فصل: كِتَابُ الْمَنَاسِكِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْمَنَاسِكِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا ** كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

أَيْ يَقْصِدُونَ لَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِأَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَظِيمٍ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِقَصْدٍ، وَعَزِيمَةٍ، وَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ.
وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ النُّسُكِ، وَالنُّسُكُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا، وَلَكِنَّهُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَآكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِلْزَامِ كَلِمَةُ عَلَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا».
وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ شَاءَ سِوَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}».
وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {حِجُّ الْبَيْتِ} فَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْبَيْتُ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مَرَّةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ» وَالْوَقْتُ فِيهِ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّ أَرْكَانَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمِنَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ كَمَا لَا يَتَأَدَّى السُّجُودُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَالْمَالُ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ مِنْ فَقِيرٍ لَا مَالَ لَهُ فَرْضًا.
وَأَرْكَانُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْأَفْعَالُ، وَالْمَالُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ لِيَتَيَسَّرَ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَوَاضِعِ أَدَاءِ أَرْكَانِهِ.
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ فَقَالَ إذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ اقْتَدِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْوَاحِدُ يَشُكُّ فِي حَالَةٍ أَنَّهُ يَحُجُّ أَوْ لَا يَحُجُّ فَقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ أَنَّهُ يَحُجُّ فَمَا أَخْطَأَتْ فِرَاسَتُهُ (قَالَ) فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ، وَالْغُسْلُ فِيهِ أَفْضَلُ.
هَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ فَاغْتَسَلَ» رَوَاهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ قَالَ مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ، وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ مَعَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَأَدَّى فَعَرِّفْنَا أَنَّ هَذَا الِاغْتِسَالَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ، وَمَا كَانَ لِهَذَا الْمَقْصُودُ فَالْوُضُوءُ يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَكْمَلُ ثُمَّ الْبَسْ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ هَكَذَا ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ»، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَتَعَيَّنَ لِلسِّتْرِ الِارْتِدَاءُ وَالِائْتِزَارُ.
وَالْجَدِيدُ وَالْغَسِيلُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الْجَدِيدَ أَفْضَلُ «لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَيَّنْ لِعِبَادَةِ رَبِّك» (قَالَ) وَادْهُنْ بِأَيِّ دُهْنٍ شِئْت، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَيَّبَ، وَيَدْهُنَ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِمَا شَاءَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كُنْت لَا أَرَى بِذَاكَ بَأْسًا حَتَّى رَأَيْت أَقْوَامًا يُحْضِرُونَ طِيبًا كَثِيرًا، وَيَصْنَعُونَ شَيْئًا شَنْعًا فَكَرِهْت ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخَةٌ أَيْ مُتَلَطِّخَةٌ بِالْخَلُوقِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا جُبَّتُكَ فَانْزِعْهَا، وَأَمَّا الْخَلُوقُ فَاغْسِلْهُ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجَّتِك» فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَنَا حَدِيثُ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ».
وَفِي رِوَايَةٍ «كُنْت أَرَى وَبِيصَ الْمِسْكِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَتَطَيَّبُوا».
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَضَمِّخًا جِبَاهُنَا بِالْمِسْكِ ثُمَّ نُحْرِمُ فَنَعْرَقُ فَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى، وَلَا يَكْرَهُهُ».
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الْخَلُوقَ لَهُ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُوَرَّسِ، وَالْمُزَعْفَرِ.
وَمَعْنَى كَرَاهَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ رُبَّمَا يَنْتَقِلُ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِهَذَا، وَلَوْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا تَطَيَّبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، وَكَفَّرَ ثُمَّ تَحَوَّلَ الطِّيبُ مَعَ عَرَقِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ جَدِيدَةٌ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ قَدْ انْقَطَعَ بِالتَّكْفِيرِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَثَرِهِ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى هُنَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ مَحْظُورًا فَتَحَوُّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ جِنَايَةً أَيْضًا فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا، ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْأَثَرِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ إذَا كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَالْحَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»، وَفِيمَا ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدَ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي»؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي أَدَاءِ أَرْكَانِهِ إلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، وَيَبْقَى فِي ذَلِكَ أَيَّامًا فَيَطْلُبُ التَّيْسِيرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْعَبْدِ إلَّا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَسْأَلُ الْقَبُولَ كَمَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ، وَإِسْمَاعِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وَلَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ لِمَنْ يُرِيدُ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا يَسِيرٌ عَادَةً، وَلَا تَطُولُ فِي أَدَائِهَا الْمُدَّةُ فَأَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَمُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَوَانِعِ عَادَةً فَلِهَذَا أَمَرَ بِتَقْدِيمِ سُؤَالِ التَّيْسِيرِ.
(قَالَ) ثُمَّ لَبِّ فِي دُبُرِ صَلَوَاتِكَ تِلْكَ فَإِنْ شِئْت بَعْدَمَا يَسْتَوِي بِك بَعِيرُك.
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي اشْتِقَاقِ التَّلْبِيَةِ لُغَةً فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَلَبَّ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان فَمَعْنَى قَوْلُ الْقَائِلِ: لَبَّيْكَ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ لَبَّيْكَ اتِّجَاهِي لَك يَا رَبِّ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يُلَبِّيَ مِنْ دُبُرِ صَلَوَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ يُلَبِّي حِينَ تَسْتَوِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ» إلَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّ هَذَا فَقَالَ: «إنَّ بَيْدَاءَكُمْ هَذِهِ تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ».
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ: لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُبُرِ صَلَوَاتِهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَنَقَلُوهُ، وَكَانُوا الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ فَسَمِعَ تَلْبِيَتَهُ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ فَسَمِعَهُ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ».
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ جَوَابُ الدُّعَاءِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ مَنْ هُوَ فَقِيلَ: الدَّاعِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
وَقِيلَ: الدَّاعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إنَّ سَيِّدًا بَنَى دَارًا وَاِتَّخَذَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا.
وَأَرَادَ بِالدَّاعِي نَفْسَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ فَصَعِدَ بِأَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ، وَقَدْ بُنِيَ أَلَا فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ، وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} الْآيَةَ.
فَالتَّلْبِيبَةُ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، ثُمَّ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ اخْتَارَ نَصْبَ الْأَلِفِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْحَمْدَ، وَمَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَمْدَ أَوْ بِأَنَّ الْحَمْدَ فَأَمَّا الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: الْكَسْرُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَافَقَهُ الْفَرَّاءُ؛ لِأَنَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ يَكُونُ ابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ، وَبِنَصْبِ الْأَلِفِ يَكُونُ وَصْفًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَابْتِدَاءُ الثَّنَاءِ أَوْلَى، وَلَا بَأْسَ عِنْدَنَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ وَالْعَرَبِيَّةُ سَوَاءٌ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَهُ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ يَقُولُ: لَا يَتَأَدَّى بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَهُنَا يَتَأَدَّى؛ لِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هُنَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَرَبِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ، وَبِهَذَا يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ غَيْرَ التَّلْبِيَةِ مِنْ الْأَذْكَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ هُنَا كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ) وَالْمُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ هَكَذَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ آمُرَ أُمَّتِي أَوْ مَنْ مَعِي بِأَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الْأَذْكَارِ وَالدُّعَاءِ الْخُفْيَةُ إلَّا فِيمَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ لِلْإِعْلَامِ، وَالْخُطْبَةِ لِلْوَعْظِ، وَتَكْبِيرَاتُ الصَّلَوَاتِ لِإِعْلَامِ التَّحَرُّمِ وَالِانْتِقَالِ وَالْقِرَاءَةِ لِإِسْمَاعِ الْمُؤْتَمِّ فَالتَّلْبِيَةُ لِلشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ إعْلَامِ الدِّينِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ (قَالَ) فَإِذَا لَبَّيْت فَقَدْ أَحْرَمْت يَعْنِي إذَا نَوَيْت وَلَبَّيْت إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: فَاتَّقِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَالرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْجِدَالِ.
أَمَّا قَتْلُ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَالصَّيْدُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وَأَمَّا الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ فَالنَّهْيُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ، وَفِي تَفْسِيرِ الرَّفَثِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} وَالثَّانِي الْكَلَامُ الْفَاحِشُ.
إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ رَفَثًا بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ فِي إحْرَامِهِ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ** إنْ تَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا

لَمِيسُ اسْمُ جَارِيَتِهِ فَقِيلَ: لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَنْشُدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ.
فَقِيلَ لَهُ: مِثْلَ مَاذَا؟ فَقَالَ: مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:
قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً إنْ تَصْرِمَا ** سَاقًا بِحِنَّاءٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا

ذُكِرَ فِي كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ.
وَأَمَّا الْفُسُوقُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعَاصِي، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّ الْحَظْرَ فِي الْإِحْرَامِ أَشَدُّ لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْجِدَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ فِي الطَّرِيقِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ النَّسِيءُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (قَالَ)، وَلَا يُشِيرُ إلَى صَيْدٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذَنْ فَكُلُوا»، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ بِمَا يُزِيلُ الْأَمْنَ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَرُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ، وَمَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ كَالزِّنَا.
(قَالَ) وَلَا تُغَطِّ رَأْسَك، وَلَا وَجْهَك، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ، وَلَا يُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُغَطِّي رَأْسَهَا لَا وَجْهَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا».
(وَلَنَا) حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حِينَ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ جِرْزَانٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ»، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُغْطِي رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ «، وَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اشْتَكَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ» فَتَخْصِيصُهُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ بِالرُّخْصَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ فَإِنَّ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْهَا خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَلَأَنْ لَا يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.
(قَالَ) وَلَا تَلْبَسُ قَبَاءً، وَلَا قَمِيصًا، وَلَا سَرَاوِيلَ، وَلَا قَلَنْسُوَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَلَا الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْقَلَنْسُوَةَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَتَنَقَّبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامَ».
(قَالَ) وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْعُصْفُرِ، وَلَا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا بِالْوَرْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ»، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بَعْدَ إحْرَامِهِ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَشْقٍ فَقَالَ نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك مِنْ بَعْدُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَبِيلَتِهِ، وَيَقُولُ رَأَيْت عَلَى طَلْحَةَ فِي إحْرَامِهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَيُعَيِّرُك النَّاسُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى لَا يَنْفَضّ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ نَفْسُ الطِّيبِ لَا لَوْنُهُ، وَبَعْدَ الْغَسْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَبْقَى مِنْ عَيْنِ الطِّيبِ فِيهِ شَيْءٌ (قَالَ)، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا بَعْدَ إحْرَامِك، وَلَا تَدْهُنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَاجُّ: الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ مُحْرِمًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ.
(قَالَ) وَاذَا حَكَكْت رَأْسَك فَارْفُقْ بِحَكِّهِ حَتَّى لَا يَتَنَاثَرَ الشَّعْرُ فَإِنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قَضَاءِ التَّفَثِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
(قَالَ) وَلَا تَغْسِلْ رَأْسَك، وَلِحْيَتَك بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ تَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ، وَتُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَةَ الْحَاجِّ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ أَيْضًا.
(قَالَ) لَا تَقُصُّ أَظْفَارَك؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَكَانَ مِنْ نَوْعِ قَضَاءِ التَّفَثِ (قَالَ) وَأَكْثَرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَكُلَّمَا لَقِيتَ رَكْبًا، وَكُلَّمَا عَلَوْت شَرَفًا، وَكُلَّمَا هَبَطْتَ وَادِيًا بِالْأَسْحَارِ هَكَذَا نُقِلَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي عَنْهُمْ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ تَلْبِيَةُ الْمُحْرِمِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَتَكْبِيرِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا يُؤْتَى بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ فَكَذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَكَذَلِكَ لِمُحْرِمٍ يُلَبِّي عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالِ إلَى حَالِ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَثْعَمَةَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ: فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَاذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ بِرَاحِلَتِهِ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبِالْأَسْحَارِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ فَلَا يَضُرُّ لَيْلًا دَخَلْتهَا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ هَذَا دُخُولُ بَلْدَةٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَالرُّوَاةُ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِشَاءَ بِذِي طُوًى، ثُمَّ هَجَعَ هَجْعَةً ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ لَيْلًا».
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ بَاتَ بِذِي طُوًى فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا».
وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا كَانَ ذَلِكَ لِلْإِشْفَاقِ مَخَافَةَ السَّرَقِ لِيَرَى الْإِنْسَانُ أَيْنَ يَنْزِلُ، وَيَضَعُ رَحْلَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَانَ وَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ فَصَلَّى مَعَهُمْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ لَيْلًا (قَالَ) فَادْخُلْ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، وَالْبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً».
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ تَعْيِينَ شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ فِي مَشَاهِدِ الْحَجِّ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَحْضُرُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْخُشُوعِ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَعَنْ عَطَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ يَقُولُ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ».
(قَالَ) ثُمَّ ابْدَأْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلِمْهُ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ».
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَقَالَ رَأَيْت أَبَا الْقَاسِمِ بِك حَفِيًّا».
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ، وَبَكَى طَوِيلًا، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا عُمَرُ هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ».
وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَفَ فَقَالَ: أَمَا إنِّي أَعْلَمُ إنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك فَبَلَغَتْ مَقَالَتُهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا: بَلَى، أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ لِلطَّوَافِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْبِيرِ لِلصَّلَوَاتِ فَيَبْدَأُ بِهِ طَوَافَهُ.
(قَالَ) إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّكَ رَجُلٌ أَيِّدٌ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْت فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ»؛ وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ إنْ اسْتَطَاعَ تَقْبِيلَهُ وَإِلَّا مَسَّ الْحَجَرَ بِيَدِهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ أَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا مِنْ عُرْجُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَهَذَا اسْتِقْبَالٌ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَوْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ فِي جَمِيعِهِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «إنَّ الْحَجَرَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ فَيَشْهَدُ بِالْحَقِّ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ».
(قَالَ) ثُمَّ خُذْ عَنْ يَمِينِك عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَطُفْ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ بَابِ الْكَعْبَةِ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ»، وَمَقَادِيرُ الْعِبَادَةِ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالرَّأْيِ (قَالَ) يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنْهَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَالرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْهَا سُنَّةٌ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فِيهِ، وَالرَّمَلُ هُوَ الِاضْطِبَاعُ، وَهَزُّ الْكَتِفَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدَ جَانِبَيْ رِدَائِهِ تَحْتَ إبْطِهِ، وَيُلْقِيه عَلَى الْمَنْكِبِ الْآخَرِ، وَيَهُزُّ الْكَتِفَيْنِ فِي مَشْيِهِ كَالْمُبَارِزِ الَّذِي يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لَمَّا أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ فَرَمَلَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً وَجَلَدًا» فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ».
وَرُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ الرَّمَلَ فِي طَوَافِهِ فَقَالَ: عَلَامَ أَهُزُّ كَتِفَيَّ، وَلَيْسَ هُنَا أَحَدٌ أُرَائِيه، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فَأَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ».
وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِهِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ سَبَبُهُ رَمْيُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ وَإِنَّمَا الرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَحَوَّلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ حَالَ الْبَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَكَانَ لَا يَرْمُلُ».
وَبِهَذَا أَخَذَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» (قَالَ) وَإِنْ زَحَمَك النَّاسُ فِي رَمَلِكَ فَقُمْ فَإِذَا وَجَدْتَ مَسْلَكًا فَارْمُلْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إقَامَةُ السُّنَّةِ فِي الطَّوَافِ لِلزِّحَامِ فَلْيَصْبِرْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ السُّنَّةِ كَالْمَزْحُومِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَصْبِرُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ، وَتَطُوفُ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْوَاطَ الْأُخَرَ مَشْيًا عَلَى هِينَتِك عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَّمَا مَرَرْت بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي طَوَافِك هَذَا فَاسْتَلِمْهُ إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ؛ لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا تَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقُومُ إلَيْهَا بِالتَّكْبِيرِ فَكَذَلِكَ تَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَإِنْ افْتَتَحَتْ بِهِ الطَّوَافَ، وَخَتَمْتَهُ بِهِ أَجْزَأَكَ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ فَتَرْكُ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ شَوْطٍ فَإِذَا كَانَ افْتِتَاحُهُ لِلطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَخَتْمُهُ بِذَلِكَ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُجْعَلُ كَالْمُسْتَلِمِ حُكْمًا.
(قَالَ) وَلْيَكُنْ طَوَافُك فِي كُلِّ شَوْطٍ وَرَاءَ الْحَطِيمِ.
وَالْحَطِيمُ: اسْمٌ لِمَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فُرْجَةٌ يُسَمَّى الْمَوْضِعُ حَطِيمًا، وَحَجَرًا فَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَجَرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَجَرٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مُنِعَ مِنْهُ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَطِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَحْطُومٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مَكْسُورٌ مِنْهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، وَقِيلَ: بَلْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ حَاطِمٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى عَالِمٍ، وَبَيَانُهُ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فِيهِ حَطَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَطُوفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ فِي طَوَافِهِ، وَلَكِنَّهُ يَطُوفُ وَرَاءَ الْحَطِيمِ كَمَا يَطُوفُ وَرَاءَ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ، وَقَالَ صَلِّي هُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْتُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرَتْ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلْتُ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ وَأَلْصَقْتُ الْعَتَبَةُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِشْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ فِيهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ الْبَيْتِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ فَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ وَلَا يُقَالُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ لَجَازَتْ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفَرْضِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ.
(قَالَ) ثُمَّ ائْتِ الْمَقَامَ فَصَلِّ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُمَا تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الْمَقَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ».
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْت فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ»، وَهَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّوَافِ وَاجِبٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «، وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ»، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى صَلَّاهُمَا، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الزِّحَامَ يَكْثُرُ عِنْدَ الْمَقَامِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ.
(قَالَ) فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهَا فَعُدْ إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلِمْهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ وَالْأَصْلُ إنْ كَانَ كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ عِبَادَةٌ قَدْ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا حِينَ فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْعَوْدِ إلَى مَا بِهِ بَدْءُ الطَّوَافِ فَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي بَعْدَهُ سَعْيٌ فَكَمَا يَفْتَتِحُ طَوَافَهُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَكَذَلِكَ السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَلِهَذَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ (قَالَ) ثُمَّ اُخْرُجْ إلَى الصَّفَا فَمِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ خَرَجَ إلَّا أَنَّ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسُنَّةٍ» بَلْ إنَّمَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْآنَ بَابَ الصَّفَا فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِالصَّفَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ قَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (قَالَ) وَقُمْ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَتُثْنِي عَلَيْهِ، وَتُكَبِّرُ وَتُهَلِّلُ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ يَدْعُو».
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يَحْيَى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ فَلَمَّا انْتَصَبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ، وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا لِيَصِيرَ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ» فَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ كَانَ لِيَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَيَأْتِيَ بِالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْعَلَ الثَّنَاءَ مُقَدِّمَةَ دُعَائِهِ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَفْعَلُهُ الدَّاعِي عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ هُنَا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالُ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا حَالُ خَتْمِ الْعِبَادَةِ فَإِنْ خَتَمَ الطَّوَافَ بِالسَّعْيِ يَكُونُ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ لَا عِنْدَ ابْتِدَائِهَا كَمَا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ.
(قَالَ) ثُمَّ اهْبِطْ مِنْهَا نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَامْشِ عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ بَطْنَ الْوَادِي فَاسْعَ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعْيًا فَإِذَا خَرَجْتَ مِنْهُ تَمْشِي عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَتَصْعَدَ عَلَيْهَا، وَتَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَتُثْنِي عَلَيْهِ وَتُهَلِّلَ وَتُكَبِّرَ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك.
وَلِلنَّاسِ فِي أَصْلِ السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي كَلَامٌ فَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ فِعْلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرَ حِينَ كَانَتْ فِي طَلَبِ الْمَاءِ كُلَّمَا صَارَ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ النَّظَرِ إلَى وَلَدِهَا كَانَتْ تَسْعَى حَتَّى تَنْظُرَ إلَى وَلَدِهَا شَفَقَةً مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ فَصَارَ سُنَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُسُكِهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَنَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ، وَلَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ كَمَا لَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِي تَقْدِيرِ الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ.
(قَالَ) فَطُفْ بَيْنَهُمَا هَكَذَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَتَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَتَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَهَابَهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ وَرُجُوعَهُ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ آخَرُ، وَالِيه أَشَارَ فِي قَوْلِهِ يَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ رُجُوعُهُ، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ.
وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا.
(قَالَ) ثُمَّ تُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا لَا تَحِلُّ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ مَا لَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ.
(قَالَ) وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَك، وَتُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مُشَبَّهٌ بِالصَّلَوَاتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إلَّا بِخَيْرٍ، وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ».
وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ سَائِرِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاحِدَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِلْحَجِّ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَوْ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُتَنَفِّلًا، وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ (قَالَ) حَتَّى تَرُوحَ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَتَبِيتَ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَتُصَلِّي بِهَا الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ».
(قَالَ) ثُمَّ تَغْدُو إلَى عَرَفَاتٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ جَبْرَائِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَتَى إبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَأَمَرَهُ فَرَاحَ إلَى مِنًى، وَبَاتَ بِهَا، ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ.
(قَالَ) وَتَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النَّاسِ فَيَنْزِلُ حَيْثُ يَنْزِلُونَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ (قَالَ) فَإِنْ صَلَّيْت الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ فَحَسَنٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: «لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ»، وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَتَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُرَادِقَهُ فَقَالَ أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فَقَالَ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةَ، فَقَالَ: انْتَظَرَنِي حَتَّى أَغْتَسِلَ، فَانْتَظَرَهُ فَاغْتَسَلَ وَرَاحَ إلَى الْمُصَلَّى.
وَالِاغْتِسَالُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّةٌ فَإِنْ اكْتَفِي بِالْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَكَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْلِيمُ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ عَلَيْهِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ.
وَلِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ وَلَا يَجْتَمِعُونَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ، وَصَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ إذَا كَانَ مُسَافِرًا، ثُمَّ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُ فَيَقُومُ ثَانِيَةً فَيُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْوُقُوفِ الْمَقْصُودِ، وَلِئَلَّا يَنْقَطِعَ وُقُوفُهُ فَلَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالنَّافِلَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِيَحْصُلَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يُعِيدُ الْإِقَامَةَ لِلْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُعِيدُ الْإِقَامَةَ لَهُ إعْلَامًا لِلنَّاسِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالتَّطَوُّعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: مَادَامَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَاشْتِغَالُهُ بِالنَّفْلِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ.
(قَالَ) وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْجَمْعَ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُ مَعَ الْإِمَامِ قَالَ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلَّلَ فَقَالَ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ إنَّمَا قُدِّمَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَتِهِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْمَوْقِفَ هُبُوطٌ وَصُعُودٌ لَا يُمْكِنُ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِيهَا فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا وَالِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَيَنْقَطِعُ وُقُوفُهُمْ، وَامْتِدَادُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ فَلِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ جَوَّزَ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْمُنْفَرِدِ وَاَلَّذِي يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ، وَقَاسَ هَذَا الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ الثَّانِي بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا النُّسُكُ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْمَنَاسِكِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِمَامُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَهُوَ الْمَوْضُوعُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مُخْتَصٌّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِمَامٍ كَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِيهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ أَدَاءُ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ فَأَمَّا هَذَا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا الزَّمَانِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ لِلْجَمَاعَةِ لَا لِلْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ وُقُوفِهِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَاقِفٌ فَلَا يَنْقَطِعُ وُقُوفُهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ لِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إذَا أَدَّوْهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ فَيَخْتَارُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضُوعًا خَالِيًا يُنَاجِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ خَلْوَتِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمَامِ الْأَجَلِّ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا (قَالَ) وَلَوْ فَاتَهُ الظُّهْرُ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَدْرَكَ الْعَصْرَ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْعَصْرِ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِوُقُوعِ التَّغْيِيرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَصْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالتَّبَعِ لِلظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ أُدِّيَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِشَاءِ مَعَ الْوَتْرِ فَكَمَا أَنَّ الْوَتْرَ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَذَلِكَ الْعَصْرُ تَبَعٌ لِلظُّهْرِ هُنَا، وَلَمَّا جُعِلَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي التَّبَعِ كَانَ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَصْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَاءِ الظُّهْرِ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَدَّدَ الْوُضُوءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَعَلَى هَذَا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ شَرْطٌ لِأَدَاءِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حَتَّى إنَّ الْحَلَالَ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَالْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِيه، وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ بِزَوَالِ الشَّمْسِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْجَمْعِ، وَيَخْتَصُّ بِهَذَا الْجَمْعِ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى الزَّوَالِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ بِهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلَبِّي، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ.
وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّهُ يَقِفُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْمَوْقِفِ، الْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَيَدْعُو فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الِاسْتِمَاعِ، وَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ (قَالَ)، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ إنْ شَاءَ رَاكِبًا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَجَعَلَ نَحْرَهَا إلَى بَطْنِ الْمِحْرَابِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو»، وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْت بِهِ الْقِبْلَةَ»، وَإِنْ اخْتَارَ بِوُقُوفِهِ مَوْضِعًا آخَرَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَ لِحَدِيثِ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ».
وَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ، وَادِي مُحَسِّرٍ، وَفِي وُقُوفِهِ يَدْعُو هَكَذَا» رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَاتٍ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إلَى آخِرِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي».
حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يَشَاءُ وَاجْتَهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ.
(قَالَ) وَيُلَبِّي فِي هَذَا الْمَوْقِفِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَاجُّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ بِاللِّسَانِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ فَإِنَّ مُعْظَمَ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ».
وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا شَيْخُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُلَبِّيَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا إلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الرَّمْيِ يَكُونُ (قَالَ) وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ عَلَى هِينَتِهِ عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ مِنْهَا».
وَرُوِيَ «أَنَّهُ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إنْ خَافَ الزِّحَامَ فَتَعَجَّلَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُدُودِ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَهَابِ الْإِمَامِ مَعَ النَّاسِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يُطَوِّلَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ، ثُمَّ أَفَاضَتْ.
(قَالَ) وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ، وَلَا فِي إيضَاعِ الْإِبِلِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ».
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هِينَتِهِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَطْنِ الْوَادِي أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ: إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُفَارِقًا دَيْنَ النَّصَارَى دِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا» فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْإِيضَاعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُنَّةٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ رَاحِلَتَهُ كَلَّتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعَثَهَا فَانْبَعَثَتْ كَمَا هُوَ عَادَةُ الدَّوَابِّ لَا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ الْإِيضَاعَ (قَالَ)، وَلَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةُ أَمَامَك»، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا الْوَقْتُ أَوْ الْمَكَانُ، وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ إلَى الْمُزْدَلِفَة فَإِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَتَحَرَّزُ عَنْ النُّزُولِ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ «فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ»، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ.
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَرْوِي «أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ».
وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ سَمَّى الْأَذَانَ إقَامَةً، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ».
يُرِيدُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، ثُمَّ الْعِشَاءُ هُنَا مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إفْرَادِ الْإِقَامَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا.
وَإِنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِنَفْلٍ أَوْ شُغْلٍ آخَرَ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفْرَدُ الْإِقَامَةُ لِلْعِشَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَشَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ.
(قَالَ) ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا فَإِذَا انْشَقَّ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ.
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بُسِطَ لَهُ شَيْءٌ فَبَاتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ».
«وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ»، وَلِأَنَّ الْإِسْفَارَ بِالْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهُ، وَفِي الْإِسْفَارِ بَعْضُ التَّأْخِيرِ فِي الْوُقُوفِ فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ كَانَ أَوْلَى (قَالَ) ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ النَّاسِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُلَبِّي، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ، وَهَذَا الْوُقُوفُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مُشَارٌ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الْآيَةَ، وَقَدْ «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَيْت يَدَيْهِ عِنْدَ نَحْرِهِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ يَدْعُو كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكَيْنِ»، وَإِنَّمَا تَمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ فَإِنَّهُ دَعَا لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا، وَالنَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذَا الْمَوْقِفِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ الْحُمْسَ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، وَيَقُولُونَ لَا يُعَظَّمُ غَيْرُ الْحَرَمِ حَتَّى «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَةَ جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ، وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ هَذَا مِنْ الْحُمْسِ فَمَا بَالَهُ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا أَسْفَرَ جِدًّا دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ دَفَعَ إلَى مِنًى».
وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ، وَصَارَتْ كَعَمَائِمَ الرِّجَال عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ دَفَعُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ، فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِفِعْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَإِذَا أَتَى مِنًى يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يَعْرُجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَالَ: أَوَّلُ نُسُكِنَا هُنَا بِمِنًى أَنْ نَرْمِيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي» لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَرَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يَرْمِي مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُنَاوِلَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَأَخَذَهُنَّ بِيَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا».
وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا».
وَالْمَقْصُودُ اتِّبَاعُ سُنَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ رُبَّمَا يُصِيبُ إنْسَانًا فَيُؤْذِيه وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَمَّا قَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ».
أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الرَّمْيَ وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَجَعَلَ يَقُولُ عِنْدَ رَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا»، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ مِثْلَ مَا قُلْت (قَالَ) وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَنَا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ الرَّمْيُ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ، وَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَهُمْ وَيَقُولُ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ».
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ قَالَ أَيْ بَنِيَّ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ» فَنَعْمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ بَعْدَ الصُّبْحِ يَجُوزُ، وَتَأْخِيرُهُ إلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا»، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ دُونَ الْأُولَى، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذْ لَا يَجْتَمِعُ الرَّمْيُ وَالْوُقُوفُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَوَقْتُ الرَّمْيِ يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ وَقْتُ الرَّمْيِ هُوَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَقْتُ الرَّمْيِ.
(قَالَ) وَلَا يَرْمِي يَوْمَئِذٍ مِنْ الْجِمَارِ غَيْرَهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (قَالَ) وَلَا يَقُومُ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَعْمَالٌ يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُمْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي مَنْزِلَهُ فَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ، وَالتَّحَلُّلُ بِالْحَلْقِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وَقَضَاءُ التَّفَثِ بِالْحَلْقِ يَكُونُ.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَبَحَ هَدَايَاهُ دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَهْوَى إلَيْهِ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ، وَقَسَّمَ شَعْرَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ حَلَقَ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ وَأَعْطَى شَعْرَهُ أُمَّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ الذَّبْحَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ تَطَوَّعَ بِذَبْحِ الْهَدْيِ فَهُوَ حَسَنٌ يَذْبَحُهُ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا أَنْ نَرْمِيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وَقَالَ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَقِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ حَتَّى قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ» فَقَدْ ظَاهَرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُحَلِّقِينَ فَدَلَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ.
(قَالَ) ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْحَلْقِ، وَالثَّانِي بِالطَّوَافِ.
فَبِالْحَلْقِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ إلَّا النِّسَاءَ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا النِّسَاءَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا تَرْتَفِعُ حُرْمَتُهُمَا إلَّا بِتَمَامِ الْإِحْلَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَتْلُ الصَّيْدِ لَيْسَ نَظِيرَ الْجِمَاعِ أَلَّا يَرَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ، وَقَتْلَ الصَّيْدِ لَا يُفْسِدُهُ فَكَانَ هُوَ نَظِيرَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالطَّوَافِ كَنَفْسِ الْجِمَاعِ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فَكَانَ قِيَاسَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَلِهَذَا الْأَصْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُرْمَةُ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَحِلُّهُ مُؤَخَّرٌ أَيْضًا إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ شَرْعًا، وَفِي ذَلِكَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْفَرْجِ سَوَاءٌ (قَالَ) ثُمَّ يَزُورُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَاعَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَلَا يُؤَخِّرُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ أَتَى بِمَكَّةَ لَيْلًا فَطَافَ»، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ «أَنَّهُ فِي أَيَّامِ مِنًى كَانَ يَأْتِي مَكَّةَ بِاللَّيْلِ مُسْتَتِرًا فَيَطُوفُ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ ظَنَّ أَنَّ طَوَافَهُ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ» فَنَقَلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنُ الْحَجِّ، وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ أَدَاؤُهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالتَّضْحِيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ السَّعْيَ» عَقِيبَ هَذَا الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قِيلَ: السَّعْيُ وَاجِبٌ أَوْ رُكْنٌ وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَا هُوَ سُنَّةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ هَذَا الْوَاجِبِ عَقِيبَ طَوَافٍ هُوَ سُنَّةٌ لِلتَّيْسِيرِ فَإِنَّ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَاجِّ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ السَّعْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ أَوَّلِ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ فَقَدْ أَتَى بِهِ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَكِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ يَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ وَاجِبًا كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا، ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْلَالُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى فَإِذَا كَانَ الْغَدُ يَوْمَ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ فَيَقُومُ فِيهِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَقُومُ حَيْثُ يَقُومُ النَّاسُ فَيَصْنَعُ فِي قِيَامِهِ كَمَا صَنَعَ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَهَا.
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُفَسِّرًا فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ»، وَبِجَمْعٍ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقِيمُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَى، وَالْوُسْطَى، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ الرَّفْعُ لِلدُّعَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي دُعَائِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ، وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ»، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَحَالُ الْفَرَاغُ مِنْهُ حَالُ وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَبِالْفَرَاغِ مِنْهُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يُقِيمُ بَعْدَهُ لِلدُّعَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكِتَابُ أَنَّ الرَّمْيَ مَاشِيًا أَفْضَلُ أَمْ رَاكِبًا، وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْجَرَّاحِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فَقُلْت: مَاشِيًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ فَقُلْت: رَاكِبًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ رَمْيٍ كَانَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْت مِنْ عِنْدَهُ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْتُ الصُّرَاخَ لِمَوْتِهِ فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَاَلَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا» إنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَنْفِرُ إنْ أَحَبَّ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْغَدِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ}.
(قَالَ) وَقَدْ كَانَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ إذْ قَدَّمَهُمْ قَبْلَهُ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ شُغْلُ الْقَلْبِ مِنْ إتْمَامِ سُنَّةِ الرَّمْيِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ، فَلِهَذَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ.
(قَالَ) ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً، وَهَذَا اسْمُ مَوْضِعٍ «قَدْ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يُسَمَّى الْمُحَصَّبَ وَالْأَبْطَحَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: لَيْسَ النُّزُولُ فِيهِ بِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اتِّفَاقًا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا عَلَى مَا رَوَى أَنَّهُ «قَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِنًى إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هِجْرَانَ بَنِي هَاشِمٍ». فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نُزُولُهُ إرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَيَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ (قَالَ) ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَطَوَافَ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ بِهِ الْبَيْتَ، وَيَصْدُرُ بِهِ عَنْ الْبَيْتِ.
(قَالَ) ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ، وَيَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْتَزِمَهُ سَاعَةً يَبْكِي، وَيَتَشَبَّثَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَيُلْصِقَ جَسَدَهُ بِالْجِدَارِ إنْ تَمَكَّنَ، ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى بَدَنِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ، وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فَوَاتِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ.
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ الَّذِي أَرَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وَقَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ»
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بَاتَ بِهَا فَنَامَ مُتَعَمِّدًا أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْإِسَاءَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَامِ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِهِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ فِي لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ»، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا مَا رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْتُوتَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ تَبَعٌ لِلرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَالْبَيْتُوتَةِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.