فصل: كتاب المعاقل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب المعاقل:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءُ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ: الْأَصْلُ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: قُومُوا فَدُوهُ، قَالَ أَخُوهَا عَمْرُو بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ: أَنَدِي مَنْ لَا عَقَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ؟ أَوْ قَالَ: دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ فَقَالَ: إنَّ لَهَا بَيْتًا هُمْ سُرَاةُ الْحَيِّ وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنِّي فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا قُمْ فَدِهِ» وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَعُذْرُهُ لَا يُعْدِمُ حُرْمَةَ نَفْسِ الْمَقْتُولِ وَلَكِنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ وَاسْتِئْصَالٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ لِلْعُذْرِ فَضَمَّ الشَّرْعُ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ آلَةُ التَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَكُونُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ هَاهُنَا مُغَلَّظَةً لِيَظْهَرَ تَأْثِيرُ مَعْنَى الْعَمْدِ وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ مَنْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ الْقَاتِلِ.
ثُمَّ هَذَا الْفَصْلُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَتَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِقُوَّةٍ يَجِدُهَا الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَإِنَّمَا يَنْصُرُهُ عَاقِلَتُهُ فَضُمُّوا إلَيْهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إعَانَةِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِينَ مَنْ اُبْتُلِيَ لِيُعِينَهُ غَيْرُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّوَادِّ فَهَذَا هُوَ صُورَةُ أُمَّةٍ مُتَنَاصِرَةٍ وَجِبِلَّةُ قَوْمٍ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ- تَعَالَى- الْأُمَّةَ هَذِهِ، ثُمَّ كَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْبَابٌ لِلتَّنَاصُرِ مِنْهَا الْقَرَابَةُ، وَمِنْهَا الْوَلَاءُ، وَمِنْهَا الْحِلْفُ، وَمِنْهَا مُمَاحَلَةُ الْعَدُوِّ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُ كَمَا كَانُوا حُلَفَاءَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُمْ الْحَدِيثَ فَكَانُوا يَضِلُّونَ عَنْ حَلِيفِهِمْ وَعَدِيدِهِمْ وَيَعْقِلُ عَنْهُمْ حَلِيفُهُمْ وَعَدِيدُهُمْ وَمَوْلَاهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ كَمَا يَعْقِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ صَارَ التَّنَاصُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّيوَانِ فَكَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى فَجَعَلَ عُمَرُ الْعَاقِلَةَ أَهْلَ الدِّيوَانِ.
بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَسَّعَ الدِّيوَانَ فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِيهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فَقَالُوا: الْعَقْلُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ.
وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْعَشِيرَةِ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: هَذَا اجْتِمَاعٌ عَلَى وِفَاقِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ عَلَى الْعَشِيرَةِ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَكَانَ قُوَّةُ الْمَرْءِ وَنُصْرَتُهُ يَوْمَئِذٍ بِعَشِيرَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّوَاوِينَ صَارَتْ الْقُوَّةُ وَالنُّصْرَةُ بِالدِّيوَانِ، فَقَدْ كَانَ الْمَرْءُ يُقَاتِلُ قَبِيلَتَهُ عَنْ دِيوَانِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ جَعَلَ بِإِزَاءِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ لِيَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ فَلِهَذَا قَضَوْا بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ.
ثُمَّ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إلْزَامُ الدِّيَةِ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ الْمَالِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِوَصْلَةِ الْقَرَابَةِ دُونَ الدِّيوَانِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَمَا قَالَ وَإِيجَابُهُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ أَوْلَى وَأَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الصِّلَةِ لَهُمْ بِعَيْنِ الْعَطَاءِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِيجَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَوْلَى فِي إيجَابِهِ مِنْ أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ النُّصْرَةُ فَفِي حَقِّ كُلِّ قَاتِلٍ يُعْتَبَرُ مَا بِهِ تَتَحَقَّقُ النُّصْرَةُ، وَتَنَاصُرُ أَهْلِ الدِّيوَانِ يَكُونُ بِالدِّيوَانِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ قَوْمٍ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِلْفِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَتَى عَقَلَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ تَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفُرُوعِ، ثُمَّ الْقَاتِلُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلُ مَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ هَذَا الْجُزْءُ كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَبِالْمَعْنَى الَّذِي نُوجِبُ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ نُصْرَةٍ أَوْ صِلَةٍ نُوجِبُ هَذَا الْجُزْءَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْكُلِّ لَا فِي الْجُزْءِ، ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ كَمَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ وَكَمَا أَنَّهُ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ شَرْعًا فَالْعَاقِلَةُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِفِعْلِهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وَمَنْ لَمْ يَجْنِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ الْجَانِي الْمَعْذُورِ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ فَلَأَنْ نُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَطَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهُمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا يَخْرُجُ الْعَطَاءُ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ يَخْرُجُ لِلْقَاتِلِ.
وَذُكِرَ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: فَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَالنِّصْفُ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فِي سَنَةٍ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ جَمِيعُ الدِّيَةِ مَتَى وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَالْأَبِ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَمْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهُ فِي سَنَةٍ.
وَمَتَى كَانَ الْوَاجِبُ بِالْقَتْلِ ثُلُثَ بَدَلِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ شَرْعًا وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَاتِّبَاعُ الْأَجْزَاءِ بِالْجُمْلَةِ فِي مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ.
وَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ التَّأْجِيلَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ كَالْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ مَعْقُولٌ فَأَمَّا فِي التَّأْجِيلِ فَمَعْنَى نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ فِي الْمَالِيَّةِ أَنْقَصُ مِنْ الْحَالِّ وَبِسَبَبِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلتَّخْفِيفِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَلَوْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً وَفِيهِ إيجَابُ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّا إنَّمَا نُنْكِرُ إيجَابَ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إنَّمَا أَوْجَبْنَاهَا بِالنَّصِّ كَأَصْلِ الْمَالِ بِمُقَابِلَةِ النَّفْسِ أَوْجَبْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ: فِي النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فِي كُلِّ عَامٍ الثُّلُثُ، وَمَا كَانَ مِنْ جِرَاحَاتِ الْخَطَأِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ إذَا بَلَغَتْ الْجِرَاحَةُ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ فَفِي عَامَيْنِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَفِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأَرْشِ مَتَى بَلَغَ نِصْفَ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَوْ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْجَانِي.
وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ.
أَمَّا التَّسْوِيَةُ فَكَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالتَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يُوجَبَ شَيْءٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي ضَمَانِ الْمَالِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي أَرْشِ الْجَنِينِ بِالْإِيجَابِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَأَرْشُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ فَيَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ».
وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى دَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْجَانِي وَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ دُونَ الْقَلِيلِ وَالْفَاضِلُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مُقَدَّرًا وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ.
قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْفَضْلَ فِيمَا يُؤَدِّي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَلَمْ يَجِيئُوا عَلَى وَجْهِ الْعَوْنِ لِصَاحِبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَنُصْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَبِنْيَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ، وَكَذَلِكَ النُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالصِّبْيَانِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ الَّتِي خَلَتْ عَنْ النُّصْرَةِ لَمْ تُوجَبْ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْقَاتِلَةُ أَوْ الصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا لَهُمْ مِنْ فَرْضِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ كَمَا فَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَاءَ فِي الدِّيوَانِ فَكَانَ يُوَصِّلُهُ لَهُنَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ خَطَأً فَلَمْ يُرْفَعْ إلَى الْقَاضِي حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَجَلِ يُبْنَى عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ وَالْمَالُ إنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَالْمَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ وَمِثْلُ النَّفْسِ نَفْسٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَتَحَوُّلِ الْحَقِّ بِقَضَائِهِ إلَى الْمَالِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَغْرُورِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ رَدُّ عَيْنِهِ مُتَعَذِّرًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَكِنْ فِي الْحُكْمِ جَعَلَ الْوَاجِبَ رَدَّ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يُحَوِّلَهُ الْقَاضِي إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَائِهِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَاعْتَبَرَ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِهَذَا، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ يَكُونُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ قَضَى بِذَلِكَ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ فَيَجْعَلُ الثُّلُثَ فِي أَوَّلِ عَطَاءٍ يَخْرُجُ لَهُمْ بَعْدَ قَضَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَقَضَائِهِ وَبَيْنَ خُرُوجِ أَعْطِيَاتِهِمْ إلَّا شَهْرٌ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى تَأَخُّرِ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَمَحَلُّ قَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ الْعَطَاءُ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَطَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ سِنِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالثُّلُثُ الثَّانِي فِي الْعَطَاءِ الْآخَرِ إذَا خَرَجَ إنْ أَبْطَأَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ عَجَّلَ قَبْلَ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّالِثُ، فَإِنْ عَجَّلَ لِلْقَوْمِ الْعَطَاءَ فَخَرَجَتْ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَعْطِيَةٍ مَرَّةً وَهِيَ أَعْطِيَةٌ اسْتَحَقُّوهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدِّيَةِ، فَإِنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْطِيَةِ الثَّلَاثَةِ لِوُصُولِ مَحَلِّ أَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ إلَى يَدِ الْعَاقِلَةِ.
قَالَ: وَلَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يُقْضَى بِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ وَاجِبَةٌ شَرْعًا فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَى مَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى نِصْفِ دِينَارٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَيْهِمْ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَسَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، ثُمَّ هَذِهِ يُؤْمَرُونَ بِأَدَائِهَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَبْلُغُ مِقْدَارُهَا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا تَجِبُ هَذِهِ الصِّلَةُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ الْعَطَاءُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ، فَقَدْ فَسَّرَهَا هُنَا فَقَالَ: حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ يُصِيبُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مَا وَصَفْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ إجْحَافٌ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ كَمَا ضَمَمْنَا الْعَاقِلَةَ إلَى الْقَبَائِلِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَلِأَنَّهُ مَتَى حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُونَ بِأَقْرَبِ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
قَالَ: وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَطَاءَ عِنْدَنَا إلَّا بِآخِرِ السَّنَةِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا خَرَجَ الْعَطَاءُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا يَخْرُجُ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إلَى آخَرِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ الصِّلَاتِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجِزْيَةِ وَفِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يَصِرْ عَطَاؤُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ آخِرِ السَّنَةِ.
فَمَتَى كَانَ يَجِيءُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ الْعَطَاءُ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَحَلًّا لِأَخْذِ الدِّيَةِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ، ثُمَّ قَضَى بِهَا وَلَمْ يُخْرِجْ لِلنَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمْ الْمَاضِيَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْأَعْطِيَةِ بِاعْتِبَارِ مُدَّةٍ مَضَتْ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَمَحَلُّ الْأَدَاءِ الْأَعْطِيَاتُ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْأَعْطِيَاتِ الْمَاضِيَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَيَسْتَقْبِلُ بِصَاحِبِ الدِّيَةِ الْأَعْطِيَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ رِزْقٍ يَأْخُذُونَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَطَاءِ، فَإِنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا كَانَ مَحَلًّا لِقَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلِأَجْلِهِ اجْتَمَعُوا وَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الرِّزْقِ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ رِزْقٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكُلَّمَا خَرَجَ رِزْقٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمِقْدَارُ نِصْفِ سُدُسِ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ، وَإِنْ خَرَجَ الرِّزْقُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَخَرَجَ لَهُمْ رِزْقُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَخَذَ مِنْهُمْ سُدُسَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَلَهُمْ أَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ إنَّمَا كَانَتْ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَهُمْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ يُؤَدِّي إلَى إضْرَارٍ بِهِمْ وَبِعِيَالَاتِهِمْ فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَادَةً فَأَمَّا الْأَعْطِيَاتُ فَلَيْسَتْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ لِتَأَلُّفِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ فِي الدِّيوَانِ يَقُومُونَ بِالنُّصْرَةِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ فَلِهَذَا قُلْنَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِفَرْضِ الدِّيَةِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ دُونَ الْأَرْزَاقِ وَمَنْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الثُّمُنِ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ فُرِضَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ يَوْمَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَاهُنَا وَالْأَدَاءَ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ الْأَدَاءِ مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ.
وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إلَى الْقَاضِي سِنِينَ، ثُمَّ ارْتَفَعُوا قَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا»، وَهَذَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّسَبُّبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَفِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِيهَا أَوَّلًا.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ خَاصَمَهُ إلَى قَاضِي بَلَدِ كَذَا فَقَامَتْ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَصَدَّقَهُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبَعْدَ تَقَرُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ أَصْلًا فَيَقْضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَتَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حِصَّةِ عَوَاقِلِهِمْ يُقِرُّ عَلَيْهِمْ فَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدَ الْعَوَاقِلِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ بِزَعْمِهِ إلَى عَاقِلَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِذَا تَوِيَ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِجُحُودِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْكُلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا إذَا تَوِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قُلْنَا: هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَصْلُهُ دَيْنًا لِدَفْعِ التَّوَى عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ وَالْعَمْدُ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ يَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَلِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ.
وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ مِنْهُ بِالْكُلِّ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ لِأَهْلِ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ كَانَ تَنَاصُرُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى وَأَهْلُ مِصْرٍ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ سُوقِهِمْ وَقُرَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَأَهْلُ مِصْرٍ يَعْقِلُونَ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ وَالنُّصْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهَا بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَنْصَرَ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقُرْبَ فِي السُّكْنَى لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دِيوَانُ أَحَدِهِمَا بِالْكُوفَةِ وَدِيوَانُ الْآخَرِ بِالْبَصْرَةِ لَمْ يَعْقِلْ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلُ دِيوَانِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ مُخْتَلِفِينَ فِي أَنْسَابِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ وَلَاءٌ، وَمِنْهُمْ الْقُرْبَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ جَنَى بَعْضُهُمْ جِنَايَةً عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ رَايَتِهِ وَأَهْلُ فِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِأَهْلِ رَايَتِهِ أَظْهَرُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ لَا يَرْجِعُ فِي اسْتِنْصَارِهِ إلَى عَشِيرَتِهِ عَادَةً وَلِأَنَّ عَطَاءَ أَهْلِ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَهْلِ رَايَتِهِ قَلِيلًا ضَمَّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ رَأَى مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يَجْعَلَهُمْ عَاقِلَةً وَاحِدَةً لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ أَهْلِ رَايَتِهِ، وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ فِي مَعْنَى النُّصْرَةِ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَجُعِلَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ لِهَذَا.
وَمَنْ لَا دِيوَانَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَنَحْوِهِمْ تَعَاقَلُوا عَلَى الْأَنْسَابِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ الْبَادِيَتَانِ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْأَنْسَابِ وَلِأَنَّ حَالَهُمْ فِي مَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ قَضَى بِالْعَقْلِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ عَوَاقِلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعَطَاءِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِمْ لَا أَهْلُ إخْوَةِ الْبَادِيَةِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَقَوُّونَ بِأَهْلِ الْعَطَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْعَطَاءِ عَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَقَوُّونَ بِهِمْ وَلَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَهْلَ الْعَطَاءِ.
وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِي عَطَاءٍ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَلَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمِصْرِ عَطَاءٌ دُون مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ فَلِهَذَا كَانُوا عَاقِلَةً لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَازِلًا وَأَصْحَابُ الْأَرْزَاقِ الَّذِينَ لَا أَعْطِيَاتِ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْأَرْزَاقِ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي حَقِّهِمْ.
وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَعْنَى التَّنَاصُرُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْلُ يُوجَدُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ إذَا وُجِدَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً وَهُمَا أَجْنَبِيَّانِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنُصْرَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُ مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَلَا كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ؛ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَقَالَ {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حِين كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَلَمْ يَقْضِ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ حَتَّى جَعَلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ الْجِنَايَةُ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَبَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى مَا قَرَّرَنَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ وَبَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّمَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَهْلُ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَعَطَاؤُهُ مِنْ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ عَطَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يَعْقِلُوا مَعَهُمْ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَلَا يُشْبِهُ قِلَّةَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ تَحَوُّلُ الرَّجُلِ بِعَطَائِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يُضَافُونَ إلَيْهِمْ عَاقِلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ عَاقِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَتْبَاعِ لَهُمْ فَلَا تَتَبَدَّلُ الْعَاقِلَةُ بِاعْتِبَارِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّمَّ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَفِي حُكْمِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ فَقَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى تَحَوَّلَ عَنْ الْكُوفَةِ وَاسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ إذَا كَانَ يَسْكُنُ مِصْرًا فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ ذَلِكَ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَطَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إذَا الْتَحَقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَجْنِهَا الْعَاقِلَةُ، وَإِنَّمَا جَنَاهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قُلْنَا تَتَحَوَّلُ بِتَحْوِيلِهِ إلَى دِيوَانٍ آخَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَكَانَ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ حَالًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَفِي اعْتِبَارِ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تُوجِبُ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ أَوْ الثُّلُثَيْنِ أَوْ لَمْ يُؤَدُّوا أَشْيَاءَ حَتَّى جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَيْسَ فِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ الْعَطَاءِ يُعْتَبَرُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْقَضَاءِ وَالْأَخْذُ مِنْ الْعَطَاءِ بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ أَقْرَبُ مِنْ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّتِهِمْ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ- يَقْضِي عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ بِمَا كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْبَادِيَةِ حَتَّى إنْ كَانَ قَضَى بِالْإِبِلِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ آخَرَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ بِهِ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا قَتَلَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ رَجُلًا خَطَأً فَعَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ قَضَى الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنْ بَقِيَ أَصْلُ النَّسَبِ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ، وَإِذَا ادَّعَاهُ هُوَ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا، وَإِنْ كَذَبَتْهُ الْأُمُّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ لَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَقَلَ جِنَايَةً كَانَتْ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَعَاقِلَةُ الْأُمِّ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا بَلْ أُجْبِرُوا عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ وَيَصِيرُ حَالُهُمْ مَعَ عَاقِلَةِ الْأُمِّ كَحَالِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ التَّأْجِيلُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ التَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ دَعْوَى الْأَبِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأَخُّرِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ وَوَفَاءٌ فَلَمْ يُؤَدِّ الْكِتَابَةَ حَتَّى جَنَى ابْنَهُ وَابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَوْلَاةٍ لِبَنِي تَمِيمٍ وَالْمُكَاتَبُ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَعَقَلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ، ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ، فَإِنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ يَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ حِين جَنَى، وَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوَالِي أَبِيهِ وَمَوَالِي أُمِّهِ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِالْمُؤَدَّى عَلَى مَوَالِي الْأَبِ.
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الصَّبِيَّ فِي أَمْرٍ لَحِقَهُ فِيهِ تَبَعَةٌ فَيَثْبُتُ لِعَاقِلَتِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَدُّوا عَلَى الْآمِرِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْآمِرُ يُثْبِتُ الْأَمْرَ بِالْبَيِّنَةِ فَرُجُوعُهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُبَاشَرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانُوا اجْتَمَعُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ وَلِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ مِنْ الصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِلْمَوْلَى عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِسَبَبِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآمِرِ وَالصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ مِثْلَ ذَلِكَ فَكُلَّمَا أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مِنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ شَيْئًا أَخَذَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ مِنْ عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لِدَفْعِ الْغُرْمِ عَنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْغُرْمُ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِقَدْرِ مَا أَدُّوا بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ.
وَلَوْ أَنَّ ابْنَ الْمُلَاعَنَةِ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَقَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَحَضَرُوا جَمِيعًا، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ بِالثُّلُثِ الَّذِي أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ وَيَبْدَأُ بِهِمْ فِي سَنَةِ مُسْتَقْبِلَةً قَبْلَ أَهْلِ الْجِنَايَةِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ وَيَقْضِي بِالثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي السَّنَتَيْنِ بَعْدَ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مَا أُخِذَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَكَانَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ حَقًّا يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْقَضَاءِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ أَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ لَا عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ، ثُمَّ الْقَضَاءُ بِالرُّجُوعِ لَهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بَلْ يَسْتَوْفِي مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأَبِ.
بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْآمِرِ مَعَ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ الْآمِرِ وَهُنَا السَّبَبُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَعَاقِلَةِ الْأَبِ قَدْ ظَهَرَ بِدَعْوَى السَّبَبِ فَلِهَذَا قَضَى بِالْبَاقِي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّوْا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَحَقُّهُمْ مُقَدَّمٌ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِمَا اسْتَوْفَاهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا شَيْئًا أَدَّى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِهِمْ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ حِينَ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّةُ ابْنِهِ إلَى حَيَاةِ أَبِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً وَمَوْلَاهُ لِبَنِي تَمِيمٍ تَحْتَ عَبْدٍ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَعَاقِلَةُ الِابْنِ عَاقِلَةُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ فَيَتْبَعُ الْوَلَدُ فِيهِ أُمَّهُ إذَا انْعَدَمَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَمَا فِي النَّسَبِ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ حَتَّى عَتَقَ الْأَبُ، فَإِنَّ الْقَاضِي يُحَوِّلُ وَلَاءَهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا فِي النَّسَبِ، ثُمَّ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ الَّتِي قَدْ جَنَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا يُحَوِّلُهَا عَنْهُمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ عِتْقِ أَبِيهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ أَبِيهِ، وَمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ إنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَبُوهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ فَهُوَ الْخَصْمُ بِالْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ يُبْنَى عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَابْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ حَدَثَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ أَنَّهُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي أُمِّهِ وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ الْمَيِّتَ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْأَدَاءِ بَلْ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَهَا هُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ إنَّمَا يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَتْ عَاقِلَتُهُ فِي الْوَقْتِ قَوْمَ أُمِّهِ.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مُسْلِمَةً مَوْلَاةً لِبَنِي تَمِيمٍ جَنَتْ جِنَايَةً أَوْ حَفَرَتْ بِئْرًا فَلَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارٍ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ فَمَاتَ قَضَى بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ لَهَا وَلَاءٌ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ الْحَفْرِ فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْوَلَاءِ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَّلَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْحَالَةِ الْأُولَى يَعْنِي أَنَّ حَالَهَا تَبَدَّلَ بِالسَّبْيِ وَالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي حُكْمِ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِيَةِ وَعَاقِلَةُ الْجَانِيَةِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَمَّا هَمْدَانُ فَعَاقِلَةُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَ حَالُهَا حِينَ صَارَتْ فِي حُكْمِ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً عَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الَّذِي وَالَاهُ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فِي حُكْمِ عَقْلِ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفِعْلِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى أُسِرَ أَبُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَعْتَقَهُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَ لِأَبِيهِ وَلَاءُ عِتْقٍ لَا يَبْقَى وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي حَقِّهِ بَلْ يُلْغَى حُكْمًا وَتَأَكُّدُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الثَّابِتِ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الَّذِي كَانَ وَالَاهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي الْأَبِ بِشَيْءٍ فَلَا تَزُولُ تِلْكَ الْجِنَايَةُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ إعْتَاقُ الْأَبِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ أَبُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي وَالَاهُ دُونَ عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَالْخُصُومَةُ فِي سَبَبِهِ مَعَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ.
ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا حَتَّى قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى وَالَى رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْجِنَايَتَيْنِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيُجْعَلُ وِلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَبْطُلُ مُوَالَاتُهُ مَعَ الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا جَنَى جِنَايَةً تُعْقَلُ وَجَبَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَتَأَكَّدَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَلَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ أَحَدٍ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى بِسَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا فَلَمْ تَقَعْ الرَّمْيَةُ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَتْ فَقَتَلَتْ رَجُلًا كَانَتْ مُوَالَاتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ جَانٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْي حَتَّى لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِذَا كَانَ بِالرَّمْيِ جَانِيًا وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ تَأَكَّدَ بِهِ الْوَلَاءُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا أَحَدٌ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ، فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَوَلَاءُ الَّذِي وَالَاهُ صَحِيحٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى قَبْلَهُ مِنْ الرَّمْيَةِ وَالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَفْرِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ يَجِبُ بِهَا أَرْشٌ حَتَّى يَعْطَبَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ وَالرَّمْيَةُ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْهُ، فَإِنَّمَا وَالَاهُ وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ وَبَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الرَّامِيَ مُبَاشِرٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَاشَرَةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِالرَّمْيِ مُلْتَزَمٌ الْقَوَدَ إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْكَفَّارَةَ إذَا كَانَ خَطَأً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَانٍ حِينَ رَمَى وَأَمَّا الْحَافِرُ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ وَلَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ، ثُمَّ دِيَةُ هَذَا الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ عَلَى مَنْ وَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْوُقُوعِ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ، وَمَنْ وَالَاهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ مُوجِبَ أَفْعَالِهِ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ وَلَاؤُهُ وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ الْوَلَاءِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ قُلْنَا: إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُوَالِي رَجُلًا، ثُمَّ يَجْنِي أَوْ يَرْمِي أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِوَلَائِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى تَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ مَوْلَى لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِإِنْسَانٍ بِعَقْدِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْبِئْرِ أَحَدٌ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى رَجُلٍ فَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْآخَرِ عَلِمَ بِالْحَفْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ أَوْ لَا يَقَعُ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَعَ الثَّانِي صَحِيحًا وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فَبَعْدَ مَا عَقَلُوا إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ هَذَا كُلُّهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، ثُمَّ اشْتَغَلَ فِي الْكِتَابِ بِالْكَلَامِ مَعَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ لَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلَاءُ الْمُنْتَقِلُ بِعِتْقِ الْأَبِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِلْعَاقِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَكُونُ إحْدَاهُمَا عَاقِلَةً، ثُمَّ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَاقِلَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قُلْت: إذَا تَحَوَّلَ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ: إذَا انْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ صَارَتْ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ الْحَالَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَنَظِيرُهُ مَا بَيَّنَّا فِي الْمَرْأَةِ الْجَانِيَةِ إذَا ارْتَدَّتْ فَسُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ وَصَاحِبُ الْعَاقِلَتَيْنِ لَمْ يَتَحَوَّلْ حَالُهُ بَلْ حَالُهُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ عَاقِلَتُهُ بِتَحَوُّلِهِ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ عَاقِلَتَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ وَاسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ النَّفْسُ، فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ الْقَضَاءِ الْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَقَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ أَوْ عَلَى مِائَتِي بَعِيرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَرُدَّ إلَى الدِّيَةِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَالَحَ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَتِي بَعِيرٍ بِأَعْيَانِهَا كَانَ جَائِزًا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَصِيرُ مَا لَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ شَرْعًا مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَبَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ قَدْ وَجَبَتْ الدَّنَانِيرُ، فَإِنَّمَا يَقَعُ الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَوْ الْإِبِلِ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَيْسَا بِأَصْلٍ فِي الدِّيَةِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا التَّقْدِيرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عِنْدَهُ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ مِنْهَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْقَاضِي لَوْ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا فِيمَا يَقْضِي بِأَلْفَيْ شَاةٍ وَمِائَتِي بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ؛ لِأَنَّ صُلْحَهُمَا فِي حَقِّهِمَا كَقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي فِي الدِّيَةِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً عِنْدَ الْقَاضِي وَأَقَامَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِدُونِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَلَوْ وَجَبَ الْمَالُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْوَلِيِّ بَعْدَهُ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ: لَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً فَاقْضِ لِي بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ، ثُمَّ وَجَدَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَيِّنَةً فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ بِبَيِّنَتِهِ فَتُحَوَّلُ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: لَا تَعْجَلْ بِالْقَضَاءِ فِي مَالِهِ لَعَلِّي أَجِدُ بَيِّنَةً فَأَخَّرَهُ الْقَاضِي، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً قَضَى لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ نَقَلَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إلَى الْأَمْصَارِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَصَارُوا أَصْحَابَ أَعْطِيَةٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ إنْسَانٌ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَأُورِدَ هَذَا النَّوْعُ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْحَفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْإِمَامُ عَطَاءَهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى أَنْسَابِهِمْ فَتَعَاقَلُوا عَلَيْهَا زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ مَاتَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمُ الَّذِي وَجَبَ الْمَالُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ نَسَبِهِ، وَإِنْ أُثْبِتَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَلَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ عَاقِلَتُهُ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِهِ نَفْسُهُ.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ عَطَاءِ الْكُوفَةِ جَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ جِنَايَةً وَقَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِقَوْمٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِيوَانٌ وَجُعِلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَقَلُوا مَعَهُمْ وَدَخَلُوا فِيمَا قَضَى بِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا أَدَّوْا قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى ضَمَّ الْإِمَامُ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ حَالَ الْجَانِي إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا وَانْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأُولَى كَانَ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ حَقِيقَةٌ مِثْلَ دَعْوَى الْمُلَاعَنَةِ حَوَّلَتْ الْجِنَايَةَ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ حَالَةُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَى الْأُولَى لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي، حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ عَطَاءٍ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدَّنَانِيرِ دُونَ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي مَا لَهُمْ عَطَاءٌ فَيَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، ثُمَّ نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ إلَى الْعَطَاءِ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ أَخَذُوا بِالْإِبِلِ أَوْ بِقِيمَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ دِيَةٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِصَيْرُورَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا لَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ أَهْلَ الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: هُنَاكَ أَبْهَمَ الْجَوَابَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا يُؤْخَذُ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هَاهُنَا فَقَالَ: تُؤْخَذُ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جِنْسًا مِنْهَا بِقَضَائِهِ حَتَّى صَارُوا أَهْلَ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا يُعَيِّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ وَيَأْخُذُهُ مِنْ الْعَطَاءِ وَهَا هُنَا عَيَّنَ الْجِنْسَ عِنْدَ قَضَائِهِ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا أَدَّوْا الْإِبِلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا الْقِيمَةَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ تُؤْخَذُ الْقِيمَةُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ.
وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِشَيْءٍ حَتَّى أَبْرَأَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلْجَانِي أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْ الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ بِإِبْرَائِهِ سَقَطَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ عَلَى الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِتَأَكُّدِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْعَاقِلَةِ بِالْإِبْرَاءِ وَسُقُوطِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ وَمَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْجَانِي فَالْإِبْرَاءُ يَكُونُ إسْقَاطًا عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِبْرَاءُ وَلَا الْقَضَاءُ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الْبَاقِيَةِ، فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ حَتَّى لَوْ كَانَ أَقَرَّ الْجَانِي بِالْجِنَايَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ سَوَاءٌ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِقْرَارِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْوَلَاءُ وَلَمْ يَجْنِ وَلَكِنَّهُ الْتَحَقَ مَعَهُمْ فِي دِيوَانِهِمْ فَجَنَى بَعْضُهُمْ فَعَقَلَ عَنْهُ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَالَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ وَلَائِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْعَقْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ أَيْضًا وَلَوْ أَخَذَ مَعَهُمْ الْعَطَاءَ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ بِأَخْذِ الْعَطَاءِ لَا يَتَأَكَّدُ حُكْمُ الْوَلَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ حَتَّى إنْ عَقَلَ عَقْلَ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.