فصل: بَابُ كَفَّارَةِ قَصِّ الْأَظْفَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ كَفَّارَةِ قَصِّ الْأَظْفَارِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَصَّ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ يَدَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ نَظِيرَ الْخِتَانِ، وَلَا بَأْسَ بِالْخِتَانِ فِي الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ قَصُّ الْأَظْفَارِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ لِمَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَمُبَاشَرَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ.
وَإِنْ قَصَّ ظُفْرًا وَاحِدًا أَوْ ظُفْرَيْنِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيَنْقُصَ عَنْهُ مَا شَاءَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي كُلِّ ظُفْرٍ خُمْسُ الدَّمِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الدَّمُ فِي قَصِّ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ فَفِي كُلِّ ظُفْرٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ ظُفْرٍ أَوْ ظُفْرَيْنِ، وَالْجِنَايَةُ النَّاقِصَةُ فِي الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَبْرَ بِالصَّدَقَةِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَصَّ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَصَّ أَظْفَارِ يَدٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ الدَّمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ فَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْأَظْفَارِ مِنْ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: الدَّمُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَجِبُ بِقَصِّ أَظْفَارِ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدُ الْوَاحِدَةُ رُبْعُ ذَلِكَ فَتُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ كَرُبْعِ الرَّأْسِ فِي الْحَلْقِ فَكَانَ هَذَا أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّمُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَامَ الْأَكْثَرُ فِيهِ مَقَامَ الْكَمَالِ إذْ لَوْ فَعَلَ أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُقَالُ: إذَا قَصَّ الظُّفْرَيْنِ فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إذَا قَصَّ ظُفْرًا أَوْ نِصْفًا فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الظُّفْرَيْنِ وَلَكِنْ يُقَالُ مَا كَانَ أَدْنَى الْمِقْدَارِ شَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهُ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ (قَالَ) وَلَوْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَنَّ الْمَقْصُوصَ خَمْسَةُ أَظْفَارٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ أَوْ مِنْ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا فِي الْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِقَ رُبْعَ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَوَانِبَ مُتَفَرِّقَةٍ فِي إيجَابِ الدَّمِ، وَكَمَا فِي حُكْم الْأَرْشِ لَا فَرْقَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْيَدَيْنِ بَيْنَ قَطْعِ خَمْسَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ يَدَيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ جِنَايَتُهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ بَعْضِ الْأَظْفَارِ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَظْفَارِ مَقْصُوصًا دُونَ الْبَعْضِ فَيَزْدَادُ بِهِ شُغْلُ قَلْبِهِ لَا أَنْ يَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ فَإِذَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْجِنَايَةُ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا مِنْ كُلِّ عُضْوٍ أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّ تَفْرِيقَ الْحَلْقِ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ عَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الرَّاحَةِ.
(قَالَ) وَإِذَا انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُنْكَسِرَ لَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَقَلْعُهُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى النُّمُوِّ.
(قَالَ) وَإِنْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِنْ كَانَ حِينَ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ كَفَّرَ ثُمَّ قَصَّ أَظْفَارَ أُخْرَى فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ ارْتَفَعَتْ بِالتَّكْفِيرِ فَفِعْلُهُ الثَّانِي يَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ تَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ فَلَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَا فَرْقَ أَنْ يَكُونَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الْوَاجِبِ عَلَى التَّدَاخُلِ، وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى التَّدَاخُلِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ، وَالْمَجَالِسُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، وَكَمَا فِي الْحُدُودِ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ بِاعْتِبَارِ كُلِّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ دَمٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ مِنْهَا فَتُوجِبُ الدَّمَ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ، وَقَصَّ الْأَظْفَارَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَا يَجْرِي التَّدَاخُلُ فِي الْعِبَادَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَيُوجِبُ بِكُلِّ فِعْلٍ دِمَاءً بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْحَلْقَ فَإِنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ هُنَاكَ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى امْرَأَةً وَاحِدَةً أَوْ نِسْوَةً إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ شَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ نُقْصَانٌ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى فَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَجِبُ الدَّمُ، وَيَكُونُ قِيَاسُ الْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَذًى فِي أَظْفَارِهِ حَتَّى قَصَّهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلدَّمِ إذَا فَعَلَهُ لِعُذْرٍ تَخَيَّرَ فِيهِ الْمَعْذُورُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحْرِمٌ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْمَدْلُولُ فَعَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَاجِبٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} الْآيَةَ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُتَّصِلٌ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ وَالْإِشَارَةُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْمَحِلِّ وَهُوَ الصَّيْدُ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِيمَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْحَلَالِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ إذَا كَانَ حَلَالًا بِالِاتِّفَاقِ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ، وَلَا يَضْمَنَ الدَّالُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِسَبَبِ الدَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيٍ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ صَاحِبِي فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاذَا تَرَى عَلَيْهِ فَقَالَ أَرَى عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُئِلَا عَنْ مُحْرِمٍ دَلَّ عَلَى بَيْضِ نَعَامَةٍ فَأَخَذَهُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ فَشَوَاهُ فَقَالَا عَلَى الدَّالِّ جَزَاؤُهُ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا أَظُنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا جُزَافًا، وَالْقِيَاسُ لَا يَشْهَدُ لِقَوْلِهِمْ حَتَّى يَقُولَ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا السَّمَاعُ ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَإِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي صَيْدٍ أَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ» فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ كَالْإِعَانَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَظْرِ هُنَاكَ مَعْنًى فِي الْحِلِّ، وَهُوَ أَمْنُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَلَا بُدَّ مَنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَّصِلًا بِالْمَحِلِّ حَتَّى يَكُونَ جِنَايَةً فِي إزَالَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْمَحِلِّ.
وَهُنَا الْحَظْرُ بِسَبَبِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَكَانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا لِإِحْرَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحِلِّ، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى الْجَزَاءِ هُنَا رَاجِحًا، وَمَعْنَى غَرَامَةِ الْمَحِلِّ هُنَاكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْإِحْرَامُ عَقْدٌ خَاصٌّ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ تَرْكَ التَّعَرُّضِ بِعَقْدِهِ فَإِذَا تَعَرَّضَ لَهُ بِالدَّلَالَةِ فَقَدْ بَاشَرَ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُودَعِ يَدُلُّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ بِعَقْدٍ خَاصٍّ ثُمَّ الْوَاجِبُ هُنَاكَ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ وَالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ مَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِدَلَالَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَارَ الْمُحْرِمُ سِكِّينًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَقْتُلَ صَيْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَعَلَى الْمُعِيرِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعِيرِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ بِإِعَارَةِ السِّكِّينِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ إذَا صَدَّقَهُ الْمَدْلُولُ فِي دَلَالَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ وَلَمْ يَتْبَعْ الصَّيْدَ بِدَلَالَتِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَيْهِ آخَرُ فَصَدَّقَهُ وَقَتَلَ الصَّيْدَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الثَّانِي إذَا كَانَ مُحْرِمًا دُونَ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ الْمُحْرِمُ إنْسَانًا بِأَخْذِ الصَّيْدِ فَأَمَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ إنْسَانًا آخَرَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْآمِرِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ دُونَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الْأَوَّلِ إذَا أَخَذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ، وَالدَّالُّ مُحْرِمٌ فَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّالُّ عَنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ فِعْلَهُ إنَّمَا يَتِمُّ جِنَايَةً عِنْدَ زَوَالِ مَعْنَى النُّفْرَةِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الدَّالُّ عِنْدَ ذَلِكَ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ أَخْذِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ.
(قَالَ) وَإِذَا اشْتَرَكَ رَهْطٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَحِلُّ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّالُّ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْمَحِلُّ هُنَا وَاحِد فَلَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقَاسَ بِصَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْحَلَالِينَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقَاسَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُجَّتُنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ فِعْلِهِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِينَ كَامِلٌ جَنَى بِهِ عَلَى إحْرَامٍ كَامِلٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكَمَا فِي الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ يُجْعَلُ كُلُّ قَاتِلٍ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ، وَيَسْلُكُ بِضَمَانِ الصَّيْدِ مَسْلَكَ الْغَرَامَاتِ، وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ، وَفِي إبَاحَةِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا فَالْغَرَامَاتُ تَكُونُ وَاجِبَةً بَدَلًا عَنْ الْمُتْلَفِ فَإِذَا كَانَ الْمُتْلَفُ وَاحِدًا لَا يَجِبُ إلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ كَالدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ فَأَمَّا هَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، وَإِحْرَامُ زَيْدٍ غَيْرُ إحْرَامِ عَمْرٍو، وَهُنَاكَ الْمُعْتَبَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَهِيَ مُتَّحِدَةٌ فِي حَقِّ الْفَاعِلِينَ فَأَمَّا ضَمَانُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَوُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِإِيجَابِ بَدَلٍ وَاحِدٍ،
وَمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ لِيَكُونَ مَا يَجِبُ لَهُ جُبْرَانًا.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَارِنُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، وَعِنْدَنَا هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالْقَارِنُ جَانٍ عَلَى إحْرَامَيْنِ، وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا قَالَ يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافًا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَعِنْدَنَا لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يُنْبِئُ عَنْ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّدَاخُلِ فَصَارَ الْقَارِنُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ جَانِيًا عَلَى إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ أَدَاءً فَإِنَّ الْأَصْلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَدَاءً كَالْحَجَّتَيْنِ وَالْعُمْرَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَا يَظْهَرُ مَعَ الْأَصْلِ كَحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَعَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ إنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ تَبَعٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ مَعَ الْإِحْرَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ أَصْلٌ مِثْلُ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ مُوجِبِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ صَاحِبُهُ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَعَدَمِ الْمِلْكِ إذَا اجْتَمَعَا بِأَنْ زَنَى الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ لِعَيْنِهَا فَيَثْبُتُ بِالْيَمِينِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا حُرْمَةٌ أُخْرَى ثُمَّ عِنْدَ الشُّرْبِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَإِنَّهَا دُونَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ هُنَاكَ سِوَى وُجُوبِ تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِإِحْرَامِهِ فَلَا يَزْدَادُ بِالْحَرَمِ فِي حَقِّهِ فَأَمَّا هُنَا الْعُمْرَةُ بِعَقْدٍ مَقْصُودٍ يَحْوِي تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ (قَالَ) فَإِنْ قَتَلَ حَلَالَانِ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْف جَزَاءٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَقْتَضِيهِ ضَرْبَتُهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِضَرْبَتَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ فِعْلِهِمَا جَمِيعَ الصَّيْدِ صَارَ مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْجَزَاءِ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْجُزْءُ الَّذِي تَلِفَ بِضَرْبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالْبَاقِي مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ إنْ كَانَ الصَّيْدُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا يُبَاعُ ذَلِكَ الصَّيْدُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ النَّعَمِ أَوْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ يُنْظَرُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فِي الْمَنْظَرِ لَا إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرَانِبِ عَنَاقٌ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزَعَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ، وَيَهْدُرُ، وَفِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَاحْتَجَّا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}، وَحَقِيقَةُ الْمِثْلِ مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَالنَّظِيرُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَالْقِيمَةُ مِثْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ النَّعَمِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً.
وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا مَا سَمَّيْنَا مِنْ النَّظَائِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ حُقُوقِ الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْحَيَوَانُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا أَنَّ الْمِثْلَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ هُنَا فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ كَيْفَ تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ، وَالْمِثْلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ ثُمَّ لَا تَكُونُ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلْبَدَنَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ لَا تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْقِيمَةُ فَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ النَّعَمِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ اسْمَ النَّعَمِ يَتَنَاوَلُ الْأَهْلِيَّ وَالْوَحْشِيَّ جَمِيعًا، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ فَجَزَاءٌ مَصْدَرٌ، وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَصْفٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ وَصْفًا لِلْمَذْكُورِ، وَذَلِكَ إذَا حُمِلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِيجَابُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِهَذِهِ النَّظَائِرِ لَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فَكَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ النُّقُودِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ يَفُكُّ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ، وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ.
الْمُرَادُ الْقِيمَةُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي أَتَى الْحَكَمَيْنِ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ فَإِذَا ظَهَرَتْ قِيمَتُهُ فَالْخِيَارُ إلَى الْمُحْرِمِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فَإِذَا عَيَّنَا نَوْعًا عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِهِ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحَكَمَيْنِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وَعَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ لِلتَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَثْنَى أَحْوَطَ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ الْمَثْنَى بِالنَّصِّ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَاهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّ صَاحِبِي هَذَا كَانَ مُحْرِمًا، وَإِنَّهُ رَمَى إلَى ظَبْيٍ، وَأَصَابَ أَحْشَاءَهُ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسَارَّ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَ السَّائِلُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ إنَّ فَتْوَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تُغْنِي عَنْك شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ فَأَرَى أَنْ تَنْحَرَ رَاحِلَتَك هَذِهِ، وَتُعَظِّمَ شَعَائِرَ اللَّهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَاهُ وَعَلَاهُ بِالدُّرَّةِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي لَا أُحِلُّ لَك مِنْ نَفْسِي شَيْئًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك فَانْظُرْ لِنَفْسِك فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاك حَسَنَ اللَّهْجَةِ وَالْبَيَانِ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَنَا ذُو عَدْلٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ذُو عَدْلٍ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى جَاهِلًا فِيكُمْ فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ مَقَالَتِهِ ثُمَّ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَذَكَرَ الْهَدْيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يَحْكُمُ أَوْ مَفْعُولُ حُكْمِ الْحُكْمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إلَى الْحَاكِمِ، وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَهُمَا حُكْمًا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ إلَيْهِمَا، وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إلْزَامُ أَصْلِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إلَيْهِمَا التَّعْيِينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْحَاجَةُ إلَى الْحَكَمَيْنِ لِإِظْهَارِ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ لِمَا يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَمَا فِي ضَمَانِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ تَعْيِينَ مَا يُؤَدَّى بِهِ الضَّمَانُ إلَيْهِ دُونَ الْمُقَوِّمِينَ فَكَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَإِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ، وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا فَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ فَإِمَّا أَنْ يُطْعِمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا كَامِلًا فَالصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّوْمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وَحَرْفُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَقَاسَ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَقَالَ حَرْفُ أَوْ لَا يَنْفِي التَّرْتِيبَ فِي الْوَاجِبِ كَمَا فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} الْآيَةَ، وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَقِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ بَاطِلٌ، وَإِذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ فَالْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ يُشْتَرَى بِهِ الطَّعَامُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّظِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ النَّظِيرُ فَإِنَّمَا يُحَوِّلُهُ إلَى الطَّعَامِ بِاخْتِيَارِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ النَّظِيرُ كَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْلِ، وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ قِيمَةُ الصَّيْدِ، وَالْأَصْلُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِذَا اخْتَارَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ بِالطَّعَامِ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ عِنْدَنَا يَتَقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَعِنْدَهُ بِمُدٍّ، وَمَذْهَبُهُ فِي هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(قَالَ) فَإِنْ أَخْرَجَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ مَا لَمْ يُعْلَمُ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ بِالْحَرَمِ كَانَ آمِنًا، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْأَمْنُ بِإِخْرَاجِهِ فَيَكُونُ كَالْمُتْلِفِ لَهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ إلَيْهِ الْأَمْنُ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ كَالْمُحْرِمِ يَأْخُذُ صَيْدًا فَيَمُوتُ فِي يَدَيْهِ لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي نَفْرِهِ، وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَيْدِي.
(قَالَ) وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ آمِنٌ بِالْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ مِنْ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا عَقَدَ عَقْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ الْحَرَامَ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمِ إذَا دَخَلَ الشَّامَ فَكَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ، وَالرَّامِي فِي الْحِلِّ فَرَمَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَيُصِيبُهُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ لِلنَّهْيِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ يَحْصُلُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ الصَّيْدُ صَيْدَ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ، وَعَلَى هَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ.
(قَالَ) وَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ تَنَاوُلُهُ، وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَشَرْطُ الْحِلِّ التَّسْمِيَةُ نَدْبًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُحْرِمِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَلَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ التَّنَاوُلَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا يُجْعَلُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا حَيًّا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا يَرِثَهُ، وَهُوَ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، وَالْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ مُسَمًّى بِاسْمِ الذَّكَاةِ شَرْعًا فَلَمَّا سَمَّاهُ قَتْلًا هُنَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ أَصْلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَنْ فَكُلُوا» فَإِذَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَنَّ الْإِعَانَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ هُنَا أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَعِنْدَكُمْ الصَّيْدُ لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِإِشَارَةِ الْمُحْرِمِ وَدَلَالَتِهِ قُلْنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُمَا فِي الزِّيَادَاتِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَإِنْ قَامَ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِسَاخِهِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ لِمَعْنَى الدِّينِ، وَلِهَذَا حَرُمَ التَّنَاوُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ اصْطِيَادِ الْمَجُوسِيِّ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَهَذَا مِثْلُهُ.
(قَالَ) فَإِنْ أَدَّى الْمُحْرِمُ جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا أَكَلَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَيْدَ الْمُحْرِمِ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يُوجِبُ إلَّا الِاسْتِغْفَارَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ فَكَذَا إذَا أَكَلَ هُوَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحُرُمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فَأَكَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَتْلَ هَذَا الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ بِهِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَوْلَى بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ فَإِنَّ هَذَا التَّنَاوُلَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ، وَبِخِلَافِ الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْنِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَذَلِكَ لِلصَّيْدِ لَا لِلَّحْمِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ، وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ، وَبَعْدَ الْكَسْرِ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْمَقْتُولَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ كَالْحَيِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَرِثَ، وَكَالْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى تُعْتَقَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَتْ مَوْلَاهَا فَفِيمَا يَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ جَعَلْنَاهُ كَالْحَيِّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَهُوَ جَزَاءُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ بِالتَّنَاوُلِ جَزَاءٌ آخَرُ، وَأَمَّا جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ الْجَزَاءَ.
(قَالَ) وَإِذَا أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ إلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَرَأَى الْيَعَاقِيبَ فِي الْقَصْعَةِ فَقَامَ فَقِيلَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَامَ كَرَاهَةً لِطَعَامِك فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَا كَرِهْت طَعَامَهُ، وَلَكِنْ كُنْت مُحْرِمًا فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ فَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِنَا رَدٌّ لِهَدِيَّتِك، وَلَكِنَّا حُرُمٌ».
(وَلَنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ فِي حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ فِيمَ كُنْتُمْ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَأْسَ بِهِ»، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ مَعَ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَرَأَى حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيرًا وَبِهِ سَهْمٌ ثَابِتٌ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْذَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ رَمْيَتِي فَهِيَ لَك فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ»، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ تَصْحِيفٌ وَقَعَ مِنْ الرَّاوِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ حِمَارُ وَحْشٍ، وَلَئِنْ صَحَّ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرِّجْلِ الْقِطْعَةَ مِنْ اللَّحْمِ بَلْ هُوَ الْعَدَدُ مِنْ حِمَارِ الْوَحْشِ كَمَا يُقَالُ رِجْلُ جَرَادٍ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنْ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُحْرِمِينَ صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ إلَّا مَا اصْطَدْتُمُوهُ أَوْ صِيدَ لَكُمْ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّمْلِيكِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا، وَسَوَاءٌ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُحْرِمٍ فَهُوَ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ حِينَ يُهْدِيهِ إلَيْهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ لَحْمٌ لَا صَيْدَ فِيهِ فَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ.
(قَالَ) مُحْرِمٌ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مُعَدٌّ لِيَكُونَ صَيْدًا مَا لَمْ يَفْسُدْ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِفْسَادِهِ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ فِي الرَّحِمِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ حُدُوثُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَالْمُتْلَفِ بَعْدَ الْحُدُوثِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْفَرْخِ حَيًّا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَغْرَمُ إلَّا قِيمَةَ الْبَيْضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاةُ الْفَرْخِ قَبْلَ كَسْرِهِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ الْبَيْضُ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فَرْخٌ حَيٌّ، وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ وَاجِبٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّ كَسْرَ الْبَيْضَةِ سَبَبٌ لِمَوْتِ الْفَرْخِ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَ هَذَا السَّبَبِ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَطَرَحَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَخْذًا فِيهِ بِالثِّقَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ سَبَبٌ صَالِحٌ لِمَوْتِهِمَا، وَقَدْ ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ الْإِشَارَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ جَارِيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ لَمَّا وَجَبَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْأَصْلِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْجَنِينِ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا رُجِّحَ شِبْهُ النَّفْسِ فِي الْجَنِينِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُمَا.
(قَالَ) وَإِذَا عَطِبَ الصَّيْدُ بِفُسْطَاطِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِحَفِيرَةٍ حَفَرَهَا لِلْمَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِأَخْذِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إلَّا أَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ مِنْ الْمُحْرِمِ تَعَدٍّ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاصْطِيَادَ فَأَمَّا ضَرْبُ الْفُسْطَاطِ فَلَيْسَ بِتَعَدٍّ إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِاصْطِيَادَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ فُسْطَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا فَزِعَ مِنْهُ الصَّيْدُ فَاشْتَدَّ فَانْكَسَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا أَفْزَعَهُ هُوَ أَوْ حَرَّكَهُ فَإِنَّهُ وُجِدَ بِسَبَبٍ هُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا.
(قَالَ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ مِنْ يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّيْدَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ كَمَنْ اشْتَرَى خَمْرًا لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ مِنْ يَدِهِ مُتْلِفًا عَلَيْهِ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ فَعَلَ عَيْنَ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ شَرْعًا فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ الْخَمْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَتَلَهُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مُتْلِفًا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا بِإِثْبَاتِ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْآخِذُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَاتِلِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْآخِذَ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ، وَلَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ بِالْقَتْلِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ يُفْتَى بِهَا، وَيَخْرُجُ بِالصَّوْمِ مِنْهَا فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْمَالِيَّةِ، وَيُطَالَبُ بِهِ، وَيُحْبَسُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذَا الصَّيْدِ كَانَتْ يَدًا مُعْتَبَرَةً لِحَقِّ الْآخِذِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْإِرْسَالِ، وَإِسْقَاطِ الْجَزَاءِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْقَاتِلُ يَصِيرُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ هَذِهِ الْيَدَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ كَغَاضِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُثْبِتٌ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَاَلَّذِي قَالَ يُفْتَى بِهِ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ فَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى نَفْسِ الْحَقِّ بَلْ لِمَعْنًى مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ مَالِ عِبَادِهِ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ ضَمِنَ أَبَاهُ رَجَعَ الْأَبُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُحْبَسُ فِيمَا لَزِمَهُ لِابْنِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْغَاصِبَ مِنْهُ فِيمَا يُطَالِبُهُ بِهِ.
(قَالَ) وَلَوْ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ ظَبْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ الْيَدَ مُسْتَدَامَةٌ، وَكَمَا أَنَّ إنْشَاءَ الْيَدِ مُتْلِفُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَالِاسْتِدَامَةُ كَذَلِكَ.
(قَالَ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِذِي الْيَدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَازِفِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا فِعْلُهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِإِرْسَالِهِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلضَّمَانِ كَمَنْ أَرَاقَ خَمْرَ مُسْلِمٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ مِلْكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ بَقِيَ مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا عَلَى حَالِهِ فَاَلَّذِي أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا فَيَضْمَنُ لَهُ بِخِلَافِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ، وَلَوْ رَفَعَ بِنَفْسِهِ يَرْفَعُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفَوِّتُ مِلْكَهُ بَعْدَمَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِذَا فَوَّتَ هَذَا الْمُرْسِلُ مِلْكَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، وَهَذَا طَرِيقُهُ أَيْضًا فِي إتْلَافِ الْمَعَازِفِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ هُنَاكَ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ فَالْمُرْسِلُ لَا يَكُونُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا، وَهُنَا بِالْإِحْرَامِ لَمْ يَبْطُلْ مِلْكُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَالدَّلِيلُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا حَلَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَمَا حَلَّ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
(قَالَ) مُحْرِمٌ قَتَلَ سَبُعًا فَإِنْ كَانَ السَّبُعُ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَهُ فَآذَاهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحَدَأَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ» فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا عَلَى الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ لِأَنَّ قَتْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُلْحَقِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ فَأَمَّا سِوَى الْخَمْسِ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ مِنْهَا شَيْئًا ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اسْتَثْنَى الْخَمْسَ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِهَا الْأَذَى فَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ طَبْعِهِ الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْسِ مُسْتَثْنًى مِنْ نَصِّ التَّحْرِيمِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا تَقْتُلُوا مِنْ الصَّيُودِ غَيْرَ الْمُؤْذِي، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ غَيْرُ الْمُؤْذِي، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ حِينَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ قَالَ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك فَافْتَرَسَهُ أَسَدٌ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةٌ مُمْتَدَّةٌ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَأَمَّا غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَمُحَرَّمُ التَّنَاوُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا النَّصُّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، وَاسْمُ الصَّيْدِ يَعُمُّ الْكُلَّ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لِتَنَفُّرِهِ، وَاسْتِيحَاشِهِ، وَبُعْدِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ الِاصْطِيَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى تُطْلَقُ عَلَى أَخْذِ الرِّجَالِ قَالَ الْقَائِلُ:
صَيْدُ الْمُلُوكِ ثَعَالِبٌ وَأَرَانِبُ ** وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ

ثُمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّصِّ خَمْسٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فَحُكْمُ النَّصِّ فِيهِ ثَابِتٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ خَرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا بِعَدَدِ الْخَمْسِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا مُبْطِلًا لِلنَّصِّ ثُمَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فِي مَعْنَى الْأَذَى دُونَ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْخَمْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْبُدَاءَةُ بِالْأَذَى، وَمَا سِوَاهَا لَا يُؤْذِي إلَّا أَنْ يُؤْذَى فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَلْحَقَ بِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ إلَى غَايَةٍ فَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ هَكَذَا لِأَنَّ النَّصَّ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الِاصْطِيَادِ لَا حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ، وَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَمَا تَثْبُتُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِقَتْلِ الضَّبُعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّبُعَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَفِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «حِينَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِيهِ؟ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ»، وَلَكِنْ السَّبُعُ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّيْدِ هَدَرٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْجَرْحِ أَيْ جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ إذَا كَانَ السَّبُعُ مَمْلُوكًا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ مِنْهُ أَوْ مِنْ السَّبُعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ فَأَهْدَى كَبْشًا، وَقَالَ إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ فَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ بَيَانُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ السَّبُعِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْخَمْسَ مُسْتَثْنَاةً لِتَوَهُّمِ الْأَذَى مِنْهَا غَالِبًا، وَتَحَقُّقُ الْأَذَى يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ تَوَهُّمِهِ فَتَبَيَّنَ بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَمَا أَلْزَمَهُ تَحَمُّلَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَإِذَا جَاءَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ صَارَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ أَذَاهُ مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعِبَادِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إتْلَافِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْقُطَ بِهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَتْلُ الْمُحْرِمِ الْقَمْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ قَمْلَةً وَجَدَهَا عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ، وَلَكِنْ إذَا قَتَلَ الْقَمْلَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا يَضْمَنُ لِمَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ بِإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ مُضْطَرًّا فَقَتَلَ صَيْدًا لِأَنَّ الْإِذْنَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الْآيَةَ، وَالْإِذْنُ عِنْدَ الْأَذَى ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبُعَ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عَلَى قِيَاسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيُودِ هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْخِلَافَ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فِيمَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَهُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْنَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا أَوْ لَا يُجَاوِزُ بِالْقِيمَةِ شَاةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَقَطْ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ كَسَائِرِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلَحْمِهِ بِفِعْلِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي الْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْأَسَدِ لِمَعْنَى تَفَاخُرِ الْمُلُوكِ بِهِ لَا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يُجَاوِزُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَاتَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ.
(قَالَ) وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَثْنَى مَكَانَ الْحَدَأَةِ الْغُرَابُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَيَخْلِطُ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَأَمَّا الْعَقْعَقُ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَالْخِنْزِيرُ وَالْقِرْدُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى قَتْلِهِ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْت لِكَسْرِ الصَّلِيبِ، وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ»، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَيَكُونُ نَصُّ التَّحْرِيمِ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السَّمُّورُ وَالدَّلَقُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفِيلُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ وَحْشِيًّا فَأَمَّا الْفَأْرَةُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْحَدِيثِ وَحْشِيُّهَا وَأَهْلِيُّهَا سَوَاءٌ وَالسِّنَّوْرِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا.
وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا الضَّبُّ فَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَمْسَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَيَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرَانِبُ وَالْيَرْبُوعُ يَجِبُ بِقَتْلِهِمَا الْقِيمَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُنْفُذِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْفَأْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَعَلَهُ كَالْيَرْبُوعِ فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانِ حَمَلًا أَوْ عَنَاقًا لَمْ يُجْزِهِ الْحَمَلُ وَلَا الْعَنَاقُ مِنْ الْهَدْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَدْنَى مَا يَجْزِي فِي ذَلِكَ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَلِكَ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجْزِي هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِ الْحَمَلِ وَالْعَنَاقِ كَمَقْصُودٍ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ هُنَا الْهَدْيُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَكَمَا لَا يُجْزِئُ الْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَا يُجْزِئُ هُنَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ اسْتِحْسَانًا بِالْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُسَمِّي الدَّرَاهِمَ وَالثَّوْبَ هَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَالْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ أَوْلَى فِي ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ عَنَاقًا وَفَصِيلًا وَجَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى نَاقَةً فَنَتَجَتْ كَانَ وَلَدُهَا هَدْيًا مَعَهَا يُنْحَرُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَدْيٍ لَكَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ كَذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أُجَوِّزُهُ هَدْيًا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا يُجَوِّزُ بِهِ التَّضْحِيَةَ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا إذَا نَتَجَتْ الْأُضْحِيَّةُ (قَالَ) وَفِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ الْقِيمَةَ (قَالَ) وَلَوْ أَنَّ الْمُحْرِمَ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ صِيدَ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِالتَّكْفِيرِ فَقَتْلُهُ الْآنَ جِنَايَةٌ أُخْرَى مُبْتَدَأَةٌ فَيَلْزَمُهُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ فِي الْأُولَى لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إذَا كَفَّرَ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ إلَّا مَا نَقَصَهُ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ مَجْرُوحٍ فَأَمَّا إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ مِنْهُ جِنَايَةٌ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بَاقٍ فَيُجْعَلُ الثَّانِي إتْمَامًا لَهُ فَأَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً.
(قَالَ) مُحْرِمٌ جَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ جِنَايَتُهُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِجُرْحِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَدَّى الْوَاجِبَ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَإِذَا تَمَّ الْوُجُوبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَازَ الْمُؤَدِّي كَمَا لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ.
(قَالَ) وَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ بُرُوجُ الْحَمَامَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ أَحَدٌ لِإِرْسَالِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَلَا أُمِرَ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ لِإِزَالَةِ الصَّيْدِ عَنْ مِلْكِهِ، وَتَعَرُّضُهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصَّيْدُ غَائِبًا عَنْهُ فِي بَيْتِهِ لَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَرِّضًا لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّطَيُّبُ وَلُبْسُ الْمَخِيطِ فَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ.
(قَالَ) وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا فَمَا لَا يَكُونُ جِنْسُهُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا لَا يَكُونُ صَيْدًا.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَسْكَرِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ كَالدَّجَاجِ مُسْتَأْنَسٌ بِجِنْسِهِ فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْحَمَامُ أَصْلُهُ صَيْدٌ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي الْمُسَرْوَلِ مِنْ الْحَمَامِ شَيْءٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ لَا يَفِرُّ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَمَامُ بِجِنْسِهِ مُمْتَنِعٌ مُتَوَحِّشٌ فَكَانَ صَيْدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدْ اُسْتُؤْنِسَ كَالنَّعَامَةِ وَحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
(قَالَ) وَاَلَّذِي يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الْآيَةَ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ قَتْلُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْقَتْلُ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ بَحْرِيَّ الْأَصْلِ وَالْمَعَاشِ كَالسَّمَكِ فَأَمَّا الطَّيْرُ فَهُوَ بَرِّيُّ الْأَصْلِ بَحْرِيُّ الْمَعَاشِ لِأَنَّ تَوَالُدَهُ يَكُونُ فِي الْبَرِّ دُونَ الْمَاءِ فَيَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَكُونُ مَائِيَّ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضُّفْدَعِ جُعِلَ مَائِيًّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ بَرِّيَّ الْأَصْلِ لَا يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ فِيهِ.
(قَالَ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ ظَبْيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَوَلَدَهَا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الظَّبْيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا لِإِزَالَةِ جِنَايَتِهِ، وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْحِلِّ شَرْعًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُ وَلَدِهَا مَعَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْتَفِعُ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَإِذَا ذَبَحَهُمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِمَا شَرْعًا فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الرَّدُّ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَبِذَبْحِهِمَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى.
(قَالَ) وَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّيْدَ، وَأَنْهَاهُ عَنْهُ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ أَصْلًا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ جَزَاؤُهُ أَيْضًا إنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَى الصَّيْدِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي مُفَوِّتٌ لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ.
(قَالَ) وَإِنْ اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ مَعْنًى بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إحْدَى قَوَائِمِ الظَّبْيِ (قَالَ) مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا، وَقَدْ أَزَالَ ذَلِكَ الْأَمْنَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ أَمْنِهِ بِأَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْحَرَمِ فَيُرْسِلَهُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ نَسْخُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَنَسَخَ فِعْلَهُ بِأَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ.
(قَالَ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَا أَعَادَهُ آمِنًا كَمَا كَانَ فَإِنَّ الْأَمْنَ كَانَ ثَابِتًا بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَرَمِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْنُ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَانِي عَنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْحَرَمِ سَالِمًا فَحِينَئِذٍ يَبْرَأُ عَنْ جَزَائِهِ كَمَا إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
(قَالَ)، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْرِمُ بِالصَّيْدِ مِمَّا يُتْلِفُهُ مِنْهُ أَوْ يُعَرِّضُهُ لِلتَّلَفِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَلِمَ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ انْتِسَاخُ حُكْمِ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْرَحَهُ فَتَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَوْ يَنْتِفَ رِيشَهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ أَوْ يَقْلَعَ سِنَّهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَاسَا هَذَا بِالضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْقُطُ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْفِعْلِ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هُنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْصَلَ مِنْ الْأَلَمِ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ بِانْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ لَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِبَارُ الْأَلَمِ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ تَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ.
(قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَلَالِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُحْرِمَ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُحْرِمِ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعِينَ شَرِيكًا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْإِعَانَةِ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَكَانَ عَاصِيًا فِيهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّوْبَةِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ زَجْرًا لِلْمُحْرِمِ عَنْ اصْطِيَادِهِ فَإِنَّهُ تَقِلُّ رَغْبَتُهُ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ الصَّيْدُ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً جَزَاءٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} الْآيَةَ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمْدِيَّةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ يَمْنَعُ وُجُوبَهُ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ كَفَّارَةٌ تُوجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُخْطِئِ كَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَارْتِكَابُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْعَمْدِ فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وَهَذَا الْوَعِيدُ عَلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَمْدَ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ فِي الْقَتْلِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِتَمَحُّضِ الْحَظْرِيَّةِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هُنَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا وَجَبَ إذَا كَانَ خَطَأً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتْلُ أَوَّلَ مَا أَصَابَ أَوْ أَصَابَ قَبْلَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَأَمَّا الْعَائِدُ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ اذْهَبْ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْك لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْعَوْدِ إلَيْهِ، وَجَزَاءُ الْجِنَايَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَائِدِ أَظْهَرُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُبْتَدِئِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ عَادَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الرِّبَا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} يَعْنِي مَنْ عَادَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ- بِالْحُرْمَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَوْدَ إلَى الْقَتْلِ بَعْدَ الْقَتْلِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَحْرَمَ، إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى، إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» فَإِذَا ثَبَتَ أَمْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ الْقَاتِلُ جَانِيًا بِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا مُحْتَرَمًا مُتَقَوِّمًا فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ، وَالْجَزَاءُ قِيمَةُ الصَّيْدِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ إلَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَتَأَدَّى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِي التَّأَدِّي بِالْهَدْيِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ أَيْضًا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْوَاجِبُ جَزَاءَ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَعْنَى الْغَرَامَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْحِلِّ يَغْلِبُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْمُتْلَفِ بِالنَّصِّ إمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَصْلِ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فَكَانَ جَانِبُ الْمَحِلِّ هُوَ الرَّاعِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى جَزَاءِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحِلِّ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمُبَاشِرِ، وَهُوَ إحْرَامُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الِاصْطِيَادُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ وَصْفُ الْمَحِلِّ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحِلِّ، وَهُوَ صِفَةُ الْأَمْنِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَحِلِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانُ النَّامِي مِنْ الْأَشْجَارِ النَّامِيَةِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَيَاةِ مِثْلِهَا، وَثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَانَ هَذَا بِغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ أَشْبَهَ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَإِتْلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ فَكَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ يُقَرِّرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْ مَحَلِّ أَمْنٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُ بِمُقَابَلَتِهِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْجُوعِ لِلْمِسْكِينِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالْإِطْعَامِ يَحْصُلُ دُونَ الصِّيَامِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِارْتِكَابِهِ فِعْلًا مُحَرَّمًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِفِعْلِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الصِّيَامُ، وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ هُنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ حَتَّى يُشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْغَرَامَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَلُّكُ مِنْ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي اللَّحْمِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ حَتَّى إذَا سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْمَالِ خَالِصًا بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا (قَالَ) وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَثْبُتُ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَمْلُوكِ كَالْأَشْجَارِ فَإِنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَقَاسَ هَذَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ لَا يُزِيلُ الرِّقَّ الثَّابِتَ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى يَجِبَ إرْسَالُهُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَأَمَّا الصَّيْدُ مَمْلُوكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَهُوَ مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَإِنْ بَاعَ الصَّيْدَ بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا يُرَدُّ إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ فِي الصَّيْدِ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ.
(قَالَ) رَجُلٌ أَدْخَلَ الْحَرَمَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْأَمْنُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَاتِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مُبَاشَرَةَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْ الصَّيْدِ الْآمِنِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ عُهْدَةُ مَا يَفْعَلُهُ الصَّيْدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ.
(قَالَ) وَلَا خَيْرَ فِيمَا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ، وَلَا يُدْخِلُ الْحَرَمَ شَيْئًا مِنْهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَيْهِ بِمَكَّةَ بَيْضَ نَعَامٍ وَظَبْيَيْنِ حَيَّيْنِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا، وَقَالَ أَهْدَيْتُهُمَا إلَيَّ آمِنَيْنِ مَا كَانَا أَيْ مَا دَامَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُمَا صَارَا آمِنَيْنِ بِإِدْخَالِهِمَا فِي الْحَرَمِ حَيَّيْنِ، وَالْحَجَلُ وَالْيَعَاقِيبُ مِنْ الصُّيُودِ فَبِإِدْخَالِ الْحَرَمِ إيَّاهُمَا حَيَّيْنِ يَثْبُتُ الْأَمْنُ فِيهِمَا فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي هَذَا التَّرْخِيصُ بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَإِنْ ذَبَحَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْحَرَمَ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِهِمَا فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ، وَاللَّحْمُ لَيْسَ بِصَيْدٍ.
(قَالَ) وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ، وَالْمُوجِبُ لِلْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ هَذَا الصَّيْدِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا.
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَهَذَا، وَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا قِطْعَةً مِنْ الْحَرَمِ فَمَرَّ فِيهَا السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا الرَّامِيَ فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الصَّيْدِ فَهُوَ صَيْدُ الْحِلِّ، وَبِمُرُورِ السَّهْمِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ، وَلَا فِي حَقِّ الرَّامِي، وَالسَّهْمُ لَيْسَ بِمَحَلِّ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّامِي شَيْءٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ جَرَحَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي وَقْتِ الْجَرْحِ كَانَ مُبَاحًا، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ مُوجِبًا كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ هَذَا الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْهُ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَلَكِنَّهُ كُرِهَ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ حُكْمٌ يَثْبُتُ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ عَنْهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُحَرِّمُ التَّنَاوُلَ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْجَرْحِ يُبِيحُ تَنَاوُلَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ.
(قَالَ) وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْكُوفَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْحَرَمُ كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّبْلِيغِ إلَى الْحَرَمِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَصَابَ كُلُّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذْ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ دُونَ الْكِسْوَةِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا أَصَابَ كُلَّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.
(قَالَ) وَإِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ بِالْكُوفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَصَابَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا يَظْهَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْحَلَالِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَالْمُحْرِمِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ الدَّالُّ فِيهِ كَالْمُبَاشِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ) وَإِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ تَعَلَّقَ بِالْمَذْبُوحِ فَإِذَا صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ صَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُرِقَ فَإِنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ، وَبَقِيَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ مُعَلَّقًا بِعَيْنِ الْمَذْبُوحِ فَإِذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْأَكْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهِ لَا أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ لِأَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَمَّا فِي الْهَدْيِ فَالتَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ التَّصْدِيقِ بِاللَّحْمِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِالطَّعَامِ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ فَفَضَلَ مُدٌّ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هَذَا الْمِقْدَارَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الصَّوْمَ يَصُومُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا أَوْ يُطْعِمُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّوْمَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} فَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
(قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ حِمْصَ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَالْحَلَمَةِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفِرُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الصَّيُودِ كَانَتْ مُؤْذِيَةً بِطَبْعِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قُمْ فَقَرِّدْ الْبَعِيرَ فَقَالَ أَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لَوْ أَمَرْتُك بِنَحْرِهِ هَلْ كُنْت تَنْحَرُهُ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ كَمْ مِنْ قُرَادٍ وَحَمْنَانَةٍ تُقْتَلُ بِالنَّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْقُرَادِ وَالْحَمْنَانَةِ شَيْءٌ، وَيُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلَةِ لَا لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ قَتْلُهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الشَّعْرِ فَإِنْ قَتَلَهَا فَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْقَمْلَةِ إذْ لَا خَيْرَ فِي الْقَمْلِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَمْلَةُ ضَالَّةٌ لَا تُلْتَمَسُ فَلِهَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ بِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ.
(قَالَ)، وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ إنَّ الْمَاءَ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَاءُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا شَعَثًا.
(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَصَابَ بَيْضًا مِنْ بَيْضِ الصَّيْدِ فَأَعْطَاهُ مُحْرِمًا فَشَوَاهُ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهِ إلَى الذَّكَاةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الذَّكَاةِ فِي حِلِّ تَنَاوُلِ الْبَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمَجُوسِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَا الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ كَمَا لَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَلَا يَحْرُمُ بِهِ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ.
(قَالَ) مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبُ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَرْتَفِضُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْقَصْدِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ الْعِبْرَةَ لِلْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى الرَّفْضِ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَرْتَفِضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِهَا فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصَّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ رَفْضِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ حَتَّى أَنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ.
(قَالَ) وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهُ ذِمِّيًّا أَجْزَأَهُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ كُلُّ صَدَقَةِ وَاجِبَةٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثَمَّةَ.
(قَالَ) وَإِذَا بَلَغَ جَزَاءُ الصَّيْدِ جَزُورًا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ أَغْنَامًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ التَّعْظِيمُ فِي الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ اشْتَرَى أَغْنَامًا فَذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْهَدَايَا نَحْوَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ.
(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ بِالْجَزُورِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلَا أَنْ يُقَلِّدَهُ لِأَنَّ سُنَّةَ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْرِيفِ فِيمَا يَكُونُ نُسُكًا، وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّعْرِيفُ وَالتَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، وَعَلَى هَذَا هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ نُسُكًا فَالتَّشْهِيرُ فِيهِ أَوْلَى لِيَكُونَ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ كَفَّارَةً فَسَبَبُهُ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فَالسِّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ التَّشْهِيرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذَا الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ يَسْتُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ».
(قَالَ) وَإِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الرَّمْيِ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِمَا يَتَعَقَّبُهُ لَا بِمَا يَسْبِقُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا رَمَى طَائِرًا عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَصْلِهَا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَوْضِعِ الطَّائِرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُصْنُ فِي الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِالْغُصْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهُ} فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعَ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَوَاءِ الْحَرَمِ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَوَاءِ الْحِلِّ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحِلِّ فَأَمَّا فِي قَطْعِ الْغُصْنِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَغْصَانِ بِالشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْأَغْصَانِ حُكْمَ أَصْلِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحَرَمِ، وَبَعْضُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدٍ قَائِمُ بَعْضِ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ يَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَوَائِمُ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ قِوَامَهُ بِقَوَائِمِهِ دُونَ رَأْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ قِوَامُهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَإِذَا كَانَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» قَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كُلُّ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ تُؤْذِي الطَّائِفِينَ فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا، وَحُرْمَةُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ يَأْوِي إلَى أَشْجَارِ الْحَرَمِ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَتَّخِذُ الْأَوْكَارَ عَلَى أَغْصَانِهَا فَكَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ فَكَذَلِكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُ، وَشَجَرُ الْحَرَمِ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَمَّا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ سَوَاءٌ أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي الْحَرَمِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَطْعِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِمَا يَنْبُتُهُ النَّاسُ عَادَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ نَبَتَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى قَالُوا لَوْ نَبَتَ فِي مِلْكِ رِجْلِ أُمِّ غِيلَانٍ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَطَعَ رَجُلَانِ شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا قِيمَةُ وَاحِدَةٍ عَلَى قِيَاسِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ رَجُلَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا يَسْتَوِي إنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَلَالَيْنِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَتَكَامَلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا حُرْمَةُ الشَّجَرَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الصِّيَامُ إنَّمَا يُهْدِي أَوْ يُطْعِمُ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ.
(قَالَ) وَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَدَّى قِيمَتَهَا لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ فَلَا تَبْقَى أَشْجَارُ الْحَرَمِ، وَفِي ذَلِكَ إيحَاشُ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ صَارَ مَمْلُوكًا بِمَا غَرِمَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَقْطُوعِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ صَيْدَ الْحَرَمِ ثُمَّ تَنَاوَلَهُ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّنَاوُلِ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ غَرَسَهَا فَنَبَتَتْ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا، وَيَصْنَعَ بِهَا مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مِلْكُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْبَتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ.
(قَالَ) وَمَا تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ حَتَّى سَقَطَ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ بِمَا يَكُونُ نَامِيًا فِيهِ حَيَاةَ مِثْلِهِ، وَالْمُتَكَسِّرُ وَمَا يَبِسَ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى النُّمُوِّ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ.
(قَالَ)، وَلَا يُخْتَلَى حَشِيشُ الْحَرَمِ، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، أَوْ لِبُيُوتِهِمْ وَقُبُورِهِمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ»، وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ لِذَلِكَ أَوْ كَانَ أَوْحَى أَنْ يُرَخَّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَا لَا يُرَخَّصُ فِي قَطْعِ الْحَشِيشِ فِي الْحَرَمِ بِالْمِنْجَلِ فَكَذَلِكَ لَا يُرَخَّصُ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْتَشَّ، وَيُرْعَى لِأَجْلِ الْبَلْوَى، وَالضَّرُورَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ حَمْلُ عَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَفِي الِاحْتِشَاشِ» ارْتِكَابُ النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ لِأَنَّ مَشَافِرِ الدَّوَابِّ كَالْمَنَاجِلِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ (قَالَ) وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْكَمْأَةِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُودَعٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ الْقُدُورِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَجَرِ فِي الْحَرَمِ مُبَاحٌ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ أَيْضًا ثُمَّ حُرْمَةُ الْحَرَمِ خَاصَّةٌ بِمَكَّةَ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيُودِ، وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ «إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَقَالَ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصْطَادُ فِي الْمَدِينَةِ فَخُذُوا ثِيَابَهُ»، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى بَعْضَ الصِّبْيَانِ بِالْمَدِينَةِ طَائِرًا فَطَارَ مِنْ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» اسْمُ ذَلِكَ الطَّيْرِ، وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَمَا نَاوَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيًّا، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَتَكُونُ قِيَاسَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِخِلَافِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا مُحْرِمًا (قَالَ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْبَازِيَ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ غَيْرَ قِيمَتِهِ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا صِفَةٌ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنَفُّرِهِ، وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ، وَلَا يَزْدَادُ لِأَنَّ تَوَحُّشَهُ مِنْ النَّاسِ يَقِلُّ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ زَائِدًا فِي الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ مُتْلِفَهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّتُهُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا، وَكَذَلِكَ الْحَمَامَةُ إذَا كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا لِلْعِبَادِ يُعْتَبَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُصَوِّتُ فَتَزْدَادُ قِيمَتُهَا لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا (قَالَ) وَإِذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّيَ الْجَزَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَوْرَدَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ أَوْ صَيْدٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا غُنْيَةٌ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْمَيْتَةِ أَغْلَطُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ أَغْلَظِ الْحُرْمَتَيْنِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَهْوَنِهِمَا، وَقَتْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ كَالْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى فَلِهَذَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.