل المال قراضاً، وأخذ نصف الرّبح لبيت المال وترك لهما النّصف ‏"‏‏.‏

هـ - كما ورد أنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه كان يرسل إبل الصّدقة إذا كانت عجافاً إلى الرّبذة وما والاها ترعى هناك‏.‏

حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك الرّقبة دون التّصرّف

من يملك الرّقبة ولا يملك التّصرّف كالسّفيه عند غير الحنفيّة، وكالصّغير والمجنون يمنع من التّصرّف في المال، والحجر عليهم إنّما هو للحفاظ على أموالهم، والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قِياماً‏}‏، فأضاف الأموال إلى الأولياء، لأنّهم مدبّروها، كذلك أمر اللّه تعالى باختبار اليتامى وعدم دفع الأموال إليهم إلاّ عند إيناس الرّشد منهم‏.‏ يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإنْ آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏، يقول ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ أي صلاحاً في أموالهم‏.‏ فالمنع من التّصرّف نظر لهم لأنّه يمكن تبذير المال بما يعقدونه من بياعاتٍ‏.‏ لكن إذا أذن الوليّ للصّغير المميّز جاز تصرّفه بالإذن، أمّا الصّغير غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن‏.‏

حكم الإنماء بالنّسبة لمن لا يملك الرقبة ولا التّصرّف‏:‏

15 - من لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف، وله يد على المال، سواء أكانت يد أمانةٍ كالمودع، أو كانت يداً معتديةً كيد الغاصب، فإنّه لا يجوز له الإنماء، إذ الأصل أنّه لا يجوز تصرّف أحدٍ في غير ملكه بغير إذن مالكه‏.‏ وانظر للتّفصيل ‏(‏غصب‏.‏ وديعة‏)‏‏.‏

وسائل الإنماء

ما يجوز منها وما لا يجوز‏:‏

16 - تقدّم أنّ الأصل في إنماء المال أنّه مشروع، إلاّ أنّه يجب أن يقتصر فيه على الوسائل المشروعة، كالتّجارة والزّراعة والصّناعة، مع مراعاة القواعد والشّرائط الشّرعيّة الّتي أوردها الفقهاء للتّصرّفات الّتي تكون سبيلاً إلى الإنماء، كالبيع والشّركة والمضاربة والمساقاة والوكالة، وذلك لضمان صحّة هذه العقود، وليخلص الرّبح من شبهة الحرام ‏(‏ر‏:‏ بيع - شركة - مضاربة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏‏.‏

ولذلك يحرم تنمية المال عن طريقٍ غير مشروعٍ كالرّبا والقمار والتّجارة بالخمر ونحو ذلك‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الخمر‏:‏ «لعن اللّه شاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وقوله‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»‏.‏

ما يتعلّق بالنّماء من أحكامٍ

17 - المال سواء أكان في يد مالكه أو يد المتصرّف فيه‏.‏ أم كان أمانةً أو غصباً، إذا نما، سواء أكان نماؤه طبيعيّاً أو ناتجاً بعملٍ، فلنمائه أحكام، تختلف باختلاف مواضعها‏.‏ ولمعرفة تفاصيل ذلك ينظر مصطلح ‏(‏زيادة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الإنماء بمعنى تغيّب الصّيد بعد رميه

18 - التّعبير بالإنماء بمعنى رمي الصّيد حتّى غاب عن العين بعد رميه، ورد منسوباً لابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، والغالب أنّ الفقهاء لا يستعملون هذا اللّفظ، وإنّما ذكروا المسألة واستدلّوا على رأيهم بقول ابن عبّاسٍ، جاء في بدائع الصّنائع‏:‏ إذا رمى الصّيد وتوارى عن عينه وقعد عن طلبه ثمّ وجده لم يؤكل، فأمّا إذا لم يتوار أو توارى لكنّه لم يقعد عن الطّلب حتّى وجده يؤكل استحساناً، والقياس أنّه لا يؤكل، وروي عن ابن عبّاسٍ أنّه سئل عن ذلك فقال‏:‏ كل ما أصميت ودع ما أنميت‏.‏

قال أبو يوسف رحمه الله‏:‏ الإصماء ما عاينه، والإنماء ما توارى عنه‏.‏

وقال هشام‏:‏ الإنماء ما توارى عن بصرك، إلاّ أنّه أقيم الطّلب مقام البصر للضّرورة، ولا ضرورة عند عدم الطّلب‏.‏ وفي المغني لابن قدامة‏:‏ إذا رمى الصّيد فغاب عن عينه فوجده ميّتاً وسهمه فيه ولا أثر به غيره حلّ أكله، وهذا هو المشهور عن أحمد، وكذلك لو أرسل كلبه على صيدٍ فغاب عن عينه ثمّ وجده ميّتاً ومعه كلبه حلّ، وعن أحمد إن غاب نهاراً فلا بأس، وإن غاب ليلاً لم يأكله، وعن أحمد ما يدلّ على أنّه إن غاب مدّةً طويلةً لم يبح، وإن كانت يسيرةً أبيح، لأنّه قيل له‏:‏ إن غاب يوماً‏؟‏ قال‏:‏ يوم كثير‏.‏ ووجه ذلك قول ابن عبّاسٍ إذا رميت فأقعصت فكل، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل، وإن بات عنك ليلةً فلا تأكل، فإنّك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك‏.‏

وللشّافعيّ فيه قولان لأنّ ابن عبّاسٍ قال‏:‏ كل ما أصميت، وما أنميت فلا تأكل‏.‏

قال الحكم‏:‏ الإصماء الإقعاص، يعني أنّه يموت في الحال، والإنماء أن يغيب عنك يعني أنّه لا يموت في الحال‏.‏ وينظر تفصيل الموضوع في ‏(‏صيد‏)‏‏.‏