فصل: بَابُ الْخُرُوجُ مِنْ مِنًى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمَلَ فِي سَعْيِهِ كُلِّهِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ مَشَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
فَأَمَّا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَالْمَشْيُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَدَبٌ أَوْ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ (قَالَ) وَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ بِالصَّفَا حَتَّى فَرَغَ أَعَادَ شَوْطًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِيهِ ثُمَّ أَقْبَلَ مِنْهَا إلَى الصَّفَا لَا يَعْتَدُّ بِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ افْتِتَاحَ هَذَا الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ مِنْ الصَّفَا عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ لَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى»، وَإِذَا افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ الْمُعْتَدُّ بِهِ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ بِشَوْطٍ آخَرَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ (قَالَ) وَإِنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ رَأْسًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الدَّمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى السَّعْيُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ إلَّا بِهِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا، وَالْمَكْتُوبُ رُكْنٌ»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى لِامْرِئٍ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً لَا يَطُوفُ لَهَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ»، وَجُحَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلْإِيجَابِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الظَّاهِرَ فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إسَافٍ، وَنَائِلَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَجُّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ يَكُونُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْتِ، وَلَا تَبْلُغْ دَرَجَةُ التَّبَعِ دَرَجَةَ الْأَصْلِ فَتَثْبُتُ فِيهِ صِفَةُ الْوُجُوبِ لَا الرُّكْنِيَّةُ فَكَانَ السَّعْيُ مَعَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ نَظِيرَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا رُكْنٌ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَدَدِ السَّبْعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ؛ لِأَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مَكْتُوبٌ، وَبِالِاتِّفَاقِ عَيْنُ السَّعْيِ غَيْرُ مَكْتُوبٌ فَإِنَّهُ لَوْ مَشَى فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الرَّكِينَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالسَّعْيِ، وَأَدَاءُ أَصْلِ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِأَرْكَانِهَا فَصِفَةُ التَّمَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ كَتَرْكِ الْكُلِّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ طَوَافِ الصَّدَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي الْأَكْثَرِ، وَالصَّدَقَةُ فِي الْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ) وَيَجُوزُ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ كَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، وَإِنَّمَا اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَيْتِ (قَالَ) وَلَا يَجُوزُ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَهَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَمِّمٌ لِلطَّوَافِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَهُ كَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمُ الطَّوَافِ فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالسُّجُودِ لَمَّا كَانَ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمَ الرُّكُوعِ فَإِذَا سَبَقَ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ (قَالَ) وَيَجُوزُ السَّعْيُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ الْأَكْثَرَ مِنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ (قَالَ) وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ الصُّعُودِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَدَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ بِقَوْلِهِ {خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ}، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ بَعْدِهِمْ تَوَارَثُوا الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُمْ فَهُوَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نُزُولِهِ مِنْ الصَّفَا كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُعْضِلَاتِ الْفِتَنِ أَوْ مِنْ مُعْضِلَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الصُّعُودِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ (قَالَ) وَإِنْ طَافَ لِحَجَّتِهِ، وَوَاقَعَ النِّسَاءَ ثُمَّ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ يَحْصُلُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ» فَاشْتِغَالُهُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ نَوْمٍ أَوْ أَكْلٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ أَدَاءِ السَّعْيِ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتِيَ بِالسَّعْيِ يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ بِالطَّوَافِ قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ.
(قَالَ) وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ كَانَ مُؤَدِّيًا السَّعْيَ فِي إحْرَامٍ آخَرَ غَيْرَ الْإِحْرَامِ الَّذِي أَدَّى بِهِ الْحَجَّ، وَإِنْ أَرَاقَ دَمًا انْجَبَرَ بِهِ النُّقْصَانُ الْوَاقِعُ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ تَوْفِيرَ مَنْفَعَةِ اللَّحْمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ لِلَّسْعَى، وَإِنْ رَجَعَ سَعَى أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ وَسَعَى بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِأَيَّامِ النَّحْرِ إنَّمَا التَّوْقِيتُ فِي الطَّوَافِ بِالنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَأْخِيرِ السَّعْيِ شَيْءٌ (قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لَهُ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ يُحِلَّ حَتَّى يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ «إذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ»، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ، وَسَعْيِ الْحَجِّ فَإِنَّ أَدَاءَ سَعْيِ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ صَحِيحٌ، وَأَلَّا يُؤَدِّيَ سَعْيَ الْعُمْرَةِ إلَّا فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَرَدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ إذْ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنًى ثُمَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مَا هُوَ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ كَالرَّمْيِ فَيَجُوزُ السَّعْيُ أَيْضًا بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ مَا يَكُونُ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ، وَالسَّعْيُ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.بَابُ الْخُرُوجُ مِنْ مِنًى:

(قَالَ) وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَيُقِيمَ بِهَا إلَى صَبِيحَةِ عَرَفَةَ هَكَذَا عَلَّمَ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ بِمِنًى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْوُونَ فِيهِ بِمِنًى أَوْ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ ظُهُورَهُمْ فِيهِ بِمِنًى فَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ثُمَّ رَاحَ إلَى مِنًى لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فَلَا يَضُرُّهُ تَأْخِيرُ إتْيَانِهِ، وَإِنْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا مِنْهَا إلَى عَرَفَاتٍ، وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِنَّهُ أَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ» كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُفَسَّرًا.
(قَالَ) ثُمَّ يَنْزِلُ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيَصْعَدُ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَرَغَ قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَلَبَّى، وَهَلَّلَ وَكَبَّرَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ عِنْدَنَا ثَلَاثَةَ خُطَبٍ إحْدَاهَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَخْطُبُ بِمَكَّةَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ، وَكَيْفَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا إلَى مِنًى، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ إلَى عَرَفَاتٍ، وَكَيْفَ يَنْزِلُونَ بِهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ لِيَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ النُّسُكِ.
وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ يَخْطُبُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَقِفُ، وَيَوْمَ النَّحْرِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ فَيَخْطُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْتِي فِيهِ بِذَلِكَ الرُّكْنِ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ بِتَمَامِهِ (قَالَ) وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ مِنْهَا كَانَ مُدْرِكًا الْجُمُعَةَ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ فَيَقُومُ خَلِيفَتُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ.
(قَالَ) فَإِنْ رَجَعَ الْإِمَامُ فَأَدْرَكَ مَعَهُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الظُّهْرِ لِآخِرِ الْعَصْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى فَرَغَ خَلِيفَتُهُ مِنْ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هُنَا كَالْإِمَامِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ فَصَلَّى وَحْدَهُ الصَّلَاتَيْنِ أَجْزَأَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقِيلَ مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ هُنَا نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ جَعَلَهَا فِي اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ هُنَاكَ لِتَسْمِيَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ جُمُعَةً، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا سَمَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ هُنَا مُنْصَرِفٌ إلَى الصَّلَاتَيْنِ لَا إلَى الْمُؤَدِّينَ لَهُمَا فَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ فِيهِمَا.
(قَالَ) وَلَيْسَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَدَّاةٌ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْقُلُوا أَنَّهُ جَهَرَ فِي هَاتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ، وَهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَمَا يُؤَدَّيَانِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ (قَالَ) وَإِنْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ وَصَلَّى صَلَاتَيْنِ مَعًا أَجْزَأَهُ، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فَهَذِهِ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِبَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ يَوْمَ غَيْمٍ فَاسْتَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُعِيدُ الظُّهْرَ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا، وَحِينَ أَدَّى الْعَصْرَ مَا كَانَ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى النَّاسِي، وَالتَّرْتِيبُ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَصْرَ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ، وَهَذَا التَّعْجِيلُ لِلْجَمْعِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ إذَا تَقَدَّمَ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الظُّهْرَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا (قَالَ) وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ (قَالَ) وَإِنْ تَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يُجْزِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِمَامَ شَرْطُ هَذَا الْجَمْعِ عِنْدَهُ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ خَلِيفَتُهُ أَوْ ذُو سُلْطَانٍ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ خَلِيفَتَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو سُلْطَانٍ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ (قَالَ) وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَةَ يَعْنِي إذَا كَانَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَاتٍ لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَعَرَفَاتٍ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ إذْ لَيْسَ لَهَا أَبْنِيَةٌ إنَّمَا هِيَ فَضَاءٌ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ بِخِلَافِ مِنًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُرَكَّبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ (قَالَ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَنْ وَقَفَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْلَةَ النَّحْرِ قَبْلَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ أَوْ مَرَّ بِهَا مُجْتَازًا، وَهُوَ يَعْرِفُهَا أَوْ لَا يَعْرِفُهَا أَجْزَأَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ زَوَالٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّمَا يَصِيرُ الْيَوْمُ مُطْلَقًا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ».
وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ سُمِّيَ نَهَارًا لِجَرَيَانِ الشَّمْسِ فِيهِ كَالنَّهْرِ يُسَمَّى نَهْرًا لِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ فَدَلَّ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بَعْدَ الزَّوَالِ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى الْيَوْمُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ صَارَ وَقْتًا لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ مَعَ أَنَّ الْيَوْمَ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيمَا قُلْنَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى «أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ، وَهُوَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَكْلَلْت رَاحِلَتِي، وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وَمَا مَرَرْتُ بِجَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
(قَالَ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّى بِهَا الصَّلَاتَيْنِ، وَلَمْ يَقِفْ أَوْ أَفَاضَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ رَوَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَفِيمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِمْ الْوُقُوفَ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ إذَا أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْوُقُوفِ رُكْنٌ، وَاسْتِدَامَتُهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ.
فَإِنْ رَجَعَ وَوَقَفَ بِهَا بَعْدَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الشُّجَاعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ قَالَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَأَتَى بِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ ذَلِكَ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الشَّمْسِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ هُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِذَهَابِهِ فَبِرُجُوعِهِ لَا يَصِيرُ وُقُوفُهُ مُسْتَدَامًا بَلْ مَا فَاتَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ (قَالَ) وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَقَفَ بِهِ أَصْحَابُهُ بِعَرَفَاتٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوُقُوفُ بِحُصُولِهِ فِي الْمَوْقِفِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَرَّ بِعَرَفَاتٍ مَارٌّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَأَدَّى رُكْنُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا يَتَأَدَّى رُكْنُ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بَعْدَ النِّيَّةِ مِنْ الْمُغْمَى.
(قَالَ) وَوُقُوفُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ، وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْوُقُوفِ فَتَرْكُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْوُقُوفِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ (قَالَ) وَإِنْ وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا إنْ نَوَى الرَّفْضَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ تَعَذُّرُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ نَوَى الرَّفْضَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اشْتَبَهَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ إذَا نَحَرُوا، وَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي يَوْمٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لَا يَجْزِيهِمْ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجْزِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونِ»، وَفِي رِوَايَةٍ حَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا وَقَفُوا بِيَوْمٍ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِيَشْهَدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَمِعَ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ قَدْ تَمَّ لِلنَّاسِ حَجُّهُمْ، وَلَا مَقْصُودَ فِي شَهَادَتِهِمْ سِوَى ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ فَإِنْ جَاءُوا فَشَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ لِيَقِفُوا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِعُ إلَى شَهَادَتِهِمْ، وَيَقِفُ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَيُجْزِئُهُمْ (قَالَ) وَإِنْ جَامَعَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ، وَيَفْرُغُ مِنْ حَجَّتِهِ، وَعُمْرَتِهِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَهُنَا فُصُولٌ:
(أَحَدُهَا) فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ يَفْسُدُ حَجُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِمَاعِ فَإِذَا وُجِدَ الْجِمَاعُ فَسَدَ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ، وَالْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ.
عَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الدَّمُ لِتَعْجِيلِ هَذَا الْإِحْلَالِ، وَالشَّاةُ تَكْفِي فِيهِ كَمَا فِي الْمُحْصَرِ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ هُنَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ فَلَا يَجِبُ مَعَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَأَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، وَيُتِمُّ حَجَّهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ حَجُّهُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ مُطْلَقٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ مُفْسِدٌ لِلنُّسُكِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَحَلَّ لَهُ الْحَلْقُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا قَبْلُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ نُسُكُهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَحَجَّتُهُ تَامَّةٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، وَبِالِاتِّفَاقِ لَمْ يُرِدْ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَرْكَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِتْمَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمَنُ الْفَسَادَ بَعْدَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّ بِالْوُقُوفِ تَأَكَّدَ حَجُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّأَكُّدِ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَوَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَسَادِ فَأَمَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ حَجُّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْجِمَاعُ مُفْسِدًا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا حَصَلَ الْجِمَاعُ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْإِحْرَامِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَا بَعْدَ التَّأَكُّدِ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا وَعَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْوُقُوفِ جَازَ حَجُّهُ عَنْ الْفَرْضِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ الْحَجُّ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَفْسُدُ، وَالْجِمَاعُ قَبْلَ الرَّمْيِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ تَرْكِ الرَّمْيِ، وَتَرْكُ الرَّمْيِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجِمَاعُ قَبْلَهُ مُفْسِدًا (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَيَتَأَكَّدُ إحْرَامُهُ بِأَدَاءِ أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ كَمَا يَتَأَكَّدُ إحْرَامُ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْحَجِّ يَجِبُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ بِالْعُمْرَةِ، وَعِنْدَنَا لَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ فِي الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِالْإِتْمَامِ فَدَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِمَا.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ»، وَقَالَ صَبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَيْنِ عَلَيَّ «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي».
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ، «وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَالَ لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك»، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فِي السَّنَةِ وَإِنَّمَا بَايَنَ النَّفَلُ الْفَرْضَ بِهَذَا فَإِنَّ الْفَرْضَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَالنَّفَلَ لَا يَتَوَقَّتُ،
وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَبِالْإِجْمَاعِ فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرْضُ إنَّمَا بَايَنَ النَّفَلَ بِهَذَا فَإِنَّ النَّفَلَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ ابْتِدَاءُ خَبَرِ الْعُمْرَةِ لِلَّهِ، وَالنَّوَافِلُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالْفَرَائِضِ.
ثُمَّ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمَا عَرَفْنَا ابْتِدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِفَرِيضَةِ نُسُكٍ وَاحِدٍ فَلَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْفَرِيضَةِ فِي عَدَدٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ أَيْ مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ فَإِنَّ الْفَرْضَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآثَارَ قَدْ اشْتَبَهَتْ فِيهِ، وَلَكِنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ مَعَ اشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ لَا تَثْبُتُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْبَدَنَةِ بِالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْعُمْرَةِ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ فَرْضًا وَجَبَ بِالْجِمَاعِ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ.
(وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ) الْقَارِنُ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ بِهَذَا الْجِمَاعِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَجْلِهِ، وَجَامَعَ قَبْلَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَفْسُدُ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ، وَقَضَاءِ الْحَجِّ، وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ دَمٌ، وَلِلْحَجِّ جَزُورٌ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْسُدُ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِهَذَا الْجِمَاعِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَرُدُّ بِهِ فِي وُجُوبِ الْجَزُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بَاقٍ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْعُمْرَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ تَمَّ بِالْحَلْقِ (قَالَ) وَمَنْ جَامَعَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَتَأَكَّدُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِفِعْلِ الْوُقُوفِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْآمَنَ مِنْ الْفَوَاتِ لَا يَحْصُلُ بِدُخُولِ وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْوُقُوفِ فَكَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ (قَالَ) وَإِذَا وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ ارْتَفَضَ بِالْوُقُوفِ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ جَزُورٌ لِلْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهُ صَادَفَ إحْرَامَ الْحَجِّ بَعْدَمَا تَأَكَّدَ فَيُتِمُّ حَجَّهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (قَالَ) وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَخَافَ الْفَوْتَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ، وَوَقَفَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ الْمِيقَاتَ لِلْإِحْرَامِ فَبِتَأْخِيرِهِ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ، وَنَقَائِصُ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا، وَالْتِزَامُ الدَّمِ أَهْوَنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ لِتَفْوِيتِهِ الْحَجَّ (قَالَ) وَإِذَا وَقَفَ الْحَاجُّ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أَهَلَّ وَهُوَ وَاقِفٌ بِحَجَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا، وَيَمْضِي فِي الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا، وَوَقَفَ لَهَا لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُقُوفِ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي سَنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِرَفْضِهَا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَكَانَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَيْضًا يَرْفُضُهَا؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى عُمْرَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْجَبَ رَفْضَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِوُقُوفِهِ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا أَدَّى أَفْعَالَهَا فَيَكُونُ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلِهَذَا يَرْفُضُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَضَاؤُهَا لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ سَاعَةَ أَهَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا عَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا عَجَّلَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ، وَهُنَا هُوَ مَشْغُولٌ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا بَلْ هُوَ مُؤَدٍّ لَهُ فَلِهَذَا يَرْتَفِضُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا.
وَفِي الْكِتَابِ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُخَالِفُهُمَا فِي هَذَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِرْ رَافِضًا كَانَ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَرْفُضْهَا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَدْ فَاتَ فَلَوْ بَقِيَ إحْرَامُهُ هَذَا لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجَّةِ الْأُولَى، وَيَمْكُثُ حَرَامًا إلَى أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ إنْ حَلَقَ لِلْحَجَّةِ الْأُولَى يَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ الثَّانِي بِذَلِكَ الْحَلْقِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ وَعِنْدَهُمَا بِهَذَا التَّأْخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامُوا أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِمَعْنًى هُوَ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَفُوتُ الْحَجُّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفَوَاتُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَ لَيَالٍ، وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ فَأَمَّا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَتَحَقَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}، وَالْمُرَادُ يَوْمُ النَّحْرِ لَا وَقْتُ الْحَجِّ لِأَدَاءِ الطَّوَافِ فِيهِ دُونَ الْوُقُوفِ فَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْهُ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْوُقُوفِ.
(فَأَمَّا) الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ»، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَالْإِحْرَامُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَا يُتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ حَجُّهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَبْقَى إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ ابْتِدَاءُ إحْرَامِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا مِنْ الْأَرْكَانِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَدَامًا إلَى الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَهَذَا حَدُّ شَرْطِ الْعِبَادَةِ لَا حَدُّ رُكْنِ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَالْإِحْرَامُ يَكُونُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ أَحْرَمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ هُنَاكَ يَتَّصِلُ بِالتَّكْبِيرِ فَإِذَا حَصَلَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يَتَّصِلُ أَدَاءُ الْأَرْكَانِ بِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبَابِ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ، وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالشَّرَائِطِ يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْأَرْكَانِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَقِيلَ بَلْ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ إذَا طَالَ مُكْثُهُ فِي الْإِحْرَامِ (قَالَ) وَيَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَإِنْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَقَامَ لِلْعِشَاءِ إقَامَةً أُخْرَى، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَذَّنَ، وَأَقَامَ لِلْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا قَدْ تَحَقَّقَ بِالِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَدِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا الْفَصْلِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَبِالْإِقَامَةِ يَتِمُّ هَذَا الْإِعْلَامُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِعَرَفَاتٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّاهَا فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا بِمُزْدَلِفَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُكْرَهُ مَا صَنَعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ فِي وَقْتِهِ فَإِنَّ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ مَا أَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ «أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَاةُ أَمَامَك»، وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا فِعْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ حَرَكَاتُ الْمُصَلِّي، وَهُوَ مَعَهُ فَإِمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ الْوَقْتَ أَوْ الْمَكَانَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانَ فَقَدْ بَيَّنَ بِهَذَا النَّصِّ اخْتِصَاصَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِمَكَانٍ، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ لَا يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ انْقِطَاعَ سَيْرِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرِيضَةٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعُذْرِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَفُوتُ بِأَدَاءِ الْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِيَصِيرَ جَمْعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ نُسُكًا، وَلِهَذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لِمَكَانِ إدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَقِيَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ) وَيُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ يَنْشَقُّ لَهُ الْفَجْرُ الثَّانِي لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ يُغْفِي حَتَّى إذَا أَسْفَرَ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى إذَا تَرَكَهُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَعَلَى قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوُقُوفُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» عَلَّقَ تَمَامَ حَجِّهِ بِهَذَا الْوُقُوفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْوُقُوفِ بِعُذْرٍ «فَإِنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَصِيرِ إلَى مِنًى لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَأَذِنَ لَهَا»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ»، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوُقُوفَ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَعَ طَوَافِ الصَّدَرِ ثُمَّ طَوَافُ الصَّدَرِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ فَكَذَا هَذَا، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا مُحَسِّرًا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ فِيمَا سَبَقَ.
(قَالَ) وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قُزَحُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ لِوُقُوفِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقِفَ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ قَرِيبًا مِنْهُ لِيُؤَمِّنَ عَلَى دُعَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنْ تَعَجَّلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ امْرَأَةٍ خَافَتْ الزِّحَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَإِنْ أَفَاضَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِيمَا صَنَعَ لِتَرْكِهِ امْتِدَادَ الْوُقُوفِ (قَالَ) فَإِنْ مَرَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَرًّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ تَأَدَّى بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَكَذَا إنْ كَانَ مَرَّ بِهَا نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ مَعَ النَّاسِ حَتَّى أَفَاضُوا؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وُقُوفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِأَنْ نَامَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْسَتْ بِنُسُكٍ مَقْصُودٍ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ بِهَا فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.