فصل: بابُ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ:

(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُخَلِّيَ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِذَا اشْتَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَهُ تَنْعَدِمُ هَذِهِ التَّخْلِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا يَعْمَلَانِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَارَقَتْ الشَّرِكَةَ فِي الِاسْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُفَارِقَهَا فِي الْحُكْمِ، وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الشَّرِكَةِ فَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَاسْتَوَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ فِي الْعَمَلِ وَشَرْطِ الرِّبْحِ، فَلَا يَبْقَى لِاخْتِصَاصِ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الِاسْمِ فَائِدَةٌ وَإِذَا أَخْرَجَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِرَجُلٍ: اعْمَلْ بِهَذِهِ مُضَارَبَةً فَاشْتَرِ بِهَا وَبِعْ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ إلَى الْمُضَارِبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ دَفْعُ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ لِيَكُونَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَبَقِيَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ، فَإِذَا تَصَرَّفَ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ.
وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَعَبْدُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ وَالْعَبْدِ نِصْفُ الرِّبْحِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَعَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلْمُضَارَبَةِ يُوجَدُ مَعَ اشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْمَالِ، بِخِلَافِ شَرْطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ مُضَارَبَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي كَسْبِهِ، وَلَيْسَتْ يَدُهُ بِيَدِ رَبِّ الْمَالِ فَيَتَحَقَّقَ خُرُوجُ الْمَالِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ اشْتِرَاطِ عَمَلِ عَبْدِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي عَبْدِهِ فَهُوَ فِي مُكَاتَبِهِ، وَابْنِهِ، وَأَبِيهِ أَظْهَرُ.
وَلَوْ اشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَالِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ الْحَاصِلَ بِعَمَلِ الْمُضَارِبِ بِمِلْكِهِ رَأْسَ الْمَالِ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِ شَرِيكِهِ كَاشْتِرَاطِ عَمَلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ تَبْقَى الْمُرَابَحَةُ لِمَالِكِ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ فِي الْيَدِ فَتَنْعَدِمُ بِهِ التَّخْلِيَةُ.
وَإِنْ كَانَ شَرِكَةَ عِنَانٍ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِهِ فِي بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا يُنَزَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَدْفَعَ إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا مُضَارَبَةً.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ الْأَبُ بِالْمَالِ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِلِابْنِ ثُلُثَهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَهُ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا.
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ أَخَذَ مَالَ الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً لِيَعْمَلَ فِيهِ بِنِصْفِ الرِّبْحِ جَازَ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً، وَكُلُّ مَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ مُضَارِبًا وَحْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الرِّبْحَ بِالْعَمَلِ لَا بِمِلْكِ الْمَالِ فَكَانَا فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَمَا هُوَ شَرْطُ الْمُضَارَبَةِ؟ وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا بَعْدَ هَذَا الشَّرْطِ يَدُ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ كَيَدِ الْمُضَارِبَ الْآخَرِ.
وَلَوْ كَانَ الْأَبُ اشْتَرَطَ الِابْنَ مَعَ مُضَارِبٍ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا بِالْعَمَلِ فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ أَوْ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَوْ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ وَشَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَلِكَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ثُمَّ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ عَلَى الْأَبِ، أَوْ الْوَصِيِّ يُؤَدِّيَانِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّمَا يُطَالِبُ بِالْأَجْرِ مَنْ اسْتَأْجَرَهُ، وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ لِلِابْنِ فَيُؤَدَّى أَجْرُهُ مِنْ مَالِ الِابْنِ.
وَإِذَا دَفَعَ لِرَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَدَّهُ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَفَعَلَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ فَرَبِحَ، وَلَمْ يَلِ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبِضَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ أَبْضَعَهُ غَيْرُهُ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَبْضَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- رَدُّهُ الْمَالَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ- عَمَلُهُ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي مَالِ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنَافِعُ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ كَمَنَافِعِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَكَمَا يَجُوزُ إقَامَةُ عَمَلِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَقَامَ عَمَلِ الْمُضَارِبِ مَا اسْتَعَانَ بِهِ بَعْدُ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ إقَامَةُ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَنْزِلِ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ وَرَبِحَ فَقَدْ انْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالرِّبْحُ، كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ هُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّهُ مَا اسْتَعَانَ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ كَانَ غَاصِبًا عَامِلًا لِنَفْسِهِ ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا فَعَلَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ أَيْضًا فَانْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ لِفَوَاتِ الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَأَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ فَرَبِحَ فِيهَا جَازَ بَيْعُهُ وَالرِّبْحُ، عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَلَا يَكُونُ بَيْعُهُ الْجَارِيَةَ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ أَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ؛ فَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْجَارِيَةِ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَقْضَ الْمُضَارَبَةِ وَمَنْعَ الْمُضَارِبِ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَكُونُ بَيْعُهُ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ أَيْضًا، بَلْ يَكُونُ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُضَارِبِ وَلِنَفْسِهِ، فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يَفُوتَهُ هَذَا الْمُشْتَرِي لَوْ انْتَظَرَ حُضُورَ الْمُضَارِبِ فَأَعَانَهُ فِي بَيْعِهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمَالَ مَا دَامَ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُجْعَلُ إقْدَامُهُ عَلَى الشِّرَاءِ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ.
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ ضَمَانِهِ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّ رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ تَأَكَّدَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لِحِصَّةٍ مِنْ الرِّبْحِ إذَا ظَهَرَ، فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ بَيْعَ رَبِّ الْمَالِ الْجَارِيَةَ، فَأَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَأَكَّدْ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ إذَا ظَهَرَ، فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ، قَالَ: بَاعَ رَبُّ الْمَالِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً أُخْرَى فَبَاعَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ضَمِنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى الْجَارِيَةِ الْأُولَى، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي ثَمَنِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِبَيْعِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى صَارَ الْمَالُ نَقْدًا فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ نَقْدًا قَبْلَ شِرَاءِ الْمُضَارِبِ الْجَارِيَةَ بِالْمَالِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ فِي الْمَالِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ نَقْضًا لِلْمُضَارَبَةِ إذَا عَمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ، فَهُنَا أَيْضًا شِرَاءُ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَهَا حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَضْمَنُ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ كُلِّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فِي مَالِهِ فِي شِرَائِهَا وَبَيْعِهَا.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ دَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا، وَيَبِيعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ جَازَ مَا صَنَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَمَا ضَاعَ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ ضَاعَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ اسْتَعَانَ بِهِ الْمُضَارِبُ فِي الْعَمَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا اسْتَعَانَ بِهِ الْمُضَارِبُ يَكُونُ أَمِينًا فِي الْمَالِ، وَمَا يَهْلَكُ فِي يَدِهِ يُجْعَلُ كَالْمَالِكِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَكَذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذَ الْجَارِيَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ فَبَاعَهَا بِغُلَامٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْمُضَارَبَةِ مَا دَامَ الْمَالُ عُرُوضًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ وَإِنْ حَوَّلَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ عَرَضٍ إلَى عَرَضٍ لَمْ يَصِرْ الْمَالُ نَقْدًا، فَكَذَلِكَ لَا تُنْتَقَضُ الْمُضَارَبَةُ بِتَحْوِيلِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ عَرَضٍ إلَى عَرَضٍ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ وَلَكِنَّهُ، فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَعْقِدُ لِلْمُضَارِبِ، فَجَمِيعُ مَا يَحْصُلُ يَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَاعَ الْجَارِيَةَ الْأُولَى بِمِائَتَيْ دِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً أُخْرَى كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى لَهُ دُونَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ لَوْ صَارَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَنَانِيرَ عَمِلَ نَهْيُ رَبِّ الْمَالِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرَضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا صَارَ الْمَالُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ دَنَانِيرَ انْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ دَرَاهِمَ، فَكَانَ هُوَ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَاَلَّذِي قُلْنَا أَنَّ تَأْكِيدَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ بِضَمَانِ الثَّمَنِ بِالشِّرَاءِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّنَانِيرِ، كَمَا يَنْعَدِمُ فِي شِرَائِهِ بِالدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ، وَفِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا تَسْلِيمَ الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِهَذَا الْعَقْدِ، أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ يَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَرَضُ الْمُشْتَرَى بِمُقَابَلَةِ الْعَرَضِ عَلَى الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِالدَّنَانِيرِ جَارِيَةً وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا رَأْسَ مَالِهِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ خَاصَّةً مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، أَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَبَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِهِ يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ هَذَا التَّصَرُّفَ لِيُحَصِّلَ بِهِ جِنْسَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ يَكُونُ مُعَيِّنًا لِلْمُضَارِبِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُضَارِبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ مِنْهُ، فَرَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مُعِينًا لَهُ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُضَارِبَ مِنْهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُعِينًا لَهُ.
وَإِذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَوْلَاهُ مَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ رُبْعَهُ، وَلِلْمَوْلَى رُبْعَهُ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ هُنَا بِمُلْكِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ عَبْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُضَارِبًا لِعَبْدِهِ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ هُنَا لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَحْدَهُ، فَلِهَذَا كَانَ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ هُنَا لَا بِمِلْكِ الْمَالِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ هُوَ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ إلَّا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مُضَارِبًا وَحْدَهُ فِي هَذَا الْمَالِ لِاعْتِبَارِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ، وَيَكُونَانِ كَالْمُضَارِبَيْنِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ اشْتَرَطَ عَمَلَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمَالِكِ فِي هَذَا الْمَالِ، وَيَدُهُ فِيهِ يَدُ نَفْسِهِ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْمَالِ فَلِهَذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ.
وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ مُكَاتَبًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَوْلَاهُ مَعَ الْمُضَارِبِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ، وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي هَذَا الْمَالِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى، وَصَارَ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ بِمِلْكِهِ الْمَالَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ؛ فَلِهَذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ فَإِنْ اشْتَرَيَا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَاعَا وَرَبِحَا فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْأَجْرُ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ لِلْعَمَلِ وَالْمُكَاتَبُ بِالْعَجْزِ صَارَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَاسْتِئْجَارُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، وَاسْتِئْجَارُ الْمُكَاتَبِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي حَالِ الْكِتَابَةِ يَبْطُلُ بِعَجْزِهِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْتِئْجَارِ بَعْدَ عَجْزِهِ؟، مُوجِبًا لِلْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَا اشْتَرَيَا بِالْمَالِ جَارِيَةً ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَبَاعَا الْجَارِيَةَ بِغُلَامٍ، ثُمَّ بَاعَا الْغُلَامَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَسْتَوْفِي مِنْهَا رَأْسَ مَالِهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُكَاتَبِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ، وَالْمَوْتُ لَا يُبْطِلُ الْمُضَارَبَةَ مَا دَامَ الْمَالُ عُرُوضًا وَإِنَّمَا يَبْطُلُ إذَا صَارَ الْمَالُ نَقْدًا فَهُنَا كَذَلِكَ.
وَلَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ مَعَهُ، وَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ رُبْعُ الرِّبْحِ، وَلِلْأَوَّلِ رُبْعُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نَصِفُهُ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ يُعْدِمُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يُعَاقِدُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَالِ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُعَاقِدُ غَيْرَهُ عَلَى شَرْطِ عَمَلِهِ مَعَهُ، فَإِنْ عَمِلَا فَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَال عَلَى شَرْطِهِمَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ أَجِيرٌ لِلْأَوَّلِ إجَارَةً فَاسِدَةً.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً لِلْعَمَلِ فِي الْمَالِ كَانَ يُعْطِي أَجْرَهُ مِنْ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ دَفَعَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَالْمُضَارَبَةُ الْأَخِيرَةُ بَاطِلَةٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْبِضَاعَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الثَّانِيَةُ تَنْقُضُ الْأُولَى، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعِنْدَنَا رَبُّ الْمَالِ، فِي الْعَمَلِ مُعِينٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ قَدْ اسْتَعَانَ بِهِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ الْأَخِيرَةُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَالِكٌ لِلْمَالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ لَا بِمُلْكِهِ الْمَالَ، فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تُصَادِفْ مَحِلًّا فَكَانَتْ بَاطِلَةً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ وَيَبِيعَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ فَاشْتَرَى لَهُ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ كَانَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَمَلِهِ أَجْرًا بِالشَّرْطِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ دَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالرُّبْعِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ وَرَبُّ الْمَالِ فَعَمِلَا فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِمِلْكِهِ الْمَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي هَذَا الْمَالِ وَحْدَهُ، فَاشْتِرَاطُ عَمَلِهِ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): وَإِذَا قَالَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ حُصُولِ الرِّبْحِ: شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ بِمَا مَلَكَ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالشَّرْطِ فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا شُرِطَ لَهُ وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ أَشْتَرِطْ لَك الرِّبْحَ، أَوْ قَالَ: اشْتَرَطْتُ لَك مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: شَرَطْتُ لَك مِائَةَ دِرْهَمٍ فَظَاهِرٌ فَالْمُضَارَبَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ تَصِيرُ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَشْتَرِطْ رِبْحًا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيَّنْ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَقَدْ وَفَّى الْعَمَلَ فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، ثُمَّ أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُضَارِبُ، بَلْ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَيُبْطِلَ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ، فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ فِي هَذَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي جَوَازَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ لِلْعَقْدِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِيَارًا أَوْ أَجَلًا مَجْهُولًا لَا بِبَيِّنَةٍ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك ثُلُثَ الرِّبْحِ إلَّا مِائَةً، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ ثُلُثٌ كَامِلٌ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَنِّتٍ فِي ذَلِكَ، وَالْبَيِّنَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلَوْ وَضَعَ فِي الْمَالِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الرِّبْحِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً، وَلَمْ تَشْتَرِطْ لِي شَيْئًا فَلِي أَجْرُ الْمِثْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْئًا، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ لِإِثْبَاتِ شَرْطِ نِصْفِ الرِّبْحِ، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ قَامَتْ عَلَى نَفْيِ الشَّرْطِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ رِبْحَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ فَرُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَذَكَرَ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ إذَا قَالَ لِلْعَامِلِ: شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الْخَارِجِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ الْخَارِجِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- قَالُوا: جَوَابُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ جَوَابٌ فِي الْفَصْلِ الْآخَرِ، وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرْنَا، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْمُزَارَعَةِ: أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُثْبِتُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ؛ لِذَلِكَ، وَأَصَحُّ الْجَوَابَيْنِ مَا ذُكِرَ هُنَا.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَتُرَجَّحُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ الْمُثَبِّتَةُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلَا تَكُونُ لَازِمَةً، فَإِنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْعَمَلِ وَيَفْسَخَ الْعَقْدَ مَتَى شَاءَ فَتُرَجَّحُ هُنَا الْبَيِّنَةُ الَّتِي فِيهَا إلْزَامٌ وَهِيَ الْمُثْبِتَةُ لِلدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ.
وَإِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ، أَوْ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: إنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْك الْمَالَ بِضَاعَةً لِتَشْتَرِيَ بِهِ وَتَبِيعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ جُزْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ، أَوْ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ سَبَبَهُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَالْبَيِّنَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ حَقَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تَنْفِي ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ فَجَاءَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إلَيْك أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَبِحْتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُضَارِبَ أَقَرَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَالْأَصْلُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْبِضَاعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُضَارِبُ: أَلْفٌ مِنْ الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتَهُ لِي بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُقِرَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْءِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَابِضُ هُوَ الْمُضَارِبُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَعْطَاهُ وَهُوَ يُنْكِرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ زِيَادَةَ الْقَبْضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَةِ حُصُولِهِ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ مِنْ الْمَالِ لِي خَلَطْتُهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك الثُّلُثَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فِيمَا شُرِطَ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: كَانَ الْمَالُ فِي يَدِي بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ فِيمَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَأْخُذُ الْأَلْفَيْنِ بِرَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ زِيَادَةً فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِيمَا ادَّعَى مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى إنَّ الْأَلْفَ الْفَاضِلَةَ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ زِيَادَةً فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَجَاءَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ، وَالرِّبْحُ أَلْفٌ وَصَدَّقَهُ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا وَالرِّبْحُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَيَبْقَى فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الَّذِي صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَلْفٌ: نِصْفُهُ فِي يَدِهِ، وَنِصْفُهُ فِي يَدِ شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ ضِعْفُ حَقِّ الْمُصَدِّقِ فَيَقْسِمَانِ الْحَاصِلَ مِنْ الرِّبْحِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَيُقَاسِمُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا فِي يَدِهِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَيْضًا وَمَنْ فِي يَدِهِ يُنْكِرُ وَيَقُولُ هُوَ رِبْحٌ وَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ ضِعْفُ حَقِّي؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِ الرِّبْحِ، وَحَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ فِي رُبْعِ الرِّبْحِ.
فَلِهَذَا يُقَاسِمُهُ خَمْسَمِائَةٍ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا لِرَبِّ الْمَالِ يَأْخُذُهَا بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ بِزَعْمِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي يَدِهِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ رِبْحًا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَيَصِيرُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَفِي يَدِ الَّذِي صَدَّقَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ عَلَى مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِزَعْمِهِمَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ، وَالْبَاقِي مِنْ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ ضِعْفُ حَقِّ الْمُصَدِّقِ فَيَقْسِمَانِ الْحَاصِلَ مِنْ الرِّبْحِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَالْمُكَذِّبُ بِزَعْمِهِمَا اسْتَوْفَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَتُجْعَلُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّهِمَا كَالتَّاوِي، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي فَصْلٍ مِنْ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ مِمَّا فِي يَدِ الْمُكَذِّبِ تُقَسَّمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ إلَّا نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا: نِصْفُهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَرُبْعُهَا لِلْمُصَدِّقِ، وَرُبْعُهَا لِي، فَالْمُصَدِّق أَقَرَّ بِحِصَّتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ فَيَصِيرُ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْمُصَدِّقِ نِصْفُ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّهُ فِي رُبْعِهَا وَحَقِّي فِي رُبْعِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَسَّمَ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَرَكَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّا لَوْ فَعَلْنَا هَكَذَا كُنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا الْمُنْكِرَ جَمِيعَ حِصَّةِ مُدَّعَاهُ مِنْ رِبْحِ الْأَلْفَيْنِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَمَنْ الْأَلْفِ الثَّالِثَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَتُسَلَّمُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ رِبْحِ الْأَلْفَيْنِ بِزَعْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ هُوَ عَلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يُصَدَّقُ صَاحِبُهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ لَمْ يَصِلْ رِبْحًا، كَمَا ادَّعَاهُ هَذَا الْمُضَارِبُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُنْكِرِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ فِي مُقَاسَمَتِهِ الْخَمْسَمِائَةِ الْأُخْرَى مَعَهُ؛ فَلِهَذَا قُسِّمَتْ هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَهَذَا الْجَوَابُ حَكَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا فَقَالَ الْعَامِلُ: أَقْرَضْتَنِي هَذَا الْمَالَ، وَقَالَ الدَّافِعُ: دَفَعْتُهُ إلَيْك بِضَاعَةً، أَوْ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، أَوْ قَالَ: مُضَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّصَرُّفِ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ الْإِذْنِ وَالتَّسْلِيطِ، فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالْمُضَارَبَةِ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، بَلْ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بِمَا مَلَكَهُ.
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِرِبْحِ الثُّلُثِ أَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ وَهُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالثُّلُثِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ فَيَأْخُذُهُ الْمُضَارِبُ قَضَاءً مِمَّا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَيُعْطِيهِ مِقْدَارَ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، وَيَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَصْلِ وَالرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي الْكُلِّ، وَقَدْ جَحَدَ حَقَّ صَاحِبِ الْمَالِ فِيهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَك الثُّلُثَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِسُدُسِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِدَعْوَاهُ الْأَمَانَةَ لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ وَضَعَ فِي الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ الْعَامِلُ: دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُهُ إلَيْك قَرْضًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَامِلَ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ نَائِبًا عَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي الْعَمَلِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ سَبَبَ تَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْهُ بِالْعَرَضِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَالْقَرْضُ يَرِدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْقَرْضِ، وَالْقَرْضُ يَرِدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْمَالِ وَضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِإِثْبَاتِهِ الضَّمَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُضَارِبِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَتْ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَمَلُ الْعَامِلِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ مُسْقِطٍ لِلضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ فِي عَمَلِهِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْمُسْقَطُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقَالُ: تَصَادَقَا أَنَّ عَمَلَهُ حَصَلَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَتَسْلِيطِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ الْمِلْكَ لَهُ لَا يَكُونُ هُوَ عَامِلًا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ، فَيَبْقَى عَامِلًا فِي الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَقَدْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذْتَهُ غَصْبًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَالِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ إذْنَ صَاحِبِهِ فِيهِ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَالِ، وَالْإِذْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِبَيِّنَةٍ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْك هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ حَتَّى أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ ثُمَّ ادَّعَى الْمَسْقَطُ وَهُوَ إذْنُ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ.
وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْك مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أُعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِالْمَالِ، فَحِينَئِذٍ هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَجَاءَا بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَلْفٌ رَأْسُ مَالِكَ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَخَمْسُمِائَةٍ لِفُلَانٍ كَانَ دَيْنًا عَلَيْنَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ بِالدَّيْنِ مِنْ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ الْخَمْسِمِائَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَنِصْفُهُ دَيْنٌ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ إذَا أَقَرَّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالْمُقِرُّ يُعَامِلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ فَلَا يُسَلِّمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ.
وَهَاهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ بِسَبَبِ مُعَامَلَتِهِمَا مَعَ الْمُقِرِّ لَهُ، وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِمَّا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يُقَاسِمُ الْمُضَارِبُ الْجَاحِدُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِمَّا فِي يَدِهِ: لَهُ ثُلُثُهَا وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا، بَلْ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْجَاحِدُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبِحَ وَلَكِنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِثْلَ هَذَا بِإِقْرَارِهِ كَاذِبًا فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ فَيُقْسَمُ هَذَا الْمِقْدَارُ بَيْن رَبِّ الْمَالِ وَالْجَاحِدِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا، وَلِلْجَاحِدِ ثُلُثُهَا، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ قَدْ أَقَرُّوا جَمِيعًا أَنَّهَا رِبْحٌ فَيَقْتَسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ رُبْعُهَا، وَلَا يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَخَذَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أُدَّعَى لِنَفْسِهِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ مَالِهِ فَهَذَا، وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبَانِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا بِيضٌ.
وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ سُودٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْخَمْسُمِائَةِ الْبِيضُ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ عِنْدَنَا، وَالْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ رِبْحٌ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: كُلُّهَا رِبْحٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ السُّودِ، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ الْبِيضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْبِيضِ فِي يَدِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَيَقْسِمُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ وَرَبُّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ الْبِيضِ أَثْلَاثًا: سَهْمَانِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَسَهْمٌ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَالْمُنْكِرُ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتْلَفَ فَوْقَ حَقِّهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بَقِيَ، بَلْ يُقْسَمُ هَذَا الْمِقْدَارُ بَيْنَ الْجَاحِدِ وَرَبِّ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا أَثْلَاثًا، وَيَقْسِمُ الْخَمْسَمِائَةِ السُّودَ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِلْوَدِيعَةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الْبِيضَ رِبْحٌ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي أَيْدِيهِمَا فَبِاعْتِبَارِ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ هَذِهِ، وَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَمِائَةِ لَيْسَتْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، بَلْ هِيَ وَدِيعَةٌ لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَدْفَعُهَا لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ وَلَا قَوْلَ، فَلِهَذَا كَانَ الْمُقِرُّ مُصَدَّقًا فِي جَمِيعِهَا هُنَا فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبَانِ حِينَ جَاءَا بِأَلْفَيْنِ كَانَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الْبِيضُ كُلُّهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ فَقَالَ هَذِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ عِنْدِي وَقَالَ الْآخَرُ: وَرَبُّ الْمَالِ كُلُّهُ رِبْحٌ أَخَذَهَا صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهَا، وَالْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رِبْحٌ.
وَلَوْ كَانَتْ الْبِيضُ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ مَالٍ قُسِّمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: لِرَبِّ الْمَالِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْبِيضَ هُنَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي يَدِ الْجَاحِدِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْمَالُ، فَلِهَذَا قُسِمَ الْكُلُّ كَمَا هُوَ زَعْمُ الْمُنْكِرِ لِلْوَدِيعَةِ، ثُمَّ مَا وَقَعَ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْبِيضِ سَلَّمَهُ إلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ قَدْ وَصَلَ إلَى يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إذَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْجَاحِدُ مُقِرٌّ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ بِالْيَدِ فِي نِصْفِهِ وَهُنَا الْجَاحِدُ لَا يُقَرُّ بِالْيَدِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبِيضِ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِثْلَهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهِيَ الْخَمْسُمِائَةِ السُّودُ.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَعْمَلَا فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِمَا فَجَاءَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَلْفٌ مِنْهَا رَأْسُ الْمَالِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ، وَخَمْسُمِائَةٍ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ خَلَطْنَاهَا بِالْمَالِ بِأَمْرِهِ فَهُوَ شَرِيكُنَا فِي هَذَا الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ: يَمْلِكُ الْأَلْفَ كُلّ هَا رِبْحٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا، وَيَأْخُذُ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِمَّا فِي يَدِ الْمُنْكِرِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ، وَإِنَّ الْمُقِرَّ أَتْلَفَ مِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَانِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رِبْحٌ، فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَيَجْمَعُهَا إلَى مَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ لِلْمُضَارِبِ، وَأَرْبَعَةٍ لِلْمُقِرِّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ، وَتَصَادُقُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا فَمَا وَصَلَ إلَيْهِمَا يُقَسَّمُ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ أَنَّ حَقَّ الْمُقِرِّ لَهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَإِنَّ حَقَّ الْمُقِرِّ فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَاجْعَلْ كُلَّ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، فَيَكُونُ الْخَمْسُمِائَةِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ: فَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ حَقُّ الْمُقِرِّ لَهُ، وَسَهْمٌ حَقُّ الْمُقِرِّ.
فَلِهَذَا قَالَ يُقَسَّمُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا أَخْمَاسًا بَيْنَهُمَا، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِمَا مِنْ الْمَالِ يُجْعَلُ كَالتَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ يَوْمَ أَقَرَّ بِهَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ جَمِيعَ الْخَمْسِمِائَةِ مِنْ الْمَالِ؛لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ فِيمَا فِي يَدِهِ مَقْبُولٌ وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا، وَالْخَمْسُمِائَةِ الْبَاقِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَرْبَاعًا.
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَ هُوَ وَالْمُضَارِبَانِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ أَرْبَاعًا، وَمَا أَخَذَهُ الْمُقِرُّ بِالشَّرِكَةِ اقْتَسَمَهُ هُوَ وَالْمُقِرُّ أَخْمَاسًا؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَى يَدِهِ مِنْ الْمَالِ هَذَا الْمِقْدَارُ، فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا: لِلْمُقِرِّ خُمُسُهُ وَلِلْمُقِرِّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ.
قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذَا غَلَطٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا، أَوْ فِي يَدِ الْمُنْكِر مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُقِرُّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَوَّلًا، كَمَا أَجَابَ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبِيضِ وَالسُّودِ قَبْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مُقِرٌّ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَأَنَّ نِصْفَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ هُنَا أَصَحُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُنْكِرَ وَإِنْ أَقَرَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نِصْفَ الْمَالِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ، وَيَقُولُ يَدُ الْمُقِرِّ لَهُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ مَعِي فَلَمْ تَثْبُت يَدُ الْمُقِرِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبِيضِ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرِكَةِ حَقُّ الْمُقِرِّ لَهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَحَقُّ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ شَائِعٌ فَلَمْ يَخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَنْفِيذُ إقْرَارِهِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ مُتَمَيِّزٍ مِنْ حَقِّ الْمُضَارَبَةِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ إلَى الْمُقَاسَمَةِ.
وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبَانِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَارَكَنَا فُلَانٌ فِي الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَخَلَطْنَاهُمْ بِالْأَلْفِ، ثُمَّ عَمِلْنَا فَرَبِحْنَا خَمْسَمِائَةٍ، وَقَالَ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مَقْبُولٌ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا رِبْحٌ بَيْنَ صَاحِبِ الشَّرِكَةِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الشَّرِكَةِ أَيْضًا مِنْهَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِإِقْرَارِهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ، وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى مَا فِي يَدِ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَدْفَعُ مِنْهَا مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُقِرُّ لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَقْسِمُهَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ الْمُنْكِرُ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِإِقْرَارِهِمَا أَنَّ هَذَا رِبْحٌ، وَأَنَّ الْمُقِرَّ بِالشَّرِكَةِ أَتْلَفَ مِثْلَ هَذَا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ.
وَيُقْسَمُ هَذَا الْقَدْرُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْجَاحِدِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا: ثُلُثَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثُهُ لِلْمُضَارِبِ الْجَاحِدِ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرْطِ، ثُمَّ يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الْمُقِرُّ بِالشَّرِكَةِ مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ وَثُلُثٌ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الشَّرِكَةِ فَيَقْسِمَانِ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: لِلْمُقِرِّ سَهْمٌ وَلِلْمُقِرِّ لَهُ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ زَعَمَ أَنَّ لِلْمُقِرِّ لَهُ سَهْمًا أَصْلُ مَالِهِ وَثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ رِبْحٌ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ الرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَرْبَاعًا فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الْمُقِرُّ لِصَاحِبِ الشَّرِكَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ سَهْمَانِ، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ الْمُقِرِّ بِالشَّرِكَةِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ سَهْمٌ، فَذَلِكَ كُلُّهُ إذَا جَمَعْته تِسْعَةُ أَسْهُمٍ؛ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: ثَمَانِيَةُ أَتْسَاعِهِ لِلْمُقِرِّ لَهُ: وَتُسْعُهُ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّهِمَا كَالتَّاوِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-): وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ سَوَّى غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلثَّانِي شَرِكَةً فِي رِبْحِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَا رَضِيَ إلَّا شَرِكَتَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسِبَ سَبَبَ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِيهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا مُخَالِفًا بِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ ضَمِنَهُ سُلِّمَتْ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَالْمُضَارِبِ الْآخَرِ عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينَ صَارَ مُخَالِفًا، فَإِنَّمَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي.
وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، ثُمَّ الرِّبْحُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي رَبِحَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ صَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ، وَمَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا وَدَفَعَهُ مُضَارَبَةً فَعَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ وَرَبِحَ فَلَا سَبِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الرِّبْحِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ إذَا اسْتَحَقَّ وَضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ فَرَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ أَيْضًا وَهُنَا إذَا رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ؛ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِرْدَادِ الْمُسْتَحِقِّ الْقِيمَةَ مِنْهُ، وَبِدُونِ قَبْضِهِ لَا يَكُونُ مَرْهُونًا، وَهُنَا أَيْضًا اسْتِرْدَادُ الْمِثْلِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْيَدِ لِلْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ، وَاسْتِدَامَتُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى إنَّهُ إذَا رَدَّ الْمُضَارِبُ الْمَالَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ.
وَلَوْ رَدَّ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ عَلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي لَمْ يَعْمَلْ بِالْمَالِ حَتَّى ضَاعَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ الْمَالَ مِنْ الْآخَرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ أَمِينٌ، وَقَدْ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا كَالْمُودِعِ إذَا أَعَارَ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُضَارِبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْمَالَ، وَأَنْ يُبْضِعَهُ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الدَّفْعِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حِينَ عَمِلَ بِهِ الثَّانِي صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَحْصُلَ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا إذَا صَارَ مُخَالِفًا، وَذَلِكَ بِاشْتِرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ إذَا أَبْضَعَ، أَوْ أَوْدَعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْغَيْرِ فِي الرِّبْحِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ لَا تَتَحَقَّقُ قَبْلَ حُصُولِ الرِّبْحِ؛ لِسَبَبِ الْخِلَافِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا حَصَلَ الرِّبْحُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ فَيُقَامُ سَبَبُ حُصُولِ الرِّبْحِ مَقَامَ حَقِيقَةِ حُصُولِ الرِّبْحِ فِي صَيْرُورَةِ الْمَالِ بِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الدَّفْعِ فَهُوَ لَيْسَ سَبَبًا لِحُصُولِ الرِّبْحِ لِيُقَامَ مَقَامَ حُصُولِهِ.
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ الْمَالَ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآخَرِ خَاصَّةً دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا الْفِعْلِ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ الْأَوَّلُ فَيُقْصَرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهمَا شَاءَ.
وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي مَعَ رَجُلٍ يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ مَالَهُ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَمْلِكُ الْإِبْضَاعَ، كَمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَيَكُونُ هُوَ فِيمَا صَنَعَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ كَعَمَلِ الْمُبْضِعِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَلَا رِبْحَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ وَصَارَ الْمَالُ مَمْلُوكًا لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَبْضِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ وَمَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَيَرْجِعُ بِهِ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ نَفْسَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا ظَهَرَ اسْتِقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ بِهِ وَجْهُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالسُّدُسِ فَعَمِلَ فِيهِ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ، فَالْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الثَّانِي خَالَفَ أَمْرَهُ حِينَ دَفَعَهُ إلَى الْغَيْرِ مُضَارَبَةً، فَلَا يَتَحَوَّلُ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ إلَى الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَالَ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمِنَ الثَّانِي رَأْسَ مَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الثَّالِثُ، وَحَالُ الثَّالِثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَحَالِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، حَتَّى إذَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَإِنْ ضَمِنَ الثَّالِثُ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَى الثَّانِي فَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ حِينَ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي بِالثُّلُثِ، وَقَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ مُضَارَبَةً بِالسُّدُسِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ بِالدَّفْعِ إلَى الثَّالِثِ هُنَا مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْأَوَّلِ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ فَإِنْ ضَمِنَ الثَّالِثُ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي وَرَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِمَعْنَى الْغُرُورِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ مِمَّا ضَمِنَ بَعْدُ، كَمَا اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَتَانِ جَمِيعًا: الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الرِّبْحُ فَلِلضَّارِبِ الْآخَرِ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَلِلثَّانِي سُدُسُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِلثَّانِي شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَلِنَفْسِهِ ثُلُثَيْهِ فَشَرْطُ الثَّانِي السُّدُسَ لِلثَّالِثِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً دُونَ نَصِيبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْأَوَّلِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلِهَذَا كَانَ لِلثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ حَقِّ الثَّالِثِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَلِلْأَوَّلِ ثُلُثُ الرِّبْحِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمِلَ بِهِ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ، أَوْ تَوَى الْمَالُ بَعْدَ مَا عَمِلَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَالتَّوَى مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِإِشْرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، وَبِمَا بَاشَرَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَا يُوجَدُ سَبَبُ الِاشْتِرَاكِ بَلْ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ كَالْإِجَارَةِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ فِي الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا بِهِ وَجُعِلَ عَمَلُ الْأَجِيرِ كَعَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ وَيَرْجِعُ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَجْرَ مِثْلِ الْعَامِلِ أَوَّلًا مِنْ الْمَالِ، كَمَا اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً، ثُمَّ الرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرَ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا، وَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ.
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبَيْنِ فِي الْوَضِيعَةِ وَالتَّوَى؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ مَا أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ شَرِكَةً فِي رِبْحِ مَالِهِ، فَإِنَّ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ لَا يَسْتَحِقُّ هُوَ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ فَكَيْفَ يُوجِبُهُ لِغَيْرِهِ؟، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِهِ، ثُمَّ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ هُنَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الثَّانِي بِأَمْرِ الْأَوَّلِ كَعَمَلِ الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ مِثْلُ نِصْفِ الرِّبْحِ الَّذِي رَبِحَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ أَطْعَمَهُ فِي نِصْفِ الرِّبْحِ، وَقَدْ حَصَلَ الرِّبْحُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَعَ حُصُولِهِ، بَلْ اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فَسَادُ الْعَقْدِ؛ فَرَجَعَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمِثْلِ نِصْفِ الرِّبْحِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَجْلِ الْغَرَرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ بِمَالِهِ فَيَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ وَيُبْضِعُهُ وَيَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ إنْ أَحَبَّ فَاسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ الْأَجِيرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِ، أَوْ أَبْضَعَهُ مَعَ رَجُلٍ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَلِلْأَجِيرِ الْأَوَّلِ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَلِلْأَجِيرِ الْآخَرِ أَجْرُهُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ وَعَمِلَ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ الْأَوَّلُ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْأَجِيرِ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَجْلِ الْغَرَرِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَصِرْ شَرِيكًا فِي الْمَالِ بِمُضَارَبَتِهِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَلِلْأَوَّلِ سُدُسُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ حِينَ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك، فَالْمُضَارِبُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَمْلِكُ الْخَلْطَ وَالشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رَأْيِهِ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ إلَّا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يُوجِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، بَلْ مَا أَوْجَبَهُ لِلثَّانِي، وَهُوَ ثُلُثُ الرِّبْحِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً، كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا بَاعَ ثُلُثَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَقَدْ أَوْجَبَ لِلثَّانِي الثُّلُثَ بَقِيَ لَهُ السُّدُسُ، وَذَلِكَ طِيبَ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَبْضَعَ الْمَالَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ أَبْضَعَهُ رَبُّ الْمَالِ لَهُ حَتَّى رَبِحَ كَانَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ طَيِّبًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنْ دَفَعَ الثَّانِي إلَى ثَالِثٍ مُضَارَبَةً وَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ قَالَ لِلثَّانِي: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمُضَارِبُ الثَّانِي فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَلَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَالِهِ وَأَنْ يُشَارِكْ فِيهِ، وَأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَوَكَّلَ غَيْرَهُ، وَقَالَ لِلثَّانِي: اعْمَلْ بِرَأْيِك لَمْ يَصِحَّ هَذَا مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ مَحْضٌ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَالِ، فَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُسَوِّيَ غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي تَوْكِيلِ الثَّانِي بِهِ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَهُ فِي الْمَالِ نَوْعُ حَقٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا يُعَامِلُهُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً، وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَهُ وَيَسْتَأْجِرَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْأَعْوَانِ وَالْأُجَرَاءِ لِتَتْمِيمِ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ.
وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهِ، أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي دَفْعِهِ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، فَقَدْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَالْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ تُعْتَبَرُ بِالْمُضَارَبَةِ الْجَائِزَةِ فِي الْحُكْمِ، فَكَمَا أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ الْجَائِزِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، فَكَذَلِكَ الْفَاسِدَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِي الرِّبْحِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الثَّانِي بِشَرْطِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ الرِّبْحِ وَلَكِنْ عَمَلُ الْمُضَارِبِ الثَّانِي كَعَمَلِ الْأَوَّلِ، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَجْرُ مِثْلِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِيمَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ، وَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ مِثْلُ نِصْفِ الرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ.
وَقَدْ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخَذَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقِيلَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى آخَرَ، عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَعَمِلَ بِهِ الثَّانِي فَلِلثَّانِي أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي تِلْكَ الْمُضَارَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ.
وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً كَانَ رُجُوعُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حِينَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِزْقٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَرَبِحَ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَلِلْأَوَّلِ سُدُسُهُ، وَلِرَبِّ الْمَالِ نَصِفُهُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَكُونُ شَارِطًا نِصْفَ رِبْحِ جَمِيعِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ، فَمَا أَوْجَبَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ يَكُونُ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً حَتَّى لَوْ دَفْعَهُ الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ إلَى الثَّانِي.
فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ شَرَطَ لِلثَّانِي ثُلْثَيْ الرِّبْحِ فَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي نِصْفُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي إنَّمَا يَتِمُّ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا هُوَ نَصِيبُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النِّصْفُ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بِسُدُسِ الرِّبْحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ، وَهَذَا الشَّرْطُ مِنْ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ رَبِّ الْمَالِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ الْتَزَمَ سَلَامَةَ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِلثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا النِّصْفَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالسُّدُسِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِك فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُخَالِفًا بِإِيجَابِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي رِبْحِ الْمَالِ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْأَوَّلِ: مَا رَبِحْتَ فِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فِيهِ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا كَانَ لَك فِيهِ مِنْ فَضْلٍ، أَوْ رِبْحٍ أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا كَسَبْتَ فِيهِ مِنْ كَسْبٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا صَارَ لَك فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَدَفَعَهُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، أَوْ بِثُلُثَيْ الرِّبْحِ، أَوْ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الرِّبْحِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحًا، وَلِلثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ جَمِيعُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا يَحْصُلُ لِلْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ بِحَرْفِ الْخِطَابِ وَهُوَ الْكَافُ، أَوْ التَّاءُ فَمَا شَرَطَهُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِمَّا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ، فَيَسْتَحِقُّ الثَّانِي جَمِيعَ مَا شَرَطَ لَهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا حَصَلَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَرَبُّ الْمَالِ هُنَاكَ شَرَطَ نِصْفَ جَمِيعِ رِبْحِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الرِّزْقَ وَالرِّبْحَ إلَى الْمَالِ دُونَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَلِلثَّالِثِ ثُلُثُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الثَّانِي لَهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلِلثَّانِي سُدُسُ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلثَّانِي جَمِيعَ نَصِيبِهِ حِينَ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ دَفْعَهُ إلَى الثَّانِي وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَدَفَعَهُ الثَّانِي إلَى ثَالِثٍ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَلِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ ثُلُثُ الرِّبْحِ كُلُّهُ، وَسُدُسُ الرِّبْحِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ نِصْفَانِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الرِّبْحِ، وَالْأَوَّلُ إنَّمَا شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ مَا رَزَقَ اللَّهُ، وَذَلِكَ سُدُسُ الرِّبْحِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لِلْأَوَّلِ: مَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ يَأْخُذُ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَيُقَاسِمُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا أَوْجَبَ لِلثَّانِي نِصْفَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَلَّذِي رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَرَاءَ نَصِيبِ الثَّالِثِ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُقَاسِمُ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ ثُلُثَ الرِّبْحِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رُزِقَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ، وَاَلَّذِي رُزِقَ الْأَوَّلُ هَذَا الثُّلُثَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ لِنَفْسِهِ، وَبَقِيَ رَأْسُ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى حَالِهِ حَتَّى هَلَكَ، أَوْ عَمِلَ بِهَا فَوَضَعَ فِيهَا، أَوْ تَوَى بَعْدَ مَا عَمِلَ فِيهَا فَإِنَّ قِسْمَتَهَا بَاطِلَةٌ، وَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا رَبُّ الْمَالِ تُحْتَسَبُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَيَغْرَمُ لَهُ الْمُضَارِبُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا هَلَكَ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْلَمُ لَهُ نَوَافِلُهُ حَتَّى تَسْلَمَ لَهُ عَزَائِمُهُ، أَوْ قَالَ فَرَائِضُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَصْلٌ، وَالرِّبْحُ فَرْعٌ وَمَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمِينٌ فِيهِ، فَإِذَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَا هَلَكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْمَالِ كَانَ مِقْدَارَ الْأَلْفِ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَمَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا، حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ كَمَالِ رَأْسِ مَالِهِ، وَقِسْمَةُ الرِّبْحِ هُنَا قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَةِ الْوَارِثِ التَّرِكَةَ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَلَوْ أَنَّ الْوَرَثَةَ عَزَلُوا مِنْ التَّرِكَةِ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَقَيَّمُوا مَا بَقِيَ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَعْزُولُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْغُرَمَاءِ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَخَذُوا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا حَقُّ رَبِّ الْمَالِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّهِمَا فِي الرِّبْحِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ أَيْضًا مَا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَيَسْتَوِي هَلَاكُهُ فِي يَدِهِ وَبَقَاؤُهُ، وَمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِأَخْذِهِ، فَبَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ أَلْفَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ كُلُّهُ وَلَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ رَأْسُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَقِيَامِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا، فَيُجْعَلُ مَا هَلَكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ هُوَ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ مَا أَخَذَهُ الْمُضَارِبُ، وَقَدْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ نِصْفَ تِلْكَ الْأَلْفِ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ الْمَالَ حَتَّى اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْأَلْفِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ فَرَبِحَ مَالًا كَثِيرًا كَانَتْ الْأَلْفُ الَّتِي قَبَضَهَا رَبُّ الْمَالِ أَوَّلًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِثْلَ مَا أَخَذَ الْمُضَارِبُ مِنْ الرِّبْحِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي رِبْحًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، أَوْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ وَكِيلُهُ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ قَسَمُوا الرِّبْحَ جَازَتْ الْمُقَاسَمَةُ، فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَى الْمُضَارِبِ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَهَا بِرَأْسِ مَالِهِ فَقَالَ: خُذْهَا فَاعْمَلْ بِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي كَانَتْ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ جَائِزَةٌ، إنْ رَبِحَ فِيهَا أَوْ وَضَعَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدْ انْتَهَى بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى يَدِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ قِسْمَتُهُمَا الرِّبْحَ حَصَلَتْ فِي أَوَانِهَا فَتَمَّتْ، ثُمَّ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً مُسْتَقِلَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى سِوَى الْأَلْفِ الْأُولَى.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ فِيهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمَا فَدَفَعَ إلَى رَبّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَلْفَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبَقِيَتْ حِصَّةُ رَبّ الْمَالِ وَلَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى ضَاعَتْ فَإِنَّهَا تَضِيعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَرُدُّ الْمُضَارِبُ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ حِينَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ جَمِيعَ الرِّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُسَلَّمُ لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا حَتَّى يُسَلِّمَ لِرَبِّ الْمَالِ مِثْلَهَا رِبْحًا، وَلَمْ يُسَلِّمْ فَعَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَ مَا أَخَذَ مِنْ الرِّبْحِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ هِيَ الَّتِي هَلَكَتْ وَبَقِيَتْ الْأَلْفُ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا تُحْسَبُ عَلَى الْمُضَارِبِ مِنْ حِصَّتِهِ، وَتُسَلَّمُ الْأَلْفُ الَّتِي بَقِيَتْ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ تِلْكَ الْأَلْفَ لِنَفْسِهِ فَصَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ الَّذِي لَزِمَهُ بَعْدَ مَا هَلَكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ قَاسَمَ رَبَّ الْمَالِ الرِّبْحَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ حَتَّى ضَاعَ مَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ هَلَكَ مِنْ مَالِهِمَا وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ بَقِيَ أَمِينًا فِي ذَلِكَ وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الرِّبْحِ الَّذِي كَانَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ بِالْقَبْضِ فَهَلَكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَيَغْرَمُ نِصْفَهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَلَوْ رِبْحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَيْك وَإِنَّمَا قَاسَمْتنِي بَعْدَ الدَّفْعِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ فَتَكُونُ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ، وَالْأَمِينُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الرَّدِّ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ، غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُودِعَ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَصِيِّ لَيْسَ لِلْيَتِيمِ أَنْ يَضْمَنَ الْوَصِيَّ شَيْئًا، وَإِذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَمَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَيْهِ لَا يُسَلَّمُ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ بِطَرِيقِ الرِّبْحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي خُلُوصَ الْخَمْسِمِائَةِ الْمَقْبُوضَةِ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ اشْتِغَالُهُمَا بِقِسْمَةِ الرِّبْحِ يَكُونُ إقْرَارًا بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ فَهُوَ فِي إنْكَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ، إذْ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ تَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَبَيْنَ التُّجَّارِ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْمُحَاسِبَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعُرْفِ لَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا، ثُمَّ الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْخَمْسِمِائَةِ رِبْحًا، وَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكْفِي، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ دَفْعَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تَنْفِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ الْخَمْسَمِائَةِ رِبْحًا بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً وَهَلَكَتْ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَخَذَهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ، فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى أَنَّهَا لَهُ فَصَارَ ضَامِنًا لَهَا.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَذَكَرَ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ قَدْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفًا وَجَاءَ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ جَحَدَ فَقَالَ: لَمْ أَرْبَحْ فِيهَا إلَّا خَمْسَمِائَةٍ فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ فِي يَدِهِ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا قَالَ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي جَحَدَهَا مِنْ الرِّبْحِ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا مِقْدَارَ مَا جَحَدَ مِنْ الْمَالِ كَالْمُودِعِ، وَإِنَّمَا جَحَدَ الْخَمْسَمِائَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ أَمَانَةٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ الْخَمْسِمِائَةِ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَلَوْ كَانَ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ رَبِحَ فِي الْمَالِ شَيْئًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ضَمِنَ الْأَلْفَ الرِّبْحَ كُلَّهَا فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْحَدْهَا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَقَدْ جَحَدَ الْأَلْفَ الَّتِي اعْتَرَفَ أَنَّهَا رِبْحٌ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا مِثْلَهَا يَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَلَوْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفًا وَقَالَ لِرَبِّ الْمَالِ: قَدْ دَفَعْت إلَيْك رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ الرِّبْحُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ أَقْبِضْ مِنْك شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَيَسْتَحْلِفُ الْمُضَارِبَ بِاَللَّهِ مَا اسْتَهْلَكَهَا وَلَا ضَيَّعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ سَلَامَةِ نِصْفِ مَا بَقِيَ لَهُ، وَلَا هُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، بَلْ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ هُوَ وَنَكَلَ الْمُضَارِبُ عَنْ الْيَمِينِ غَرِمَ الْخَمْسَمِائَةِ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ كُلَّهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ تِلْكَ الْأَلْفَ أَوَضَيَّعَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ النِّصْفُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ حِينَ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ اسْتِحْلَافَهُ قَالَ: لَمْ أَدْفَعْهَا إلَيْك وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ مِنِّي، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَيَغْرَمُ نِصْفَهَا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ فِي تِلْكَ الْأَلْفِ حِينَ ادَّعَى مَرَّةً أَنَّهُ دَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْمُودِعَ يَضْمَنُ بِمِثْلِ هَذَا التَّنَاقُضِ فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ حِينَ قَالَ: دَفَعْتُ إلَيْك رَأْسَ مَالِك وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ الرِّبْحُ فِي يَدِي وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ قَبْضَ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ بِبَيِّنَتِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَنْفِي ذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّ الْإِقْرَارَيْنِ أَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ فِي نِصْفِ مَا بَقِيَ بِطَرِيقِ الرِّبْحِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَنْفِي ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَيَّهمَا أَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْإِقْرَارَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّا لَوْ عَايَنَّا الْإِقْرَارَيْنِ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُقِرَّ الْآخَرَ يَصِيرُ بِهِ رَادًّا إقْرَارَ الْأَوَّلِ، وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَعْمُولُ بِهِ آخِرَ الْإِقْرَارَيْنِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ وَرَبِحَ، أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا مُنْذُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، أَوْ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا وَلَمْ يَبِعْهُ حَتَّى زَادَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ السُّدُسَ فَصَارَ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، ثُمَّ رَبِحَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ رِبْحًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا فَعَلَا وَيَقْتَسِمَانِ عَلَى ذَلِكَ مَا حَصَلَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ أَوْ الْحَطِّ، وَمَا حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ وَالزِّيَادَةَ قَدْ نَقَضَا الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ، وَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِالْأَصْلِ فَفِيمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ أَوْلَى، وَإِذَا الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا شَرَطَا فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ رَبِحَ رِبْحًا فَاقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ قَبْلَ الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ، ثُمَّ وَقْع الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: إنَّكَ قَدْ غَبَنْتَنِي فَزَادَهُ سُدُسَ الرِّبْحِ، أَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: قَدْ غَبَنْتنِي فَنَقَصَ الْمُضَارِبُ مِنْ حَقِّهِ سُدُسَ الرِّبْحِ فَهَذَا جَائِزٌ لَازِمٌ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَيَجُوزُ الْحَطُّ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، وَقِسْمَةِ الرِّبْحِ وَصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْعَقْدِ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ يَأْخُذُهُ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَقَدْ انْقَضَى عَمَلُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِقِسْمَةِ الرِّبْحِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبَدَلِ، وَتَجُوزُ فِي الْحَطِّ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَيَجُوزُ الْحَطُّ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْقِسْمَةُ تُنْهِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُنْتَهَى مَا يَكُونُ مُتَقَرِّرًا فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ دُونَ الْمَفْسُوخِ، فَيَجُوزُ الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ جَمِيعًا، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزِيدُ مِنْ وَجْهٍ، وَيَحُطُّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَزِيدُ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ، وَذَلِكَ حَطٌّ مِنْ نَصِيبِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ يَزِيدُ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ حَطٌّ مِنْهُ لِنَصِيبِهِ، فَإِذَا جَازَ مِنْ الْمُضَارِبِ هَذَا بِطَرِيقِ الْحَطِّ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَالْمُضَارِبُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْفَضْلِ فَبِعِتْقِهِ الْعَبْدَ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ، عَتَقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ، وَاَلَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْبَابِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ جَمِيعَ الْمَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ الْآخَرِ، فَهُنَا يُعْتَبَرُ الْعَبْدُ كَأَنَّهُ جَمِيعُ الْمَالِ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَلَوْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسُ الْمَالِ، خَالِصُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ سِوَى الْعَبْدِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ كُلُّهُ بِإِتْلَافِ رَبِّ الْمَالِ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَى بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الْأَلْفِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ جَازَ عِتْقُهُ وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ بِعِتْقِهِ فَتَبْقَى الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحًا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَيَقْسِمَانِهَا نِصْفَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَعْتَقَهُ الْمُضَارِبُ جَازَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْعَبْدِ فَإِنَّ نِصْفَهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِعْتَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ صَحِيحٌ فِي حِصَّتِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِيهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ، وَعِنْدَهُمَا قَدْ عَتَقَ كُلُّهُ وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَتَاقِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ جَازَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ، وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُضَمَّنُ الْمُضَارِبَ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَنِصْفِ الرِّبْحِ وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَيَرْجِعُ الْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى الْعَبْدِ بِجَمِيعِ مَا ضَمِنَ وَهُوَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَيَرْجِعُ الْمُضَارِبُ أَيْضًا عَلَى الْعَبْدِ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَسْتَسْعِيهِ فِيهَا وَذَلِكَ تَمَامُ مَا كَانَ وَجَبَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا نَفَذَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْعَبْدِ، فَالْعَبْدُ كَأَنَّهُ جَمِيعُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَفَّذَ عِتْقُهُ فِي رُبْعِهِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْخَمْسَمِائَةِ الْأُخْرَى مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، وَظَهَرَ أَنَّ الرِّبْحَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، فَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ، وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَقَدْ أَتْلَفَ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا ضَمِنَ لِرَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا ضَمِنَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ السَّاكِتِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ إذَا ضَمِنَ؛ وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ نَصِيبَهُ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ لِإِتْمَامِ الْعِتْقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُعْتَقُ الْعَبْدُ كُلُّهُ وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا، فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- نَافِذٌ فِي رُبْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَجْرِي فِي الرَّقِيقِ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فَيُسْتَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ عَلَى حِدَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ عَلَى الرَّقِيقِ عِنْدَ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُعَادِلَةِ إذَا رَأَى الْقَاضِي النَّظَرَ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ عَدَمِ هَذَا الشَّرْطِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ عَلَى حِدَةٍ، لَا فَضْلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَزُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: الْعَبْدَانِ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْفَضْلِ فِيهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ، وَهُوَ الرُّبْعُ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ كَانَ ضَامِنًا حِصَّةَ الْمُضَارِبِ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِذَا ظَهَرَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عِنْدَ إعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ نَصِيبُهُ فِي تَنْفِيذِ الْعِتْقِ كَانَ أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّ بِإِعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُمَا يَصِلُ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ؛ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ، فَأَمَّا بِإِعْتَاقِ الْمُضَارِبِ إيَّاهُمَا لَا يَصِلُ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ، وَلَا فَضْلَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ هُنَا حَقًّا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لَا قَبْلَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْبَاقِي كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْعِتْقُ بَاطِلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ نَصِيبَهُ الْآنَ حِينَ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِيهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِمَا، وَمَنْ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ، ثُمَّ مَلَكَ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ مَعًا عَتَقَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَهُ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولًا بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَيَضْمَنُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ كُلَّهُ بِإِعْتَاقِ الْمَالِكِ إيَّاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ السِّعَايَةَ، وَرَبُّ الْمَالِ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ بِالْعِتْقِ؛ فَيَضْمَنُ لَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ عَتَقَ الْأَوَّلُ كُلُّهُ، وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَيُعْتَقُ مِنْ الثَّانِي نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ كَمَالُ رَأْسِ مَالِهِ وَبَقِيَ الْعَبْدُ الْآخَرُ رِبْحًا، وَالرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ بِإِعْتَاقِ الثَّانِي، أَعْتَقَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَحُكْمُ هَذَا فِي الْخِيَارِ، وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَالتَّضْمِينِ مَعْرُوفٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِهَا عَبْدَيْنِ يُسَاوِي أَحَدُهُمَا أَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ أَلْفًا فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ مَعًا، أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَعِتْقُهُ فِي دَيْنٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَمْلِكُ هُوَ شَيْئًا مِنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَالْمُضَارِبُ مَالِكٌ لِرُبْعِهِ حِينَ أَعْتَقَهُ فَيُعْتِقُ مِنْهُ رُبْعَهُ، ثُمَّ بَاعَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يُحَصَّلُ مِنْ شِرَاءِ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ عِتْقَهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فِي مُعْتَق الْعَبْدِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ كُلَّهُ رِبْحٌ، وَأَنَّ نَصِيبَ الْمَالِ مِنْهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَسْتَسْعِيهِ أَيْضًا فِي خَمْسِمِائَةٍ تَمَامُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعْتَقَ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْهُ إلَّا الرُّبْعَ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ مِلْكٌ فِي رُبْعٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ فِيهِ؛ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيهِ فِي هَذَا الرُّبْعِ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ.
وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُمَا الْمُضَارِبُ، وَأَعْتَقَهُمَا رَبُّ الْمَالِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْعَبْدُ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ جُزْءٍ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ جُزْءٌ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا نَفَذَ فِيهِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فِيهِمَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكًا جَمِيعَ الْعَبْدِ الْأَوْكَسِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْأَرْفَعِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَأَمَّا الرُّبْعُ الْبَاقِي فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُوسِرًا فَالْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ ذَلِكَ الرُّبْعَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ رَبُّ الْمَالِ وَيَرْجِعُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا: فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَضَمَّنَ الْمُضَارِبُ أَيْضًا رَبَّ الْمَالِ تَمَامَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ مُتْلِفًا مِقْدَارَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ: أَلْفٌ مِنْ ذَلِكَ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ، وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، إمَّا بِالتَّضْمِينِ أَوْ بِالِاسْتِسْعَاءِ فَيُسَلِّمُ مِثْلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ بَقِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِمَا أَنْفَقَهُ: فَنِصْفُهَا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ؛ فَلِهَذَا غَرِمَ لَهُ خَمْسَمِائَةٍ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ زَادَ بِهِ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ عِتْقِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ فِيهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَكُلُّ مَا كَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ظَاهِرًا لِلْمُضَارِبِ وَقْتَ إعْتَاقِ رَبِّ الْمَالِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بِالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءُ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ رَبُّ الْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالْإِتْلَافِ فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَعْتَقَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ أَوَّلًا عَتَقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِوُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْآخَرَ كُلَّهُ رِبْحٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهِ فَالْحُكْمُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يُعْتِقُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوَّلًا عَتَقَ الْأَوَّلُ كُلُّهُ وَصَارَ رَبُّ الْمَالِ مُسْتَرِدًّا جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْآخَرَ كُلَّهُ رِبْحٌ، وَأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُ رَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهِ وَلِلْمُضَارِبِ الْخِيَارُ فِي نَصِيبِهِ، كَمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفٍ عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ مَعًا، أَوْ أَحَدَهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، ثُمَّ فَقَأَ رَبُّ الْمَالِ عَيْنَ أَحَدِهِمَا، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَصَارَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ، أَوْ قَطْعِ الْيَدِ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْأَجْنَبِيُّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ الَّذِي كَانَ مِنْ الْمُضَارِبِ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْمِلْكَ فَلَا يَنْفُذُ، وَإِنْ ظَهَرَ الْمِلْكُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُمَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَمَّا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْآخَرُ فَيُعْتَقُ مِنْهُ رُبْعُهُ نِصْفُ الْفَضْلِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ إنْ كَانَ مُوسِرًا لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي جَازَ عِتْقُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ رِبْحٌ وَأَنَّ نِصْفَهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُوسِرًا ضَمَانَ الْعِتْقِ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِلْكُهُ فِي نِصْفِهِ إلَّا أَنْ أَعْتَقَهُ حِينَ عَتَقَ، مَا نَفَذَ إلَّا فِي رُبْعِهِ فَيَسْتَسْعِيهِ فِي قِيمَةِ رُبْعِهِ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ فِيهِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَلَا فَضْلَ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ بِانْفِرَادِهِ فَدَعْوَتُهُ حَصَلَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِعُقْرِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا لَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا، فَقَدْ أُبْهِمَ الْجَوَابُ هُنَا وَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ، فَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَقَ شِرَاؤُهُ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِلْمُضَارَبَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَا لَمْ يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ عُقْرَهَا، فَإِنْ اسْتَوْفَى عُقْرَهَا وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَإِنَّمَا يَبْقَى مِنْ رَأْسِ مَالِهِ تِسْعُمِائَةٍ، وَفِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَتَصِحُّ دَعْوَاهُ، ثُمَّ يَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ تِسْعَمِائَةٍ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِمَّا بَقِيَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَمَدُ الصُّنْعُ، فَإِذَا غَرِمَ لَهُ تِسْعَمِائَةٍ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ تَمَامُ رَأْسِ مَالِهِ، وَصَارَتْ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ قِيمَتِهَا رِبْحًا بَيْنَهُمَا فَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَهُوَ رِبْحٌ كُلُّهُ، وَيُعْتَقُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ وَيُسْتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُعْتِقِ لَهُ، وَضَمَانُ الْإِعْتَاقِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالصُّنْعِ، وَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ هُنَا حُكْمًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُبَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ عُقْرَهَا حَتَّى زَادَتْ الْجَارِيَةُ فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي قِيمَتِهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمُضَارِبُ حِصَّتَهُ مِنْهَا، وَهُوَ الرُّبْعُ فَتَصِيرُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَاهُ نَسَبَ الْوَلَدَ، قَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيلَادِ إذَا حَصَلَ قَبْلَ الْمِلْكِ يُوقَفُ عَلَى ظُهُورِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ، وَبَعْدَ الْمِلْكِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لَهُ، ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّحَرِّي فِي الْمَحِلِّ فَصَارَ هُوَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، أَلْفٌ رَأْسُ مَالِهِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَهُوَ رَقِيقٌ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ، أَوْ يَأْخُذْ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ابْنَ الْمُضَارِبِ، وَيُعْتَقُ مِنْهُ رُبْعُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَمَلَكَ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِيهِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ مَتَى سَبَقَ الْمِلْكَ لَمْ يَنْفُذْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ بَعْدَهُ.
وَدَعْوَى النَّسَبِ إذَا سَبَقَتْ الْمِلْكَ نَفَذَ لِحُدُوثِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ بَعْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِحَالٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ، ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ حُكْمًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَتِهِ، وَضَمَانُ الْعِتْقِ يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ، وَحِينَ وَجَدَ مِنْهُ الصُّنْعَ وَهُوَ الدَّعْوَى لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ الْقَرَابَةُ وَالْمِلْكُ فَإِنَّ مَا يُضَافُ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ حُكْمًا بِغَيْرِ صُنْعِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ بَعْضُ قَرِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَهُوَ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ بَعْضَ أُمِّ وَلَدِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، فَإِنْ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَارَ مَا بَقِيَ مِنْ الِابْنِ وَمَا بَقِيَ عَلَى الْمُضَارِبِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ وَعُقْرِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ رِبْحًا كُلَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْعُقْرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ضَمَّنَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ الْأَلْفَ كُلَّهَا، وَالْمِائَةَ الدِّرْهَمَ، فَإِذَا أَخَذَهَا كَانَ لِلْمُضَارِبِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْوَلَدِ فَيُعْتَقُ مِنْ الْوَلَدِ قَدْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةٍ، وَيَبْقَى تِسْعُمِائَةٍ فَهُوَ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ فَيُعْتَقُ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ، وَيُسْتَسْعَى الْوَلَدُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي حِصَّتِهِ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَلِرَبِّ الْمَالِ مِنْ وَلَاءِ الْوَلَدِ عُشْرُهُ وَرُبْعُ عُشْرِهِ وَإِلَّا وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَهَذَا اللَّفْظُ سَهْوٌ فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ وَلَاءِ الْوَلَدِ خُمُسَهُ وَرُبُعَ عُشْرِهِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ أَلْفَانِ، وَاَلَّذِي عَتَقَ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ قَدْرُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ خُمُسُ الْأَلْفَيْنِ، وَالْخَمْسُونَ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنَّ الْعُشْرَ مِائَتَانِ فَعَلِمْنَا أَنَّ لَهُ مِنْ الْوَلَاءِ خُمُسَهُ وَرُبْعَ عُشْرِهِ، وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْأَلْفِ الَّذِي اسْتَوْفَاهَا رَبُّ الْمَالِ، كُلُّهُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَلَا يَكُونُ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ يَضْمَنُ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَاسْتَسْعَى الْوَلَدَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي آخَرِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ خَرَّجَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: تِلْكَ صَحِيحَةٌ وَهِيَ تَنْقُضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ مَشَايِخُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- مَا ذَكَرَهُ عِيسَى هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِهِ هُنَا لِزِيَادَةِ الْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ.
فَأَمَّا لَوْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْقِيَاسِ لَمْ يُعْتَقْ الْوَلَدُ مَجَّانًا إلَّا بِصِفَةٍ، وَإِذَا صِرْنَا إلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُعْتَقُ مِنْ الْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَرُبْعُ عُشْرِهِ مَجَّانًا، وَمَبْنَى الْعَقْدِ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ، فَيَتَرَجَّحُ الطَّرِيقُ الَّذِي فِيهَا تَكْثِيرُ الْعِتْقِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ تِلْكَ بَيَّنَّاهُ آخِرَ الْبَابِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْجَارِيَةَ فِي رَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفِ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ رَأْسُ مَالِهِ وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْ الْوَلَدِ وَهُوَ الرُّبْعُ عَتَقَ بِالدَّعْوَى فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ لِتَتْمِيمِ الْعِتْقِ صَحِيحٌ، فَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَلَا تُعْتَقُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَلَاءِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُضَارِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ عُقْرِهَا كُلِّهِ رِبْحٌ فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا سَعَى فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِوَضَ مَا سَعَى فِيهِ قَدْ حَصَلَ لَهُ وَهُوَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ رَقَبَتِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ حِينَ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِالْأَلْفِ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَلَمْ يَدَّعِهِ، وَلَكِنَّهُ ادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ ابْنُهُ، وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا مِنْ عُقْرٍ وَلَا قِيمَةِ جَارِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْمَال، إذْ لَا فَضْلَ فِيهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَاسْتِيلَادُهُ حَصَلَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَرَدَّهَا بِالْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ عُقْرُهَا وَقَدْ عَلِقَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ قِبَلَهُ مِنْ قِيمَتِهَا، وَلَا مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعَلُوقِ وَإِنَّمَا عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقِيمَتِهِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ.
وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ غَرِمَ رُبْعَ قِيمَتِهَا، وَثَمَنُ عُقْرِهَا لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا كَانَ الرُّبْعُ مِنْهَا لِلْمُضَارِبِ فَيَغْرَمُ لَهُ رُبْعَ قِيمَتِهَا، وَقَدْ لَزِمَهُ رُبْعُ عُقْرِهَا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُضَارِبِ لَكِنَّ هَذَا الرُّبْعَ مِنْ الْعُقْرِ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَغْرَمُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ وَهُوَ ثَمَنُ عُقْرِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَإِنَّ أَصْلَ الْعَلُوقِ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَتَسْتَنِدُ دَعْوَاهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَا وَلَدَتْهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْوَلَدُ وَلَدُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِرُبْعِهَا حِينَ اسْتَوْلَدَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ بِالدَّعْوَى، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ عَبْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ ابْنًا مَعْرُوفًا لَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهُ وَيَغْرَمُ لِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَصَارَ بِهِ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا؛ فَلِهَذَا يَغْرَمُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَيَغْرَمُ لَهُ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الْعُقْرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ كُلُّهُ فَيُقَسِّطُ نِصْفَ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ عُقْرِهَا فَإِذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ رِبْحًا كُلُّهُ فَيُعْتَقُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ وَهُوَ النِّصْفُ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ حُكْمًا بِحُدُوثِ مِلْكِهِ فِيهِ.
وَلَا يُقَالُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ كَمَا فِي جَانِبِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ صَارَ نَاقِضًا لِلْمُضَارَبَةِ بِاسْتِرْدَادِ رَأْسِ الْمَالِ عَنْهُ عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا وَإِنَّمَا يُعْتَقُ إذَا سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ فَغَرَّمَهُ رَبُّ الْمَالِ الْمُقِرَّ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَخَذَهَا صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِي قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا تِسْعُمِائَةٍ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَخَمْسُونَ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي هِيَ رِبْحٌ فِي الْجَارِيَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا رَبُّ الْمَالِ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كُلَّهُ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا عِيسَى- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَابِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَبَبُ عِتْقِ الْوَلَدِ: اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ، فَلِهَذَا لَا يُجْمَعُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ كُلِّهِ وَهُنَاكَ لَا صُنْعَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِتْقِ فِي الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ ظُهُورُ الْفَضْلِ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَلِهَذَا يُجْمَعُ جَمِيعُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِوُصُولِهِ إلَى جَمِيعِ نَصِيبِهِ بِالتَّضْمِينِ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ لِتَغْلِيبِ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَقْوَى هُنَاكَ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ نِصْفُ عُشْرِ الْوَلَدِ، فَالرِّبْحُ مِنْ الْجَارِيَةِ قَدْرُ الْمِائَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَزْدَادُ الْعِتْقُ لِلْوَلَدِ إلَّا بِقَدْرِ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْجَمْعِ هُنَا.
وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُعْسِرًا وَقَدْ أَدَّى الْعُقْرَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا: تِسْعُمِائَةٍ بَقِيَّةُ رَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِسْعَاءِ الْجَارِيَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فَلَا يَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ فِي دَيْنِ مَوْلَاهَا، وَلَكِنْ يَسْتَسْعِيَ الْوَلَدَ فِي ذَلِكَ لِيُعْتَقَ، ثُمَّ الْمِائَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهُ رِبْحٌ فَيَسْعَى لِرَبِّ الْمَالِ فِي نِصْفِهَا، وَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ الْوَلَدِ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَنِصْفُ عُشْرِهِ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-؛ لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ رِبْحًا كُلَّهَا، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْهَا بِالِاسْتِيلَادِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-): رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ، ثُمَّ اشْتَرَى بِبَعْضِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ الْمُتَوَفَّى؛ لِأَنَّ فِي الْحَالِ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَالْقِصَاصُ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ الْمُضَارِب، وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمُضَارِبُ شَرِيكٌ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ ظَهَرَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ الْمُضَارِبُ شَرِيكًا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَمِعَا فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ كَمَالُ رَأْسِ مَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا قُتِلَ عَمْدًا، وَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ لَهُمَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مَعَ حَقِّ الرَّاهِنِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ مَعَ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ هُنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ لَا يُعَدُّ وَهْمًا، وَلَيْسَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَا يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ حُكْمِ الشَّرْعِ، بَلْ مَالِيَّةُ الرَّهْنِ تَصِيرُ تَاوِيَةً بِهِ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ بِتَرَاضِيهِمَا وَهُنَا فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ سَلَامَةُ شَيْءٍ لِلْمُضَارِبِ قَبْلَ وُصُولِ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الرَّاهِنُ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقٌّ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَهُنَا الْمَالِكُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْحَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ الْمُضَارِبُ شَرِيكٌ فِي الْمَآلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُكَاتَبِ إذَا قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَحِقِّ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قُتِلَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا شَرِكَةَ لِلْغَيْرِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَالْمَالِ إذْ لَا فَضْلَ فِي الْمَالِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ صَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالٍ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّصَرُّفُ بَيْعًا وَلَا شِرَاءً؛ فَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ، وَمَا بَقِيَ بِمَنْزِلَةِ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلًا لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْقَوَدُ بِالصُّلْحِ مَالًا، وَالْمَالُ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ الْقَوَدِ، وَحُكْمُ الْعِوَضِ حُكْمُ الْمُعَوَّضِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمُضَارِبِ فِي الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ.
فَأَمَّا هُنَا الْعِوَضُ مَالٌ فَيَظْهَرُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِيهِ إذَا وَصَلَ رَبَّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُوصِي لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ؛ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُوصِي لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَى طَلَبِهِ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ هُنَا لِلشَّرِكَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُضَارِبِ فِي الْعَبْدِ حِينَ قُتِلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَصْلًا.
وَمَتَى تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ يَجِبُ بَدَلُ الْمَقْتُولِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَبَدَلُ الْمَقْتُولِ قِيمَتُهُ هُنَا فَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُهُ لِكَوْنِهِ عَمْدًا كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَشْتَرِي بِهَا، وَيَبِيعُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ الْعَبْدَ غَاصِبٌ وَتَلِفَ فِي يَدِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا عَمْدًا فَادَّعَى ذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ، وَالْمُضَارِبُ حَاضِرٌ وَرَبُّ الْمَالِ غَائِبٌ لَمْ يُقْضَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِصَاصِ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ غَائِبٌ مَا لَمْ يُقْضَ بِالْقِصَاصِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْيَدَ لِلْمُضَارِبِ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَنَزَلَ هُوَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، وَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْمَالِكِ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقَوَدِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ دَمِهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ حَالَ غَيْبَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْآبِقِ، فَحَالُ غَيْبَةِ الْمُضَارِبِ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ حَضَرَا أَوْ لَمْ يَحْضُرَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَهُمَا حَاضِرَانِ يُكَذِّبَانِهِ فِيهِ، وَلِلْمَقْتُولِ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْآخَرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ دَمُهُ، وَهُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَبَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ الْمُسْتَحَقُّ لِلْآخَرِ هُوَ الْمَالُ، وَإِقْرَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ عَلَى مَوْلَاهُ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ فَالْمُضَارِبُ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِاعْتِبَارٍ لَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى الْمَرْهُونِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ فَقِيلَ لَهُ ادْفَعْ نِصْفَ حِصَّتِك إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ حِصَّتَهُ مِنْ الْفَضْلِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَكَذَلِكَ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَإِذَا احْتَالَ أَحَدُهُمَا بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ صَارَ مُمَلِّكُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ، وَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ؛ بَطَلَ فِي كُلِّهِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ قَدْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ نِصْفَ حِصَّتِهِ الَّذِي بَقِيَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي دَفْعِهِ إلَّا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَنْكَرَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ، وَأَقَرَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَقَلُّ قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ: ادْفَعْ نِصْفَهُ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ صَحِيحٌ، فَإِنْ دَفَعَهُ؛ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِيهِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ صَارَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا نِصْفَهُ بِالدَّفْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ طَرَحَ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرَ قِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ، وَرَأْسُ مَالِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ نِصْفَ حِصَّتِك أَوْ افْدِهِ وَيُسَلِّمُ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ حِصَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ أَرْبَاعًا، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَمْلُوكٌ لِرَبِّ الْمَالِ، فَالدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ تَمْلِيكٌ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَالتَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَكَإِبْطَالِ الْمِلْكِ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى هَذَا الْفِدَاءِ فَهُوَ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَاضِرًا قِيلَ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْعَبْدِ حِينَ جَنَى، وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ أَخَذَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْعَبْدَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، فَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ كَالتَّاوِي حِينَ أَبَى الْمُضَارِبُ أَنْ يَفْدِيَهُ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهُ فَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَنَا أَفْدِيهِ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَهُ فَأَرْبَحَ فِيهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً، وَبِاعْتِبَارِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِدَامَةِ يَدِهِ بِأَدَاءِ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالْفِدَاءِ شَيْئًا مِنْ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِدَاءِ إبْطَالُ الْيَدِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ، بَلْ فِيهِ تَقْرِيرُ يَدِهِ بَعْدَ مَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْفَوَاتِ، وَفِي الدَّفْعِ تَفْوِيتُ يَدِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ إذَا حَضَرَ، فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ خِيَارَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ وَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُ الْفِدَاءِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مِنْ الْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ أَحَبَّ.
وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَهُ حَتَّى يَحْضُرَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا رُبْعُهُ لِلْمُضَارِبِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ لَا يَنْفَرِدُ بِدَفْعِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، وَأَيُّهُمَا فَدَاهُ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ هُوَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْفِدَاءِ، وَلَا مُضْطَرٍّ إلَى ذَلِكَ لِإِحْيَاءِ مِلْكِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَإِنْ حَضَرَا وَاخْتَارَا الدَّفْعَ دَفَعَاهُ وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِيهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ بَيْعُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لَهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ، وَالْمُضَارِبُ قَدْ رَضِيَ بِفَوَاتِ يَدِهِ وَحَقِّهِ فِيهِ حِينَ أَبَى الْفِدَاءَ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الْفِدَاءَ، وَاخْتَارَ الْمُضَارِبُ الدَّفْعَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَلَهُ مَا اخْتَارَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ دَفْعٍ أَوْ فِدَاءٍ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَخَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنْ دَفَعَ نَصِيبَهُ وَفَدَى الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ، فَقَدْ تَمَيَّزَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ دَفَعَ نَصِيبَهُ وَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ؛ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ فَلِهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ قِسْمَةً بَيْنَهُمَا وَإِبْطَالًا لِلْمُضَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّ بِالتَّخْيِيرِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِهِ حُكْمٌ، لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-): وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُزَوِّجُ الْأَمَةَ، وَلَا يُزَوِّجُ الْعَبْدَ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَاسِقَاطَ نَفَقَتِهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا، وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ إضْرَارٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُضَارِبَ فَوَّضَ إلَيْهِ التِّجَارَةَ فِي هَذَا الْمَالِ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّ التُّجَّارَ مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ نَعْرِفْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبُلْدَانِ سُوقًا مُعَدًّا لِلتَّزْوِيجِ، وَفِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةِ الْمُضَارِبِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُكَاتِبُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَدَّى الْكِتَابَةَ فَهُوَ عَبْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَمَا أَدَّاهُ فَهُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ عِنْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْكَسْبُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، فَإِذَا كَانَ الْمُكْتَسِبُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَكَذَلِكَ كَسْبُهُ، وَإِذَا كَانَ كَاتَبَهُ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَكِتَابَتُهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَخْرُجُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ فَيُؤَدِّي إلَى سَلَامَةِ شَيْءٍ لِلْمُضَارِبِ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ، إلَى رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ هَذَا عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَهُنَا لِلْمَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ الْكِتَابَةَ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهَا حَتَّى أَدَّى الْبَدَلَ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ، فَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ مِنْهُ يَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ إيَّاهُ، وَإِعْتَاقُ الْمُضَارِبِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ حِصَّةُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ الرُّبْعُ يُسَلَّمُ لَهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَسْبُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارِبِ يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ اقْتَسَمَاهُ عَلَى الشَّرْطِ فِي الرِّبْحِ، ثُمَّ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُضَارِبَ إنْ كَانَ مُوسِرًا نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ بَقِيَ الْعَبْدُ كُلُّهُ رِبْحًا، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ عَتَقَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْهُ بِإِعْتَاقِهِ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَيَكُونُ لِلثَّالِثِ ثَلَاثُ خِيَارَاتٍ كَمَا هُوَ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَلَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إعْتَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرَّقَبَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِعِوَضٍ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّتِهِ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِعِوَضٍ، وَشَرْطُ الْعِتْقِ قَبُولُ الْعَبْدِ جَمِيعَ الْعِوَضِ، وَقَدْ وَجَدَ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحِصَّةَ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ مُوسِرًا بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالْإِعْتَاقِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا عَبْدًا فَرَهَنَهُ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ، كَانَ فِي الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَالرَّهْنُ نَقِيضُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَرْهَنُ بِهِ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَفِيهِ فَضْلٌ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ فَضْلٌ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيفَاءَ دَيْنِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَالْمُضَارِبُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ وَلَوْ لَمْ يَرْهَنْهُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ اسْتَهْلَكَ مَالًا لِرَجُلٍ أَوْ قَتَلَ دَابَّةً فَبَاعَهُ الْمُضَارِبُ فِي ذَلِكَ دُونَ حُضُورِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ بِدَيْنِهِمْ أَوْ قَضَى الدَّيْنَ عَنْهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلُصُ الْمَالِيَّةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِكَاكِ الرَّهْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَتِهِ فِي بِنَى آدَمَ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ تَسْتَنِدُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.
وَلَوْ أَذِنَ الْمُضَارِبُ لِهَذَا الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ.
اعْمَلْ بِرَأْيِك جَازَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ مِنْ التِّجَارَةِ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ مَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مُطْلَقًا، فَإِنْ اشْتَرَى الْعَبْدُ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِ فَجَنَى عَبْدُهُ جِنَايَةً لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَهُ، وَلَا يَفْدِيَهُ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَجَنَى جِنَايَةً، فَإِنَّ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَدْفَعَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَبْدُ اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِمُوجَبِ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ يُخَاطَبُ بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ.
وَأَمَّا عَبْدُ الْمُضَارَبَةِ فَاسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِمُوجَبِ جِنَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فِي الدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ قَبْلَ حُضُورِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ مِنْ جِهَةِ الْمُضَارِبِ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًّا فِي التِّجَارَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِبُ لَا يَنْفَرِدُ بِدَفْعِ عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْجِنَايَةِ وَلَا بِالْفِدَاءِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ رَبُّ الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ هَذَا الْمَأْذُونِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَحْسَنُ هَذَا، فَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْتَسِبُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ؛ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ وَجَبَ الْأَجْرُ، حَصَلَ الرِّبْحُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ فَكَانَ أَنْفَعُ الْوُجُوهِ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُجْعَلَ الْمُتَصَرِّفُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ التَّابِعِ فِي النَّظَرِ لِأَجْلِ نَصِيبِ نَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَغْرَمُ الصَّبِيُّ لَهُ شَيْئًا إنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصَّغِيرِ فِي هَذَا أَبْيَنُ فَإِنَّهُ أَشْفَقُ عَلَى مَالِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا فَوْقَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْأَجْنَبِيِّ.
وَلَوْ أَخَذَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ مَالَ رَجُلٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الْأَبُ لِلِابْنِ فَعَمِلَ بِهِ الْأَبُ فَرَبِحَ فَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْأَبِ نِصْفَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ يُسْتَوْجَبُ بِالْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْأَبِ فَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الرِّبْحِ يَكُونُ لَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمَنَافِعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الِابْنِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الِابْنِ لَغْوًا إذَا كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْأَبِ.
وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ فَأَخَذَهُ الْأَبُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الْغُلَامَ وَيَبِيعَ، وَالرِّبْحُ نِصْفَانِ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالِابْنِ نِصْفَانِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالْأَبُ نَائِبٌ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَهُ الْمُضَارَبَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَمُبَاشَرَةُ الْأَبِ لَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ بَالِغًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَمِلَ بِهِ الْأَبُ لِلِابْنِ بِأَمْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْأَبِ فِي إقَامَةِ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعَمَلِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ اسْتَعَانَ بِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ عَمَلُ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعَانَ فِيهِ نَائِبَهُ وَإِنْ كَانَ الِابْنُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعَمَلِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ لَا بِتَصَرُّفِ أَبِيهِ فَيَكُونُ الْأَبُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، بِخِلَافِ مَالِ الصَّبِيِّ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ شَرْعًا لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الصَّبِيِّ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَالرِّبْحُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَالْوَصِيُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلصَّغِيرِ فِي مَالِهِ.
وَإِذَا دَفَعَ الْمُكَاتَبُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ، أَوْ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْعَبْدِ، وَإِنْ دَفَعَهُ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي التِّجَارَةِ فَعَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمَالِ، فَإِذْنُ الصَّبِيِّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَدَفْعُهُ الْمَالَ إلَيْهِ بِدُونِ رَأْيِ الْوَلِيِّ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ غَاصِبًا ضَمِنَ الْمَالَ وَمَلَكَ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ، وَالرِّبْحُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.