فصل: بابُ مُضَارَبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ مُضَارَبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، أَوْ هُوَ تَوْكِيلٌ مِنْ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَلِيَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِلنَّصْرَانِيِّ بِوَكَالَتِهِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُوَكَّلَ النَّصْرَانِيُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلتَّصَرُّفِ هُنَا النَّصْرَانِيُّ، وَهُوَ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَهْتَدِي إلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ، وَلَا يَتَحَرَّزُ عَنْهَا اعْتِقَادًا.
وَكَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ صِحَّتُهَا فِي الْقَضَاءِ.
وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَاله إلَى مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْمَالِ دُونَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الرِّبَا وَالتَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ، فَكَانَ دَفْعُهُ إلَيْهِمَا مُضَارَبَةً كَالدَّفْعِ إلَى الْمُسْلِمَيْنِ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُضَارِبِ وَلَا لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُقَبِّلَهَا، وَلَا يَلْمِسَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ فَهِيَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ، لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لِلْمُضَارِبِ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلَكِنْ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا حَقُّ نِسْبَةِ الْمِلْكِ، حَتَّى إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهَا مِنْهُ وَلَا نَهْيَ الْمُضَارِبِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَكَانَ الْمُضَارِبُ مَمْنُوعًا عَنْ التَّصَرُّفِ، وَاَلَّتِي يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فِيهَا وَالْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ لِقِيَامِ حَقِّ الْمُضَارِبِ فِيهَا، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الصَّغِيرَةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا رَبُّ الْمَالِ، وَلَا يَعْرِضَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا.
وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ.
وَحَقُّ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِيَّةِ وَحِلُّ الْوَطْءِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ دُونَ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ بِكَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَبِبَعْضِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ وَلَوْ زَوَّجَهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ؛ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، وَمِلْكُ جُزْءٍ مِنْهَا كَمِلْكِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ فِي الْمَنْع مِنْ النِّكَاح ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بَقِيَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ جَازَ النِّكَاحُ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَوِلَايَةِ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ أَعْتَقَهَا رَبُّ الْمَالِ، أَوْ دَبَّرَهَا نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَتَنْفِيذُ الْمَوْلَى فِيهَا تَصَرُّفًا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، بَلْ يَكُونُ إخْرَاجًا لَهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَأْذُونِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ النِّكَاحُ، وَخَرَجَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ التِّجَارَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَأْذُونُ بَيْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالٍ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ شِرَاءً مُسْتَقِلًّا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ بِرِبْحٍ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ فَإِنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بَاطِلٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهِيَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَأَحَدٌ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُضَادُّ الْأَحْكَامَ.
وَإِنْ كَانَ حِينَ اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ أَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَمَا اشْتَرَى فَهُوَ لَهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِرَبِّ الْمَالِ مَا نَقَدَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَالْجَارِيَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا لِلْمُضَارَبَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ فِي مُوَافَقَتِهِ أَمْرَ الْآمِرِ كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، إذَا اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ؛ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمْرِ الْآمِرِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْمَالِ إلَّا لِلْمُضَارَبَةِ، وَيَصِيرُ رَبُّ الْمَالِ بِهَذَا الْإِذْنِ كَالْمُقْرِضِ لِلْمَالِ مِنْهُ إنْ اشْتَرَى بِهِ لِنَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَفِيهَا فَضْلٌ فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ فَبَاعَهَا إيَّاهُ رَبُّ الْمَالِ بِرِبْحٍ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَالُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا شَرِكَةٌ، وَشِرَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ جَائِزٌ فِي نَصِيبِهِ، ثُمَّ قَدْ خَرَجَ الْمَالُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَوَّلَ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ إلَى ثَمَنِهَا، وَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ.
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَرَادَ أَخْذَ الْجَارِيَةِ لِنَفْسِهِ فَبَاعَهَا إيَّاهُ الْمُضَارِبُ بِزِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِرَبِّ الْمَالِ حَقِيقَةً، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهَا حَقٌّ وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ بِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ مَا كَانَ فِيهَا، وَيُدْخِلُ بِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَهُوَ الثَّمَنُ، وَمَبْنَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْفَائِدَةِ، فَمَتَى كَانَ مُفِيدًا كَانَ صَحِيحًا كَالْمَوْلَى إذَا اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ هُنَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمُضَارَبَةِ مَا انْعَدَمَ بِصَيْرُورَةِ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنَّ الْعَيْنِيَّةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْمُضَارَبَةِ، فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَكَوْنِهِ فِي ذِمَّةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَسَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَابْتِدَائِهِ، فَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُلُ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَارْتَدَّ الْمُضَارِبُ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَا ارْتَدَّ، ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَ جَمِيعُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ، أَوْ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَالْعُهْدَةُ فِي جَمِيعِ مَا بَاعَ وَاشْتَرَى عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ نِيطَ بِرِدَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ لَكَانَ قَضَى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ.
فَإِذَا نُحِّيَتْ الْعُهْدَةُ عَنْهُ بِأَنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَعَلَّقَ بِمَا انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا تَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ، أَوْ بِالْبَيْعِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَحَالُهُ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَحَالِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ، أَوَكَانَتْ مُرْتَدَّةً حِينَ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهَا ثُمَّ فَعَلَتْ ذَلِكَ؛ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَتْ لِنَفْسِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُوقَفُ نَفْسُهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُوقَفُ مَالُهَا أَوْ تَصَرُّفُهَا أَيْضًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَرْتَدَّ الْمُضَارِبُ وَارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ أَوْ كَانَ مُرْتَدًّا، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ فَرَبِحَ، أَوْ وَضَعَ، ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَيُضَمِّنُهُ رَأْسَ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- هُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ حِينَ ارْتَدَّ فَقَدْ تَوَقَّفَتْ نَفْسُهُ، وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَتَمَلَّكُ الْمُضَارِبُ التَّصَرُّفَ لَهُ، وَلَكِنْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ مَا نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: تَصَرُّفُهُ نَافِذٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَلَكِنَّ الْإِشْكَالَ فِي تَنْفِيذِ بَيْعِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ رَبِّ الْمَالِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا كَمَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ بَيْعِهِ لِذَلِكَ ثُمَّ شِرَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا جَازَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَعُدْ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَضَاءُ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ، فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، وَلَا بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الِالْتِحَاقِ وَالْقَضَاءِ بِهِ فَالْوَكِيلُ إنَّمَا يَنْعَزِلُ بِخُرُوجِ مَحِلِّ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ إلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ بَعْدَ مَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْمُضَارَبَةِ لِمَكَانِ حَقِّ الْمُضَارِبِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً وَهَذَا الْفَرْقُ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ عَوْدِ رَبِّ الْمَالِ، فَأَمَّا فِيمَا كَانَ أَنْشَأَ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مَا نَفَذَ عَلَى الْمُضَارِبِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ غَابَ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَأَسْلَمَ؛ فَيَنْفُذُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ امْرَأَةٌ مُرْتَدَّةٌ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ إنْ أَسْلَمَتْ، أَوْ لَمْ تُسْلِمْ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ لَهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَقْضِ فِي مَاله بِشَيْءٍ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا، وَقَدْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، أَوْ بَاعَ وَرَبُّ الْمَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاشْتَرَى بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَاعَ، ثُمَّ رَجَعَ بِالْمَالِ مُسْلِمًا فَإِنَّ لَهُ جَمِيعَ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِالْمَالِ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ تَمَّ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ أَدْخَلَ مَالَ الْمُسْلِمِ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا الِاسْتِيلَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْلِيًا مُخَالِفًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلتَّقَوُّمِ فِي هَذَا الْمَالِ كَانَ هُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ مُرْتَدًّا ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ الْمَالَ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهَا، ثُمَّ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا، ثُمَّ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْعَرْضَ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ حَقِيقَةً كَانَ لِلْمُضَارِبِ بَيْعُ الْعُرُوضِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا اعْتِبَارًا لِلْمَوْتِ الْحُكْمِيِّ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَيْنَ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا بَدَا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ.
وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَأَوْدَعَهُ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ دَخَلَ إلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ فَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْتَحَقَ بِحَرْبِيٍّ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِنَا قَطُّ، وَذَلِكَ يُنَافِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ عِصْمَةُ النِّكَاحِ مُنْقَطِعٌ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَانْقِطَاعُ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا السَّبَبِ أَوْلَى، فَإِذَا بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ كَانَ هُوَ فِي التَّصَرُّفِ غَاصِبًا ضَامِنًا لِرَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ.
وَلَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ دَخَلَ بِالْمَالِ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ هُنَاكَ فَهُوَ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْمَالِ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَتَمَّ إحْرَازُهُ لَهَا فَيَكُونُ مُتَمَلِّكًا مُتَصَرِّفًا فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ هُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ فَيَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ هُنَاكَ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَأَجْعَلُ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا، إنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَرَجَعَ الْمُضَارِبُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهَدًا، أَوْ بِأَمَانٍ وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمُضَارَبَةِ قَدْ تَحَقَّقَ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَعْدِ تَحَقُّقِ الْمُنَافِي لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى مَالِهِ فِيمَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا فِيهِ أَمْرَهُ، وَإِذَا انْعَدَمَ الِاسْتِيلَاءُ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ بَعَثَ بِمَالِهِ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لَهُ جَازَ، وَتَكُونُ الْوَدِيعَةُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَرَبِحَ فِيهِ وَاشْتَرَى عَرَضًا- فِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ- قَالَ رَبُّ الْمَالِ: يَسْتَوْفِي مِنْ الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ حِصَّةُ الْحَرْبِيِّ، وَالْحَرْبِيُّ صَارَ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَهُوَ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُسْلِمٌ، مَالُهُ مَصُونٌ عَنْ الِاغْتِنَامِ كَنَفْسِهِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَالِ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا حُرْمَةَ لِيَدِهِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي مُسْلِمٍ أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، وَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ سَوَاءٌ، فَلَا يَكُونُ فَيْئًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدُ الْمُودِعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ لَا تَكُونُ دَافِعَةً لِلِاغْتِنَامِ، فَكَذَلِكَ يَدُهُ عَلَى الْوَدِيعَةِ.
وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيَّانِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَخَلَ أَحَدُهُمَا دَارَ الْحَرْبِ لَمْ تُنْتَقَضْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاَلَّذِي بَقِيَ مِنْهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأَنَّ زَوْجَتَهُ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا تَبِينُ مِنْهُ، فَانْتِقَاضُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ الرَّاجِعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ حُكْمًا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا.
وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ دَفَعَ إلَى مُسْلِمٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ تَنْتَقِضْ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا حَتَّى لَا تَبِينَ زَوْجَتُهُ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هَذَا السَّفَرُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَلَوْ دَفَعَ أَحَدُ الْحَرْبِيَّيْنِ إلَى صَاحِبِهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُمَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالذِّمِّيَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ حِينَ دَخَلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ، فَمَا يَفْسُدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْسُدُ بَيْنَهُمْ، إلَّا التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَى حَرْبِيٍّ مَالًا مُضَارَبَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْحَرْبِيُّ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا حَتَّى إذَا لَمْ يَرْبَحْ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَهِيَ كُلُّهَا لِمَنْ شَرَطَ لَهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَحَالُهُمَا فِي ذَلِكَ كَحَالِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا.
وَإِنْ كَانَ رِبْحٌ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لَهُ الْمِائَةَ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إنْ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ حَقِّهِ قَدْ انْعَدَمَ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُ فِي مَحِلٍّ آخَرَ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ.
وَإِذَا دَفَعَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ قَدْ أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّبَا أَيْضًا، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فِي حُكْمِ الرِّبَا كَالْحَرْبِيِّ، وَعِنْدَهُمَا كَالتَّاجِرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الصَّرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.