فصل: بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ:

(قَالَ)، وَإِذَا شَهِدَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا كُلُّ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنُوا، وَلَمْ يُحَدُّوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الرُّجُوعِ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاجِعُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ مَا بَقِيَتْ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى زِنَاهُ، فَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْآخَرِينَ أَيْضًا فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي الرُّبْعِ فَعَلَى الرَّاجِعِينَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمِيعًا وَيُحْدَوُنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَدُّونَ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ وَيُحَدُّونَ عِنْدَهُمَا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَرْبَعَةٍ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ زِنًى آخَرَ فَالزِّنَا بِزَيْنَبِ غَيْرُ الزِّنَا بِعَمْرَةِ فَفِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الْإِحْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا لَوْ رَجَعُوا وَقَذَفَ الْمَرْجُومَ إنْسَانٌ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؟ وَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ سِوَاهُمْ أَنَّهُ كَانَ زَانِيًا بَعْدَ رُجُوعِهِ لَا يُحَدُّونَ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إهْدَارِ الدَّمِ وَيُعْتَبَرُ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَنْدَرِئُ الشُّبُهَاتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: هُمْ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ جُعِلُوا كَالشَّاهِدِينَ بِزِنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلُوا كَذَلِكَ لَضَمِنُوا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَشَاهِدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أُخْرَى، وَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِهَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُعِلُوا كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ.
(قَالَ)، وَلَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ حُدُّوا جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا، فَقَدْ حَكَمْنَا فِي حَقِّهِمْ بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ مَقْتُولٌ ظُلْمًا حَتَّى غَرَّمْنَاهُمْ الدِّيَةَ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُ عَفِيفٌ، وَأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ خَمْسَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ غَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النَّفْسِ وَيُحَدَّانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ.
(فَإِنْ قِيلَ) الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَرُجُوعِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ الْحَدَّ.
(قُلْنَا) لَمْ يَجِبْ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ بَقَاءُ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، فَإِذَا زَالَ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرِّرِ فِي حَقِّهِ لَا بِزَوَالِ الْمَانِعِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ.
(قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا فَعَلَ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ شَيْئًا مِمَّا هُوَ إلَى السُّلْطَانِ فَلَيْسَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا الْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ إلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَ مَنْ عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ إقَامَتَهُ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ نَائِبُهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ فَانْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي قُلْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَيَجْتَمِعُ الصُّلَحَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَدَّ، وَأَهْلُ الزَّيْغِ يُعَلِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ بِالزِّنَا قَدْ انْعَزَلَ فَكَانَ زِنَاهُ فِي وَقْتٍ لَا إمَامَ فِيهِ، وَلَوْ زَنَى فِي مَكَان لَا إمَامَ فِيهِ، وَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا زَنَى فِي زَمَانٍ لَا إمَامَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ بِالْفِسْقِ لَا يَنْعَزِلُ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ وَاسْتِيفَاؤُهُ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ.
(قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: السُّكْرُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَحَدُّ سُكْرِهِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ جَدُّهُ مِنْ هَزْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ يُسَمَّى فِي النَّاسِ سَكْرَانَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ السُّكْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ أَقْصَى النِّهَايَةِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالْفَرْوَ مِنْ الْقَبَاءِ وَالذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ قَذَفَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ إنَّمَا يَكُونُ بَدَلًا وَالْبَدَلُ لَا يَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ أَوْ يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ رُجُوعَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فَلَا يَكُونُ اسْتِحْلَافُهُ مُفِيدًا، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ فَالِاسْتِحْلَافُ فِيهِ يَكُونُ مُفِيدًا كَالْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
(قَالَ) إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ضَمِنَ الْمَالَ، وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ، فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِمُوجِبِ الْأَخْذِ، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ يَثْبُتُ الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ فَإِنْ جَاءَ الْمَقْذُوفُ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَهُ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ فَالْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا عَنْ بَيَانِ مَا شَهِدَا بِهِ.
فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ يَا زَانٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ الْقَاذِفُ إنْ كَانَا عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، فَإِنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك».
(قَالَ) وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي شُهُودَ الْقَذْفِ بِالْعَدَالَةِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ هَتْكِ السِّتْرِ وَأَذَى النَّاسِ بِالْقَذْفِ فَيُحْبَسُ لِذَلِكَ، وَلَا يُكَفِّلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُكْفَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ الْكَفِيلَ فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ، وَلَا خِلَافَ لَهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي إيفَائِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مَقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِمُلَازَمَتِهِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا حَقِيقَةُ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَبِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَالَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ بِمَنْزِلَةِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْأَمْوَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، وَلِهَذَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ إثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْكَفَالَةُ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ فَلَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُ الْخَصْمَ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَكِنْ إنْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ فَأَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ وَمَا لَمْ يُقِمْ الشَّاهِدُ سَوَاءٌ لَا يَحْبِسُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ بِالْعَدَالَةِ فَادَّعَى أَنَّ شَاهِدَهُ الْآخَرَ حَاضِرٌ حَبَسَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: قَدْ تَمَّ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ، فَلَوْ تَمَّ الْعَدَدُ حَبَسَهُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ صِفَةُ الْعَدَالَةِ قُلْنَا: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ وَيُمْهِلُهُ فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَحْبِسُهُ هَذَا الْمِقْدَارَ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحَدِّ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ.
(قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَذَفَهُمَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ.
(قَالَ) وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأُدِّيَتْ مُكَاتَبَتُهُ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ يُرِيدُ بِهِ إنَّهُ إذَا زَعَمَ الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالظَّاهِرِ لَا تَكْفِي لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ وَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَمَا لَمْ يُقِمْ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهُ اكْتَفِي بِمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْحَدِّ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي بِالْحُرِّيَّةِ هُنَا بِعِلْمِهِ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْحَدِّ فَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَكُونُ قَوْلًا مَحْضًا كَالْبُيُوعِ وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا فَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ بِالتَّسْلِيمِ وَلَكِنْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُقْرِضِ أَقْرَضْتُك، وَذَلِكَ قَوْلٌ فَأَلْحَقَهُ بِالْإِقْرَارِ لِهَذَا، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ وَالْغَصْبُ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْأَفْعَالِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ وَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَحُضُورُ الشُّهُودِ فِعْلٌ فَأُلْحِقَ بِالْأَفْعَالِ لِهَذَا، وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْفِعْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ نَذْكُرُهُ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ.
فَأَمَّا الْقَذْفُ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِيهِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا وَأُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْأَفْعَالِ؟ فَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالتَّنَاوُلِ مِنْ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْقَذْفُ قَوْلٌ قَدْ تَكَرَّرَ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، قَالَ: إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ بِالْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ لَاعَنَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ الْإِبَانَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ حُدَّ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْقَذْفِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الشُّهُودِ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ.
(قَالَ)، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ ثُمَّ عَفَى الْمَقْذُوفُ عَنْهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ عِنْدَنَا وَذَكَرَ ابْنُ عِمْرَانَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك»، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَدُّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَخُصُومَتُهُ هُنَاكَ بِالْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ مَنْ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَلَمَ الْجَلْدَاتِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَإِذَا فُوِّضَ إلَى مَنْ لَهُ رُبَّمَا لَا يَقِفُ عَلَى الْحَدِّ لِغَيْظِهِ فَجُعِلَ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ، فَإِذَا جَاوَزَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ذَلِكَ الْحَدَّ يُعْلَمُ ذَلِكَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ.
(وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِحْصَانُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالرَّجْمِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ، وَالزَّوَاجِرُ مَشْرُوعَةٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا يَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَائِزٌ فَمَا أُوجِبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ، وَمَا أُوجِبَ بِاسْمِ الْحَدِّ فَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الِاسْمِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الزَّجْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِسْبَةِ الزِّنَا وَبَيْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا وَحُرْمَةُ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْوَاجِبِ بِمُبَاشَرَةِ الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِإِبْقَاءِ السِّتْرِ وَتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا وَاعْتِبَارُ الْإِحْصَانِ لِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَنْفِي مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي عِرْضِهِ حَقَّهُ وَحَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي دَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا دَلَّ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ فِيهِ، قُلْنَا بِأَنَّ الْمُغَلَّبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِبَارِ حَقِّ الْعَبْدِ فِيهِ أَيْضًا لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّفَاوُتَ لَكِنَّ التَّعْزِيرَ لَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ حَقًّا لَهُ لَا يُنْظَرُ إلَى تَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ كَمَا تُتَوَهَّمُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ، وَيُمْنَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، كَمَا يُمْنَعُ الْجَلَّادُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الْحَقِّ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ هَذَا الْحَدُّ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ لِانْعِدَامِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، لَا لِأَنَّ بَدَنَهُ دُونَ بَدَنِ الْحُرِّ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ فَاحْتِمَالُ بَدَنِ الْعَبْدِ لِلْمَهَانَةِ وَالضَّرْبِ أَكْثَرُ، وَإِنَّمَا يَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ النِّعَمِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ حَقٌّ لِلْمُنْعِمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ مُتَمِّمًا لِهَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْحَدِّ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ أَيْضًا، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُ وَطَلَبُهُ، وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُصَدِّقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ مُكَذِّبٌ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا كَانَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلِهَذَا يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الشُّهُودِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَلَا يَصِيرُونَ مُتَّهَمِينَ بِالضَّغِينَةِ، وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْعَبْدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ بِهِ وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ بِعَفْوِهِ لَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ مَا يَتَمَحَّضُ حَقًّا لَهُ فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ.
وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ كَالْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِعَفْوِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعَافِي لَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَقَدْ تَرَكَ الطَّلَبَ إلَّا أَنَّهُ إذَا عَادَ فَطَلَبَ فَحِينَئِذٍ يُقِيمُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ كَانَ لَغْوًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْ إلَى الْآنَ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ أَوْ قَالَ: شُهُودِي شَهِدُوا بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ كَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَإِذَا صَدَّقَهُ، فَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا وَانْعَدَمَ بِهِ إحْصَانُهُ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَبِإِقْرَارِهِ يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ فَأَمَّا بِعَفْوِهِ لَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ، وَمَا أَسْقَطَهُ حَقُّ الشَّرْعِ فَكَانَ إسْقَاطُهُ لَغْوًا لِهَذَا.
(قَالَ) وَيُسْتَحْسَنُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ اُتْرُكْ هَذَا وَانْصَرِفْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بَعْدُ، وَهَذَا نَوْعُ احْتِيَالٍ مِنْهُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَهَكَذَا فِي السَّرِقَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ اُتْرُكْ دَعْوَى السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ نُثْبِتَ السَّرِقَةَ بِالْبَيِّنَةِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ بَعْضُهُمْ لِلْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْبَعْضُ فَأُقِيمَ الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ حَضَرَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَخَاصَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَجْلِهِ أَيْضًا، وَعِنْدَنَا لَا يُقَامُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ، وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحُكْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ.
(قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ الْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَلَوْ ثَبَتَ قَبْلَ كَمَالِ الْجَلْدِ لَمْ يَكُنْ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَلْدَاتِ وَالْمَعْطُوفُ لَا يَسْبِقُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ مُسْتَكْرَهَةً، أَوْ قَالَ: جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا، أَوْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ بِنِسْبَةِ الْمَقْذُوفِ إلَى فِعْلٍ مُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُسْتَكْرَهَةُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَقَوْلُهُ جَامَعَك جِمَاعًا حَرَامًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَقَوْلُهُ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يَكُونُ زِنًى شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ بِهَذَا الْكَلَامِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ دُونَ الْمَقْذُوفِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ أَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، وَقَدْ أُعْتِقْت فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّ فِعْلَ الذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ زِنًى وَيُحَدَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا بِهَذَا الْكَلَامِ بَلْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ عَلِمْنَا مِنْهُ الْقَذْفَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ لَا مُقِرًّا بِهِ.
وَيُضْرَبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ضَرْبًا لَيْسَ بِشَدِيدٍ مُبَرِّحٍ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِعْلٌ مُؤْلِمٌ لَا مُتْلِفٌ فَالشَّدِيدُ الْمُبَرِّحُ مُتْلِفٌ فَعَلَى الْجَلَّادِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا بِالزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ إحْصَانَهُ وَلَا يَنْفِيهِ، ثُمَّ الْخُصُومَةُ فِي هَذَا الْقَذْفِ إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِالْوِلَادِ أَوْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ بِالْوِلَادِ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الشَّيْنُ بِذَلِكَ وَحَقُّ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْعَارِ فَمَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
(قَالَ) وَلَيْسَ لِأَخِيهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْأَخِ عَلَقَةً فِي حُقُوقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَلَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْقِصَاصِ يَخْلُفُهُ فَكَذَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُصُومَةُ هُنَا لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ لِيَخْلُفَ الْوَارِثُ الْمُوَرِّثَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخُصُومَةُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَخُ لَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا نِسْبَةُ زِنَا الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ.
(قَالَ) وَلِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ، كَمَا لِلْوَلَدِ ذَلِكَ قَالَ، وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ يَرِثُ وَيُورَثُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلَدِ الِابْنَةِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي هَذَا الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ قَذَفَ أُمَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ أَبَا أُمِّهِ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ الْحَدُّ بِخُصُومَتِهِ بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ.
(قَالَ) وَلِوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ، كَمَا يَأْخُذَ بِهِ الْوَلَدُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْمَمْلُوكَ لَوْ قُذِفَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَإِذَا قُذِفَ فِي أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْحَدُّ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصُومَةُ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْخِلَافَةُ إرْثًا بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُذِفَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْعَبْدِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، أَمَّا هُنَا تَمَّ سَبَبُ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَهُوَ قَذْفُ الْمُحْصَنِ إذْ الْمَيِّتُ مُحْصَنٌ فَكُلُّ مَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِهَذَا الْقَذْفِ فَهُوَ خَصْمٌ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْغَائِبُ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ خُصُومَتَهُ تَتَعَذَّرُ لِغَيْبَتِهِ، كَمَا هُوَ مُتَعَذَّرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يَنُوبُ أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلًا لِيُخَاصِمَ وَالْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ أَصْلٌ فَمَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْهُ لَا يُعْتَبَرُ بِالْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ، وَفِي الْمَيِّتِ الْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ مَأْيُوسٍ عَنْهُ فَيُقَامُ الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْغَائِبُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لَمْ يَأْخُذْ وَلِيُّهُ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ عِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ مَوْرُوثًا عَنْ الْمَقْذُوفِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ، وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُورَثُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى»، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ خِلَافَةُ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَقِّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ.
(قُلْنَا) لَا نَقُولُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ فَالشَّرْطُ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي خُصُومَتِهِ أَوْ وَصِيُّهُ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ إلَى إنْسَانٍ.
(قُلْنَا) شَرْطُ الْحَدِّ مُعْتَبَرٌ بِسَبَبِهِ فَكَمَا أَنَّ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ سَبَبُ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَرْطُ الْحَدِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ خُصُومَةُ وَلَدِهِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَتِهِ، وَكَيْف يُقَالُ ذَلِكَ وَلَا يُورَثُ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ خَصْمٌ عَنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَامِ مَقَامَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ.
(قَالَ) وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَطْلُبُ بِحَدِّهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ الْوَكَالَةَ فِي حَدٍّ، وَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِثْبَاتُ مِنْ جُمْلَةِ مَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ فِيهِ وَتَلَافِيهِ وَالتَّوْكِيلُ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ قَدْ عَفَى، وَأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَهَذَا لَا يُسْتَوْفَى بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ.
(قَالَ) فَإِنْ مَاتَ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْقَاذِفُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ غَابَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ لَمْ يَتِمَّ إلَّا، وَهُوَ حَاضِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَمِيَ الشُّهُودُ أَوْ فَسَقَوْا بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضُ الْحَدِّ دُرِئَ عَنْهُ مَا بَقِيَ.
(قَالَ) وَالْقَذْفُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسُنِ، رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْإِيجَازَ وَالتَّرْخِيمَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ: أَصَاحِ تُرَى بَرْقًا أُرِيَك وَمِيضَهُ مَعْنَاهُ يَا صَاحِبُ وَقُرِئَ وَنَادَوْا يَا مَالِ أَيْ مَالِكُ، وَهَذَا أَيْضًا حَذْفُ آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّرْخِيمِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ امْرِئِ الْقِيسِ: أَفَاطِمُ مَهْلًا أَيْ يَا فَاطِمَةُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ التَّذْكِيرُ وَإِلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَصْلِ، وَالْفَصْلُ هُنَا حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا وَاسْتَدَلَّ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ} {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ}.
فَأَمَّا إذَا قَالَ: يَا زَانِيَةُ، فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَزَادَ حَرْفَ الْهَاءِ فَتَلْغُو الزِّيَادَةُ وَيَبْقَى قَاذِفًا لَهُ مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِآخِرِ الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَسَّابَةٌ وَعَلَامَةٌ وَرَاوِيَةٌ لِلشَّعْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ: هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِعِلْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِالزِّنَا أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالزِّنَا، وَهَكَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ثُمَّ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ الْمُمَكِّنَةُ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِذَلِكَ فَقَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ نَظِيرُ قَذْفِ الْمَجْبُوبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانٍ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا بِأَنْ تَسْتَدْخِلَ فَرْجَ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا.
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ أُجِّلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَأْنَى بِهِ وَيُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيُحْضِرَ شُهُودَهُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى دَفْعًا أَوْ طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيَأْتِيَ بِهِ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِقَامَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ وَلَكِنْ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ إلَى شُهُودِك وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُحْضِرُ شُهُودَهُ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ نَائِبًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْضِرْ الشُّهُودَ بَقِيَ سِتْرُ الْعِفَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ.
(قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} فَإِنْ جَاءَ بِهِمْ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِزِنًى مُتَقَادِمٍ دَرَأْتُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِتُوهِمَ الضَّغِينَةَ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَقَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا رَابِعُهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَلَامِهِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ مُلْتَزِمٌ لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا وَبِالثَّلَاثَةِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فَكَانُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ جَمِيعًا.
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَعَنْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إثْبَاتِ الْإِقْرَارِ هُنَا إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَإِنْ كَثُرَ الشُّهُودُ، فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ مُنْكِرٌ، وَلَوْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ إسْقَاطُ الْحَدِّ وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ تِلْكَ الشَّهَادَةِ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي إذَا تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمُثَنَّى شَهَادَةٌ فِي ذَلِكَ.
(قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ الزَّانِي بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًى آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ فَفِي مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقُ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ رَمْيُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَالْمُحْصَنُ لَا يَكُونُ زَانِيًا فَقَاذِفُ الزَّانِي بِالزِّنَا قَاذِفٌ غَيْرَ الْمُحْصَنِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي نِسْبَتِهِ إلَى أَصْلِ فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ.
(قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطْئًا حَرَامًا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ هَذَا فِي الْمِلْكِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، أَمَّا فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَالْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ الْمُحْرِمَةِ أَوْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَوْ هِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ، وَهُوَ نَظِيرُ وَطْءِ امْرَأَتِهِ الْمَرِيضَةِ إذَا كَانَتْ تَسْتَضِرُّ بِالْوَطْءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْيِيدِ كَأَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِوَطْئِهَا إحْصَانَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُبِيحٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ انْتِفَاءُ الْحِلِّ فَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ إحْصَانُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَطْئًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِوَطْئِهَا وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ رِقًّا لَا يَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَوَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ قَائِمٌ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَبِأَنْ يَلْزَمَهُ الْعُقْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالزَّوْجَةِ.
(قَالَ) فَإِنْ وَطِئَ أُمَّتَهُ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِوَطْءِ أَبِيهِ إيَّاهَا أَوْ بِوَطْئِهِ أُمَّهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْمُصَاهَرَةِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً فَهُوَ نَظِيرُ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ فَأَمَّا إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ أَمَةٍ بِشَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا فَقَذَفَهُ رَجُلٌ حُدَّ قَاذِفُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْيِيدِ، فَإِنَّ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيلَ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ أَبَاهُ لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ فَوَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ اللَّمْسَ وَالتَّقْبِيلَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ نَصٌّ ظَاهِرٌ بَلْ نَوْعُ احْتِيَاطٍ أَخَذْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْوَطْءِ مَقَامَ الْوَطْءِ وَبِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الْمَزْنِيِّ بِهَا، فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ نَصًّا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}، فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَمَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مَسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَبِ يَطَأُ جَارِيَةَ ابْنِهِ.
(قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ وَوَطِئَهَا سَقَطَ بِهِ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ أَوْ امْرَأَةً وَعَمَّتَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَبِالْوَطْءِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا عِنْدَ الْوَطْءِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ سَقَطَ إحْصَانُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِي الظَّاهِرِ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِجَهْلِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِإِحْصَانِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَهُمَا حُدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ إحْدَاهُمَا عَنْ مِلْكِهِ حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى وَبِمِثْلِ هَذَا الْوَطْءِ لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ فَإِنْ وَطِئَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً مُسْتَكْرَهَةً لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَلَا قَاذِفُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنْهَا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ زِنًى، فَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنَتِهِ أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهِ أَوْ أُخْتِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا بَاعَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، فَإِنْ زَنَى فِي حَالِ كُفْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ قَاذِفُهُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ وَإِنْ بَاشَرَ امْرَأَةً حَرَامًا وَبَلَغَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى الْجِمَاعِ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْإِحْصَانِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّ الْمُسْقِطَ لِلْإِحْصَانِ الزِّنَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَاللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا.
(قَالَ) مَجْنُونٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُطَاوِعَةٍ أَوْ مُسْتَكْرَهَةٍ ثُمَّ قَذَفَ الْمَجْنُونَ أَوْ الْمَرْأَةَ قَاذِفٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِوُجُودِ الْوَطْءِ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، وَإِنْ قَذَفَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَقَاذِفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ فَأَوَّلُ ذَلِكَ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَالشَّيْنُ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ هُوَ الْقَاذِفَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ لِلْآيَةِ.
(قَالَ)، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَعَلَى الذِّمِّيِّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ حَدٌّ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُحْصَنٌ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِقَذْفِهِ وَالْقَاذِفُ مَعَ كُفْرِهِ حُرٌّ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُحْصَنٌ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الْأَخْرَسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْطِقُ رُبَّمَا يُقِرُّ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَاذِفِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.
(قَالَ) وَالْقَاذِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مَتَى قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِهِمْ أَوْ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ رَجُلًا مِنْهُمْ لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ، وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْإِمَامِ إذَا اُرْتُكِبَ السَّبَبُ، وَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْحَدُّ.
(قَالَ) وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَيُحَدُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ.
(قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهَا فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُنْت قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِكَلَامِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ بِكَلَامِهِ قَذْفٌ كَانَ قَبْلَ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ لَهَا وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ فَصَارَتْ قَاذِفَةً لِلرَّجُلِ بِقَوْلِهَا: زَنَيْتُ بِك فَعَلَيْهَا الْحَدُّ لَهُ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ فَلَا لِعَانَ، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ بِتَصْدِيقِهَا، وَلَمْ تَصِرْ قَاذِفَةً لَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ زِنًى.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مُبْتَدِئَةً: زَنَيْتُ بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ؛ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرِ أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلَا أُمَّهُ إلَى صَرِيحِ الزِّنَا فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ فَلَا يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِهِ الْحَدَّ إنَّمَا يُوجَبُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ يَا آكِلَ الرِّبَا أَوْ يَا خَائِنُ أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَلِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا ثَوْرُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَعْنَى الْبَلَادَةِ أَوْ الْحِرْصِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ؟ فَيُقَالُ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الْقَاذِفَ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ وَلَيْسَ بِحِمَارٍ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا كَلْبُ، وَحُكِيَ عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُعَزَّرُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِينَا يُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّلَبِ وَقِلَّةِ الِاسْتِحْيَاءِ، فَقَدْ يُسَمُّونَ بِهِ كَالْكَلْبِيِّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَالشَّيْنُ يَلْحَقُهُ دُونَ الْمَقْذُوفِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهُ: فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ وَجَامَعْتَهَا أَوْ فَعَلْتَ بِهَا فَسَمَّى الْفُحْشَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَفِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ فَمَا لَمْ يَقْذِفْهُ بِصَرِيحِ الزِّنَا لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ.
(قَالَ) وَإِذَا عَرَّضَ بِالزِّنَا فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَقُولُ فِي حَالِ الْمُخَاصَمَةِ مَعَ الْغَيْرِ: مَقْصُودُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ نِسْبَةُ صَاحِبِهِ إلَى الشَّيْنِ وَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لِلْغَيْرِ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ تُصُوِّرَ مَعْنَى الْقَذْفِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
(قَالَ) فَإِنْ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا إنَّمَا حَكَى خَبَرَ مُخْبِرٍ، وَالْخَبَرُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ يَكُونُ كِذْبًا، فَالْمُخْبِرُ يَكُونُ حَاكِيًا لِلْقَذْفِ عَنْ الْغَيْرِ لَا قَاذِفًا وَإِنْ قَالَ: اذْهَبْ فَقُلْ لِفُلَانٍ إنَّكَ زَانٍ فَالْمُرْسَلُ لَا يَكُون قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرُ الْغَيْرِ أَنْ يَقْذِفَهُ وَبِالْأَمْرِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا، كَمَا أَنَّهُ بِالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ قَاتَلَا فَإِنْ ذَهَبَ الرَّسُولُ وَحَكَى كَلَامَ الْمُرْسِلِ عَلَى وَجْهِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ كَلَامَ الْغَيْرِ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَنْتَ زَانٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُ بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدَنِي رَجُلٌ عَلَى شَهَادَتِهِ بِأَنَّك زَانٍ فَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ شَهَادَةَ الْغَيْرِ إيَّاهُ فَيَكُونُ قَاذِفًا.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِلْعَبْدِ: يَا زَانٍ، فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ، حُدَّ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ أَنْتَ مَعْنَاهُ بَلْ أَنْتَ الزَّانِي، فَإِنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا تَقَدَّمَ مُعَادًا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاذِفًا لِصَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِقَذْفِ الْعَبْدِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَدُّ لِصَاحِبِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: يَا زَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: صَدَقْتَ لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَتَصْدِيقُهُ إيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا وَلَكِنْ هَذَا الظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا لَا حَدَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ زَنَى فَرْجُك فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا يَكُونُ بِالْفَرْجِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ زَنَى يَدُك أَوْ رِجْلُك.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَطَعَ كَلَامَهُ: وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ فَقَالَ: زَنَيْت وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ حُكْمَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ زَنَيْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ فَهُوَ قَاذِفٌ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْعَطْفُ لِلْإِشْرَاكِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَعَك، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَفُلَانٌ مَعَكَ عَتَقَا جَمِيعًا؟ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنَّ فُلَانًا مَعَك شَاهِدٌ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ خَبَرًا آخَرَ لِلثَّانِي، وَمُوجِبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إضْمَارِ خَبَرٍ آخَرَ لِلثَّانِي فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عَنْهُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَنْ تَكُونُ أُمُّهُ زَانِيَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَذْفَ الْمَيِّتَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلِوَلَدِهَا أَنْ يُطَالِبَ بِحَدِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إثْبَاتُ إحْصَانِ الْأُمِّ وَمَوْتِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَإِذَا كَانَتْ حَيَّةً فَلَا خُصُومَةَ لِلْوَلَدِ مَعَ قَاذِفِهَا.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ، فَأَمَّا الْوَطْءُ إذَا لَمْ يَكُنْ زِنًى يَكُونُ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ قَذَفَ أُمَّهُ، فَإِذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلِأَنَّهَا إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فَوَلَدُهَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ هِيَ زَانِيَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: إنَّكَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ أَبِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي حَالَةِ الْمُسَابَّةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ وَنِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ بَيْنَ أُمِّهِ وَبَيْنَ فُلَانٍ الَّذِي نَسَبَهُ إلَيْهِ سَبَبَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الرِّضَا أَنَّ أَخْلَاقَك تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ فَكَأَنَّك ابْنُهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الْأَدْنَى حَقِيقَةً وَنِسْبَتُهُ إلَى الْجَدِّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُ اسْمِ الْأُبُوَّةِ عَنْ جَدِّهِ فَيُقَالُ: إنَّهُ جَدُّهُ وَلَيْسَ بِأَبِيهِ، فَإِنْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ، كَمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ حَقِيقَةً يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ مَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: بَنُو آدَمَ وَآدَمُ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ، فَإِنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ قَالَ تَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، وَهُوَ كَانَ عَمَّا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّجُلُ صِنْوُ أَبِيهِ»، وَكَذَلِكَ الْخَالَةُ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمًّا فَيَكُونُ الْخَالُ أَبًا أَيْضًا، قَالَ الْقَائِلُ: وَخَالُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالْخَالُ كَالْأَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهُ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ قَالَ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} وَفِي الْعَادَةِ زَوْجُ الْأُمِّ يَقُولُ لِوَلَدِ امْرَأَتِهِ: هُوَ وَلَدِي بِاعْتِبَارِ أَنِّي أُرَبِّيهِ وَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ ابْنًا لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ مَتَى كَانَ صَادِقًا فِي كَلَامِهِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهُ وَإِنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك وَأُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ وَقَدْ مَاتَتْ، فَإِنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لِكَافِرٍ قَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ لِعَبْدٍ، وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْذُوفَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأُمُّ، وَالْمُعْتَبَرُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ مَنْ يُطَالِبُ بِالْحَدِّ فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى ذَلِكَ لِعَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحَدِّهِ، وَإِنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا عَلَيْهِ الْحَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ فَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يُضَافُ إلَى أَبِيهِ كَالْعَبْدِ إلَى سَيِّدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفِهِ فِي نَفْسِهِ؟ فَكَذَلِكَ فِي قَذْفِهِ فِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْتَوْجَبًا عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ حَقِيقَةُ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قَذْفًا، فَإِنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لِامْرَأَةِ مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِ الْقَبِيلَةُ وَهِيَ كَانَتْ كَافِرَةً غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: جَدُّك زَانٍ أَوْ جَدَّتُك زَانِيَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا بِهَذَا؛ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا لَا يَكُونُ قَاذِفَ مُحْصَنٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ ابْنِ الزَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ الْأَدْنَى وَهِيَ كَانَتْ مُحْصَنَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ أَوْ يَا ابْنَ جَلَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ النَّاسِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْقَذْفِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ هَؤُلَاءِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ أَوْ الْجُودِ أَوْ الْجَلَادَةِ، فَقَدْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ فِيهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ قَاذِفًا مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ وَإِذَا نَسَبَ رَجُلٌ رَجُلًا إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي غَيْرِ غَضَبٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْغَضَبِ وَالسَّبِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ مُحْتَمِلٍ وُجُوهًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا مَقْصُودُهُ الْمَدْحُ بِنِسْبَتِهِ إلَى جَوَادٍ أَوْ مُبَارِزٍ أَوْ مُتَبَحِّرٍ فِي الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ الْحَسَنُ وَيَقُولُ يَا شَبِيهَا بَعْلَهُ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ إلْحَاقُ الشَّيْنِ بِهِ فِي ذِكْرِ نِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا، فَإِذَا كَانَ يُعْتَبَرُ الْحَالُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا قَالَ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَ إنْسَانٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: لَسْت بِعَرَبِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إذَا قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ: لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْقَذْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِلْآخَرِ أَنْتَ رُسْتَاقِيٌّ أَوْ خُرَاسَانِيٌّ أَوْ كُوفِيٌّ، وَلَا يُرِيدُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْقَذْفَ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ بِالتَّنَاوُلِ مِنْ عِرْضِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مُحْصَنٌ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْقَاذِفُ قُتِلَ بِهِ فَيُحَدُّ بِإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِقَذْفِهِ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِابْنِهِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ فَجَاءَ يَطْلُبُ الْحَدَّ يُضْرَبُ الْقَاذِفُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الْأُمَّ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُ الْقَاذِفِ وَالِابْنُ لَا يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَالْمَقْذُوفِ يَبْقَى الْآخَرُ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ ابْنَانِ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ مِمَّنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَتَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ عَامِلًا فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا ابْنَانِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ لَهَا مِنْ الْقَاتِلِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ مِيرَاثًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا، إمَّا بِإِسْقَاطِهِ أَوْ لِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْآخَرِ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ، فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لِلِابْنَيْنِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحَقُّ الْخُصُومَةِ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ هُنَا مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْحَدِّ لَا مُسْقِطٌ لَهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْآخَرُ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْحُجَّةِ اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ بِخِلَافِ الْعَفْوِ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْذُوفِ إلَّا ابْنٌ وَاحِدٌ فَصَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا بِخُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَلَوْ كَانَ لِلْمَقْذُوفِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ حَاضِرًا كَانَ الْآخَرُ أَوْ غَائِبًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خُصُومَتَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا وَحَالُ الِابْنَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ رَجُلًا قُدَّامَ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَقَعُ لَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَثْبُتُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَالْقَاضِي يَقْضِي فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ اسْتَقْضَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ وَقَبْلَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ، وَهُوَ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَهُ، وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ اسْتَقْضَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ السَّبَبَ فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ عَايَنَ السَّبَبَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَأَيْت لَوْ لَقِيتَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا مَا كُنْت أَصْنَعُ بِهِ فَقَالَ شَهَادَتُك عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ صَدَقْت وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْخَصْمَ، وَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْخَصْمِ لَا يَكْفِي لِلْقَضَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الِاسْتِيفَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ جَحَدَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالْمُعَايِنِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِذَا اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ.
(قَالَ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا فَوَطِئَهَا ثُمَّ قَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ السَّبَبِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ مُبِيحٌ لِلْوَطْءِ وَالْحُرْمَةُ بَعْدَهُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، فَإِنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلِ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَخَاصَمَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَا مَيِّتَيْنِ فَخَاصَمَهُ الِابْنُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت لِفُلَانٍ، وَلَا لِفُلَانَةَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ وِلَادَةِ الْأُمِّ إيَّاهُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ فَنَفْيُ وِلَادَتِهَا لَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا إنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًى، فَإِنَّمَا يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَسْت لِأَبِيك، وَلَا لِأُمِّك لَا يَنْدَرِجُ قَذْفَ الْأُمِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ وِلَادَتَهَا إيَّاهُ مُعَايِنٌ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ فِي نَفْسِ مَا هُوَ مُعَايَنٌ، وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ شَيْنٌ بِهَذَا الْقَذْفِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْت لِأَبِيك، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِنَفْيِ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ وَإِذَا قَالَ: لَمْ يَلِدْك فُلَانٌ لِأَبِيهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنَّمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَا أَبُوهُ.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِبَعِيرٍ أَوْ بِثَوْرٍ أَوْ بِحِمَارٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى التَّمْكِينِ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى فَاعِلِهِ لَا يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَلَوْ قَالَ: زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ بِثَوْبٍ أَوْ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ زَنَيْت بِدِرْهَمٍ بَدَلٌ لَك، وَهَذَا أَفْحَشُ مَا يَكُونُ مِنْ الزِّنَا أَنْ تَكْتَسِبَ الْمَرْأَةُ بِفَرْجِهَا (فَإِنْ قِيلَ) بَلْ مَعْنَى كَلَامِهِ زَنَيْت بِدِرْهَمٍ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ.
(قُلْنَا) هَذَا مُحْتَمَلٌ وَالْبَدَلُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ فَتَقَابُلُ الْمُحْتَمَلَانِ يُبْقِي قَوْلَهُ زَنَيْت، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَى الزِّنَا بِدِرْهَمٍ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُحَقِّقُ تَمْكِينَهَا مِنْهُ جَعَلَ كَلَامَهُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ ذَلِكَ جَعَلَ بِمَعْنَى الْبَدَلِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتَ بِبَعِيرٍ أَوْ بِنَاقَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ قَالَ: بِأَمَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ أَوْ يَا ابْنَ الْمُقْعَدِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ وَصْفُ الْأَبِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ كَمَنْ يَقُولُ لِبَصِيرٍ يَا أَعْمَى أَوْ يُشَبِّهُ بِهِ فِي الْحِرْفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ السِّنْدِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيرُهُ لَا قَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ يَا عَبْدُ أَوْ يَا مَوْلَى لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لَهُ بِقَوْلِهِ يَا مَوْلَى قَالَ تَعَالَى {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} وَالْمُرَادُ الْوَرَثَةُ وَبَنُو الْأَعْمَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا دِهْقَانُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَلَفْظُ الدِّهْقَانِ فِينَا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَذْفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُسَمُّونَ بِهِ إلَّا الْعُلُوجَ فَلِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، فَإِنَّ الدِّهْقَانَ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ ضِيَاعٌ وَأَمْلَاكٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ دُونَ الْقَذْفِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ يَا أَخِي وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ عَبْدِي أَوْ مَوْلَايَ فَهَذِهِ دَعْوَى الرِّقِّ وَالْوَلَاءُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْقَذْفِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ قَالَ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالْكُفْرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَشِينُ الْمَقْذُوفَ إذَا كَانَ إسْلَامُهُ مَعْلُومًا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُسْلِمِ إلَى الْكُفْرِ حَرَامٌ وَبِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: يَا زَانٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْهَمْزَةَ وَقَالَ: عَنِيت أَنَّهُ يَصْعَدُ عَلَى الْجَبَلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ لُغَةً بِالْهَمْزَةِ فَذِكْرُ الْهَمْزَةِ يُقَرِّرُهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنِيت الصُّعُودَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ مَهْمُوزًا عِنْدَ ذِكْرِ الْجَبَلِ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصُّعُودَ قَالَ الْقَائِلُ: وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَالْعَامَّةُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَّا الزِّنَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلْحَقُ الْمَقْذُوفَ الشَّيْنُ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ كَانَ قَاذِفًا مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ بِأَنْ قَالَ زَنَأْت فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِ الْجَبَلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْت لَا يَفْصِل بَيْنَ قَوْلِهِ زَنَيْت فِي الْجَبَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِدُونِ ذِكْرِ الْجَبَلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوا الْكَلِمَةَ لِمَعْنَى الصُّعُودِ يَصِلُونَ بِهِ حَرْفَ فِي لَا حَرْفَ عَلَى، وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَوِيًّا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَادَةِ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا.
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، فَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ زَالَ إحْصَانُهُ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بِالرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَارَ مَعْتُوهًا ذَاهِبَ الْعَقْلِ أَوْ أَخْرَسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ وَبِالْخَرَسِ لَا يَزُولُ إحْصَانُهُ وَلَكِنْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يُصَدِّقُهُ، وَلِهَذَا شُرِطَ بَقَاءُ الْخَرَسِ حَتَّى إذَا زَالَ الْخَرَسُ وَطَالَبَ بِالْحَدِّ فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ يَبْرَأُ.
(قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ مُلَاعَنَةٍ أَوْ وَلَدَ زِنًى فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِأَبَوَيْهِ وَفِعْلُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْصَانُهُ، وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، أَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَلِأَنَّ قَاذِفَ أُمِّهِ صَادِقٌ؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنَّ أُمَّهُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ وَمِثْلُهُ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
(قَالَ) وَإِنْ اخْتَلَفَا شَاهِدَا الْقَذْفِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي قُذِفَ بِهَا مِنْ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالنَّبَطِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُعْتَبَرٌ فِي الْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَسْت لِأَبِيك، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِحُكْمِ نِكَاحٍ يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَعَلَى قَاذِفِهِمْ الْحَدُّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنْكِحَتِهِمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعِنْدَهُمَا كُلُّ نِكَاحٍ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَاعْتِقَادُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْقَاذِفِ.
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى عَبْدٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَةِ الزِّنَا وَالْعِتْقِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مَالِيَّتَهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَبِالزِّنَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُضْرَبُونَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِمْ أَنَّهُ كَانَ عَفِيفًا وَبُطْلَانُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَا مَعَ آخَرَيْنِ عَلَى الزِّنَا عَلَيْهِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْعِتْقِ عَنْ الْعِتْقِ، وَلَمْ يَرْجِعَا عَنْ الزِّنَا وَرَجَعَ الْآخَرَانِ عَنْ الزِّنَا فَعَلَى شَاهِدَيْ الْعِتْقِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِيَّةِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَعَلَى الْآخَرَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ النَّفْسِ، فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَإِنْ شَهِدَ الرَّجُلَانِ عَلَى عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ مَعَ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرَجَمَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الْعِتْقِ جَمِيعًا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى، وَلَمْ يَضْمَنَا مِنْ دِيَةِ الْمَرْجُومِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَفِي زَعْمِهِمَا أَنَّهُ عَبْدٌ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَى الزِّنَا.
(قُلْنَا) وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ عَبْدٌ لَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ ضَمَانِ النَّفْسِ عَلَيْهِمَا مِنْ أَجْلِ شَهَادَتِهِمَا بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رُجِمَ لِعِتْقِهِ، وَإِنَّمَا رُجِمَ لِزِنَاهُ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمُزَكِّي لِلشُّهُودِ إذَا رَجَعَ ضَمِنَ وَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا بِحُرِّيَّةِ الشَّاهِدِ صَارَا مُزَكِّيَيْنِ لَهُ، وَقَدْ رَجَعَا عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَلَكِنْ الْأَصَحُّ أَنْ لَا يَجِبَ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الزِّنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُزَكِّيًا لِلشَّاهِدِ مَعَهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ شَهَادَتِهِمَا بِالْعِتْقِ تَزْكِيَةً لِلشَّاهِدِ مَعَهُمَا عَلَى الزِّنَا، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِمَا فَتَبْقَى الْحُجَّةُ عَلَى الزِّنَا تَامَّةٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا مِنْ دِيَةِ الْمَرْجُومِ شَيْئًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا.
(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا زَنَى بِصَبِيَّةٍ مُطَاوِعَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ فِيهِمَا وَعَلَى الصَّبِيِّ الْمَهْرُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْفِعْلِ وَالصَّبِيُّ أُسْوَةُ الْبَالِغِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِضَمَانِ الْفِعْلِ بِحَقِّ الْعِبَادِ إنَّمَا لَا يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
(قَالَ) وَلَوْ زَنَى الصَّبِيُّ بِامْرَأَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا وَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا وَرِضَاهَا مُعْتَبَرٌ لِكَوْنِهَا بَالِغَةً، وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَعْمِلَةً لِلصَّبِيِّ وَمَنْ اسْتَعْمَلَ صَبِيًّا فِي شَيْءٍ لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ ثَبَتَ لِوَلِيِّهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ لَهَا إذَا طَاوَعَتْهُ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الرِّضَى بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْأَمْرِ غَيْرُ مُثَبِّتٍ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا لِإِهْدَارِ قَوْلِهَا.
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ الزَّانِي أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِفِعْلِ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَزْنَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي النَّاسِ زَانٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَزْنَى الزُّنَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ.
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِخَرْسَاءَ، أَوْ أَخْرَسُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً يُسْقِطُ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ وَالْخَرَسُ يَمْنَعُهُ مِنْ إظْهَارِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَدَّعِيَ الشُّبْهَةَ وَامْتِنَاعُ وُجُوبِ الْحَدِّ لِمَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ الْجُنُونُ لَا لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ فَهُوَ نَظِيرُ الزِّنَا بِمُسْتَكْرَهَةٍ.
(قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ رَجُلَانِ سَرِقَةً وَاحِدَةً وَأَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَوْ مَجْنُونٌ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ هُنَا وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَى الْآخَرِ فَأَمَّا فِي الزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ مُبَاشِرٌ لِفِعْلٍ آخَرَ إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْإِيلَاجُ وَفِعْلَهَا التَّمْكِينُ فَجُنُونُهَا لَا يَعْدَمُ التَّمْكِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَكُونُ فِعْلُ الرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ مَخْصُوصًا بِكَمَالِ الزِّنَا، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ.
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَغْوٌ فِي إيجَابِ حُكْمِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ جُحُودِهِ الرُّجُوعُ عَنْ إقْرَارِهِ، وَلِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَشَهِدَ اثْنَانِ بِالْفِعْلِ وَالْآخَرَانِ بِالْقَوْلِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ مَا نَسَبَاهُ إلَى الزِّنَا وَالْآخَرَانِ، وَإِنْ نَسَبَاهُ إلَى الزِّنَا فَشَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْإِقْرَارِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ وَالتَّصْدِيقُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ.
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَوَاحِدٌ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِالزِّنَا وَلَيْسَ عَلَى التَّصْدِيقِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَا تُثْبِتُ التَّصْدِيقَ.
(قَالَ) وَإِذَا ضُرِبَ الْعَبْدُ حَدَّ الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ أَبَدًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْحَدُّ فِي حَقِّهِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ جَرْحٌ فِي عَدَالَتِهِ وَحُكْمٌ بِكَذِبِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ فَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَبِالْعِتْقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ تَتْمِيمًا لِحَدِّهِ وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَمْ يَزِدْهُ إلَّا شَرًّا، وَإِذَا صَارَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَبِالرِّدَّةِ لَا يَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فَإِنْ ضُرِبَ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَلَكِنْ يَزُولُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ وَيَسْتَفِيدُ بِالْإِسْلَامِ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَيَتِمُّ بِهِ حَدُّهُ، ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ شَهَادَةً حَادِثَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ كُفَّارٌ شَهِدُوا عَلَى كَافِرٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ كَافِرَتَيْنِ فَلَمَّا قُضِيَ بِالْحَدِّ عَلَيْهِمْ أَسْلَمَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَتَانِ بَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ وَبَقِيَ الْحَدُّ عَلَى الْأُخْرَى لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ فِي حَقِّهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الزِّنَا بِاَلَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ بَاقٍ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدُوا عَلَى كَافِرَيْنِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهَا وَعَنْ الرَّجُلَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ خَاصَّةً وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ فِي زِنَاهُ بِهَا.
(قَالَ) وَإِذَا جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ، وَلَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقَّ التَّمَلُّكِ إنْ شَاءَ، وَهَذَا قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يُتْلِفَ مَالِيَّتَهُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْلَفَ بِتَمْلِيكِ الْوَلِيِّ أَيَّاهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَلِيِّ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ أَوْ تَمَلَّكَهَا فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ الْعَيْنِ، فَإِذَا صَارَ إتْلَافُ الْكُلِّ حَقًّا لَهُ شَرْعًا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إتْلَافِهِ جُزْءًا مِنْهَا وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْحَدِّ أَوْ عُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِ، وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ مَالٌ فَيَكُونُ لِمَوْلَاهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلِيِّ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِيهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَكُونُ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ الْجَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْحُرِّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْمَمْلُوكِ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ؟ وَلِهَذَا خُيِّرَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَقَدْ وَصَلَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقُّهُ وَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الشُّغْلُ إنَّمَا لَحِقَنِي بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْ أَدْفَعَهَا لِأُخَلِّصَ نَفْسِي مِنْ هَذَا الشُّغْلِ فَكَانَ هَذَا مِلْكًا حَادِثًا لِلْوَلِيِّ فِيهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْقُطُ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ عَنْ الرَّقَبَةِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ يَسْقُطُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي مَحَلِّهِ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الدَّفْعَ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَطِئَهَا وَلَهُ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، كَمَا فِي الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فِيهَا وَحَيْثُ وَجَبَ الْحَدُّ هُنَا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصْلًا، وَهُوَ أَنَّهُ زَنَى بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ هَكَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْحَادِثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْوَلِيِّ بِدَفْعِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْفَصْلِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي النَّوَادِرِ فَذَكَر أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِهِ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ عَلِيٌّ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى بِحُرَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَحَلِّ لَوْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ كَانَ مَانِعًا وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ كَمِلْكِ السَّارِقِ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَالْعَمَى وَالْفِسْقُ فِي الشُّهُودِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهِ إنَّمَا أَقَامَ بِوَطْئِهِ امْرَأَةً هِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى وَالْمُسْتَوْفَى مَثَلًا شَيْءٌ فَبِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُسْتَوْفَى فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، وَقَدْ مَلَكَ تِلْكَ الْعَيْنَ فَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا وَمِلْكُ الْعَيْنِ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْحِلِّ فَيُجْعَلُ الطَّارِئُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ كَمَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ، فَأَمَّا بِالنِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا يُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا، فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.