فصل: الجزء السابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء السابع

إنشاء

التّعريف

1- الإنشاء‏:‏ لغةً ابتداء الشّيء، ورفعه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الّذي أنشأ جَنّاتٍ معروشاتٍ وغيرَ معروشاتٍ‏}‏ وفعله المجرّد‏:‏ نشأ ينشأ، ومنه نشأ السّحاب نشئاً ونشوءاً‏:‏ إذا ارتفع وبدا‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الجَوَار المنشئات في البحر كالأعلام‏}‏ قال الزّجّاج والفرّاء‏:‏ المنشئات‏:‏ السّفن المرفوعة الشّرع‏.‏

والإنشاء عند أهل الأدب، قال القلقشنديّ‏:‏ هو كلّ ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني‏.‏

وأمّا في اصطلاح البيانيّين والأصوليّين فالإنشاء أحد قسمي الكلام، إذ الكلام عندهم إمّا‏:‏ خبر أو إنشاء‏.‏ فالخبر هو‏:‏ ما احتمل الصّدق والكذب لذاته، كقام زيد، وأنت أخي‏.‏ والإنشاء‏:‏ الكلام الّذي لا يحتمل الصّدق والكذب، إذ ليس له في الخارج نسبة تطابقه أو لا تطابقه‏.‏ وسمّي إنشاءً لأنّك أنشأته‏:‏ أي ابتكرته، ولم يكن له في الخارج وجود‏.‏

2 - والإنشاء نوعان‏:‏

الأوّل‏:‏ الإنشاء الطّلبيّ‏:‏ ويسمّى طلباً، وهو ما أفاد طلباً بالوضع، فيطلب به تحصيل غير حاصلٍ في الخارج‏.‏ فإن كان المطلوب ذكر الماهيّة فهو الاستفهام‏.‏ وإن كان المطلوب إيجاد الماهيّة فهو أمر، أو الكفّ عنها فهو نهي‏.‏ وهكذا‏.‏

الثّاني‏:‏ الإنشاء غير الطّلبيّ‏.‏ويذهب بعض الأصوليّين إلى أنّ قسمة الكلام ثلاثيّة، فهو إمّا خبر، أو طلب، أو إنشاء‏.‏ خصّ أصحاب هذا القول الطّلب بما سمّاه غيرهم الإنشاء الطّلبيّ، والإنشاء لما عداه، كألفاظ العقود نحو‏:‏ بعت واشتريت‏.‏

قال التّهانويّ‏:‏ والمحقّقون على دخول الطّلب في الإنشاء، وأنّ معنى ‏(‏اضرب‏)‏ مثلاً وهو طلب الضّرب، مقترن بلفظه‏.‏ وأمّا الضّرب الّذي يوجد بعد ذلك فهو متعلّق الطّلب، لا الطّلب نفسه‏.‏ هذا، ويدخل في الإنشاء الطّلبيّ‏:‏ الأمر والنّهي والاستفهام والتّمنّي والنّداء‏.‏ ويدخل في الإنشاء غير الطّلبيّ أفعال المدح والذّمّ، وفعلا التّعجّب، والقسم‏.‏

3 - واختلف الفقهاء والأصوليّون في ألفاظ العقود كبعت واشتريت، وألفاظ الفسوخ كطلّقت وأعتقت، ونحوها كظاهرت، وصيغ قضاء القاضي كقوله‏:‏ حكمت بكذا، أهي خبر أم إنشاء، ومحلّ الخلاف ليس ما أريد به الإخبار عن عقدٍ سابقٍ أو تصرّفٍ سابقٍ، كقول القائل‏:‏ أعتقت عبدي أمس، ووقفت داري اليوم، بل الخلاف فيما أريد به إنشاء العقد أو التّصرّف، أي اللّفظ الموجب لذلك، وهو الإيجاب والقبول في العقد، كبعت واشتريت مثلاً‏.‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ هي إنشاء‏:‏ لأنّ دلالة لفظ ‏(‏بعت‏)‏ مثلاً على المعنى الموجب للبيع، وهو الحادث في الذّهن عند إحداث البيع، هي دلالة بالعبارة، فهو منقول عرفاً عن المعنى الخبريّ إلى الإنشاء، قالوا‏:‏ ولو كانت خبراً لكانت محتملةً للتّصديق والتّكذيب‏.‏ ولكنّها لا تحتملهما، ولكان لها خارج تطابقه أو لا تطابقه‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ هي إخبار‏:‏ لأنّ دلالتها بالاقتضاء لا بالعبارة‏.‏ ووجه كون دلالتها بالاقتضاء‏:‏ أنّها حكاية عن تحصيل البيع، وهو متوقّف على حصول المعنى الموجب للبيع‏.‏ فالمعنى الموجب لازم متقدّم، أمّا العبارة فهي‏:‏ إخبار عن ذلك المعنى‏.‏ واحتجّوا بأنّ الصّيغة موضوعة للإخبار، والنّقل عنه إلى الإنشاء لم يثبت‏.‏

ورجّح التّهانويّ - وهو حنفيّ - قول الشّافعيّة‏.‏ وهو قول البيانيّين أيضاً‏.‏ وينظر تفصيل القول في هذا الملحق الأصوليّ‏.‏

انشغال الذّمّة

انظر‏:‏ ذمّة‏.‏

أنصاب

التّعريف

1 - الأنصاب‏:‏ جمع مفرده نصب، وقيل‏:‏ النّصب جمع مفرده نصاب، والنّصب‏:‏ كلّ ما نصب فجعل علماً‏.‏ وقيل‏:‏ النّصب هي الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ النّصب كلّ ما عبد من دون اللّه، قال الفرّاء‏:‏ كأنّ النّصب الآلهة الّتي كانت تعبد من أحجارٍ‏.‏

والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ ويذبح عليها لغير اللّه تعالى، وروى مثل ذلك عن مجاهدٍ وقتادة وابن جريجٍ، قالوا‏:‏ إنّ النّصب أحجار منصوبة كانوا يعبدونها ويقرّبون الذّبائح لها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الأصنام والأوثان‏:‏

2 - الأصنام‏:‏ جمع صنمٍ، والصّنم‏:‏ قيل هو الوثن المتّخذ من الحجارة أو الخشب، ويروى ذلك عن ابن عبّاسٍ‏.‏

وقيل الصّنم‏:‏ جثّة من فضّةٍ أو نحاسٍ أو خشبٍ كانوا يعبدونها متقرّبين بها إلى اللّه تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الصّنم ما كان على صورة حيوانٍ‏.‏

وقيل‏:‏ كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى يقال له صنم‏.‏ والفرق بين الأنصاب والأصنام، أنّ الأصنام مصوّرة منقوشة، وليس كذلك الأنصاب لأنّها حجارة منصوبة‏.‏

وفي أحكام القرآن للجصّاص‏:‏ الوثن كالنّصب سواء، ويدلّ على أنّ الوثن اسم يقع على ما ليس بمصوّرٍ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعديّ بن حاتمٍ حين جاءه وفي عنقه صليب‏:‏ «ألق هذا الوثن من عنقك» فسمّى الصّليب وثناً، فدلّ ذلك على أنّ النّصب والوثن اسم لما نصب للعبادة، وإن لم يكن مصوّراً ولا منقوشاً، فعلى هذا الرّأي تكون الأنصاب كالأوثان في أنّها غير مصوّرةٍ‏.‏ وعلى الرّأي الأوّل يكون الفرق بين الأنصاب والأوثان أنّ الأنصاب غير مصوّرةٍ، والأوثان مصوّرة‏.‏

التّماثيل‏:‏

3 - التّماثيل‏:‏ جمع تمثالٍ، وهو الصّورة من حجرٍ أو غيره سواء عبد من دون اللّه أم لم يعبد‏.‏

أنصاب الحرم‏:‏

4 - حرم مكّة هو ما أحاط بها من جوانبها، جعل اللّه حكمه حكمها في الحرمة‏.‏

وللحرم علامات مبيّنة، وهي أنصاب مبنيّة في جميع جوانبه قيل أوّل من نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام بدلالة جبريل له، فقيل نصبها إسماعيل عليه السلام‏.‏ ثمّ تتابع ذلك حتّى نصبها النّبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثمّ الخلفاء من بعده‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أعلام الحرم‏)‏‏.‏

والفرق بينها وبين أنصاب الكفّار‏:‏ أنّ أعلام الحرم علامات تبيّن حدود الحرم دون تقديسٍ أو عبادةٍ، أمّا أنصاب الكفّار فكانت تقدّس ويتقرّب بها لغير اللّه ويذبح عليها‏.‏

حكم الذّبح على النّصب

5 - الذّبح على النّصب كان عادةً من عادات أهل الجاهليّة، ينصبون الأحجار ويقدّسونها ويتقرّبون إليها بالذّبائح‏.‏ وقد بيّن اللّه تعالى أنّ هذه الذّبائح لا تحلّ‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب‏}‏‏.‏

قال ابن جريجٍ‏:‏ المعنى‏:‏ والنّيّة فيها تعظيم النّصب‏.‏

وقال ابن زيدٍ‏:‏ ما ذبح على النّصب وما أهلّ به لغير اللّه شيء واحد‏.‏

وقال ابن عطيّة‏:‏ ما ذبح على النّصب جزء ممّا أهلّ به لغير اللّه، ولكن خصّ بالذّكر بعد جنسه لشهرة الأمر‏.‏

حكم صنعها وبيعها واقتنائها

6 - الأنصاب بالمعنى العامّ الشّامل لكلّ ما صنع ليعبد من دون اللّه تعتبر رجساً من عمل الشّيطان كما ورد في الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه‏}‏‏.‏ وكلّ ما حرّمه اللّه تعالى يحرم صنعه وبيعه واقتناؤه‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ صنعة التّصاوير المجسّدة لإنسانٍ أو حيوانٍ حرام على فاعلها، سواء أكانت من حجرٍ أم خشبٍ أم طينٍ أم غير ذلك، لما روى ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «الّذين يصنعون هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة، يقال لهم‏:‏ أحيوا ما خلقتم» وعن مسروقٍ قال‏:‏ دخلنا مع عبد اللّه بيتاً فيه تماثيل، فقال لتمثالٍ منها‏:‏ تمثال من هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ تمثال مريم، قال عبد اللّه‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصوّرون» والأمر بعمله محرّم كعمله، بل إنّ الأجرة على صنع مثل هذه الأشياء لا تجوز وهذا في مطلق التّصاوير المجسّدة، فإذا كانت ممّا يعبد من دون اللّه فذلك أشدّ تحريماً‏.‏

ففي الفتاوى الهنديّة‏:‏ لو استأجر رجلاً ينحت له أصناماً لا شيء له، والإجارة على المعاصي لا تصحّ‏.‏ ويقول بعض الفقهاء‏:‏ إنّه لا قطع في سرقة صنمٍ وصليبٍ‏:‏ لأنّ التّوصّل إلى إزالة المعصية مندوب إليه، فصار شبهةً كإراقة الخمر ‏(‏ر‏:‏ سرقة‏)‏‏.‏

7 - كما يحرم صنع هذه الأشياء يحرم بيعها واقتناؤها، فقد ورد في الصّحيحين من حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»، يقول ابن القيّم‏:‏ يستفاد من هذا الحديث تحريم بيع كلّ آلةٍ متّخذةٍ للشّرك على أيّ وجهٍ كانت، ومن أيّ نوعٍ كانت‏.‏ صنماً أو وثناً أو صليباً، فهذه كلّها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتّخاذها، ولذلك يحرم البيع بل إنّ المادّة الّتي تصنع منها هذه الأشياء سواء كانت حجراً أم خشباً أم غير ذلك - وإن كانت مالاً وينتفع بها - لا يجوز بيعها لمن يتّخذها لمثل ذلك، كما لا يصحّ عند جمهور الفقهاء بيع العنب لمن يتّخذه خمراً، ولا بيع أدوات القمار ولا بيع دارٍ لتعمل كنيسةً، ولا بيع الخشبة لمن يتّخذها صليباً، ولا بيع النّحاس لمن يتّخذه ناقوساً، وكذلك كلّ شيءٍ علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز‏.‏ وفي المبسوط في باب الأشربة أورد السّرخسيّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه‏}‏ ثمّ قال بعد ذلك‏:‏ بيّن اللّه تعالى أنّ كلّ ذلك رجس، والرّجس ما هو محرّم العين وأنّه من عمل الشّيطان‏.‏

حكم ضمان إتلاف الأنصاب ونحوها

8 - يقول بعض الفقهاء‏:‏ من كسر صليباً أو صنماً لم يضمنه، لأنّه لا يحلّ بيعه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام» ‏(‏ر‏:‏ ضمان‏)‏‏.‏

إنصات

التّعريف

1 - الإنصات لغةً واصطلاحاً‏:‏ السّكوت للاستماع‏.‏ وعرّفه البعض بالسّكوت‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستماع‏:‏

2 - الاستماع قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه، فالإنصات سكوت بقصد الاستماع‏.‏ وفي الفروق في اللّغة‏:‏ أنّ الاستماع استفادة المسموع بالإصغاء إليه ليفهم، ولهذا لا يقال إنّ اللّه يستمع‏.‏

ب - السّماع‏:‏

3 - السّماع مصدر ‏(‏سمع‏)‏ ولا يشترط في السّماع قصد المسموع، ويشترط في الإنصات قصده‏.‏

الحكم الإجمالي ومواطن البحث

4 - يتناول الفقهاء الإنصات في عدّة مواطن منها‏:‏

أ - الإنصات لخطبة الجمعة، فيرى الجمهور وجوب الإنصات على من حضر الجمعة، وفيه خلاف وتفصيل وينظر في مصطلح ‏(‏استماعٍ‏)‏ والإنصات في خطبة العيدين، حكمه حكم الإنصات في خطبة الجمعة، صرّح بذلك الحنفيّة، والشّافعيّة، ويندب عند المالكيّة‏.‏

أمّا الإنصات في الصّلاة عند جهر الإمام بالقراءة، وكذلك الإنصات لقراءة القرآن الكريم خارجها فهو مطلوب شرعاً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح ‏(‏استماعٍ‏)‏‏.‏

انضباط

التّعريف

1 - لم يرد الانضباط فيما بين أيدينا من معاجم اللّغة القديمة، وإنّما ورد فعله في المعجم الوسيط حيث قال‏:‏ ‏(‏انضبط مطاوع ضبط‏)‏‏.‏ ومعنى الضّبط‏:‏ الحفظ بالحزم‏.‏ والضّابطة‏:‏ القاعدة‏.‏ والجمع ضوابط‏.‏

والانضباط في الاصطلاح‏:‏ الاندراج والانتظام تحت ضابطٍ أي حكمٍ كلّيٍّ وبه يكون الشّيء معلوماً‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - ذهب الأصوليّون إلى أنّ من شرائط العلّة أن تكون وصفاً ضابطاً للحكمة، لا حكمةً مجرّدةً لعدم انضباطها‏.‏ وذلك كالمشقّة، فإنّه من الواضح البيّن أنّه لم يعتبر كلّ قدرٍ منها، بل قدر معيّن، وهو غير مضبوطٍ في ذاته، فضبط بمظنّته وهي السّفر‏.‏

ولو وجدت الحكمة منضبطةً جاز ربط الحكم بها لعدم المانع، بل يجب، لأنّها المناسب المؤثّر في الحقيقة‏.‏ وقيل لا يجوز ربط الحكم بها ولو مع انضباطها‏.‏ وتمام الكلام فيه محلّه الملحق الأصوليّ‏.‏

وإذ قد كان الأمر على ما بيّنّا فقد اعترض على القائلين بالمناسبة بأنّ المناسب وصف غير منضبطٍ مثل الحرج والزّجر ونحوهما، فإنّها مشكّكات، ولا يعتبر كلّ قدرٍ من آحادها‏.‏ والجواب أنّ الوصف المناسب منضبط، وطرق انضباطه ثلاثة‏:‏

الأولى‏:‏ أن ينضبط بنفسه بأن يعتبر مطلقه كالإيمان لو قيل بتشكيك اليقين، فالمعتبر مطلق اليقين في أيّ فردٍ تحقّق من أفراده المختلفة‏.‏

الثّانية‏:‏ أن ينضبط في العرف كالمنفعة والمضرّة، فإنّهما وصفان مضبوطان عرفاً‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن ينضبط في الشّرع بالمظنّة كالسّفر، فإنّ مرتبة الحرج إنّما تتعيّن به، وكالحدّ فإنّه به يتحدّد مقدار الزّجر‏.‏

ومن أمثلة الانضباط عند الفقهاء

أوّلاً‏:‏ انضباط المسلم فيه‏:‏

3 - يصحّ السّلم في المختلط بسبب الصّنعة، إذا انضبطت عند أهل تلك الصّنعة الأجزاء المقصودة الّتي صنع منها المسلم فيه، وذلك كالعتّابيّ، وهو ما ركّب من قطنٍ وحريرٍ، وكالخزّ وهو ما ركّب من حريرٍ ووبرٍ وصوفٍ، فلا بدّ لكلٍّ من المتعاقدين معرفة وزن كلٍّ من هذه الأجزاء لأنّ القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتاً ظاهراً، فإذا لم تضبط هذه الأمور أدّى ذلك إلى النّزاع، ومن باب أولى إذا كانت بحيث لا يمكن ضبطها‏.‏

ثانياً‏:‏ الانضباط في القصاص‏:‏

4 - يشترط في قصاص ما دون النّفس أن تكون الجناية منضبطةً كالقطع من المفصل، فإن لم يمكن انضباطهما كالجوائف فلا يجب، بخلاف قصاص النّفس فلا يشترط الانضباط في جراحته الّتي سرت إليها‏.‏

ثالثاً‏:‏ الانضباط في العين المدّعاة‏:‏

5 - على المدّعي إذا ادّعى عيناً تنضبط أن يصفها بصفة السّلم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون العين مثليّةً كالحبوب، أو قيميّةً كالحيوان، على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في باب السّلم‏.‏

من مواطن البحث

6 - ذكر الأصوليّون الانضباط في كلامهم على علّة القياس، وفي آداب المناظرة ضمن الأسئلة الواردة على القياس‏.‏

وذكره الفقهاء في كلامهم على شروط المسلم والقصاص والدّعوى‏.‏

إنظار

انظر‏:‏ إمهال‏.‏

أنعام

التّعريف

1 - الأنعام لغةً‏:‏ جمع مفرده نعم، وهي ذوات الخفّ والظّلف، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما يقع على الإبل‏.‏ والنّعم مذكّر، فيقال هذا نعم وارد‏.‏

والأنعام تذكّر وتؤنّث، ونقل النّوويّ عن الواحديّ‏:‏ اتّفاق أهل اللّغة على إطلاقه على الإبل، والبقر، والغنم‏.‏ وقيل تطلق الأنعام على هذه الثّلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نعم، وإن انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعماً‏.‏

وعند الفقهاء الأنعام هي الإبل، والبقر، والغنم سمّيت نعماً لكثرة نعم اللّه تعالى فيها على خلقه بالنّموّ، والولادة، واللّبن، والصّوف، والوبر، والشّعر، وعموم الانتفاع‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالأنعام، ومواطن البحث

2 - تجب الزّكاة في الأنعام إن بلغت نصاباً باتّفاق الفقهاء‏.‏

روى أبو ذرٍّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدّي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلّما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتّى يقضى بين النّاس»‏.‏

وتفصيل النّصاب في الأنعام بأنواعها الثّلاثة والواجب فيها ينظر في ‏(‏الزّكاة‏)‏‏.‏

ولا يشرع الهدي والأضحيّة ونحوهما من الذّبائح المسمّاة المطلوبة شرعاً كالعقيقة إلاّ من الأنعام، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏}‏‏.‏ والأفضل في الهدي الإبل ثمّ البقر ثمّ الغنم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنةً، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرةً، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشاً أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجةً، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضةً»

وللأنعام الّتي تجعل هدياً أو عقيقةً أو أضحيّةً أحكام خاصّة تنظر في مصطلحاتها‏.‏

ويحلّ ذبح الأنعام وأكلها في الحلّ والحرم، وحالة الإحرام بخلاف الصّيد من الحيوان الوحشيّ، وبخلاف ما حرم منها من الميتة ونحوها ممّا تفصيله في ‏(‏أطعمةٍ‏)‏، لقول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد وأنتم حرم‏}‏

والأفضل في تذكية الأنعام‏:‏ النّحر في الإبل، والذّبح في البقر والغنم‏.‏ وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن وسم إبل الصّدقة عند كلامهم في قسم الصّدقات‏.‏ وفي خيار الرّدّ بالتّصرية عند من يقول به، نرى أنّ البعض يجعل الخيار خاصّاً بالنّعم دون غيرها، والبعض يخيّر في ردّ المصرّاة من نعمٍ وغيره، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في خيار العيب‏.‏

انعزال

التّعريف

1 - الانعزال‏:‏ انفعال من العزل‏.‏ والعزل‏:‏ هو فصل الشّيء عن غيره‏:‏ تقول‏:‏ عزلت الشّيء عن الشّيء إذا نحّيته عنه، ومنه عزلت النّائب أو الوكيل‏:‏ إذا أخرجته عمّا كان له من الحكم‏.‏

ويفهم من استعمال الفقهاء أنّ المراد به عندهم‏:‏ خروج ذي الولاية عمّا كان له من حقّ التّصرّف‏.‏ والانعزال قد يكون بالعزل، أو يكون حكميّاً، كانعزال المرتدّ والمجنون‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الأصل أنّ من تولّى عملاً بأهليّةٍ معيّنةٍ، أو شروطٍ خاصّةٍ، ثمّ فقد هذه الأهليّة، أو شرطاً من الشّروط الأساسيّة ‏(‏لا شروط الأولويّة‏)‏ فإنّه ينعزل حكماً من غير حاجةٍ إلى عزلٍ، هذا في الجملة‏.‏

وفي تطبيقات هذا الأصل تفصيل يرجع إليه في كلّ مصطلحٍ ذي صلةٍ، كالإمامة، والقضاء، والوقف ‏(‏النّاظر‏)‏ والولاية على اليتيم ونحوه‏.‏

هذا، وهناك فرق بين الانعزال واستحقاق العزل، فإنّ الانعزال قد لا يحتاج إلى العزل، ولا ينفذ شيء من تصرّفات من انعزل‏.‏

أمّا استحقاق العزل فيكون بأن يرتكب ذو الولاية أمراً يوجب على وليّ الأمر، أو على الأصيل أن يعزل، كفسق القاضي، أو حكمه بالهوى، أو أخذه الرّشوة‏.‏

انعقاد

التّعريف

1 - الانعقاد في اللّغة‏:‏ ضدّ الانحلال، ومنه انعقاد الحبل، ومن معانيه أيضاً الوجوب، والارتباط، والتّأكّد‏.‏ وعند الفقهاء يختلف المراد منه باختلاف الموضوع، فانعقاد العبادة من صلاةٍ، وصومٍ‏:‏ ابتداؤها صحيحةً، وانعقاد الولد حمل الأمّ به، وانعقاد ما يتوقّف على صيغةٍ من العقود‏:‏ هو ارتباط الإيجاب بالقبول على الوجه المعتبر شرعاً‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الصّحّة‏:‏

2 - يعبّر جمهور الفقهاء عن الصّحّة بالانعقاد، فقولهم‏:‏ تنعقد الصّلاة بقراءة الآية معناه‏:‏ تصحّ بها، إلاّ أنّ النّاظر في اللّفظين يجد أنّ هناك فرقاً بين الصّحّة والانعقاد، فالصّحّة لا تحصل إلاّ بعد تمام الأركان والشّروط، أمّا الانعقاد فإنّه قد يحصل وإن لم تتمّ الشّروط‏.‏

ما يتحقّق به الانعقاد

3 - انعقاد العقود يكون تارةً بالقول، وتارةً بالفعل، فالقول كالارتباط الحاصل بسبب صيغ العقود المعتبرة شرعاً كالنّكاح ونحوه‏.‏

والفعل كالمعاطاة عند أغلب الفقهاء، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في صيغ العقود‏.‏

والانعقاد قد يقع بالكناية مع النّيّة، وقد يشترط فيه اللّفظ الصّريح‏.‏

فالأوّل نحو كلّ تصرّفٍ يستقلّ به الشّخص كالطّلاق، والعتاق والإبراء، فإنّ هذه الأشياء تنعقد بالكناية مع النّيّة، وكذا ما لا يستقلّ به الشّخص من العقود، وكان ممّا يقبل التّعليق كالمكاتبة والخلع، فإن كان العقد لا يقبل التّعليق ففي انعقاده خلاف، ويفصّل الفقهاء ذلك في صيغ العقود‏.‏

والباطل من عبادةٍ وعقدٍ وغيرهما غير منعقدٍ اتّفاقاً، وأمّا المعاملات ففي انعقاد فاسدها خلاف، وأغلب الفقهاء على أنّ العقد الفاسد غير منعقدٍ كذلك، وعند الحنفيّة العقد الفاسد ينعقد غير صحيحٍ، والانعقاد حينئذٍ بمشروعيّة الأصل دون الوصف‏.‏

ومن التّصرّفات ما ينعقد مع الهزل كالنّكاح، والطّلاق، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ‏:‏ النّكاح، والطّلاق، والرّجعة»، ومنها ما لا ينعقد معه كالبيع ونحوه‏.‏

وأغلب العقود والفسوخ تنعقد بإشارة الأخرس، كالبيع، والنّكاح والطّلاق، ونحو ذلك‏.‏

أمّا إشارة القادر على النّطق فلا يتمّ بها الانعقاد في الجملة عند جمهور الفقهاء، إذ لا يعدل عن العبارة إلى الإشارة إلاّ لعذرٍ‏.‏ وقال المالكيّة إنّ إشارة غير الأخرس يعتدّ بها في سائر العقود‏.‏

وانعقاد الإمامة الكبرى يكون باختيار أهل الحلّ والعقد، غير أنّ الفقهاء يتفاوتون في تحديد أقلّ عددٍ تنعقد به البيعة من أهل الحلّ والعقد، وموطن ذلك مصطلح ‏(‏الإمامة الكبرى‏)‏‏.‏

أو يكون بعهدٍ من الإمام لمن بعده مع المبايعة من أهل الحلّ والعقد، وقد أجمع المسلمون على صحّة العهد بالإمامة لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ عمر عهد بها إلى أهل الشّورى، فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر، اعتقاداً لصحّة العهد بها، فصار العهد بها إجماعاً في انعقاد الإمامة‏.‏

أمّا انعقاد الإمامة بغير عقدٍ ولا اختيارٍ فجمهور الفقهاء على أنّها لا تنعقد، ويلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، لكن ذهب بعض الفقهاء إلى انعقادها بالتّغلّب، وتفصيله في ‏(‏الإمامة الكبرى‏)‏‏.‏

وتنعقد الولايات مع الحضور باللّفظ مشافهةً، ومع الغيبة مكاتبةً، ومراسلةً، وكيفيّة انعقاد كلّ ولايةٍ تذكر في موطنها، ويتكلّم الفقهاء عن ذلك غالباً في كتب السّياسة الشّرعيّة والأحكام السّلطانيّة‏.‏

مواطن البحث

4 - يتكلّم الفقهاء في الأيمان عن انعقاد اليمين، ومواطن الانعقاد يصعب سردها لذا يرجع إلى كلّ عبادةٍ أو تصرّفٍ في موطنه لبيان الانعقاد من عدمه‏.‏

انعكاس

التّعريف

1 - الانعكاس في اللّغة‏:‏ مصدر انعكس مطاوع عكس‏.‏ والعكس‏:‏ ردّ أوّل الشّيء على آخره‏.‏ يقال‏:‏ عكسه يعكسه عكساً من باب ضرب‏.‏

ومنه قياس العكس عند الأصوليّين وهو‏:‏ إثبات عكس حكم شيءٍ لمثله لتعاكسهما في العلّة، كما في حديث مسلمٍ‏:‏ «أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر‏؟‏ قال‏:‏ أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزر‏؟‏»‏.‏

والانعكاس عند الأصوليّين‏:‏ انتفاء الحكم بانتفاء العلّة كانتفاء حرمة الخمر بزوال إسكارها‏.‏ وضدّ الانعكاس الاطّراد، كما أنّ ضدّ العكس الطّرد‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ اطّراد‏)‏‏.‏

2 - وذهب جمهور الأصوليّين إلى أنّ الانعكاس مع الاطّراد مسلك من المسالك الّتي بها تعرف العلّة‏.‏ ولم يعتبره الحنفيّة وكثير من الأشعريّة كالغزاليّ والآمديّ من مسالك العلّة‏.‏ كما ذهب بعض الأصوليّين إلى أنّ الانعكاس من شرائط العلّة، والآخرون لم يشترطوا فيها هذا الشّرط‏.‏ وتمام الكلام على ذلك موطنه الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث

3 - ذكر الأصوليّون الانعكاس في مباحث العلّة من القياس، في شروطها، وفي مسالكها، باعتباره أحد شروطها ومسالكها على الخلاف الّذي تقدّم كما ذكروه في مبحث التّرجيحات القياسيّة باعتباره أحد طرق التّرجيح بين الأقيسة، وفي الكلام على الحكمة والمظنّة، وأنّه لا يجب في مظنّة الحكمة الطّرد والعكس، وفي الكلام على قوادح العلّة‏.‏

أنف

التّعريف

1 - الأنف‏:‏ المنخر وهو معروف، والجمع آناف وأنوف‏.‏

ما يتعلّق به من الأحكام

تختلف الأحكام الّتي تتعلّق بالأنف باختلاف مواضعه، ومن ذلك‏.‏

أ - في الوضوء‏:‏

2 - غسل الأنف من الدّاخل ‏(‏الاستنشاق‏)‏ سنّة، وغسله من الظّاهر فرض باعتباره جزءاً من الوجه، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

ب - في الغسل‏:‏

3 - غسل ظاهر الأنف في الغسل فرض عند جميع الفقهاء‏.‏ وغسل باطنه ‏(‏وهو الاستنشاق‏)‏ فرض عند الحنفيّة، وسنّة عند غيرهم، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏غسل‏)‏‏.‏

ج - السّجود على الأنف في الصّلاة‏:‏

4 - تمكين الأنف مع الجبهة في السّجود سنّة عند جمهور الفقهاء، لما روى أبو حميدٍ رضي الله تعالى عنه «أنّ النّبيّ سجد ومكّن جبهته وأنفه على الأرض»‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّه واجب، وهو رواية للحنابلة والقول المرجوح عند المالكيّة، لما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أمرت أن أسجد على سبعة أعظمٍ‏:‏ الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والرّكبتين وأطراف القدمين» وإشارته إلى أنفه تدلّ على أنّه أراده‏.‏

د - وصول شيءٍ إلى جوف الصّائم عن طريق الأنف‏:‏

5 - إذا استعط الصّائم فوصل الدّواء إلى جوفه أو حلقه أو دماغه فسد صومه وعليه القضاء، وعند المالكيّة لا يفسد إلاّ بالوصول إلى الجوف أو الحلق - كذلك من استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو حلقه فسد صومه عند المالكيّة وفي قولٍ للشّافعيّة‏.‏

وللحنابلة والشّافعيّة إذا بالغ في الاستنشاق فوصل الماء إلى جوفه أو حلقه رأيان‏:‏ الفساد وعدمه‏.‏

هـ – الجناية على الأنف‏:‏

6 – الجناية على الأنف عمداً توجب القصاص متى أمكن استيفاء المثل بلا حيفٍ‏.‏ والقصاص واجب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأنف بالأنف‏}‏‏.‏

فإذا لم يمكن استيفاء المثل أو كانت الجناية خطأً فالواجب هو الدّية، وفي ذهاب الشّمّ وحده الدّية‏.‏ وفي ذهاب الشّمّ ومارن الأنف ديتان‏.‏ وإن قطع جزءاً من الأنف وجب فيه الدّية بقدره‏.‏ وفي الموضوع تفصيل كثير ‏(‏ر‏:‏ جناية، ودية، وأطراف، وجراح‏)‏‏.‏

مواطن البحث

7 - للأنف أحكام تتعلّق به وترد في مسائل متعدّدةٍ من أبواب الفقه، وذلك كالاستنشاق في باب الوضوء، وباب الغسل، وغسل الميّت، وفي صبّ لبن المرضع فيه، وهل يوجب حرمة المصاهرة بذلك أم لا، وذلك في باب الرّضاع، واتّخاذ أنفٍ من ذهبٍ أو فضّةٍ، وذلك في باب اللّباس‏.‏

إنفاق

انظر‏:‏ نفقة‏.‏

أنفال

التّعريف

1- النّفل بالتّحريك‏:‏ الغنيمة، وفي التّنزيل العزيز‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ سألوا عنها، لأنّها كانت حراماً على من كان قبلهم فأحلّها اللّه لهم‏.‏ وأصل معنى الأنفال من النّفل - بسكون الفاء - أي الزّيادة‏.‏

واصطلاحاً، اختلف في تعريفها على خمسة أقوالٍ‏:‏

2- الأوّل‏:‏ هي الغنائم، وهو قول ابن عبّاسٍ في روايةٍ، ومجاهدٍ في روايةٍ، والضّحاك وقتادة وعكرمة وعطاءٍ في روايةٍ‏.‏

3 - الثّاني‏:‏ الفيء، وهي الرّواية الأخرى عن كلٍّ من ابن عبّاسٍ وعطاءٍ، وهو ما يصل إلى المسلمين من أموال المشركين بغير قتالٍ، فذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء‏.‏

4 - الثّالث‏:‏ الخمس، وهي الرّواية الأخرى عن مجاهدٍ‏.‏

5- الرّابع‏:‏ التّنفيل، وهو ما أخذ قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام وقسمتها، فأمّا بعد ذلك فلا يجوز التّنفيل إلاّ من الخمس‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏تنفيلٍ‏)‏‏.‏

6- خامساً‏:‏ السّلب، وهو الّذي يدفع إلى الفارس زائداً عن سهمه من المغنم، ترغيباً له في القتال، كما إذا قال الإمام‏:‏ ومن قتل قتيلاً فله سلبه ‏"‏ أو قال لسريّةٍ‏:‏ ما أصبتم فهو لكم، أو يقول‏:‏ فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه‏.‏

7- فالأنفال بناءً على هذه الأقوال تطلق على أموال الحربيّين الّتي آلت إلى المسلمين بقتالٍ أو غير قتالٍ، ويدخل فيها الغنيمة والفيء قال ابن العربيّ‏:‏ قال علماؤنا رحمهم الله‏:‏ ها هنا ثلاثة أسماءٍ‏:‏ الأنفال، والغنائم، والفيء‏.‏

فالنّفل الزّيادة، وتدخل فيه الغنيمة، وهي ما أخذ من أموال الكفّار بقتالٍ‏.‏ والفيء، وهو ما أخذ بغير قتالٍ، وسمّي كذلك، لأنّه رجع إلى موضعه الّذي يستحقّه وهو انتفاع المؤمن به‏.‏ ويطلق أيضاً على ما بذله الكفّار لنكفّ عن قتالهم، وكذلك ما أخذ بغير تخويفٍ كالجزية والخراج، والعشر، ومال المرتدّ، ومال من مات من الكفّار ولا وارث له‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّضخ‏:‏

8 - الرّضخ لغةً‏:‏ العطاء غير الكثير، واصطلاحاً‏:‏ مال من الغنيمة لا يزيد على سهمٍ واحدٍ من الغانمين، تقديره إلى وليّ الأمر، أو من ينوب عنه كقائد الجيش يعطى لمن حضر المعركة، وأعان على القتال، من النّساء، والصّبيان، ونحوهم، وكذلك الذّمّيّون والعبيد بقدر ما يبذلون من جهدٍ، مثل مداواة الجرحى والمرضى، والدّلالة على الطّريق، وغير ذلك‏.‏

الحكم الإجمالي

9 - يختلف حكم الأنفال بحسب مفرداتها السّابقة من‏:‏ غنيمةٍ، وفيءٍ، وسلبٍ، ورضخٍ، وتنفيلٍ، وينظر حكم كلٍّ من ذلك في مصطلحه‏.‏

انفراد

التّعريف

1 - الانفراد في اللّغة‏:‏ مصدر انفرد وهو بمعنى تفرّد‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستبداد‏:‏

2 - الاستبداد‏:‏ مصدر استبدّ، يقال استبدّ بالأمر إذا انفرد به من غير مشاركٍ له فيه‏.‏

ب‏:‏ الاستقلال‏:‏

3 - من معاني الاستقلال‏:‏ الاعتماد على النّفس، والاستبداد بالأمر، وهو بهذا المعنى يرادف الانفراد، غير أنّه يخالفه في غير ذلك من إطلاقاته اللّغويّة، فيكون من القلّة ومن الارتفاع‏.‏

ج - الاشتراك‏:‏

4 - الاشتراك ضدّ الانفراد‏.‏

أحكام الانفراد

الانفراد في الصّلاة‏:‏

5 - صلاة المنفرد جائزة ولو لغير عذرٍ، والجماعة ليست بشرط لصحّة الصّلوات الخمس عند الجمهور ‏(‏إلاّ في الجمعة بالاتّفاق، والعيدين على خلافٍ‏)‏، وفي صلاة المنفرد أجر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر قال‏:‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرين درجةً» وفي روايةٍ أخرى «بخمسٍ وعشرين درجةً» لأنّه يلزم من ثبوت النّسبة بينهما - بجزءٍ معلومٍ - ثبوت الأجر فيهما، وإلاّ فلا نسبة ولا تقدير، ولا بنقص أجر المصلّي منفرداً مع العذر، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا مرض العبد أو سافر كتب اللّه له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» ولا تجب الإعادة لفرضٍ على من صلّاه وحده‏.‏

أمّا صلاة الجماعة فهي سنّة مؤكّدة للرّجال عند الجمهور، وقيل هي واجبة إلاّ في جمعةٍ فشرط، وكذا العيد على القول بوجوب العيد عند من يراه واجباً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ صلاة الجماعة‏)‏‏.‏

الانفراد في التّصرّفات

أ - انفراد أحد الأولياء بالتّزويج‏:‏

6 - إن اجتمع اثنان أو أكثر من الأولياء المتساوين في جهة القرابة والدّرجة والقوّة كالإخوة الأشقّاء، أو الأب والأعمام كذلك، وتشاحّوا فيما بينهم، وطلب كلّ منهم أن يتولّى العقد‏.‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة يقرع بينهم قطعاً للنّزاع، ولتساويهم في الحقّ، وتعذّر الجمع بينهم، فمن خرجت قرعته زوّج‏.‏ فإن سبق غير من خرجت له القرعة فزوّج، وقالت أذنت لكلّ واحدٍ منهم صحّ التّزويج، لأنّه صدر من وليٍّ كامل الولاية بإذن مولّيته فصحّ منه، كما لو انفرد بالولاية، ولأنّ القرعة شرعت لإزالة المشاحّة لا لسلب الولاية‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ عند تساويهم درجةً وقرابةً ينظر الحاكم فيمن يراه أحسنهم رأياً ليتولّى العقد‏.‏ وعند الحنفيّة‏:‏ يكون لكلّ واحدٍ منهم أن يتولّى العقد ويزوّج، رضي الآخر أو سخط، إذا كان التّزويج من كفءٍ وبمهرٍ وافرٍ‏.‏ وهذا إذا اتّحد الخاطب‏.‏

7- أمّا إذا تعدّد الخاطب، فالتّزويج لمن ترضاه المرأة، لأنّ لها الحقّ عندهم أن تزوّج نفسها من كفءٍ إذا كانت بالغةً رشيدةً، ولا يزوّجها إلاّ الوليّ الّذي ترضاه بوكالةٍ‏.‏ فإن لم تعيّن المرأة واحداً من المستوين درجةً وقرابةً، وأذنت لكلٍّ منهم بانفراده، أو قالت‏:‏ أذنت في فلانٍ، فمن شاء منكم فليزوّجني منه، صحّ التّزويج من كلّ واحدٍ منهم، لوجود سبب الولاية في كلّ واحدٍ منهم كما يقول المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، فإن بادر أحدهم فزوّجها من كفءٍ، فإنّه يصحّ، لأنّه لم يوجد ما يميّز أحدهم عن غيره‏.‏

ولو أذنت لهم في التّزويج، فزوّجها أحد الأولياء المستوين في الدّرجة، وزوّجها الآخر من غيره، فإن عرف السّابق فهو الصّحيح والآخر باطل، وإن وقع العقدان في زمنٍ واحدٍ، أو جهل السّابق منهما، فباطلان، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ والتّفصيل في مصطلحي ‏"‏ نكاح، وولاية ‏"‏‏.‏

ب - انفراد أحد الأولياء بالتّصرّف في مال الصّغير‏:‏

8 - قال فقهاء المالكيّة‏:‏ إن مات الرّجل عن أولادٍ صغارٍ، ولم يوص إلى أحدٍ عليهم، فتصرّف في أموالهم أحد أعمامهم، أو إخوتهم الكبار بالمصلحة، فتصرّفه ماضٍ، لجريان العادة بأنّ من ذكر يقوم مقام الأب‏.‏ ولم يعثر على تعدّد الأولياء وانفراد أحدهم بالتّصرّف في المال سوى ما سبق ذكره في المذهب المالكيّ‏.‏

وإذا تعدّد الأولياء أو الأوصياء فإن اتّفقوا في التّصرّف فالأمر ظاهر، وإن اختلفوا يرفع للحاكم‏.‏ وفي المسألة تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلحي ‏(‏إيصاء‏)‏ ‏(‏وولاية‏)‏‏.‏

ج - انفراد أحد الوكيلين بالتّصرّف‏:‏

9 - لكلٍّ من الوكيلين الانفراد بالتّصرّف، إن جعل الموكّل الانفراد بالتّصرّف لكلّ واحدٍ منهما، وبهذا قال الحنابلة والشّافعيّة، لأنّه مأذون له فيه، فإن لم يجعل له الانفراد، فليس له ذلك، لأنّه لم يأذن له به‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ يجوز لأحد الوكيلين أن ينفرد بالتّصرّف فيما لا يحتاج فيه إلى اجتماع رأيهما كتوكيل الموكّل لها في الخصومة، فلا يشترط اجتماعهما، لأنّ اجتماعهما فيها متعذّر للإفضاء إلى الشّغب في مجلس القضاء، ولا بدّ من صيانته عن الشّغب، لأنّ المقصود فيه إظهار الحقّ، ولهذا لو خاصم أحدهما بدون الآخر جاز ولو لم يحضر الآخر، عند عامّة مشايخ الحنفيّة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يشترط حضوره أثناء مخاصمة الأوّل، وكتوكيله لهما بطلاق زوجته بغير عوضٍ، أو بعتق عبده بغير عوضٍ، أو بردّ وديعةٍ عنده، أو بقضاء دينٍ على الموكّل، لأنّ هذه الأشياء أداء الوكالة فيها تعبير محض لكلام الموكّل، وعبارة المثنّى والواحد سواء، لعدم اختلاف المعنى‏.‏ أمّا ما يحتاج إلى رأيٍ كالبيع والشّراء والتّزويج فلا بدّ من اجتماعهما‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز لأحد الوكيلين على مالٍ ونحوه الانفراد بما يفعله عن موكّله، دون إطلاع الوكيل الآخر، إلاّ لشرطٍ من الموكّل ألاّ يستبدّ أيّ واحدٍ منهما، أو ألاّ يستبدّ فلان، فحينئذٍ ليس لواحدٍ منهما الاستبداد، وسواء فيما ذكر إن كانت وكالتهما على التّعاقب، علم أحدهما بالآخر أم لا، أو وكّلا جميعاً‏.‏

والوكيل على مالٍ كأن يكون وكّلهما على بيعٍ، أو شراءٍ، أو قضاء دينٍ، ونحو المال‏:‏ كطلاقٍ وهبةٍ ووقفٍ وغير ذلك‏.‏ والتّفصيل يكون في مصطلح‏:‏ ‏(‏وكالة‏)‏‏.‏

د - انفراد أحد المستحقّين للشّفعة بطلبها‏:‏

10 - إن كان أحد الشّفعاء المستحقّين للشّفعة حاضراً أو قدم من السّفر، وكان بعضهم غائباً وطلب الحاضر الشّفعة، فليس له إلاّ أخذ الكلّ، أو تركه لأنّه لم يعلم الآن مطالب سواه، ولأنّ في أخذه البعض تبعيضاً لصفقة المشتري، ولا يجوز له ذلك، ولا يمكن تأخير حقّه إلى أن يقدم شركاؤه لأنّ في التّأخير إضراراً بالمشتري‏.‏

وإن كان الشّفعاء كلّهم غائبين لم تسقط الشّفعة لموضع العذر‏.‏ فإذا أخذ من حضر جميع الشّقص المشفوع، ثمّ حضر شريك آخر قاسمه إن شاء، لأنّ المطالبة إنّما وجدت منهما، وإن عفا بقي الشّقص للأوّل‏.‏ فإن قاسمه ثمّ حضر الثّالث قاسمهما إن أحبّ الأخذ بالشّفعة، وبطلت القسمة الأولى، لأنّه تبيّن أنّ لهما شريكاً لم يقاسم ولم يأذن، وإن عفا الثّالث عن شفعته بقي الشّقص للأوّلين، لأنّه لا مشارك لهما وهذا عند جمهور الفقهاء‏.‏

والتّفصيل يكون في مصطلح‏:‏ ‏(‏شفعة‏)‏‏.‏

هـ – انفراد أحد الشّريكين بالتّصرّف‏:‏

11 -إذا كانت الشّركة شركة ملكٍ، كمن ورثوا داراً ولم يقسموها، فليس لأحد الشّريكين الانفراد بالتّصرّف في جميع الدّار إلاّ بالتّراضي، أو بالمهايأة أي استقلال كلّ واحدٍ منهم بالانتفاع بجميعها زمناً محدّداً وهكذا‏.‏

أمّا في شركات العقد، ففي شركة العنان يجوز لأحد الشّركاء عند الإطلاق أن ينفرد بالتّصرّف بإجماع الفقهاء، لأنّها مبنيّة على الوكالة والأمانة، لأنّ كلّ واحدٍ منهما بدفع المال إلى صاحبه أمنه، وبإذنه له في التّصرّف وكّله، ومن شروط صحّتها، أن يأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التّصرّف، فإن أذن له مطلقاً في جميع التّجارات تصرّف فيها، ويجوز لكلّ واحدٍ منهما أن يبيع ويشتري مساومةً، ومرابحةً، وتوليةً، ومواضعةً، وكيفما رأى المصلحة، لأنّ هذا عادة التّجّار، وأن يقبض المبيع، والثّمن، ويقبضهما، ويخاصم في الدّين ويطالب به، ويحيل ويقبل الحوالة، ويردّ بالعيب فيما وليه هو، وفيما ولي صاحبه، وأن يستأجر من مال الشّركة ويؤجّر، وأن يفعل كلّ ما جرت به عادة أمثاله من التّجّار، إذا رأى فيه مصلحةً، لتناول الإذن لذلك دون التّبرّع، والحطيطة، والقرض، وتزويجه، لأنّه ليس بتجارةٍ، وإنّما فوّض إليه العمل برأيه في التّجارة‏.‏

وإن عيّن أحد الشّريكين للآخر جنساً، أو نوعاً، أو بلداً، تصرّف فيه دون غيره، لأنّه متصرّف بالإذن فوقف عليه‏.‏

وإن أذن أحدهما ولم يأذن الآخر تصرّف المأذون له في الجميع، ولا يتصرّف الآخر إلاّ في نصيبه، وهذا عند الشّافعيّة‏.‏ والتّفصيل يكون في مصطلح ‏(‏شركة‏)‏

و- انفراد أحد الوصيّين أو النّاظرين بالتّصرّف‏:‏

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الموصي إذا أوصى لاثنين معاً أو على التّعاقب، وأطلق أو نصّ على وجوب اجتماعهما، فلا يجوز لأحدهما الانفراد‏.‏

أمّا إذا نصّ على جواز الانفراد، فلكلٍّ منهما أن ينفرد بالتّصرّف، عملاً بقول الموصي‏.‏ وذهب أبو يوسف إلى أنّه يجوز الانفراد، ولو نصّ على الاجتماع، لأنّه من قبيل الخلافة، والخليفة ينوب عن المستخلف في كلّ ما يملكه، وفي المسائل الّتي لا تحتاج إلى تبادل الرّأي كردّ الوديعة، وشراء حاجات الطّفل، وشراء كفن الميّت، وردّ المغصوب، وقضاء الدّين، فقد صرّح الفقهاء بجواز انفراد أحد الوصيّين بالتّصرّف فيها‏.‏

هذا، وإنّ أحكام الوقف مستقاة غالباً من أحكام الوصيّة، وما يجري على الوصيّين هنا يجري كذلك على نظّار الوقف‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏وصيّة، ووكالة، والوقف‏)‏‏.‏

ز - انفراد الزّوجة بمسكنٍ‏:‏

13 - للزّوجة حقّ الانفراد بمسكنٍ خاصٍّ بها له غلق ومرافق، ولو كان في دارٍ واحدةٍ، وتسكن ضرّتها في جزءٍ مستقلٍّ منه‏.‏ وكذلك أهل زوجها، وليس للزّوجة أن تمنع طفل زوجها غير المميّز من السّكنى معهما‏.‏ وهذا عند جمهور الفقهاء‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الزّوجة إذا اشترط عليها سكناها مع أقارب الزّوج أو مع ضرّتها فليس لها أن تطالب بسكنٍ منفردٍ، وكذلك إذا كان مستواها الاجتماعيّ يسمح بذلك‏.‏ والشّروط الواجب توافرها في مسكن الزّوجة وتقدير مستواه يكون في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيت الطّاعة‏)‏ ‏(‏ونفقة‏)‏‏.‏

انفساخ

التّعريف

1- الانفساخ‏:‏ مصدر انفسخ، وهو مطاوع فسخ، ومن معناه‏:‏ النّقض والزّوال‏.‏

يقال‏:‏ فسخت الشّيء فانفسخ أي‏:‏ نقضته فانتقض، وفسخت العقد أي‏:‏ رفعته‏.‏

والانفساخ في اصطلاح الفقهاء‏:‏ هو انحلال العقد إمّا بنفسه، وإمّا بإرادة المتعاقدين، أو بإرادة أحدهما‏.‏ وقد يكون الانفساخ أثراً للفسخ، فهو بهذا المعنى مطاوع للفسخ ونتيجة له، كما سيأتي في أسباب الانفساخ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإقالة‏:‏

2 - الإقالة في اللّغة، عبارة عن الرّفع، وفي الشّرع‏:‏ رفع العقد وإزالته برضا الطّرفين، وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء، لكنّهم اختلفوا في اعتبارها فسخاً أو عقداً جديداً‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إقالة‏)‏‏.‏

ب - الانتهاء‏:‏

3 - انتهاء الشّيء‏:‏ بلوغه أقصى مداه، وانتهى الأمر‏:‏ بلغ النّهاية‏.‏ وانتهاء العقد‏:‏ معناه بلوغه نهايته، وهذا يكون بتمام المعقود عليه كالاستئجار لأداء عملٍ فأتمّه الأجير، أو القضاء مدّة العقد كاستئجار مسكنٍ أو أرضٍ لمدّةٍ محدودةٍ‏.‏ وقد يستعمل في العقود المستمرّة كانتهاء عقد الزّواج بالموت أو الطّلاق‏.‏ وعلى ذلك فالفرق بين الانفساخ والانتهاء، أنّ الانفساخ يستعمل في جميع العقود، ويكون في عقود المدّة قبل نهايتها أيضاً، بخلاف الانتهاء، وبعضهم يستعمل الانفساخ مكان الانتهاء وبالعكس‏.‏

ج - البطلان‏:‏

4 - البطلان لغةً‏:‏ فساد الشّيء وزواله، ويأتي بمعنى‏:‏ النّقض والسّقوط‏.‏ والبطلان يطرأ على العبادات والمعاملات إذا وجد سبب من أسبابه، ويرادف الفساد إذا استعمل في العبادات عند الفقهاء إلاّ في الحجّ‏.‏ أمّا في العقود فالباطل عند الحنفيّة، هو ما لم يكن مشروعاً لا بأصله ولا بوصفه، بأن فقد ركناً من أركانه، أو ورد العقد على غير محلّه، ولا يترتّب عليه حكم من نقل الملكيّة أو الضّمان أو غيرهما‏.‏

وعلى هذا يختلف الانفساخ عن البطلان، بأنّ الانفساخ يرد على المعاملات دون العبادات، ويعتبر العقد قبل الانفساخ عقداً موجوداً ذا أثرٍ شرعيٍّ، بخلاف البطلان، لأنّ العقد الباطل في اصطلاح الحنفيّة لا وجود له أصلاً، وكذلك عند غيرهم ممّن لا يفرّق بينه وبين الفاسد‏.‏

د - الفساد‏:‏

5 - الفساد نقيض الصّلاح، وفساد العبادة بطلانها إلاّ في بعض مسائل الحجّ كما سبق، والفاسد من العقود عند الحنفيّة هو‏:‏ ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، وأمّا عند غيرهم فيطلق الفاسد والباطل على كلّ تصرّفٍ غير مشروعٍ، والفاسد عند الحنفيّة قد تترتّب عليه بعض الأحكام، فالبيع الفاسد عندهم إذا اتّصل به القبض أفاد الملك، ولكنّه ملك خبيث، يجب فسخ العقد ما دامت العين قائمةً، لحقّ الشّارع‏.‏ ويعتبر العقد الفاسد عقداً موجوداً ذا أثرٍ، لكنّه عقد غير لازمٍ، يجب شرعاً فسخه رفعاً للفساد‏.‏

هـ- الفسخ‏:‏

6- الفسخ‏:‏ هو حلّ ارتباط العقد، وهذا يكون بإرادة أحد العاقدين أو كليهما، أو بحكم القاضي، فهو عمل المتعاقدين غالباً، أو فعل الحاكم في بعض الأحوال كما هو مبيّن في موضعه‏.‏ أمّا الانفساخ‏:‏ فهو انحلال ارتباط العقد، سواء أكان أثراً للفسخ، أو نتيجةً لعوامل غير اختياريّةٍ‏.‏ فإذا كان الانحلال أثراً للفسخ كانت العلاقة بين الفسخ والانفساخ علاقة السّبب بالمسبّب، كما إذا فسخ أحد العاقدين عقد البيع بسبب العيب في المبيع مثلاً، فالانفساخ في هذه الحالة نتيجة الفسخ الّذي مارسه العاقد اختياراً‏.‏ يقول القرافيّ‏:‏ الفسخ قلب كلّ واحدٍ من العوضين لصاحبه، والانفساخ انقلاب كلّ واحدٍ من العوضين لصاحبه، فالأوّل فعل المتعاقدين إذا ظفروا بالعقود المحرّمة، والثّاني صفة العوضين، فالأوّل سبب شرعيّ، والثّاني حكم شرعيّ، فهذان فرعان‏:‏ فالأوّل من جهة الموضوعات، والثّاني من جهة الأسباب والمسبّبات‏.‏ ومثله ما جاء في المنثور للزّركشيّ، إلاّ أنّه أطلق ولم يقيّد الفسخ بالعقود المحرّمة، لأنّ الفسخ يمكن أن يقع في العقود غير المحرّمة، وذلك بإرادة أحد العاقدين أو كليهما كما هو الحال غالباً‏.‏ أمّا إذا لم يكن الانفساخ أثراً للفسخ، بل نتيجةً لعوامل خارجةٍ عن إرادة العاقدين، كموت أحد العاقدين في العقود غير اللّازمة مثلاً، فلا يوجد بين الفسخ والانفساخ علاقة السّببيّة الّتي قرّرها القرافيّ‏.‏

7- ومن الأمثلة الّتي قرّر الفقهاء فيها انفساخ العقد من غير فسخٍ ما يأتي‏:‏

أ - اتّفق الفقهاء على أنّه إن تلفت العين المستأجرة انفسخت الإجارة، كما إذا تلفت الدّابّة المعيّنة، أو انهدمت الدّار المستأجرة‏.‏

ب - لو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر سقط الأجر لزوال التّمكّن من الانتفاع، وتنفسخ الإجارة عند الحنفيّة والمالكيّة، لكنّ الشّافعيّة والحنابلة قالوا‏:‏ لا ينفسخ العقد بنفسه، بل يثبت خيار الفسخ للمستأجر‏.‏

ج - إذا مات أحد العاقدين أو كلاهما في العقود غير اللّازمة، كالعاريّة والوكالة انفسخ العقد‏.‏

د - ينفسخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما عند الحنفيّة، خلافاً للجمهور، وكذلك تنفسخ الإجارة بالأعذار، على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في أسباب الانفساخ‏.‏

وسوف يقتصر الكلام في هذا البحث على الانفساخ الّذي لا يكون أثراً للفسخ‏.‏

أمّا الانفساخ الّذي هو أثر للفسخ فيرجع إليه تحت عنوان ‏(‏فسخ‏)‏‏.‏

ما يرد عليه الانفساخ

8 - محلّ الانفساخ العقد لا غيره، سواء أكان سببه الفسخ أم غيره، لأنّهم عرّفوا الانفساخ بانحلال ارتباط العقد، وهذا المعنى لا يتصوّر إلاّ إذا كان هناك ارتباط بين الطّرفين بواسطة العقد‏.‏ أمّا إذا أريد من الانفساخ البطلان والنّقض، فيمكن أن يرد على التّصرّفات الّتي تنشأ عن إرادةٍ واحدةٍ، وكذلك العهود والوعود، كما يستعمل أحياناً في العبادات ويرد على النّيّات، كانفساخ نيّة صلاة الفرض إلى النّفل، وكذلك انفساخ الحجّ بالعمرة عند الحنابلة، فإنّهم قالوا‏:‏ إذا أحرم بالحجّ فصرفه إلى العمرة ينفسخ الحجّ إلى العمرة‏.‏ وخالفهم في ذلك الحنفيّة والشّافعيّة في الجديد‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ ولا يجوز أن يفسخ نيّة الحجّ بعدما أحرم، ويقطع أفعاله، ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

أسباب الانفساخ

9 - الانفساخ له أسباب مختلفة‏:‏ منها ما هو اختياريّ، وهو ما يأتي بإرادة أحد العاقدين أو بإرادة كليهما أو بحكم القاضي، ومنها ما هو سماويّ وهو ما يأتي بدون إرادة العاقدين أو القاضي، بل بعوامل خارجةٍ عن الإرادة لا يمكن استمرار العقد معها‏.‏

يقول الكاسانيّ‏:‏ ما ينفسخ به العقد نوعان‏:‏ اختياريّ وضروريّ، فالاختياريّ هو أن يقول‏:‏ فسخت العقد أو نقضته ونحوه، والضّروريّ‏:‏ أن يهلك المبيع قبل القبض مثلاً‏.‏

الأسباب الاختياريّة

أوّلاً‏:‏ الفسخ‏:‏

10 - المراد بالفسخ هنا ما يرفع به حكم العقد بإرادة أحد العاقدين أو كليهما، وهذا يكون في العقود غير اللّازمة بطبيعتها، كعقدي العاريّة والوكالة مثلاً، أو ما يكون فيه أحد الخيارات، أو بسبب الأعذار الّتي يتعذّر بها استمرار العقد، أو بسبب الفساد‏.‏

وينظر حكم ذلك كلّه في مصطلحي‏:‏ ‏(‏إقالة وفسخ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الإقالة‏:‏

11 - الإقالة رفع العقد وإزالته برضى الطّرفين، وهي سبب من أسباب الانفساخ الاختياريّة، وترد على العقود اللّازمة، كالبيع والإجارة‏.‏ أمّا إذا كان العقد غير لازمٍ كالعاريّة، أو لازماً بطبيعته ولكن فيه أحد الخيارات فلا حاجة فيه للإقالة، لجواز فسخه بطريقٍ أخرى، كما تقدّم‏.‏ وينظر الكلام فيه تحت عنوان‏:‏ ‏(‏إقالة‏)‏‏.‏

أسباب الانفساخ غير الاختياريّة

أوّلاً‏:‏ تلف المعقود عليه‏:‏

تلف المعقود عليه له أثر في انفساخ بعض العقود، والعقود نوعان‏:‏

12 - الأوّل‏:‏ العقود الفوريّة‏:‏ وهي الّتي لا يحتاج تنفيذها إلى زمنٍ ممتدٍّ يشغله باستمرارٍ، بل يتمّ تنفيذها فوراً دفعةً واحدةً في الوقت الّذي يختاره العاقدان، كالبيع المطلق والصّلح والهبة وغيرها‏.‏ وهذا النّوع من العقود لا ينفسخ بتلف المعقود عليه إذا تمّ قبضه‏.‏ فعقد البيع مثلاً يتمّ بالإيجاب والقبول، وإذا قبض المشتري المبيع وهلك بيده لا ينفسخ العقد، لأنّ الهالك ملك المشتري، والمالك هو الّذي يتحمّل تبعة الهالك كما هو معروف، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏ أمّا إذا هلك المبيع بعد الإيجاب والقبول وقبل القبض ففيه تفصيل وبيان‏:‏ فقد صرّح المالكيّة - وهو المفهوم من كلام الحنابلة - أنّه إذا كان المبيع ممّا فيه حقّ توفيةً لمشتريه، وهو المال المثليّ من مكيلٍ أو موزونٍ أو معدودٍ، ينفسخ العقد بالتّلف والضّمان على البائع‏.‏ أمّا إذا كان المبيع معيّناً وكان عقاراً، أو من الأموال القيميّة الّتي ليس لمشتريها حقّ توفيةٍ فلا ينفسخ العقد بالتّلف، وينتقل الضّمان إلى المشتري بالعقد الصّحيح اللّازم‏.‏ وأطلق الحنفيّة والشّافعيّة القول بانفساخ البيع إذا هلك المبيع قبل قبضه‏.‏ قال السّمرقنديّ‏:‏ ولو هلك المبيع قبل التّسليم فالهلاك يكون على البائع، يعني يسقط الثّمن وينفسخ العقد‏.‏ ومثله ما جاء في القليوبيّ‏:‏ المبيع قبل قبضه من ضمان البائع، فإن تلف بآفةٍ سماويّةٍ انفسخ البيع وسقط الثّمن عن المشتري‏.‏

13 - وهذا كلّه إذا تلف المبيع، أمّا إذا تلف الثّمن، فإن كان معيّناً دراهم أو دنانير أو غيرهما فحكمه حكم المبيع، لو تلف انفسخ عند الشّافعيّة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إذا هلك الثّمن قبل القبض فإن كان مثليّاً لا ينفسخ العقد، لأنّه يمكن تسليم مثله، بخلاف المبيع، لأنّه عين وللنّاس أغراض في الأعيان‏.‏ أمّا إن هلك الثّمن وليس له مثل في الحال ففيه خلاف‏.‏ ولا أثر لتلف الثّمن في الانفساخ إذا لم يكن عيناً بأن كان نقداً دراهم أو دنانير، لأنّه ليس مقصوداً بالعقد، ولأنّ الدّراهم والدّنانير لا تتعيّن بالتّعيين في العقد‏.‏

هذا، وأمّا إتلاف المبيع قبل القبض إن كان من قبل البائع ينفسخ به العقد بلا خلافٍ‏.‏ وإن كان من قبل المشتري يعتبر قبضاً يوجب الضّمان عليه‏.‏

14 - الثّاني‏:‏ العقود المستمرّة‏:‏ وهي الّتي يستغرق تنفيذها مدّةً من الزّمن وتمتدّ بامتداد الزّمن حسب الشّروط المتّفق عليها بين الطّرفين والّتي تقتضيها طبيعة هذه العقود، كالإجارة والإعارة والوكالة وأمثالها‏.‏

وهذا النّوع من العقود ينفسخ بتلف المعقود عليه، سواء أكان قبل القبض أم بعده، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة‏.‏

فعقد الإجارة مثلاً ينفسخ بهلاك العين المستأجرة‏.‏ فإن تلفت قبل القبض أو عقيب القبض قبل مضيّ مدّةٍ يتمكّن المستأجر من الانتفاع بها ينفسخ العقد من أصله ويسقط الأجر‏.‏ وإن تلفت العين المستأجرة بعد مضيّ شيءٍ من المدّة فإنّ الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدّة، دون ما مضى، ويكون للمؤجّر من الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة أو بقدر ما مضى من المدّة‏.‏ وفي إجارة الدّوابّ صرّح الفقهاء‏:‏ أنّه إذا وقعت الإجارة على دوابّ بعينها لحمل المتاع، فماتت انفسخت الإجارة، بخلاف ما إذا وقعت على دوابّ لا بعينها وسلّم الأجر إليه فماتت لا ينفسخ العقد، وعلى المؤجّر أن يأتي بغير ذلك للمستأجر‏.‏

وكذلك إذا وقع على العين ما يمنع نفعها بالكلّيّة، كما لو أصبحت الدّار المستأجرة غير صالحةٍ للسّكنى عند الجمهور ‏(‏المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر مذهب الحنفيّة والأصحّ عند الشّافعيّة‏)‏ وذلك لزوال الاسم بفوات السّكنى، لأنّ المنفعة المعقود عليها تلفت فانفسخت الإجارة، كما لو استأجر دابّةً ليركبها فزمنت ‏(‏أي مرضت مرضاً مزمناً‏)‏ بحيث لا تصلح إلاّ لتدور في الرّحى‏.‏ وفي قولٍ عند الحنفيّة، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ لا ينفسخ العقد لكن له الفسخ، لأنّ أصل المعقود عليه لا يفوت، لأنّ الانتفاع بالعرصة ‏(‏وهي أرض المبنى‏)‏ ممكن بدون البناء، إلاّ أنّه ناقص، فصار كالعيب ومن العقود المستمرّة الّتي تنفسخ بتلف المعقود عليه عقد الشّركة وعقد المضاربة، كما هو مبيّن في موضعهما‏.‏ وكذلك عقد العاريّة بتلف المعار، وتنتهي الوكالة الخاصّة بفوات محلّ الوكالة، كما هو مبيّن في مصطلحي ‏(‏إعارة، ووكالة‏)‏‏.‏ أمّا إذا غصب المحلّ وحيل بين الشّخص المنتفع والعين المنتفع بها فلا ينفسخ به العقد من تلقاء نفسه عند الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة‏)‏ بل للمستأجر حقّ الفسخ‏.‏ وقال بعض الحنفيّة‏:‏ إنّ الغصب أيضاً موجب للانفساخ، لزوال التّمكّن من الانتفاع، كما سيأتي‏.‏

ثانياً‏:‏ موت أحد العاقدين أو كليهما‏:‏

15 - لا يؤثّر الموت في انفساخ جميع العقود على حدٍّ سواءٍ، فبعض العقود يتمّ الغرض منها بعد الإيجاب والقبول فوراً، فلا يحتاج إلى العاقدين وأهليّتهما بعد انعقادها، كالبيع الّذي يفيد تملّك المشتري المبيع، وتملّك البائع الثّمن فور إنشائه إن لم يكن مقروناً بالخيار فإذا مات أحد العاقدين أو كلاهما بعد إتمام العقد وانتقال ملكيّة البدلين لا ينفسخ العقد وعلى عكس ذلك ينتهي عقد النّكاح بموت أحد العاقدين، لأنّ الغرض منه دوام العشرة وقد زال بالموت‏.‏ وهذا ممّا اتّفق الفقهاء عليه‏.‏

وهناك عقود اختلف الفقهاء في انفساخها بالموت، كعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة، وعقود أخرى اتّفقوا على انفساخها بالموت في الجملة ولكنّهم اختلفوا في تكييف انفساخها وتعليله، كعقود العاريّة الوديعة والشّركة، وتفصيل ذلك فيما يأتي‏:‏

أ - انفساخ العقود اللّازمة‏:‏

16 - العقود اللّازمة هو ما لا يستبدّ أحد العاقدين بفسخها، كالبيع والإجارة والصّلح ونحوها‏.‏ وبعض هذه العقود لا يحتاج إلى امتداد الزّمن، فلا أثر للموت في انفساخها بعد تمامها، كعقد البيع، فإنّه لا ينفسخ بوفاة البائع أو المشتري بعد ما تمّ العقد بينهما، ويقوم الورثة مقام المورّث فيما نشأ من آثار العقد‏.‏

وهناك نوع آخر من العقود اللّازمة يتوقّف آثارها على مرور الزّمن، كعقد الإجارة، وفي انفساخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما خلاف بين الفقهاء‏:‏

فجمهور الفقهاء ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ على أنّ عقد الإجارة لا ينفسخ بموت العاقدين أو أحدهما، بل تبقى إلى انقضاء المدّة، لأنّها عقد لازم، فلا ينفسخ بالموت، كعقد البيع‏.‏ ويخلف المستأجر وارثه في استيفاء المنفعة‏.‏ وهذا في الجملة مع خلافٍ بينهم في بعض الفروع سيأتي ذكره‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ الإجارة تنفسخ بموت أحد العاقدين إن عقدها لنفسه، لأنّها عقد على المنفعة وهي تحدث شيئاً فشيئاً، فتنعقد الإجارة بحدوثها شيئاً فشيئاً، فلا تبقى بدون العاقد‏.‏ وإن عقدها لغيره لم تنفسخ كالوصيّ والوليّ وقيّم الوقف، ولأنّ من وقع عليه الموت إن كان هو المؤجّر فالعقد يقتضي استيفاء المنافع من ملكه، ولو بقي بعد موته لاستوفيت المنافع من ملك غيره، وهذا خلاف مقتضى العقد، وإن كان هو المستأجر فالعقد يقتضي استحقاق الأجرة من ماله، ولو بقي العقد بعد موته لاستحقّت الأجرة من مال غيره، وهذا خلاف مقتضى العقد‏.‏ بخلاف ما إذا مات من لم يقع له العقد كالوكيل ونحوه، لأنّه لا يقتضي استحقاق المنافع ولا استحقاق الأجرة من ملكه، فإبقاء العقد بعد موته لا يوجب تغيير موجب العقد‏.‏ وأصل الخلاف يرجع إلى تكييف الإجارة في نقل المنافع‏.‏ فالجمهور على أنّ الإجارة إذا تمّت وكانت على مدّةٍ معيّنةٍ ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدّة، ويكون حدوثها على ملكه‏.‏ وكذلك المؤجّر يملك الأجرة بمجرّد العقد عند الشّافعيّة والحنابلة إذا لم يشترط فيها التّأجيل، كما يملك البائع الثّمن بالبيع‏.‏ فإذا مات أحد العاقدين بعد تمام العقد وقبل انقضاء المدّة يقوم الورثة مقام المتوفّى ولا ينفسخ العقد‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إلى المعقود عليه في الإجارة المنفعة، والأجرة تستحقّ باستيفائها أو باشتراط التّعجيل‏.‏ ولا يمكن استيفاء المنفعة لدى العقد، لأنّها تحدث شيئاً فشيئاً، وهي عقد معاوضةٍ، فتقتضي المساواة فلا تجب الأجرة بنفس العقد، فإذا استوفى المعقود عليه استحقّ الأجرة عملاً بالمساواة‏.‏ وقول الجمهور بعدم انفساخ عقد الإجارة بموت العاقدين لا يعني أنّهم يخالفون في الانفساخ في جميع الحالات‏.‏ فقد صرّحوا‏:‏ أنّ عقد الإجارة ينفسخ بموت الأجير المعيّن، وبموت المرضعة، وموت الصّبيّ المستأجر لتعليمه وعلى رضاعه‏.‏ وقد نقل عن الشّافعيّة في موت الصّبيّ المتعلّم أو المرتضع قول آخر بعدم الانفساخ‏.‏

ب - الانفساخ بالموت في العقود غير اللّازمة‏:‏

17 - العقود غير اللّازمة ‏(‏الجائزة‏)‏ هي ما يستبدّ أحد العاقدين بفسخها كالعاريّة والوكالة والشّركة الوديعة ونحوها‏.‏

وهذه العقود تنفسخ بوفاة أحد العاقدين أو كليهما، لأنّها عقود جائزة يجوز لكلّ واحدٍ من الطّرفين فسخها في حياته، فإذا ما توفّي فقد ذهبت إرادته، وانتهت رغبته، فبطلت آثار هذه العقود الّتي كانت تستمرّ باستمرار إرادة العاقدين، وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة‏.‏ فعقد الإعارة ينفسخ بموت المعير أو المستعير عند جمهور الفقهاء‏:‏ ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏، لأنّها عقد على المنافع، وهي تحدث شيئاً فشيئاً، فيتجدّد العقد حسب حدوث المنافع، ولا يمكن ذلك بعد وفاة أحد العاقدين، كما علّله الحنفيّة، ولأنّ العاريّة إباحة المنافع، وهي تحتاج إلى الإذن، وقد بطل بالموت، فانفسخت الإعارة، كما علّله الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة فالعاريّة عندهم عقد لازم، إذا كانت مقيّدةً بأجلٍ أو عملٍ، فلا تنفسخ بموت المعير أو المستعير، وتدوم إلى أن تتمّ المدّة، أمّا إذا كانت العاريّة مطلقةً ففي انفساخها عند المالكيّة روايتان ظاهرهما عدم الانفساخ إلى العمل أو الزّمن المعتاد‏.‏

وكذلك عقد الوكالة ينفسخ بموت الوكيل أو الموكّل عند عامّة الفقهاء، لأنّها عقد جائز ينفسخ بالعزل، والموت في حكم عزل الوكيل‏.‏ وإذا مات الوكيل زالت أهليّته للتّصرّف، وإذا مات الموكّل زالت صلاحيّته بتفويض الأمر إلى الوكيل فتبطل الوكالة‏.‏

هذا ولا يشترط جمهور الفقهاء في انفساخ الوكالة علم الوكيل بموت الموكّل‏.‏ واشترط بعض المالكيّة ‏(‏وهو رواية عند الحنابلة‏)‏ علم الوكيل بموت الموكّل في انفساخ الوكالة كما ذكره ابن رشدٍ‏.‏ وهكذا الحكم في سائر العقود الجائزة كعقد الشّركة، الوديعة وغيرهما تنفسخ بموت أحد العاقدين على تفصيلٍ في بعض الفروع يرجع إليها في مواضعها‏.‏

هذا، وهناك عقود أخرى تعتبر لازمةً من جانب أحد العاقدين، جائزةً من جانب العاقد الآخر، كعقد الكفالة، فهي لازمة من ناحية الكفيل الّذي لا يستبدّ بفسخها، دون إذن المكفول له، لكنّها جائزة من جانب المكفول له يستبدّ بفسخها‏.‏ وكعقد الرّهن، فهو لازم من قبل الرّاهن، جائز من قبل المرتهن الّذي يستطيع فسخه بدون إذن الرّاهن‏.‏

وفيما يلي أثر الموت في انفساخ هذين العقدين‏:‏

أثر الموت في انفساخ عقد الكفالة‏:‏

18 - موت الكفيل أو المكفول لا تنفسخ به الكفالة، ولا يمنع مطالبة المكفول له بالدّين، فإذا مات الكفيل أو المكفول يحلّ الدّين المؤجّل على الميّت عند الجمهور ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة، والشّافعيّة‏)‏ وهو رواية عند الحنابلة، تحصّل الدّين من تركة المتوفّى، ولو ماتا خيّر الطّالب في أخذه من أيّ التّركتين‏.‏ ولو مات المكفول له يحلّ الورثة محلّه في المطالبة‏.‏ وفي روايةٍ أخرى عند الحنابلة لا يحلّ الدّين المؤجّل بموت الكفيل أو المكفول، ويبقى مؤجّلاً كما هو‏.‏

أثر الموت في انفساخ عقد الرّهن‏:‏

19 - اتّفق الفقهاء على أنّ عقد الرّهن لا ينفسخ بموت أحد العاقدين بعد قبض المرهون، فإذا مات الرّاهن أو المرهن يقوم الورثة مقام المتوفّى، وتبقى العين المرهونة تحت يد المرتهن أو ورثته، ولا سبيل إلى خلاص الرّهن إلاّ بقضاء الدّين أو إبراء من له الحقّ‏.‏ والمرتهن أحقّ بالرّهن وبثمنه إن بيع في حياة الرّاهن أو بعد وفاته‏.‏ وعقد الرّهن قبل قبض المرهون عقد غير لازمٍ عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ وكان المفروض أن ينفسخ بموت أحد العاقدين كسائر العقود الجائزة، إلاّ أنّهم اختلفوا في انفساخه قبل القبض‏:‏ فقال الحنابلة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - لا ينفسخ بموت أحد العاقدين‏.‏ فإن مات المرتهن قام وارثه مقامه في القبض، لكن إن مات الرّاهن لم يلزم ورثته الإقباض‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ وهي الرّواية الثّانية عند الشّافعيّة - إنّ عقد الرّهن ينفسخ بموت أحد العاقدين قبل القبض، لأنّه عقد جائز‏.‏

أمّا المالكيّة فصرّحوا بأنّ الرّهن يلزم بالعقد، ويجبر الرّاهن على التّسليم، إلاّ أن يتراخى المرتهن عن المطالبة، وعلى ذلك فلا ينفسخ بوفاة المرتهن، ويقوم ورثته مقام مورّثهم في مطالبة المدين وقبض المرهون، لكنّهم نصّوا على أنّ الرّهن ينفسخ بموت الرّاهن وفلسه قبل حوزه ولو جدّ فيه‏.‏

أثر تغيّر الأهليّة في انفساخ العقود

20 - الأهليّة‏:‏ صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق له وعليه، ولصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً‏.‏ وتعرض للأهليّة أمور تغيّرها وتحدّدها فتتغيّر بها الأحكام الشّرعيّة، كما سيأتي في الملحق الأصوليّ‏.‏ وتغيّر الأهليّة بما يعرض من بعض العوارض، كالجنون أو الإغماء أو الارتداد ونحوها، له أثر في انفساخ بعض العقود، فقد صرّح جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ أنّ العقود الجائزة‏:‏ مثل المضاربة، والشّركة، والوكالة، الوديعة، والعاريّة، تنفسخ بجنون أحد العاقدين أو كليهما‏.‏

أمّا المالكيّة فعقد المضاربة عندهم عقد لازم بعد الشّروع في العمل ولهذا يورث، وكذلك عقد العاريّة إذا كانت مقيّدةً بأجلٍ أو عملٍ، فلا ينفسخان بالجنون‏.‏

أمّا في عقد الوكالة فقد صرّح المالكيّة أنّ جنون الوكيل لا يوجب عزله إن برأ، وكذا جنون الموكّل وإن لم يبرأ، فإن طال نظر السّلطان في أمره‏.‏ ويفهم من ذلك حكم الشّركة، لأنّ الشّريك يعتبر وكيلاً عن صاحبه في تصرّفاته الّتي يقوم بها عنه، وكلاهما من العقود غير اللّازمة ‏(‏الجائزة‏)‏‏.‏ أمّا العقود اللّازمة كالبيع والإجارة، فلا تنفسخ بالجنون بعد تمامها عند عامّة الفقهاء‏.‏ حتّى إنّ الحنفيّة الّذين يقولون بانفساخ الإجارة بالموت، لأنّها عقد على المنافع - وهي تحدث شيئاً فشيئاً - صرّحوا بعدم انفساخها بالجنون، ففي الفتاوى الهنديّة‏:‏ الإجارة لا تنفسخ بجنون الآجر أو المستأجر ولا بارتدادهما، وإذا ارتدّ الآجر أو المستأجر في مدّة الإجارة ولحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه بطلت الإجارة، وإن عاد مسلماً إلى دار الإسلام في مدّة الإجارة عادت الإجارة‏.‏

ولعلّ دليل التّفرقة بين انفساخ الإجارة بالموت وعدم انفساخها بالجنون عند الحنفيّة هو أنّ الموت سبب نقل الملكيّة، فلو أبقينا العقد لاستوفيت المنافع أو الأجرة من ملك الغير ‏(‏الورثة‏)‏ وهذا خلاف مقتضى العقد، بخلاف الجنون، لأنّه ليس سبباً لانتقال الملكيّة، فبقاء الإجارة لأنّ استيفاء المنافع والأجرة من ملك العاقدين‏.‏

21 - ومن العقود اللّازمة الّتي لا تنفسخ تلقائيّاً بالجنون عقد النّكاح، لكنّه يعتبر عيباً يثبت به الخيار في فسخ العقد في الجملة عند جمهور الفقهاء ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ ر ‏(‏نكاح‏.‏ فسخ‏)‏‏.‏

22 - وردّة أحد الزّوجين موجبة لانفساخ عقد النّكاح عند عامّة الفقهاء‏.‏ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ‏}‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏‏.‏ فإذا ارتدّ أحدهما وكان ذلك قبل الدّخول انفسخ النّكاح في الحال ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كان بعد الدّخول قال الشّافعيّة - وهو رواية عند الحنابلة - حيل بينهما إلى انقضاء العدّة، فإن رجع إلى الإسلام قبل أن تنقضي العدّة فالعصمة باقية، وإن لم يرجع إلى الإسلام انفسخ النّكاح بلا طلاقٍ‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، وهو رواية عند الحنابلة‏:‏ إنّ ارتداد أحد الزّوجين فسخ عاجل بلا قضاءٍ فلا ينقص عدد الطّلاق، سواء أكان قبل الدّخول أم بعده‏.‏ وقال المالكيّة، وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة‏:‏ إذا ارتدّ أحد الزّوجين انفسخ النّكاح بطلاقٍ بائنٍ‏.‏ أمّا إذا أسلم أحد الزّوجين وتخلّف الآخر - ما لم يكن المتخلّف زوجةً كتابيّةً - حتّى انقضت عدّة المرأة انفسخ النّكاح في قول الجمهور، سواء أكانا بدار الإسلام أم بدار الحرب‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان المتخلّف عن الإسلام بدار الحرب فالحكم كذلك، أمّا إن كان بدار الإسلام فلا بدّ من عرض الإسلام عليه، فإن أسلم وإلاّ فرّق بينهما‏.‏

وهل يعتبر هذا الانفساخ طلاقاً أم لا‏؟‏ اختلفوا فيه‏:‏ فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ – وهو رواية عند المالكيّة- إذا امتنع الزّوج عن الإسلام يعتبر هذا التّفريق طلاقاً ينقص العدد، بخلاف ما إذا امتنعت المرأة عن الإسلام حيث يعتبر التّفريق فسخاً، لأنّها لا تملك الطّلاق‏.‏

وذهب الجمهور ‏(‏الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في المشهور وأبو يوسف من الحنفيّة‏)‏ إلى أنّه فسخ لا طلاق في كلتا الحالتين‏.‏

أثر تعذّر أو تعسّر تنفيذ العقد

23 - المراد بذلك صعوبة دوام العقد، وهو أعمّ من التّلف، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغير ذلك‏.‏ وهذا يكون بأمورٍ، منها هلاك محلّ العقد، وقد تقدّم الكلام عليه، ومنها الاستحقاق وبيانه فيما يلي‏:‏

أثر الاستحقاق في الانفساخ

24 - الاستحقاق‏:‏ ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير، فإذا بيع أو استؤجر شيء ثمّ ظهر بالبيّنة أنّه حقّ لغير البائع أو المؤجّر فهل ينفسخ العقد‏؟‏‏.‏

صرّح الحنفيّة أنّ الحكم بالاستحقاق لا يوجب فسخ العقد، بل يوجب توقّفه على إجازة المستحقّ‏.‏ فإذا لم يجز المستحقّ العقد، أو رجع المشتري على بائعه بالثّمن، أو طلب المشتري من القاضي أن يحكم على البائع بدفع الثّمن، فحكم له بذلك ينفسخ العقد فيأخذ المستحقّ المبيع، ويستردّ المشتري الثّمن من البائع‏.‏

وانفساخ البيع باستحقاق المبيع هو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

هذا إذا كان الاستحقاق قد ثبت بالبيّنة اتّفاقاً، وكذلك إذا ثبت بإقرار المشتري، أو نكوله عند بعض الفقهاء‏.‏ وهذا إذا استحقّ كلّ المبيع‏.‏ أمّا إذا استحقّ بعض المبيع، فقيل‏:‏ ينفسخ العقد في الكلّ، وقيل‏:‏ ينفسخ في الجزء المستحقّ فقط، وقيل‏:‏ يخيّر المشتري بين فسخ العقد في الجميع وبين فسخه في البعض المستحقّ‏.‏

وبعضهم فصّلوا بين ما إذا كان الجزء المستحقّ معيّناً أو مشاعاً‏.‏

هذا، وللاستحقاق أثر في انفساخ عقد الإجارة والرّهن والهبة وعقد المساقاة وغيرها ممّا فصّله الفقهاء في مواضعه‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏استحقاق‏)‏‏.‏

ثالثاً - الغصب‏:‏

25 - غصب محلّ العقد يوجب الانفساخ في بعض العقود ففي عقد الإجارة مثلاً صرّح الحنفيّة‏:‏ أن لو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر سقط الأجر كلّه فيما إذا غصبت في جميع المدّة‏.‏ وإن غصبت في بعضها سقط بحسابها لزوال التّمكّن من الانتفاع‏.‏ وتنفسخ الإجارة بالغصب في المشهور عند الحنفيّة، خلافاً لقاضي خان‏.‏ فلو زال الغصب قبل نهاية المدّة لا تعود الإجارة على المشهور، وتعود على قول قاضي خان فيستوفي باقي المدّة‏.‏ وألحق المالكيّة الغصب بتلف المحلّ فحكموا بانفساخ العقد به‏.‏ فقد صرّحوا أنّ الإجارة تنفسخ بتعذّر ما يستوفي من المنفعة، والتّعذّر أعمّ من التّلف، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغلق الحوانيت قهراً وغير ذلك‏.‏

أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا‏:‏ إن غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ، لأنّ فيه تأخير حقّه، فإن فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ، وإن لم يفسخ حتّى انقضت مدّة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرّجوع بالمسمّى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل‏.‏ ولمعرفة تأثير الغصب في انفساخ العقود الأخرى يرجع إلى هذه العقود وإلى مصطلح ‏(‏غصب‏)‏‏.‏

26 - هذا وهناك أنواع أخرى من التّعذّر توجب انفساخ العقد، أو تعطي للعاقد خيار الفسخ، منها ما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ عجز العاقد عن المضيّ في موجب العقد شرعاً، بأن كان المضيّ فيه حراماً، كما إذا استأجر شخصاً على قلع الضّرس إذا اشتكت ثمّ سكنت، أو على قطع اليد المتآكلة إذا برأت، أو استيفاء القصاص إذا سقط بالعفو، ففي هذه الحالات تنفسخ الإجارة بنفسها‏.‏

ثانياً‏:‏ تضمّن الضّرر بأن كان المضيّ في موجب العقد غير ممكنٍ إلاّ بتحمّل ضررٍ زائدٍ لم يستحقّ بالعقد، كما إذا استأجر الطّبّاخ للوليمة ثمّ خالع المرأة، أو استأجر دابّةً ليسافر عليها ففاته وقت الحجّ أو مرض، أو استأجر ظئراً فحبلت، ففي هذه الصّور وأمثالها اختلف الفقهاء بين قائلٍ بانفساخ العقد بنفسه، وقائلٍ باستحقاق المستأجر الخيار في الفسخ‏.‏

ثالثاً‏:‏ زوال المنفعة المعقود عليها، كدارٍ انهدمت وأرضٍ غرقت وانقطع ماؤها‏.‏ فهذه الصّور إن لم يبق فيها نفع أصلاً فهي كالتّالفة ينفسخ بها العقد، كما سبق‏.‏ وإن بقي فيها نفع غير ما استأجرها له، مثل أن يمكنه الانتفاع بعرصة الدّار، والأرض بوضع حطبٍ فيها، أو نصب خيمةٍ في أرضٍ استأجرها للزّراعة، انفسخ العقد فيهما عند البعض لزوال الاسم، ولأنّ المنفعة الّتي وقع عليها العقد تلفت، ولا تنفسخ عند الآخرين، لأنّ المنفعة لم تبطل جملةً، فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائها‏.‏ فعلى هذا يخيّر المستأجر بين الفسخ والإمضاء‏.‏

الانفساخ في الجزء وأثره في الكلّ

27 - انفساخ العقد في جزءٍ من المعقود عليه بسببٍ من الأسباب يؤدّي في بعض الأحوال إلى الانفساخ في المعقود عليه كلّه‏.‏

وهذا إن لم يكن الجزء الّذي ينفسخ فيه العقد قد قدّر نصيبه من العوض، أو كان في تجزئة العقد ضرر بيّن لأحد العاقدين، أو يجمع في عقدٍ واحدٍ بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز‏.‏

وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بتفريق الصّفقة‏.‏ فإذا جمع في العقد ما يجوز عليه وما لا يجوز يبطل فيما لا يجوز بغير خلافٍ‏.‏ وهل يبطل في الباقي، يختلف ذلك باختلاف العقود، وإمكان التّجزئة والاجتناب عن إلحاق الضّرر بأحد الطّرفين‏.‏ وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏تفريق الصّفقة‏)‏‏.‏

28 - ومن هذا القبيل ما ذكر الفقهاء من المسائل الآتية‏:‏

أ - إن وقع العقد على مكيلٍ أو موزونٍ فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي، ويأخذ المشتري الباقي بحصّته من الثّمن، لأنّ العقد وقع صحيحاً، فذهاب بعض المعقود عليه لا يفسخه، لإمكان تبعيضه مع عدم إلحاق الضّرر بأحد الجانبين، كما صرّح به الحنفيّة والحنابلة‏.‏

ب - وفي القواعد لابن رجبٍ الحنبليّ أنّه‏:‏ إذا طرأ ما يقتضي تحريم إحدى المرأتين بعينها، كردّةٍ ورضاعٍ اختصّت بانفساخ النّكاح وحدها بغير خلافٍ‏.‏ وإن طرأ ما يقتضي تحريم الجمع بينهما، فإن لم يكن لإحداهما مزيّة، بأن صارتا أمّاً وبنتاً بالارتضاع، ففي ذلك روايتان‏:‏ أصحّهما يختصّ الانفساخ بالأمّ وحدها إذا لم يدخل بهما، لأنّ الاستدامة أقوى من الابتداء، فهو كمن أسلم على أمٍّ وبنتٍ لم يدخل بهما، فإنّه يثبت نكاح البنت دون الأمّ‏.‏

ج - سبق أنّ مذهب الحنفيّة انفساخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما‏.‏ فإذا أجّر رجلان داراً من رجلٍ ثمّ مات أحد المؤجّرين فإنّ الإجارة تبطل ‏(‏تنفسخ‏)‏ في نصيبه فقط، وتبقى بالنّسبة لنصيب الحيّ على حالها‏.‏ وكذا إذا مات أحد المستأجرين‏.‏ ولو استأجر دارين فسقطت إحداهما فله أن يتركهما، لأنّ العقد عليهما صفقةً واحدةً، وقد تفرّقت، فيثبت له الخيار‏.‏

د - لو باع دابّتين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ البيع فيما تلف كما هو معلوم‏.‏ أمّا فيما لم يتلف فقد صرّح الحنفيّة، وهو المذهب عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا ينفسخ وإن لم يقبض، بل يتخيّر المشتري بين الفسخ والإجازة، فإن أجازه فبحصّته من المسمّى، وفي قولٍ عند الشّافعيّة بجميع الثّمن، وينفسخ في الجميع عندهم في أحد القولين‏.‏

هـ - لو استحقّ بعض المبيع انفسخ العقد كلّه في قولٍ عند الشّافعيّة، وهو رواية عند الحنابلة كما ذهب إليه المالكيّة إذا كان الجزء المستحقّ هو الأكثر وينفسخ العقد في الجزء المستحقّ وحده في قولٍ آخر عند الشّافعيّة، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة إذا كان الاستحقاق بعد القبض وكان المبيع ممّا لا يضرّ تبعيضه، كما إذا اشترى ثوبين فاستحقّ أحدهما‏.‏ وذهب بعض الفقهاء إلى ثبوت الخيار للمشتري بين الفسخ في الكلّ وبين الإمضاء في الباقي على تفصيلٍ ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏استحقاق‏)‏‏.‏

آثار الانفساخ

29 - آثار الانفساخ تختلف باختلاف العقود واختلاف أسباب الانفساخ، وطبيعة المعقود عليه، وهل هو باقٍ على حاله أم طرأ عليه التّغيير من الزّيادة أو النّقصان وغير ذلك‏.‏ فلا تجمعها قواعد كلّيّة وأحكام شاملة‏؟‏‏.‏

وما أجمله الفقهاء من بعض الآثار في أنواعٍ خاصّةٍ من العقود، لا يخلو عن استثناءاتٍ حسب طبيعة هذه العقود وما يؤثّر على انفساخها من عوامل، وفيما يلي تفصيل بعض هذه الآثار‏.‏

أوّلاً‏:‏ إعادة الطّرفين إلى ما قبل العقد‏:‏

أ - في العقود الفوريّة‏:‏

30 - ذكر الفقهاء في أكثر من موضعٍ أنّ الانفساخ يجعل العقد كأن لم يكن‏.‏ وهذا صحيح في الجملة في العقود الفوريّة ‏(‏الّتي لا تتعلّق بمدّةٍ‏)‏ فعقد البيع مثلاً إذا انفسخ بسبب هلاك المبيع قبل القبض يرفع العقد من الأصل ويكون كأن لم يبعه أصلاً، فيرجع المشتري على البائع بالثّمن إذا سلّمه إيّاه، لأنّ الضّمان قبل قبض المبيع يكون على البائع على تفصيلٍ بين المنقول والعقار كما تقدّم‏.‏

ب - في العقود المستمرّة‏:‏

31 - أمّا الانفساخ في العقود المستمرّة ‏(‏الّتي تتعلّق بالمدّة‏)‏ فإنّه يرفع العقد من حينه قطعاً، لا من أصله‏.‏ ففي عقد الإجارة مثلاً، صرّح الفقهاء أنّ المعقود عليه - الأجير المعيّن والدّابّة المعيّنة - إذا تلف ينفسخ العقد في الزّمان المستقبل لا في الزّمان الماضي، فيلزمه أجرة ما مضى بحسابه، وما لم يحصل فلا شيء عليه فيه‏.‏ وكذلك الحكم في عقود العاريّة والشّركة، والمضاربة والوكالة ونحوها، إذا انفسخت فالانفساخ فيها يرفع العقد من حينه لا من أصله‏.‏ وهذا في الجملة وتفصيله في مصطلحاتها‏.‏

ثانياً‏:‏ أثر تغيير المحلّ قبل الانفساخ‏:‏

32 - انفساخ العقد يوجب زوال أثر العقد وردّ المعقود عليه إلى من كان له قبل العقد‏.‏ فإذا كان قائماً ولم يتغيّر يردّ بعينه كالمبيع إذا انفسخ البيع بسبب الفساد أو الإقالة أو الخيار أو الاستحقاق ونحوها‏.‏ ففي هذه الحالات وأمثالها تردّ العين المعقود عليها إلى صاحبها الأصليّ، ويستردّ المشتري الثّمن من البائع‏.‏ وكذلك إذا انفسخت الإجارة بموت أحد العاقدين أو بالاستحقاق أو بانتهاء المدّة، فتردّ العين المأجورة إلى صاحبها، إذا كانت قائمةً ولم تتغيّر‏.‏ وهكذا الحكم في عقود الإيداع والإعارة والرّهن إذا انفسخت تردّ الوديعة والمعار والمرهون إلى أصحابها بعينها إذا كانت قائمةً‏.‏

33 - أمّا لو تغيّر المعقود عليه بأن زاد المبيع مثلاً فالحكم يختلف باختلاف سبب الانفساخ، ففي انفساخ البيع بسبب الفساد، إن كانت الزّيادة في المبيع منفصلةً عنه كالثّمرة واللّبن والولد، أو متّصلةً متولّدةً من الأصل، فإنّ هذا لا يمنع من ردّ أصل المبيع مع الزّيادة إلى البائع عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏‏.‏

ولو حصل التّغيّر بنقصان المبيع بيعاً فاسداً يردّ المبيع مع أرش النّقصان عند الجمهور خلافاً للمالكيّة، فإنّ التّغيّر بالزّيادة أو النّقصان يعتبر تفويتاً للمبيع عندهم‏.‏

34 - وفي عقد الإجارة إذا تغيّر المأجور قبل الانفساخ ثمّ انفسخت الإجارة، فإن كان التّغيّر بالنّقصان وبتقصيرٍ من المستأجر يلزمه ردّ المأجور مع أرش النّقصان‏.‏

وإن كان بالزّيادة كالغرس والبناء في الأرض وقد تمّت مدّة الإجارة، فعلى المستأجر قلع الغرس وهدم البناء عند الحنفيّة والمالكيّة، إلاّ إذا رضيا بدفع قيمة الغرس والبناء عند الحنفيّة، ويخيّر المالك بين تملّك الغرس والبناء بقيمته، أو تركه بأجرته عند الحنابلة والشّافعيّة‏.‏ أمّا إذا كان التّغيّر في العين المستأجرة بالزّراعة وانفسخت الإجارة بانقضاء المدّة قبل أن يحين وقت حصادها، فليس للمؤجّر إجبار المستأجر على تسليم الأرض المستأجرة له، بل تترك بيد المستأجر إلى وقت الحصاد بأجر المثل‏.‏ وهكذا الحكم في العاريّة، لأنّهم صرّحوا أنّه ‏(‏إذا استعار أرضاً للزّراعة فزرعها ثمّ أراد صاحب الأرض أن يأخذها لم يكن له ذلك حتّى يحصد الزّرع، بل يترك إلى وقت الحصاد بأجر المثل‏)‏‏.‏ ولا خلاف في أصل هذا الحكم بين الفقهاء‏.‏ إلاّ أنّ الشّافعيّة قيّدوه بأن لا يكون تأخّر الزّرع بتقصير المستأجر أو المستعير‏.‏ والحنابلة قيّدوه بأن لا يكون ذلك بتفريطهما‏.‏

ثالثاً‏:‏ ضمان الخسارة النّاشئة عن الانفساخ‏:‏

35 - إذا انفسخ العقد بالتّلف، كأن تلف المبيع قبل القبض، أو تلفت العين المستأجرة بيد المستأجر فضمانها على البائع أو المؤجّر، لأنّ الهالك من تبعة المالك، وهذا باتّفاق الفقهاء في الإجارة، أمّا في البيع فهناك تفصيل وخلاف يرجع إليه في ‏(‏بيع‏)‏‏.‏

وإذا كان ذلك بالإتلاف والتّعدّي فضمانها على من أتلفها‏.‏

ففي عقد البيع مثلاً إتلاف المشتري للمبيع يعتبر قبضاً، فالملك له والضّمان عليه‏.‏

وفي الإجارة يضمن المستأجر كلّ تلفٍ أو نقصٍ يطرأ على المأجور بفعلٍ غير مأذونٍ به‏.‏

والأصل أنّ المعقود عليه بعد انفساخ العقد أمانة بيد العاقد غير المالك‏.‏ فالمبيع والمأجور الوديعة والعاريّة والمرهون ونحوها على خلافٍ فيها، كلّها أمانة بعد الانفساخ بيد العاقد غير المالك إلاّ إذا امتنع عن تسليمها لأصحابها بدون عذرٍ‏.‏ فإذا تلفت بغير تعدٍّ أو تقصيرٍ فلا ضمان فيه، وإلاّ ففيه الضّمان‏.‏ والمراد بالضّمان أداء المثل في المثليّات وأداء القيمة في القيميّات‏.‏ وهذا كلّه في الجملة، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان‏)‏‏.‏