فصل: كتاب الرهن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الْحَكَمَيْنِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:) الْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وَالصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ وَلِهَذَا بَدَأَ الْبَابَ بِحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُدَارَأَةٌ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَيْهِمَا وَقَالَ لِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَلَا تَبْعَثُ إلَيَّ فَآتِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحُكْمُ فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا وَأَلْقَى لِعُمَرَ وِسَادَةً فَقَالَ: عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ.
وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أَعْفَيْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ يَمِينٌ لَزِمَتْنِي، فَلَأَحْلِفُ فَقَالَ: أُبَيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلْ يُعْفَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُدَارَأَةِ الْخُصُومَةُ وَاللَّجَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ شَرِيكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «لَا يُدَارِي، وَلَا يُمَارِي» أَيْ لَا يُلَاحِي، وَلَا يُخَاصِمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَوَائِدَ الْحَدِيثِ.
وَإِذَا حَكَمَ الْحَكَمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ تَخَاصَمُوا إلَى حَكَمٍ آخَرَ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْأَوَّلِ، ثُمَّ ارْتَفَعَا إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ الْحُكْمَ الَّذِي يُوَافِقُ رَأْيَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُلْزِمٍ شَيْئًا.
وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ حَكَمًا فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَتَجَاحَدَا وَقَالَا لَمْ تَحْكُمْ بَيْنَنَا وَقَالَ الْحَاكِمُ بَلْ حَكَمْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ، وَلَا يُصَدَّقُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَهُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقِيَامِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ.
وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَالْمُطَلِّقُ إذَا أَقَرَّ بِالرَّجْعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا أَقَرَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَبَيْنَهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ حَكَّمَاهُ وَلَمْ يُشْهِدَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا إيَّاهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْحَكَمِ فِيهِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِمَا وِلَايَةَ تَنْفِيذِ الْقَوْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِمَا إذَا كَانَا يَجْحَدَانِهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.كتاب الرهن:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إمْلَاءً): (اعْلَمْ) بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ مَشْرُوعٍ لِلتَّوَثُّقِ فِي جَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ، فَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ مُوجَبُهُ ثُبُوتَ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِلْكُ عَيْنِ الْمُسْتَوْفَى، وَمِلْكُ الْيَدِ، فَمُوجَبُ الْعَقْدِ- الَّذِي هُوَ وَثِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ- بَعْضُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ.
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ): مُوجَبُهُ مَا هُوَ مُوجَبُ سَائِرِ الْوَثَائِقِ كَالْكَفَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَهُوَ أَنْ تَزْدَادَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَيَثْبُتَ بِهِ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهِ، وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَفَالَةُ، وَالْحَوَالَةُ عَقْدُ وَثِيقَةِ مَا لَزِمَهُ، وَالذِّمَّةُ مَحِلٌّ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِهِمَا بَعْضَ مَا ثَبَتَ لِحَقِيقَةِ الْتِزَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ، وَالرَّهْنُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ بَعْضُ مَا ثَبَتَ لِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ إلَّا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ نَصًّا؟ وَكَمْ مِنْ رَهْنٍ يَنْفَكُّ عَنْ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ مَا لَا يَخْلُو الْعَقْدُ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ، ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وَهُوَ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {فَاكْتُبُوهُ}.
وَعَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}، وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ، وَالسُّنَّةُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا لِبَيْتِهِ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ».
وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِوَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ».
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَهَنَ دِرْعَهُ لِيَهُودِيٍّ فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَاءَ الْيَهُودِيُّ فِي أَيَّامِ التَّعْزِيَةِ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ لِيَغِيظَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ».
وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الرَّهْنِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، مَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُعَدًّا لَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِنَّ دِرْعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعَدًّا لِلْجِهَادِ بِهِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشِّيعَةُ: أَنَّ مَا يَكُونُ لِلطَّاعَةِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ حَبْسِهِ عَنْ الطَّاعَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رَهَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ بِهَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بَلْ ذِكْرُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إمْكَانِ التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَالْمُعَامَلَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَالرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ: عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ يَكُونُ مَضْمُونًا ثُمَّ بَيَانُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ سَقَطَ دَيْنُهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِخَمْسَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالرَّاهِنُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَالْمُرْتَهِنُ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ.
وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (رَحِمَهُمْ اللَّهُ) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَعِنْدَنَا هُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ شُرَيْحٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ) هُوَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، فَإِنَّهُ قَالَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِي إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ هَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الرَّهْنِ، إلَى أَنْ أَحْدَثَ الشَّافِعِيُّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَوْلًا رَابِعًا أَنَّهُ أَمَانَةٌ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ، وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ أَيْ: مِنْ ضَمَانِ رَاهِنِهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَيْ: عَلَيْهِ هَلَاكُهُ، فَالْغُرْمُ: عِبَارَةٌ عَنْ الْهَلَاكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا لَمُغْرَمُونَ} أَيْ: هَلَكَتْ عَلَيْنَا أَمْوَالُنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الصَّكِّ وَمَوْتِ الشُّهُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ فَلَوْ قُلْنَا: بِأَنَّهُ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِهَلَاكِهِ كَانَ ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بِهِ يَصِيرُ بِعُرْضَةِ الْهَلَاكِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ- مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ- أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْقَبْضُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ الرَّهْنُ، وَهُوَ الْحَبْسُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الضَّمَانِ بِهَذَا الْقَبْضِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ تَهْلِكُ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِنِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَكَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ وَضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ، وَالدَّيْنِ جَمِيعًا عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَهُ قَبْضَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَاصِبِ، وَعِنْدَكُمْ إذَا اشْتَرَى الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الرَّاهِنِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ لَكَانَ قَبْضُهُ عَنْ الشِّرَاءِ كَقَبْضِ الْغَاصِبِ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَكُمْ كَرَهْنِ الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ الضَّمَانُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَحْبُوسٌ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ حَتَّى إذَا مَاتَ الْآجِرُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا إذَا هَلَكَ، وَكَذَلِكَ زَوَائِدُ الرَّهْنِ عِنْدَكُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ: أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ (رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ يَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ، لَمْ يُسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَطَاءٍ «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ»، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَهَبَ حَقُّكَ فِي الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَقَّ مُنَكَّرًا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ أَعَادَهُ مُعَرَّفًا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُعَرَّفِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُنَكَّرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ ذَهَبَتْ الرِّهَانُ بِمَا فِيهَا» أَيْ: بِمَا فِيهَا مِنْ الدُّيُونِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ، بَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ (رَحِمَهُمُ اللَّهُ) كَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِمَا اتَّفَقُوا: أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُحْبَسُ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ احْتِبَاسًا لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لِلْمُرْتَهِنِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَفَارَقْتُكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا يَعْنِي: احْتَبَسَ قَلْبُ الْمُحِبِّ عِنْدَ الْحَبِيبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ، وَلَا هَلَاكٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرْتَهِنُونَ، وَيَشْتَرِطُونَ عَلَى الرَّاهِنِ إنْ لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ إلَى وَقْتِ كَذَا فَالرَّهْنُ مَمْلُوكٌ لِلْمُرْتَهِنِ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقِيلَ: أَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ إنْ لَمْ يَأْتِ بِالدَّيْنِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَالرَّهْنُ بَيْعٌ لِي فِي الدَّيْنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ» يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْ: هُوَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» يَعْنِي فِي حَالِ إبْقَائِهِ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ لَا يَتَمَلَّكُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ فَزَادَ الثَّمَنُ عَلَى الدَّيْنِ فَالزِّيَادَةُ لَهُ، وَإِنْ اُنْتُقِصَ فَالنُّقْصَانُ عَلَيْهِ، وَبِهِ نَقُولُ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّهْنَ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ الَّذِي يَقْبَلُ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ الدَّيْنُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ، وَلَا بِالْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقِصَاصِ، وَالْحُدُودِ، وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذِهِ الْيَدُ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ تُثْبِتُ الْمِلْكَ، وَالضَّمَانَ فَكَذَا فِيهَا أَيْضًا يَثْبُتُ الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
(رَحِمَهُ اللَّهُ) اسْتِيفَاءُ الْمُسْتَوْفَى يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَوْفِي، وَلَهُ عَلَى الْمُوفِي مِثْلُ ذَلِكَ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ رَهْنًا، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْيَدِ فَإِذَا هَلَكَ وَجَبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِنْ أَوَّلِهَا فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، وَكَانَ الرَّاهِنُ جَعَلَ مِقْدَارَ الدَّيْنِ فِي وِعَاءٍ وَسَلَّمَهُ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَعِنْدَ هَلَاكِهِ فِي يَدِهِ يَتِمُّ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْفَضْلُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَعَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كِيسٍ، وَدَفَعَهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ عَشَرَةَ فَيَكُونَ أَمِينًا فِي الزِّيَادَةِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ تَحْصُلُ مِنْهُ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْعَيْنِ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا، وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَنَا مُسْتَوْفٍ لَا مُسْتَبْدِلٌ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ بِحَبْسِ الْحَقِّ، وَالْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ كَالْكِيسِ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ اتَّضَحَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَتَحَقَّقُ إذَا صَارَ الْمُرْتَهِنُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ قُلْنَا يَتْوَى بَيْنَهُ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَيْسَ مَأْتُوًّا لِلْحَقِّ، ثُمَّ مُوجَبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِصِيَانَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ حَقِّ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَبِهِ لَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ بِالْعَارِيَّةِ مَنْفَعَةُ الْمُسْتَعِيرِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ لَهُ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَوْتَ الشُّهُودِ، وَهَلَاكَ الصَّكِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ إذَا تَمَّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّكِّ وَالشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَاقَى الْعَيْنَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْنَ فِي حُكْمِ الْأَمَانَةِ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَجْلِ الْغَرَرِ، فَالرَّاهِنُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ مِنْهُ حَيْثُ إنَّهُ يَصِيرُ مُوفِيًا ذِمَّتَهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَجَّرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لَيْسَتْ بِيَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَبَضَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ مِنْ الْمَالِيَّةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَهَنَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إذَا هَلَكَ، وَهُوَ رَهْنٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْمَرْهُونَ بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ، وَلَا عَقْدَ هُنَاكَ فَاسِدًا، وَلَا جَائِزًا لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ رَهْنُ الْمُشَاعِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ الرَّهْنِ لَا تَثْبُتُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فَأَمَّا شُرَيْحٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ) فَكَانَ يَقِيسُ الْمَرْهُونَ بِالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَالٌ غَيْرُ مَحْبُوسٍ بِدَيْنٍ، هُوَ مَالٌ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ وَلِأَنَّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ رَدُّهُ لَا إلَى غَايَةٍ، وَلَوْ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ إلَى غَايَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالَبَ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ مَا لَمْ يُحْضِرْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ لَا إلَى غَايَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا حَقَّقْنَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ سُقُوطَ الثَّمَنِ هُنَاكَ بِسَبَبِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَبِهَلَاكِ جَمِيعِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ يَنْفَسِخُ جَمِيعُ الْعَقْدِ، وَهُنَا سُقُوطُ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا بَعْدَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَاسْتِيفَاءُ الْعَشَرَةِ مِنْ خَمْسَةٍ لَا يَتَحَقَّقُ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ قَالَ، وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ عَيْنًا.
وَقَالَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ، وَهُوَ، وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ يَلْزَمُ بِالْقَبُولِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَقَدْ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَيُنْتَقَضُ أَنْ يَكُونَ هَذَا، وَصْفًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ الرَّهْنُ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْصُودُ: إلْجَاءُ الرَّاهِنِ حَيَاتَهُ لِيُسَارِعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِثُبُوتِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا: ثُبُوتُ حَيَاةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ لِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ أَحَقَّ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ: الْقَبْضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ ثَبَتَ بِالتَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، فَكَمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالتَّخْلِيَةِ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِالتَّخْلِيَةِ فَالْقَبْضُ الْمُوجِبُ لِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ أَيْضًا ثَبَتَ بِالتَّخْلِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ، وَمَا لَا يُقْسَمُ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ مَا يُرْهَنُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَيَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمَقْسُومِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَشْرُوعٌ؛ لِصِيَانَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَالْمَشْرُوعُ وَثَائِقُ مِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ جُحُودِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ كَالشُّهُودِ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ سِيَاقِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ التَّوَى بِإِفْلَاسِ مَنْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ، وَمِنْهَا: مَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ إبْرَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ بِمُزَاحَمَةِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ إيَّاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَدْيُونِ، وَذَلِكَ: الرَّهْنُ، فَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْوَثِيقَةِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، فَيَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَقْبَلُ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ الْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامِ هَذَا، وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الْقَبْضِ.
(أَلَا تَرَى): أَنَّ الشَّائِعَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ، وَبَدَلًا عَنْ الصَّرْفِ، وَبِالْإِجْمَاعِ: هِبَةُ الْمُشَاعِ- فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ- تَتِمُّ بِالْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ عِنْدِي: فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزٌ، وَدَوَامُ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَوْ أَعَارَهُ مِنْ الرَّاهِنِ، أَوْ غَصَبَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ يَبْطُلُ بِهِ الرَّهْنُ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى: أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْيَدُ؛ لِأَنَّ بِالْعُقُودِ الْمَشْرُوعَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْيَدُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ لِلتَّصَرُّفِ أَوْ لِلِانْتِفَاعِ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: جَوَازُ رَهْنِ الْعَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَهْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعَيْنِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ حَتَّى إذَا هَلَكَ كَانَ نِصْفُهُ مَضْمُونًا بِدَيْنِ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْعَيْنِ لِاثْنَيْنِ إيجَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ ثُمَّ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ مَعَ اثْنَيْنِ يَجُوزُ فِي نِصْفِهِ مَعَ الْوَاحِدِ كَالْبَيْعِ، وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَالَّةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَهْنَ النِّصْفِ الشَّائِعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: رَهَنْتُكَ هَذَا الْعِيرَ يَوْمًا، وَيَوْمًا لَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ دَوَامُ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ انْفِكَاكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشُّيُوعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمُهَايَأَةِ مَعَ الْمَالِكِ فِي الْإِمْسَاكِ، فَيَنْتَفِعُ الْمَالِكُ بِهِ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَيَحْفَظُهُ الْمُرْتَهِنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: رَهَنْتُكَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي يَوْمِ الرَّاهِنِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الشُّيُوعُ، وَمَتَى اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ مَا يَمْنَعُ مُوجَبَهُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الْيَدِ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَرْهُونًا إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ مَقْبُوضًا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ ضَمَانُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنْ التَّوَى لِجُحُودٍ مِنْهُ عَلَيْهِ فَنُقِلَ الْحُكْمُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالشُّهُودِ إلَى الرَّهْنِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْقُولِ إلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِدَوَامِ الْيَدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ رُبَّمَا يَجْحَدُ الرَّهْنَ، وَالدَّيْنَ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ إلْجَاءُ الرَّاهِنِ لِيُسَارِعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِدَوَامِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ شَيْئًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَوَامُ الْيَدِ مُوجَبَ الْعَقْدِ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَقُولُ: أَنَا أَشْفَقُ عَلَى مُلْكِي مِنْكَ، وَحَقُّكَ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ، وَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْكَ بِيَدِي، وَحَيْثُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهِ عَرَفْنَا أَنَّ دَوَامَ الْيَدِ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَسْنَا نَعْنِي: وُجُودَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ حِينًا، وَإِنَّمَا نَعْنِي: اسْتِحْقَاقَ دَوَامِ الْيَدِ، وَبِالْإِعَادَةِ مِنْ الرَّاهِنِ أَوْ الْغَصْبِ لَا يَنْعَدِمُ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ مِنْهُ الرَّهْنُ، وَفِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ اسْتِحْقَاقُ دَوَامِ الْيَدِ ثَابِتٌ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ حَتَّى إذَا قَضَى جَمِيعَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ لِلْآخَرِ حَبْسُ جَمِيعِ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ جَمِيعُهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ حَبْسُ الْعَيْنِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ ثُمَّ الْيَدُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الرَّاهِنِ هُنَاكَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ إعَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْعَيْنِ إلَى يَدِهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ، وَالْعَقْدُ بِهَذَا يَتِمُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّعَذُّرِ بِإِمْسَاكِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ، وَلِلْمَالِكِ فِيمَا لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ، وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْيَدِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِلْكَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِلْكَ الْيَدِ مَقْصُودَةً، وَذَلِكَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُهُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ كَمَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ بِالْيَدِ يَتَوَصَّلُ إلَى التَّصَرُّفِ، وَالِانْتِفَاعِ كَانَتْ الْيَدُ مَقْصُودَةً بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ، إذْ مُوجَبُ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمِنْهُ جَانِبُ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةٌ لَا تَثْبُتُ إلَّا عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْهُونُ جُزْءًا شَائِعًا لَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ، إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّخَلِّي لِجَمِيعِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ نَقْلِ جَمِيعِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً، وَنِصْفُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُوجَبُ الْعَقْدِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ أَصْلًا كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ؛ لِمَنْعِهِ قَرْضَ الثِّيَابِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَيْنَ- فِيمَا هُوَ مُوجَبُ الرَّهْنِ- غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِلتَّجَزِّي، وَعِنْدَ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نِصْفِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُلِّهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ أَصْلًا لِتَعَذُّرِ أَسْبَابِ مُوجَبِهِ فِي النِّصْفِ كَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ لَمَّا كَانَتْ لَا تُجَزَّأُ، فَإِذَا أُضِيفَ النِّكَاحُ إلَى نِصْفِهَا بَطَلَ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَعِنْدَنَا: يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُنَاكَ، وَهُوَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْمَحِلِّ غَيْرَ مُتَجَزِّئٍ ثُمَّ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِينَ عِنْدَ تَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْهَلَاكِ لِلْمُزَاحَمَةِ، وَبِهِ لَا يَظْهَرُ التَّجَزُّؤُ فِي الْمَحِلِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يَسْتَحِقُّ قِصَاصًا ثُمَّ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاثْنَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا لِلنِّصْفِ عِنْدَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَا يَظْهَرَ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ فِي الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً؟ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَشَرَةٌ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَدْيُونُ كِيسًا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ النِّصْفِ شَائِعًا، وَإِذَا كَانَ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الِاسْتِيفَاءِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ قُلْنَا: مُوجَبُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِلْكُ عَيْنِ الْمُسْتَوْفَى، وَالْيَدُ هِيَ عَلَى الْمِلْكِ، وَالشُّيُوعِ، وَلَا يَمْنَعُ الْمِلْكُ فِيمَا هُوَ الْمُوجَبُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ هُنَاكَ، وَمُوجَبُ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ مُسْتَوْفِيًا فِي حُكْمِ الرَّهْنِ عَمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَعَمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُنَاكَ الْمِلْكُ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ تَمَامِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُرَاعَى وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَحِلٍّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ هُنَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ مَعَ الشَّرِيكِ أَوْ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) فَالشُّيُوعُ هُنَاكَ إنَّمَا يُؤْثَرُ لَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ يَنْعَدِمُ بِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الشَّرِيكِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْكُلِّ، فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ مَا اسْتَأْجَرَ، لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْوِعَاءِ، وَلَا تُمْنَعُ بِهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَرْهُونِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (رَحِمَهُ اللَّهُ): عَلَى الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ فِي الْآلَةِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، وَثُبُوتَ مُوجِبِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ غَيْرُهُ بَيْتًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ بَطَلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي الْبَعْضِ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِهِ فَيَبْقَى صَحِيحًا فِيمَا بَقِيَ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَبِيعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَحَقِّ يَبْطُلُ مِنْهُ الْأَصْلُ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِهِ فَلَوْ صَحَّ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا إثْبَاتَ حُكْمِ الرَّهْنِ فِي النِّصْفِ شَائِعًا، وَالنِّصْفُ الشَّائِعُ لَيْسَ بِمَحِلِّ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهَا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهَا، وَلَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ النِّكَاحَ بَطَلَ النِّكَاحُ فِي الْكُلِّ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَأَمَّا الشُّيُوعُ الطَّارِئُ: بِأَنْ رَهَنَ جَمِيعَ الْعَيْنِ ثُمَّ تَفَاسَخَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ بِمَحِلِّ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً فِي النِّصْفِ وَرَدَّهُ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يُذْكَرْ جَوَابُهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ كَالْمُقَارَنِ فِي أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلرَّهْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَلْبِ الْمَكْسُورِ: إذَا مَلَكَ الْمُرْتَهِنُ الْبَعْضَ بِالضَّمَانِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا بَقِيَ مِنْهُ مَرْهُونًا؛ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الشُّيُوعِ، وَقَالُوا فِي الْعَدْلِ إذَا سُلِّطَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ كَيْفَ شَاءَ فَبَاعَ نِصْفَهُ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ لَا يَكُونُ مَحِلًّا بِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ شَرْطَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ تَمَامُ التَّبْعِيضِ، وَذُكِرَ سَمَاعًا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) رَجَعَ عَنْ هَذِهِ، وَقَالَ: الشُّيُوعُ الطَّارِئُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْمُقَارَنِ، وَقَاسَ ذَلِكَ بِصَيْرُورَةِ الْمَرْهُونِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ، وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ حَتَّى إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونُ إنْسَانًا، وَوُضِعَ الْمَرْهُونُ ثَمَنَهُ تَكُونُ الْقِيمَةُ، وَالثَّمَنُ رَهْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَابْتِدَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ مُضَافًا إلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْجُزْءُ الشَّائِعُ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَةً فِي نَخْلٍ دُونَ النَّخْلِ أَوْ زَرْعًا أَوْ رُطَبًا فِي أَرْضٍ دُونَ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ خَلْفَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ النَّخْلَ، وَالشَّجَرَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الْبِنَاءَ دُونَ الْأَرْضِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِاتِّصَالِ الْمَرْهُونِ بِمَا لَيْسَ مَرْهُونًا إلَّا أَنْ يَقُولَ بِأُصُولِهَا فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ مَوَاضِعُهَا مِنْ الْأَرْضِ فِي الرَّهْنِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، فَيَجُوزُ رَهْنُهُ كَمَا لَوْ رَهَنَ بَيْتًا مُعَيَّنًا مِنْ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّخِيلِ ثَمَرٌ تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَلَا، وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إلَّا بِإِدْخَالِ الثِّمَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَهُنَاكَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فِي النَّخِيلِ بِدُونِ الثِّمَارِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَفِي إدْخَالِهِ هُنَاكَ إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ قِيلَ أَلَيْسَ أَنْ لَوْ رَهَنَ دَارًا هِيَ مَشْغُولَةٌ بِأَمْتِعَةِ الرَّاهِنِ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِإِدْخَالِ الْأَمْتِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ الْأَمْتِعَةُ فِي الرَّهْنِ؟ قُلْنَا لَا اتِّصَالَ لِلْأَمْتِعَةِ بِالدَّارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا لَمْ تَدْخُلْ الْأَمْتِعَةُ بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَهِيَ بِالتَّمْلِيكِ، وَالِاتِّصَالِ هُنَا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّخِيلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ النَّخِيلَ كُلَّهُ قَلِيلًا، وَكَثِيرًا، وَهُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا تَدْخُلُ الثِّمَارُ، وَلَوْ رَهَنَ الْأَرْضَ دُونَ النَّخِيلِ لَمْ يُجِزْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ الْمَرْهُونَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ مَرْهُونًا مَعَ مِلْكِ الرَّاهِنِ فَهُوَ كَالدَّارِ الْمَشْغُولَةِ بِمَتَاعِهِ، وَكَمَا لَوْ رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) إنْ رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْأَشْجَارِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى شَجَرٌ وَاسْمُ الشَّجَرِ يَقَعُ عَلَى الثَّابِتِ عَلَى الْأَرْضِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ الْقَلْعِ يَكُونُ جِذْعًا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَشْجَارَ بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ عَقْدُ الرَّهْنِ سِوَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مَبْنِيًّا دُونَ الْأَرْضِ فَيَصِيرُ رَاهِنًا لِجَمِيعِ الْأَرْضِ، وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَأَعْطَاهُ رَهْنًا بِذَلِكَ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالرَّهْنُ يَخْتَصُّ بِحَقِّ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِجِرَاحَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ أَوْ دَمُ عَمْدٍ، وَلَا يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ، وَالْعَارِيَّةُ، الْوَدِيعَةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّهْنَ بِالْأَعْيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:.
(أَحَدُهَا): الرَّهْنُ بِعَيْنٍ هُوَ أَمَانَةٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ فِي الْعَيْنِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَيْنِ مِنْ عَيْنِ آخَرَ مُمْكِنٌ (وَالثَّانِي): الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا.
(وَالثَّالِثُ) الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ إنْ أَمْكَنَ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الرَّهْنُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ، وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ، فَكَذَا إذَا كَفَلَ بِالدَّرَكِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْعَقْدُ مُضَافًا، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ ضَمَانٌ يُسْتَحَقُّ فَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُوبَ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ ثَوْبًا، وَقَبَضَهُ فَقِيمَتُهُ، وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَلَوْ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَرْهُونِ إذَا أَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الرَّاهِنَ كَانَ غَاصِبًا، وَالْمُرْتَهِنَ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَحَقٌّ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الرَّاهِنُ كَانَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنْ رَهَنَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَفِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلرَّاهِنِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيدَ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ الضَّمَانُ، كَمَا يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْآجِرِ، وَالْمُودِعُ عَلَى الْمُودَعِ، قَالَ: وَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ أَيْضًا عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ حَازِمٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ) هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الرَّاهِنِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ تَبَعٌ لِمَنْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ صَحَّحَ جَوَابَ الْكِتَابِ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ، فَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ الرَّاهِنَ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، فَمِلْكُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ بَعْدَهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَأَبَقَ فَضَمَّنَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتُهُ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، وَبِالدَّيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَالَ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَهَذَا إشَارَةٌ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْمِلْكَ لِلرَّاهِنِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِقِيمَتِهِ مِنْ وَقْتِ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ كَانَ سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِالِاسْتِحْقَاقِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ، وَأَوْلَادُهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهَا- إنْ شَاءَ- الْمُرْتَهِنَ،- وَإِنْ شَاءَ- الرَّاهِنَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يُحْدِثْ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا، وَمَعْنَى هَذِهِ: أَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ غَاصِبًا لَهُ، وَالزَّوَائِدُ لَا تُضَمَّنُ بِالْغَصْبِ إذَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْغَاصِبِ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ فِي الزِّيَادَةِ قَالَ: وَإِذَا ارْتَهَنَ أَمَةً فَوَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِيَبِيعَهَا عِنْدَ حِلِّ الْمَالِ فَوَلَدَتْ الْأَمَةُ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْوَلَدَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إنَّمَا يَبِيعُهَا بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الْوَلَدِ، وَبِهِ جَازَ لِلْوَكِيلِ بَيْعُ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ وَلَدَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ، وَلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَخْصٍ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ شَخْصَيْنِ، وَهُنَا إنَّمَا يَبِيعُ الْعَدْلُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَحُكْمُ الرَّهْنِ ثَبَتَ فِي الْوَلَدِ حَتَّى كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الْوَلَدَ مَعَ الْأَصْلِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ فَلِهَذَا مَلَكَ بَيْعَ الْوَلَدِ مَعَهَا إلَّا أَنَّ الْمَرْهُونَ لَوْ قَتَلَهَا عَبْدُهُ فَدَفَعَ بِهَا كَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْمَدْفُوعَ، وَلَوْ أَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي وُكِّلَ الْوَكِيلُ بِبَيْعِهَا قَتَلَهَا عَبْدُهُ، فَدَفَعَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ، فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ الْبَدَلِ فِي سَرَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الزَّوَائِدَ الْمُتَوَلَّدَةَ مِنْهُ حِينَ الرَّهْنِ تَكُونُ مَرْهُونَةً عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِالدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهَا كَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ، وَالرَّاهِنُ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» فَإِطْلَاقُ إضَافَةِ الْغُنْمِ إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْضُ حَقٍّ لَهُ.
وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ، وَمَحْلُوبٌ»، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَحْلُوبٌ لِلرَّاهِنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُهُ وَيَحْلِبُهُ نَفَقَتُهُ»، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ كَالْكَسْبِ، وَالْغَلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّهْنِ حَقُّ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَأَكَّدٍ فِي الْقِيمَةِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَحَقِّ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ، وَحَقِّ الدَّفْعِ فِي الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ، وَحَقِّ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ بَعْدَ كَمَالِ الْحَوْلِ بِخِلَافِ مِلْكِ الرَّاهِنِ فَهُوَ مُتَأَكَّدٌ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْمَمْلُوكُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ عِنْدَكُمْ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالْكَفَالَةِ، وَهَذَا عَقْدٌ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالْإِجَارَةِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، وَبِتَفْصِيلِ الْوَصِيَّةِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْوَلَدِ فَإِنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ يَسْرِي إلَى الْبَدَلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَحَقُّ الْجَارِيَةِ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُعَاذٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فِيمَنْ ارْتَهَنَ نَخِيلًا فَأَثْمَرَتْ أَنَّ الثِّمَارَ رَهْنٌ مَعَهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) فِي الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إذَا وَلَدَتْ فَوَلَدُهَا رَهْنٌ مَعَهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَأَكَّدٌ فِي الْعَيْنِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَذَلِكَ الرَّاهِنُ، وَبَيَانُ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَنْ تُوصَفَ الْعَيْنُ بِهِ يُقَالُ: مَرْهُونٌ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا يُقَالُ: مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، وَلِهَذَا يَسْرِي إلَى بَدَلِ الْعَيْنِ، وَدَلِيلُ التَّأْكِيدِ أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ إبْطَالُهُ.
(وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ) مَا قَرَّرْنَا أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَدُ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَظْهَرُ فِي مُوجَبِهِ مِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلَّدَ مِنْهُ الْأَصْلُ ثَبَتَ فِيهِ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الزِّيَادَةِ لَا مِلْكَ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِمُلْكٍ آخَرَ، وَإِلَى سَبَبٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْكَسْبِ، وَالْغَلَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَلَّدٍ مِنْهُ الْأَصْلُ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَبِخِلَافِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَلِهَذَا لَا يَسْرِي إلَى بَدَلِ الْعَيْن فَكَذَلِكَ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ.
(تَوْضِيحُهُ): أَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ مَحِلًّا صَالِحًا، وَالْوَلَدُ مُحْدَثٌ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَحِلًّا صَالِحًا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، فَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ فَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيَكُونُ مَحِلًّا صَالِحًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَرَدَ أَنَّ هَذَا مِنْ الْإِجَارَةِ إنْ، وَلَدَتْ الْمَرْهُونَةُ وَلَدًا حُرًّا بِاعْتِبَارِ الْغُرُورِ فَالرَّهْنُ لَا يَسْرِي عَلَى هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْعُذْرُ عَنْ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّ حَقَّ النِّكَاحِ لَا يَسْرِي إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْحِلِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الْعُذْرُ عَنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحِلًّا صَالِحًا لِلْخِدْمَةِ حَتَّى يَنْفَصِلَ، ثُمَّ حَقُّ الْمُوصَى فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مُتَوَلَّدٍ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالسِّرَايَةُ إلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ لَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ، وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَيْسَ بِمُتَأَكَّدٍ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا عَلَيْهِ تَقَرَّرَ بِإِبْطَالِ حَقِّ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، وَحَقُّ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ فَعَلَ أَشْيَاءَ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ مَنْ عَلَيْهِ مِلْكُ الْأَدَاءِ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ فِي الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْكَفَالَةِ عِنْدَنَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ إذَا كُفِلَتْ أُمُّهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ بِمَالٍ ثُمَّ وَلَدَتْ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَالْحَقُّ بِالْكَفَالَةِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهَا، وَالْوَلَدُ لَا يُتَوَلَّدُ مِنْ الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الضَّمَانِ فِي الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الَّذِي يَجْعَلُ الْعَيْنِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَبْضُ مَقْصُودٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ، وَلَدَ الْمُعْتَقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْرِي إلَيْهِ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا إنْ هَلَكَ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، وَذَلِكَ لَا يَبْقَى حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَضَافَ الزِّيَادَةَ إلَيْهِ أَضَافَ الْأَصْلَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ مَحْلُوبٌ لِلرَّاهِنِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِيهِ فَإِنْ بَاعَهَا الْعَدْلُ، وَسَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ، وَلَا يَعْلَمُ مَكَانَهَا، لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَدْلَ قِيمَةَ الْأَمَةِ، وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ غَاصِبٌ، وَالزِّيَادَةُ- فِي عَيْنِ الْمَغْصُوبِ- تُضَمَّنُ بِالْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، كَالْأَصْلِ لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ بِذَلِكَ فِي الثَّمَنِ الَّذِي عِنْدَهُ إنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْعَيْنِ، وَكَمَا أَنَّ الضَّامِنَ لِلْعَيْنِ يَكُونُ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ أَحَقَّ بِبَدَلِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ رَجَعَ بِتَمَامِ مَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ بَاعَهُمَا لِيَقْتَضِيَ الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ، وَيُفْرِغَ ذِمَّةَ الرَّاهِنِ، وَمِنْهُ لَحِقَتْهُ الْعُهْدَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَهُوَ بَدَلُ الْعَيْنِ الَّذِي كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَلَمَّا كَانَ مُرَادُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ كَانَ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ لَهُ، وَالْعَدْلُ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَ الرَّهْنَ بِذَلِكَ، وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ مَا اقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ فَكَانَ الرَّاهِنُ فَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِجَمِيعِ مَا ضَمِنَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَلَّمَ الْمَقْبُوضَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِ الرَّاهِنِ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَا يُضَمِّنُهُ الْمُرْتَهِنَ إلَّا بِقَدْرِ مَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلٌ رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى الرَّاهِنِ كَمَا لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي قَضَى بِالثَّمَنِ.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ عَامِلٌ لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّ فِي عَمَلِهِ مَنْفَعَةً لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بِحَقٍّ إلَّا أَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ؛ لِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لَهُ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينُ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَقْبُوضِ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَأَفْلَسَ أَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الْآخَرَ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبٍ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْهَا الْعَدْلُ، وَمَاتَا عِنْدَهُ كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْعَدْلَ حَقَّ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، وَيَرْجِعُ بِهَا الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي إمْسَاكِ الرَّهْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّهْنَ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ ضَمِنَ حِصَّتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ لَرَجَعَ بِهَا عَلَى الرَّاهِنِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَوْلَى.
قَالَ:، وَقَبْضُ الْعَدْلِ لِلرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ فِي حُكْمِ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَذَهَابِهِ بِالدَّيْنِ إذَا هَلَكَ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ (رَحِمَهُمُ اللَّهُ) وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (رَحِمَهُ اللَّهُ) لَا يَتِمُّ الرَّهْنُ بِقَبْضِ الْعَدْلِ حَتَّى إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ، وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَالْمُرْتَهِنُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ قَالَ: لِأَنَّ الْعَدْلَ نَائِبٌ عَنْ الرَّاهِنِ، هَكَذَا إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةً يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ،، وَكَمَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ بِقَبْضِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ أَشْفَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِقَبْضِ الْعَدْلِ.
وَالدَّلِيلُ: أَنَّ مُوجَبَ عَقْدِ الرَّاهِنِ بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِهَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَى الْعَيْنِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِ الْعَاقِدِ كَالْمُلْكِ فِي الْبَيْعِ، وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ مِلْكَ الْعَدْلِ رَدُّ الرَّهْنِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِ الرَّاهِنِ لَتَمَكَّنَ الرَّاهِنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ مَتَى شَاءَ، وَبِأَنْ كَانَ يَرْجِعُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَ الرَّاهِنِ كَالْمُرْتَهِنِ نَفْسِهِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ كَالْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ الْبَائِعُ إذَا أَبَى تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَوَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ فِيهِ كَيَدِ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى إذَا هَلَكَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ يَدُ الْعَدْلِ كَيَدِ مَنْ لَهُ الْحَبْسُ، وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُرْتَهِنَ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَتْ جَائِزَةً، وَكَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ فِيهِ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنُهُ بِهَلَاكِهِ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْعَدْلِ كَيَدِ الرَّاهِنِ لَمْ يَصِرْ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ كَمَا لَوْ عَادَ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ، وَالْغَصْبِ، وَكَانَ هَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ مِنَّا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَلِكَوْنِهِ أَرْفَقَ بِهِمْ فَالرَّاهِنُ لَا يَأْتَمِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى عَيْنِ مَالِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ طَرِيقُ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَضْعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَبِدُونِ تَسْلِيطٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْتَهِنِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إذَا سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَى ذَلِكَ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَعَلَى مَنْ يَحْلِبُهُ، وَيَرْكَبُهُ نَفَقَتُهُ»، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْفَعَةٌ لِلرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُؤَجَّرِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْآجِرِ، وَكَذَلِكَ كَفَنُهُ إنْ مَاتَ فَإِنَّ الْكَفَنَ لِبَاسُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُعْتَبَرُ بِلِبَاسِهِ فِي حَالٍ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَكَانَ كَفَنُهُ عَلَيْهِ قَالَ، وَإِذَا دَفَعَهُ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيمَا صَنَعَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَعَهُ مِنْهُ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَيَكُونُ الدَّفْعُ خِيَانَةً فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ أَمِينٌ فِي حِفْظِ الرَّهْنِ كَالْمُسْتَوْدِعِ، وَالْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ أَجْنَبِيًّا صَارَ ضَامِنًا، وَإِنْ أَوْدَعَهُ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَدَفَعَهُ إلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ كَانَ ضَامِنًا لِلْعَيْنِ قَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ رَجُلَيْنِ، وَالرَّهْنُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ فَوَضَعَاهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا كَانَ جَائِزًا، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ كَالْمُودِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا مَعَ عَلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِتَرْكِ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ فَكَانَ عِنْدَ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَإِنْ، وَضَعَاهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَمَنْ الَّذِي وَضَعَ حِصَّتَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ؟ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وَعِنْدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْتَمَنٌ فِيهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَوْ سَافَرَ الْعَدْلُ أَوْ انْتَقَلَ مِنْ الْبَلَدِ فَذَهَبَ بِالرَّهْنِ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ وَفِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ بَعُدَتْ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ نَفْسُهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمْنَعُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرَةُ بِسَبَبِ الرَّهْنِ، وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ ضَامِنًا مُخَالِفًا لِمَا أَوْجَبَ لَهُ نَصًّا فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ مَعَهُ فَإِنْ سُلِّطَ الْعَدْلُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ فَرَفَعَهُ الْمُرْتَهِنُ إلَى الْقَاضِي أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لَيْسَتْ مِنْ ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ اللُّزُومِ فِيهِ، وَتَسْلِيطُ الْعَدْلِ عَلَى الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ، وَهُوَ الرَّهْنُ فَإِنَّ مُوجَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُرْتَهِنِ لَازِمٌ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْعَدْلُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ نَصًّا تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ نَفْسَهُ.
وَأَمَّا الْعَدْلُ: إذَا تَضَرَّرَ مِنْ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ مِنْهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ هَذَا إذَا كَانَ التَّسْلِيطُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا يُجْبَرُ الْعَدْلُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ رِضَا الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّهْنِ قَدْ تَمَّ بِدُونِهِ هَذَا، وَهُوَ تَوْكِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ: التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ الرَّهْنِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيَصِيرُ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ عَزْلَ الْعَدْلِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ- بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ- سَلَّطَهُ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَضَى، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ بِدُونِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ إذَا أَرَادَ الْمُوَكِّلُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ الْخَصْمَ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ مَاتَ الْعَدْلُ بَطَلَ تَسَلُّطُهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَأَتَّى بِاعْتِبَارِ رَأْيِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالرَّهْنُ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَمَاتَ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِهِ فَلَأَنْ يَبْطُلَ بِمَوْتِ الْعَدْلِ أَوْلَى قَالَ، وَإِذَا أَوْصَى الْعَدْلُ بِبَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ، وَكَّلَ بِبَيْعِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ وَارِثُ الْعَدْلِ بَيْعَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمُوَرِّثِ، وَهَذَا حَقُّ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ وَهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِ الْعَدْلِ، وَمَا رَضِيَا بِرَأْيِ وَارِثِهِ فَإِنْ أَجْمَعَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُمَا رَأَيَا مَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَجَعَلَ الْقَاضِي مِنْهُمَا عَدْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ، وَطَرِيقُ قَطْعِهَا هُنَا أَنْ يُقِيمَ عَدْلًا آخَرَ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَجَعَلَهُ عَدْلًا فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِمَنْزِلَةِ تَرَاضِيهِمَا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَدْلُ، وَمَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ بَيْعِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ كَعَزْلِهِ، وَبَعْدَ الْعَزْلِ فِي الْوَكَالَةِ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ، كَمَا بَيَّنَّا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ تَنْتَقِلُ الْعَيْنُ إلَى الْوَارِثِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِبَيْعِهِ، وَهُنَا الْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ فَكَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ قَالَ: وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ، وَقَضَى الْمَالَ الْمُرْتَهِنَ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَالْخَصْمُ فِيهِ هُوَ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ ثَمَنَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَرَجَعَ فِيهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ حَصَلَتْ لَهُ فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا يُلْحِقُهُ مِنْهُ الْعُهْدَةَ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ الْأُولَى يَبِيعُهُ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْعَيْبِ، وَلَكِنَّ الْعَدْلَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَقِلْ الْعَدْلُ بِالْإِنْكَارِ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَا تَمْنَعُهُ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَلَكِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حَتَّى رَدَّهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْأَوَّلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ (رَحِمَهُ اللَّهُ)، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ نُكُولُهُ فِي الْبَيْعِ فَالْعَدْلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى هَذَا الْإِقْرَارِ، فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ السُّكُوتِ لِيَجْعَلَهُ الْقَاضِي مُنْكَرًا، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثُمَّ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ صَدَّقَهُ رَدَّ عَلَيْهِ مَا قَبَضَ مِنْهُ، وَبَيْعُ الرَّهْنِ ثَابِتٌ، وَلَا يَلْزَمُ الرَّاهِنُ مِنْ وَضْعِهِ ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ، فَهُوَ فِي حَقِّهِمَا كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ، أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ لَزِمَ ذَلِكَ الْعَدْلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ كَشِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْبُيُوعِ إلَى الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ، وَغَيْرَ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا، وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبُيُوعِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ هُنَا.
وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ ثُمَّ، وَهَبَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَهُوَ خَاصَّةٌ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَالَ قَدْ قَبَضْتُهُ فَهَلَكَ عِنْدِي كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ الْمَالِ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ، وَمَا ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ كَالْمُعَايَنِ، وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُرْتَهِنِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّمَنِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا تَقُولُ بِإِقْرَارِ الْعَدْلِ يَثْبُتُ وُصُولُ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الِابْنِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى الْقَرِيبِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمُودَعَ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلَكِنَّهُ يَسْقُطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّمَنِ، وَقَدْ تَوَى بَعْدَ إقْرَارِ الْعَدْلِ بِمَا قَالَ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ، وَهَبَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ مِلْكِ الرَّاهِنِ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمُرْتَهِنِ فَتَصَرُّفُ الْعَدْلِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ بَاطِلٌ، وَلَوْ قَالَ: حَطَطْتُ عَنْكَ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا، وَكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ)؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوْ حَطَّ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ عَلَيْهِ، وَصَارَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا، حَطَّ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ مِثْلَهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ مَالِهِ، وَالْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ حَقُّ غَيْرِهِ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ فَهَاهُنَا أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ بِالْعَقْدِ يَجِبُ لِلْوَكِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُقَرِّرُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ يَنْتَهِي حُكْمُ الشَّيْءِ، وَيَتَقَرَّرُ مَكَانُ إضَافَةِ الْهِبَةِ إلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ وَأَقَرَّ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْبَيْعِ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالدَّيْنُ مِائَةٌ وَأَعْطَيْتُكَهَا وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ وَأَعْطَيْتُكَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا مَعَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ يَبِعْهُ وَقَالَ الْعَدْلُ: بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ، وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي الْحَالِ هَالِكَةٌ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الدَّيْنِ عَنْ الرَّاهِنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَالْمُرْتَهِنُ مَعَ الْعَدْلِ يَدَّعِيَانِ خُرُوجَ الْعَيْنِ عَنْ الرَّهْنِ، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى خُرُوجِ الْعَيْنِ عَنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَوَى الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمَّا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا يُحَوَّلُ حُكْمُ الرَّهْنِ إلَى الثَّمَنِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِهِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ حِينَ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةَ الْعَدْلِ، وَالرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ الزِّيَادَةُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالْمُثْبَتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الشَّيْئَيْنِ أَوْلَى وَإِذَا قَالَ الْعَدْلُ: قَدْ بِعْتُهُ بِخَمْسِينَ، وَصَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ الرَّاهِنُ: هَلَكَ فِي يَدِكَ قَبْلَ أَنْ تَبِيعَهُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الدَّيْنِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُ اللَّهُ): أَنَّ الْبَيِّنَةَ هُنَا بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْبَيِّنَةِ لَهَا فَكَانَتْ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلَوْ وَكَّلَ الْعَدْلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ، وَكِيلًا فَبَاعَهُ، وَالْعَدْلُ حَاضِرٌ جَازَ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَصْلُهُ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا أَوْصَى أَنْ يَتِمَّ الْعَقْدَ بِرَأْيِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ كَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ بَاعَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ سَوَاءٌ فَإِذَا أَجَازَهُ الْعَدْلُ جَازَ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ حَصَلَ بِرَأْيِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ، وَقَّتَ الْعَدْلُ لِلْوَكِيلِ ثَمَنًا فَقَالَ بِعْهُ بِكَذَا فَبَاعَهُ بِهِ كَانَ جَائِزًا أَمَّا إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْعَدْلِ فَغَيْرُ مُشْكَلٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ قَدْ حَصَلَ حِينَ، وَقَّتَ الْعَدْلُ لِلْوَكِيلِ الثَّمَنَ فَإِنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ كَانَ بِرَأْيِهِ، وَمَقْصُودُ الْآمِرِ الثَّمَنُ لَا الْعِبَادَةُ، وَقَدْ حَصَلَ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ يَمْنَعُ النُّقْصَانَ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ حَضَرَ الْعَدْلُ رُبَّمَا يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِجَدِّهِ، وَكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِي التَّزْوِيجِ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ الْآنَ بِخِبْرَةِ الْعَدْلِ، وَإِذَا بَاعَ الرَّهْنَ مِنْ، وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وَفِي قَوْلِهِمَا بَيْعُهُ مِنْهُمْ لِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا- فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ- الْخِلَافَ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ مِنْ مَوْلَاهُ فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ دُونَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ بِخِلَافِ بَاقِي الْبُيُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ هُنَاكَ فَلَوْ أَجَازَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ حَقُّهُمَا، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِجَازَةِ نَفَذَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الرَّهْنَ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ نَصِّ الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ اثْنَيْنِ، وَقَدْ سُلِّطَا عَلَى الْبَيْعِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ نَصَّا بِرَأْيِهِمَا، وَالْبَيْعُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى، فَإِنْ أَجَازَ الْآخَرُ جَازَ لِاجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَأَجَازَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ أَجَازَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلرَّاهِنِ مِلْكًا وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقَّ نِصَابِهِ فِي الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَأَجَازَ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَمِيعًا، وَأَبَى الْعَدْلَانِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ مِنْ الْعَدْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُمَا فَإِذَا، وُجِدَ الرِّضَا مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ نَفَذَ بَيْعُهُ أَيْضًا، وَقَدْ خَرَجَ الْعَدْلَانِ مِنْ الْوَكَالَةِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْبَيْعَ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا أَخْرَجَ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ الْعَدْلَ مِنْ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، وَسَلَّطَا غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يُسَلِّطَا، فَقَدْ خَرَجَ الْعَدْلُ مِنْ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَالْمُوَكِّلُ مَلَكَ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِعِلْمِهِ، فَإِذَا كَانَ حُصُولُ التَّوْكِيلِ بِرَأْيِهِمَا، فَكَذَلِكَ الْعَزْلُ يَثْبُتُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ الْعَدْلُ بِهِ قَالَ: وَإِذَا أَرَادَ الْعَدْلُ بَيْعَ الرَّهْنِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سُلِّطَ عَلَى الْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّاهِنِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ): هَذَا عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيطُ مُضَافًا بِأَنْ قَالَ: إذَا حَلَّ الْأَجَلُ، فَلَمْ أَقْضِ مَالَهُ فَبِعْهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ مِنِّي مَتَى شِئْتَ جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا عَقِبَ هَذَا اللَّفْظِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَلَكِنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَحُلَّ الْأَجَلُ فَيَسْتَوْفِيَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْأَجَلُ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْقَوْلُ فِي حِلِّ الْأَجَلِ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا ادَّعَى زِيَادَةً فِيهِ، وَجَحَدَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَأَمَّا التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ فَمِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَيَثْبُتُ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ حُلُولَهُ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الْمَالِ ثُبُوتُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ حِينِ يَحُلُّ الْمَالُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ أَنَّهُ شَهْرٌ وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى ثُبُوتِهِ ثُمَّ ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَوْفَاهُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الِاسْتِيفَاءَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْعُرُوضِ، وَأَلْحَقَ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا بِدَرَاهِمَ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ حَتَّى يُوفِيَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُ اللَّهُ)، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِعَرَضٍ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا أَوْ بَاعَ بِالْعُرُوضِ، وَإِذَا بَاعَ بِالنُّقُودِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيفَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَالْإِيفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِجِنْسِ الْحَقِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الثَّمَنَ إلَى جِنْسِ الْحَقِّ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ بِهِ، وَكَذَلِكَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ بِالْعُرُوضِ عَلَى قِيَاسِ الْوَكِيلِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ بِطَعَامِ السَّلَمِ فَبَاعَهُ الْعَدْلُ بِجِنْسِ ذَلِكَ الطَّعَامِ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَتَقَيَّدُ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ثُمَّ هَذَا عُرْفٌ، وَعَارَضَهُ نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ بِهِ طَعَامًا لِيَقْضِيَ بِهِ حَقَّ رَبِّ السَّلَمِ فَلِأَجْلِ هَذَا جَوَّزْنَا بَيْعَهُ بِالطَّعَامِ قَالَ: وَلَوْ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (رَحِمَهُمُ اللَّهُ) أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ هَذَا الْمَتَاعَ فَإِنِّي مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ أَوْ قَالَ: بِعْهُ فَإِنَّ غُرَمَائِي يُنَازِعُونَنِي، فَبَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ، وَعَلَى قِيَاسِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَدْلِ بِالنَّسِيئَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ لِيُوَفِّيَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، وَإِنْ تَوَى الثَّمَنُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ تَحَوَّلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ قَبِلَ الْمَرْهُونُ تَحَوَّلَ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ الْبَيْعِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، فَكَذَلِكَ إذَا تَوَى الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَرْضَ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ، فَأَخَذَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ أَوْ الْعُشْرَ مِنْ الثَّمَرَةِ كَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ مَا بَقِيَ مَعَ الْأَرْضِ الرَّهْنِ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُوَلَّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ مَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ كَالتَّاوِي بِغَيْرِ صُنْعِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَأْخُذُ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَالْخَرَاجُ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ؟ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ أَنَّ الْمُرَادَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْخَرَاجِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ أَوْ الْعُشْرَ مِنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ كُلُّهُ رَهْنٌ يَبِيعُهُ الْعَدْلُ، وَيُوفِيهِ الْمُرْتَهِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ، وَكَذَلِكَ الْعُشْرَ عِنْدَ حَاجَةِ مَصَارِفِ الْعُشْرِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ مَالِكِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْغَلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي رَهَنَ الْعَيْنَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ الثَّمَرَةِ لَزِمَهُ الْأَدَاءُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ بَقِيَتْ الثِّمَارُ مَمْلُوكَةً لِلرَّاهِنِ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِحَقِّهِ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الْكُلَّ، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ بِتَصَرُّفِهِ قَصَرَ يَدَ نَفْسِهِ عَنْ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ، وَقَدْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَشْغُولَةً بِالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِأَدَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ بَقِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ عَلَى حَالِهِ.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا سَائِمَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَكَاةٌ؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الدَّيْنِ مَا يَسْتَغْرِقُ رِقَابَهَا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ النَّامِي بِاعْتِبَارِ عَنَاءِ الْمَالِكِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى»، وَبِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ يَنْعَدِمُ الْغِنَاءُ، وَالسَّبَبُ إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِوَاسِطَةٍ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا لِانْعِدَامِ الْوَاسِطَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ هُوَ الرَّاهِنُ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ، وَيَدُ الْمَالِكِ فِي مَالِهِ لَا تَكُونُ نَائِبَةً عَنْ الْغَيْرِ فَلَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ قَابِضًا بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ قَبَضَهُ، وَجَعَلَ الرَّاهِنَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ فَهُوَ رَهْنٌ، وَبَيْعُ الرَّاهِنِ فِيهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْبَيْعِ نَفَذَ بَيْعُ الْمَالِكِ فِيهِ.
وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ دَارًا أَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ رَجُلًا عَلَى بَيْعِهَا، وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُرْتَهِنُ حَتَّى حَلَّ الْمَالُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ الْمُتَمِّمِ لَهُ، وَإِنْ بَاعَ الْعَدْلُ الدَّارَ جَازَ بَيْعُهُ بِالْوَكَالَةِ لَا بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَبَقَاءُ يَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ التَّبْعِيضُ فِي الْخَادِمِ، وَالدَّارِ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مُوجَبَ الرَّهْنِ فَلَا يُنَافِي مُوجَبَ الْوَكَالَةِ، وَأَحَدُ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَالرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ صَحِيحٌ، وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ ذَلِكَ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ حِينَ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ فَلِهَذَا يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الرَّهْنِ ثُمَّ يَقْضِي لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ بِحَقِّهِ، وَإِنْ دَفَعَ الْعَدْلُ الْمَالَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ حَصَلَ بِأَمْرِ الْمَالِكِ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ بَيْعِهِ بِالْوَكَالَةِ دُونَ الرَّهْنِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْعَزْلِ، وَمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَالْمُرْتَهِنُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الرَّهْنِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.
وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ عَبْدٌ فَدَفَعَ بِهِ أَوْ أَخْفَى عَيْنَهُ فَدَفَعَ بِالْعَيْنِ كَانَ الْعَدْلُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَا دَفَعَ بِهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ فِيهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لِكَوْنِهِ فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ فَيَظْهَرُ بِظُهُورِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِتِسْعِينَ، وَالدَّيْنُ مِائَةٌ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ الرَّاهِنَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ، وَادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْعَدْلِ فِيهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى خُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ لِلزِّيَادَةِ فِيمَا تَحَوَّلَ إلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ بِالْبَيْعِ وَقَالَ هَلَكَ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الرَّهْنَ تَثْبُتُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ ثُمَّ إذَا ادَّعَى مَا يَنْسَخُهُ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَإِذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ قَالَ الرَّاهِنُ: بِعْتُهُ بِمِائَةٍ وَقَالَ الْعَدْلُ: بِعْتُهُ بِتِسْعِينَ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُهُ بِثَمَانِينَ، وَقَدْ تَقَابَضَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِتَصَادُقِهِمْ عَلَى مَا يَنْسَخُ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ لِلزِّيَادَةِ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ حَقِّهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي لِزِيَادَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ أَقَامَ الْعَدْلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ بِتِسْعِينَ، وَأَعْطَاهَا لِلْمُرْتَهِنِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ يَبِعْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى فَصْلِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ، وَهَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تُقْبَلُ عَلَى النَّفْيِ، وَلَا بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بِلَفْظِ الْإِثْبَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فِي تَرْجِيحِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِيمَا سَبَقَ.
وَإِذَا ارْتَدَّ الْعَدْلُ ثُمَّ بَاعَ الرَّهْنَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ بَيْعِهِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ، وَرِدَّتُهُ لَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ فَلَا يُنَافَى الْبَقَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا لَا يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ تَصَرُّفَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ تَصَرُّفِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلرَّهْنِ وَخَلَفَ وَارِثَهُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، فَذَلِكَ أَجْوَزُ لِبَيْعِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَحَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَلِهَذَا يَقْسِمُ الْقَاضِي مِيرَاثَهُ فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فِي الْوَكِيلِ إذَا ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقِيلَ: حُكْمُ الْعَدْلِ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَأَبُو يُوسُفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ رِدَّتُهُ وَلَحَاقُهُ مُوجَبُ عَزْلِهِ، بِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَعَزْلِهِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَدْلِ بَعْدَ الْقَبُولِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَكَذَلِكَ يَبْقَى حُكْمُ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ لَحَاقِهِ فَإِذَا رَجَعَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَ بِهَا الِاسْتِحْقَاقُ لِكَوْنِهَا فِي ضِمْنِ الرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ فَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَا عَلَى الرِّدَّةِ ثُمَّ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُمَا كَمَوْتِهِمَا، وَالْقَتْلُ مَوْتٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَوْتَهُمَا لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ، وَلَا حُكْمَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ هُنَا.
قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ وَضَعَا الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ يَدٍ مُوجَبَةٍ لِتَتْمِيمِ الْعَقْدِ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مَعَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَعَ غَيْرِهِ، قُلْنَا: يَتِمُّ الْعَقْدُ بِيَدِهِ عَلَى أَنْ تَكُونَ يَدُهُ نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا فِي الْحُرِّ فَإِنْ وَضَعًا عَلَى يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعَبْدِ، يَكُونُ آدَمِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مُخَاطِبًا بِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِذْنِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى فِي جَعْلِ يَدِ الْعَبْدِ نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنَّ عُهْدَةَ الْبَيْعِ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتْوِي مَالِيَّتَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَى الْعَاقِدِ تَعَلَّقَتْ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ سَلَّطَهُ عَلَى بَيْعِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ الَّذِي يَعْقِلُ إذَا جُعِلَ عَدْلًا فَهُوَ وَالْعَدْلُ الْعَبْدُ سَوَاءٌ إنْ كَانَ أَبُوهُ أَذِنَ لَهُ فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ أَذِنَ لَهُ فَاسْتَحَقَّ الْبَيْعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ الَّذِي قَبَضَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ حِينَ سَلَّمَ الثَّمَنَ لَهُ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بَيْعُهُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ذَهَبَ عَقْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، أَمَّا إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْقِلُ الْبَيْعَ جَازَتْ الْوَكَالَةُ، وَنَفَذَ الْبَيْعُ فَقِيَاسُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ: لَمَّا وَكَّلَهُ وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، فَهُوَ مَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ رَأْيٍ كَامِلٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِجُنُونِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ وَكَّلَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِبَيْعِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الرَّأْيِ فَيَكُونُ هُوَ فِي الْبَيْعِ مُمْتَثِلًا أَمَرَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ، وَالتَّسْلِيطِ بَاقٍ بَعْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الرَّاهِنِ بِعَارِضٍ، وَذَلِكَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ كَبِيرًا لَا يَعْقِلُ فَجُعِلَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْيَدِ إذْ هُوَ مُمَيَّزٌ، وَقَبْضُ مِثْلِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ لَا يَحْصُلُ بِقَبْضِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَتْمِيمُ الرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ قَبْضِهِ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ كَبِرَ، وَعَقَلَ، وَبَاعَ الرَّهْنَ جَازَ الْبَيْعُ لِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَنْفَرِدُ بِالتَّوْكِيلِ، وَنُفُوذُ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ يَعْتَمِدُ عِلْمُهُ بِهِ، فَإِذَا بَاعَهُ بَعْدَ مَا عَقَلَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ نُفُوذُ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْلِيطِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَ غَائِبًا بِبَيْعِ شَيْءٍ فَبَلَغَهُ وَبَاعَهُ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ (رَحِمَهُ اللَّهُ) أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ كَانَ لَغْوًا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يَنْعَدِمُ بِحُدُوثِ الْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَيَصِحُّ تَسْلِيطُهُ، وَعِلْمُهُ بِهِ شَرْطٌ، فَإِذَا وُجِدَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا، وَالرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْفُذَ بَيْعُهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ، كَمَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْحَرْبِيُّ بِالدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ، وَهُوَ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ مَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَتِهِ فِي الرُّجُوعِ إلَى أَمَانٍ جَدِيدٍ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فَإِنْ رَجَعَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُرْتَهِنِ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الرَّاجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، هُوَ: الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ، أَوْ الْعَدْلُ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ مُقِيمٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِإِذْنٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ لَحَاقَ الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنِ بِالدَّارِ كَمَوْتِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ بَيْعِ الْعَدْلِ، إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ، وَالتَّسْلِيطِ.
وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ ثُمَّ رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ، فَمَاتَ عِنْدَهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ، أَوْ هُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَخَّرَهُ بِالثَّمَنِ حَتَّى أَدَّاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِلرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ الثَّمَنَ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الَّذِي غَرِمَهُ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَيْهِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا كَانَ، وَإِذَا بَاعَهُ فَالثَّمَنُ مِلْكُ الرَّاهِنِ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا غَرِمَ فَإِذَا ظَهَرَ حَبَسَ حَقَّهُ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ وَجَبَ بِسَبَبِ هَذَا الْعَبْدِ، وَدَيْنُ الْمُرْتَهِنِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لَا بِسَبَبِ هَذَا الْعَبْدِ، وَكَانَ صَرْفُ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَى دَيْنٍ، وَجَبَ بِسَبَبِ الْعَبْدِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ يَكُونُ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ رِبًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الْمَالِكُ، وَلَا يَضْمَنُ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْإِخْلَافِ لَا بِالْفَسَادِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ، كَمَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، وَالرَّاهِنُ، وَالْعَدْلُ ذِمِّيَّيْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسْلِمًا، وَبَاعَهُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ بِالْوَكَالَةِ، وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَالْعَدْلُ، وَالْمُرْتَهِنُ ذِمِّيَّيْنِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَبَيْعُ الْعَدْلِ يَنْفُذُ بِالتَّوْكِيلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ قَضَاهُ الْعَدْلُ الْمُرْتَهِنَ فَفِعْلُهُ كَفِعْلِ الرَّاهِنِ بِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالٍ يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ مُسْلِمًا فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.