فصل: الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ:

قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ وَالْكَفَالَةِ الْوَكَالَةُ.
فَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَفَاوُتِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالذِّمِّيَّ يَتَصَرَّفُ فِي ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ شَرِيكُ الْمُسْلِمِ مُفَاوَضَةً لَا يَتَصَرَّفُ عِنْدِي فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي التَّصَرُّفِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، وَالْمَجُوسِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ تَصِحُّ بَيْنَ حَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ وَشَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمُثَلَّثِ النَّبِيذِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَالِيَّةَ.
وَشَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ.
ثُمَّ هَذَا التَّفَاوُتُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا يَقُولَانِ: مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي مَحَلِّ التَّصَرُّفِ- وَهُوَ الْمَالِ- فَإِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا بَيْعًا وَشِرَاءً وَسَلَمًا، فِي الْخَمْرِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا، وَبِدُونِ الْمُسَاوَاةِ لَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ، قُلْنَا: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ هُوَ اعْتِقَادُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْمُفَاوَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِنُفُوذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ.
(فَإِنْ قِيلَ): لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْمَجُوسِيُّ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ.
(قُلْنَا): لَا كَذَلِكَ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ.
وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ صَحِيحٌ يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ- وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتَهُ-.
فَأَمَّا بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ لَهُ وَالدَّلِيلِ؛ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ.
وَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ الْوَكَالَةَ.
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِالتَّصَرُّفِ لَهُ.

.الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ:

قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ- وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبَوَاهُمَا-)؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ: فَإِنَّ الْعَبْدَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، وَالصَّبِيَّ يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ، وَالْمُكَاتَبَ يَعْجِزُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ التَّصَرُّفُ وَالِاسْتِرْبَاحُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الشَّرِكَةِ.
وَإِنَّمَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ خَاصَّةً؛ فَيَبْقَى الْعَنَانُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَنَانَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا.
قَالَ: (وَإِنْ تَفَاوَضَ الذِّمِّيَّانِ جَازَ ذَلِكَ- وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا-)؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ تَتَحَقَّقُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ؛ فَصَحَّتْ بَيْنَهُمَا.
قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ)؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ، وَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالشَّرِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَصَرُّفَاتِهِ.
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ رِدَّتِهِ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ مَوْتًا، وَلُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ، وَالْمَوْتُ مُبْطِلٌ لِلشَّرِكَةِ.
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُ أَصْلِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمَا بَلْ الْمُرَادُ تَوَقُّفُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ.
فَأَمَّا أَصْلُ الشَّرِكَةِ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَرِيضِ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرْتَدُّ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى إسْلَامِهِ.
وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي التَّصَرُّفِ إلَّا أَنَّ نَفْسَهُ تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ تَتْلَفَ عَلَيْهِ إذَا أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُ.
قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّةَ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ جَازَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَلَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا أَنْ تُسْلِمَ)؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذٌ، فَإِنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ بِالرِّدَّةِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ.
فَكَذَلِكَ فِي مَالِهَا إلَّا أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَهِيَ كَالذِّمِّيَّةِ.
وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ.
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ.
قَالَ: (وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ جَائِزَةً مَعَ الْكَرَاهَةِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ.
فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مُفَاوَضَتَهُمَا تَتَوَقَّفُ كَمَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدِّ مَعَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا- وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْبَلُ- فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ، وَإِذَا أُلْحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَنَفْسُهَا مَوْقُوفَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَتُهُمَا.
قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ؛ فَلِلْمُفَاوِضِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارَ الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ عَلَى الْيَتِيمِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
ثُمَّ الْكِتَابَةُ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ- وَهُوَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ- صَحِيحَةٌ، فَصِحَّتُهَا مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَ الْعَبْدِ- وَهُوَ الْمُفَاوِضُ- أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ: فَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ- بِطَرِيقِ الْأَوْلَى- فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرَ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ.
وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ.
أَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بِمَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَجَّلُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يُدْرَى أَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ لَا يَقْدِرُ؟ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُ الْمَالِ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِغَالِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ.
فَلَا يُمَلَّكُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدُونِ إذْنِهِ.
وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ، وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ تَزْوِيجَ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَلَا يَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ عَبْدِ الْيَتِيمِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُكَاتِبَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ) وَمَا يَكُونُ مُعْتَادًا بَيْنَ التُّجَّارِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا تَزْوِيجَ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدٌ تَاجِرٌ فَأَدَانَهُ أَحَدُهُمَا دَيْنًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا؛ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ) لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا.
وَمَا أَدَانَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَيْضًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُهُ شَرْعًا.
(وَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ) وَالْإِدَانَةُ بَيْعٌ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا.
أَمَّا إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ لَهُمَا خَاصَّةً، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنًا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ نَصِفُ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حِصَّةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ فَمَا أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ فِي مِلْكِهِ.
وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا، وَنِصْفُهُ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَيَجْعَلُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْعَبْدِ كَعَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ (وَمَنْ أَدَانَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ يَثْبُتُ مِنْ دَيْنِهِ مَا يَخُصُّ عَبْدَ غَيْرِهِ دُونَ مَا يَخُصُّ عَبْدَهُ).
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بَيْنَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ؛ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ.
قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِأَحَدِهِمَا فَأَذِنَ لَهُ الْآخَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَإِذْنُ صَاحِبِهِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَإِذْنِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَدَانَهُ الْآخَرُ دَيْنًا مِنْ مِيرَاثِهِ خَاصَّةً لَزِمَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَإِنْ أَدَانَاهُ مِنْ التِّجَارَةِ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَفِعْلَيْهِمَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَصِيبُ الْإِذْنِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَلْزَمُهُ نَصِيبُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا، أَوْ دَابَّةٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ؛ فَلِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَجْرِ أَيَّهُمَا شَاءَ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا لِحَجٍّ إلَى مَكَّةَ، فَحَجَّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكْرِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ، إنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْتِزَامِهِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَاءَ شَرِيكَهُ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ.
إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمُؤَدَّى- وَهُوَ النِّصْفُ-.
وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ.
(وَإِنْ أَدَّى الْعَاقِدُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِتِجَارَتِهِمَا وَأَدَّى الْأَجْرَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ؛ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ، وَقَدْ أَدَّى الْأَجْرَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ- شَرِكَةِ مِلْكٍ- لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمَا بِالتِّجَارَةِ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ، وَالْآخَرُ مُطَالَبٌ عَنْهُ بِكَفَالَتِهِ بِمَا يَلْتَزِمُهُ بِالتِّجَارَةِ.
وَإِنْ أَجَّرَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً مِنْ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ، وَحُكْمُ الْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ حَتَّى يَقْبِضَهَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إنَّمَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِ دَيْنٍ، وَالدَّيْنُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِأَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ، مِمَّا هُوَ لَهُ خَاصَّةً، بَاعَهُ فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ، فَإِذَا قَبَضَ وَكَانَ مِنْ النُّقُودِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِبَعْضِ مَالِ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ- كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ-) وَإِنْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَكَانَتْ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الَّذِي شَارَكَهُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرِكَةِ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ التُّهْمَةُ فِيهِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.
(وَذَكَرَ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- أَنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ إذَا شَارَكَ إنْسَانًا آخَرَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ؛ تَصِحُّ مُفَاوَضَتُهُ وَتَبْطُلُ بِهِ شَرِكَتُهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لَمْ تَصِحَّ مُفَاوَضَتُهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْمُفَاوَضَةَ مَعَ الثَّانِي نَقْصٌ مِنْهُ لِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَعَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، وَنَقْضُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ صَحِيحٌ، وَبِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ بَاطِلٌ.
قَالَ: (وَإِذَا أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ نَفْسَهُ لِحِفْظِ شَيْءٍ أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ، وَاكْتَسَبَ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِتَقَبُّلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ) فَمَا يَكْتَسِبُ بِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَيُجْعَلُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا- بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ-؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَسْتَوْجِبُهُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَنَفْسُهُ لَيْسَتْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ عَبْدًا لَهُ مِيرَاثًا، وَأَمَّا شَرِيكُ الْعَنَانِ إذَا اكْتَسَبَ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَلِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَتَقَبُّلُ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَكَانَ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَرْهَنَ عَبْدًا مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ بِدَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَبِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ.
وَلَهُ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ هَذَا الدَّيْنَ، وَكَذَلِكَ يَرْهَنُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ حَتَّى صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ.
فَإِنَّ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُودِعَ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ رَهَنَ بِدَيْنِ الْوَلَدِ عَيْنًا قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوِضُ، وَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً بِدَيْنٍ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فَهَلَكَ؛ فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ بِخَالِصِ مِلْكِهِ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ عَنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ دَيْنِهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا عَلَى رَجُلٍ فَارْتَهَنَ أَحَدُهُمَا بِهِ رَهْنًا؛ جَازَ) سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ أَوْ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الِارْتِهَانِ بِهِ.
وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً، إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ ذَلِكَ الدَّيْنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لَهُ لَا فِي صَرْفِهِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ عَلَى رَجُلٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ، أَوْ يَأْمُرُ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُمَا) اعْتِبَارًا لِلِارْتِهَانِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ لِمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ الِارْتِهَانُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ إلَى الْعَاقِدِ وَكِيلًا كَانَ أَوْ مَالِكًا.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ وَلِيَاهُ جَمِيعًا) لِأَنَّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِ صَاحِبِهِ هُوَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَا يَصِحُّ ارْتِهَانُهُ بِهِ.
وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُشَاعًا، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ.
فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ الرَّهْنُ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ؛ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَضَمِنَ نِصْفَ الرَّهْنِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الرَّهْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، فَكَمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ.
(وَطَعَنَ) عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنْ يَذْهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنَ شَيْئًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَجْنَبِيٌّ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ يَنْبَنِي عَلَى يَدِ الِاسْتِيفَاءِ.
فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، كَمَنْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَدْلًا فِيهِ، إنْ أَجَازَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ؛ لَمْ يَضْمَنْ الْقَابِضُ شَيْئًا.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ هُنَا عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَدْلِ بِشَرْطِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَهُ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَتَحَقَّقُ رِضَا صَاحِبِ الرَّهْنِ بِقَبْضِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ.
فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ثُمَّ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ مُسْتَوْفًى بِهَلَاكِ الرَّهْنِ.
قَالَ: (وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ جَائِزٌ.
كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ مَلَكَ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَقِيَامُهُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ: (وَيَجُوزُ إقْرَارُ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِالِارْتِهَانِ فِيمَا تَوَلَّاهُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ فِيمَا تَوَلَّى سَبَبهُ.
فَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِارْتِهَانِ، وَفِيمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَيَجُوزُ فِي نَصِيبِهِ- اسْتِحْسَانًا- لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا أَقْبَضَ الثَّمَنَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرَى إلَيْهِ صَحَّ قَبْضُهُ- اسْتِحْسَانًا- وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، أَوْ بِالِارْتِهَانِ يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
قَالَ (وَمَا غَصَبَهُ الْمُفَاوِضُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ عَقَدَ دَابَّةً، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبًا؛ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ يَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْآخَرُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ قَائِمًا مَقَامَ شَرِيكِهِ، وَلَا مَأْذُونًا لَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ يَتَحَقَّقُ شَرْطُ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ.
فَأَمَّا الْوَاجِبُ ضَمَانُ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً، وَإِذَا أَدَّى غَيْرَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِهِ ضَمَانُ الْعَقْدِ، وَالْفَاسِدُ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ، فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ بِالصَّحِيحِ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ.
قَالَ: (وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ فَعَمِلَ بِهَا، أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً فَخَالَفَ فِيهَا؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُمَا) لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِمَعْنَى الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ.
قَالَ: (وَإِذَا غَصَبَ شَرِيكُ الْعَنَانِ شَيْئًا أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ صَاحِبُهُ) لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ.
وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ؛ ضَمِنَهُ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ مِنْ التَّصَرُّفِ.
قَالَ: (وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَنْ رَجُلٍ بِمَهْرٍ أَوْ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَتِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُفَاوِضِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ لَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ.
وَالْجِنَايَةُ وَالْأَرْشُ وَالْمَهْرُ فِي حَقِّهِمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالْجِنَايَةِ، وَالشَّرِيكُ غَيْرُ مُتَحَمِّلٍ فِيهِ مَا يَجِبُ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِنَفَقَةِ امْرَأَةِ شَرِيكِهِ وَلَا مُتْعَتِهَا، وَلَا بِنَفَقَةٍ يَفْرِضُهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِذَوِي أَرْحَامِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ.
قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِامْرَأَتِهِ غَيْرِ الْمَهْرِ- مِنْ شِرَاءٍ أَوْ قَرْضٍ- لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْهُ شَيْءٌ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ الْمُقِرَّ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِكُلِّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ- مِنْ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَعَبِيدِهِ وَمُكَاتِبِيهِ- فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا-: إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا مَا خَلَا عَبْدَهُ وَمُكَاتَبَهُ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبِيعُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ، فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ إيجَابِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ- بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَكَتْبُهُ مِلْكُ هَؤُلَاءِ- وَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْكَسْبِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ.
وَبِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَاكَ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُقِرِّ لَهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيطِهِ، فَامْرَأَتُهُ وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُمْ لَا تَصِحُّ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ.
وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمَلِّكُ الْحَقَّ لِلْغَيْرِ فِي مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ؛ فَلَا يُمَلِّكُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ- كَمَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ- وَلَكِنْ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي نُفُوذِ إقْرَارِ الْمُفَاوِضِ عَلَى شَرِيكِهِ، لَا فِي نُفُوذِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَزِمَ الْمَالَ الْمُقِرُّ خَاصَّةً.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ بَائِنَةٌ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَأَصْلُهُ فِي الشَّهَادَةِ.
فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ لِلْمُبَايَنَةِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ؛ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِانْقِطَاعِ السَّبَبِ الْمُمَكِّنِ لِلتُّهْمَةِ- وَهُوَ النِّكَاحُ- كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا جُعِلَتْ هَذِهِ الْعِدَّةَ كَالنِّكَاحِ، (وَكَذَلِكَ) فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا، وَفِي امْتِنَاعِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ لَهَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ.
قَالَ: (وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: فَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِمَهْرِهَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ- فَاسِدًا كَانَ النِّكَاحُ أَوْ صَحِيحًا-).
وَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ غَيْرِ الْمَهْرِ؛ لَزِمَهَا جَمِيعًا لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ لِاشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، (وَكَذَلِكَ) لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ؛ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا- وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهِ، وَكَذَلِكَ لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالسُّوقِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ- بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ- وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لَهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّهِمَا، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَةِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ الْمُفَاوِضَةِ بِالدَّيْنِ لِزَوْجِهَا عَلَى شَرِيكِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا لَهُ) وَيَجُوزُ إقْرَارُهَا بِالدَّيْنِ لِأَبَوَيْ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَلَيْهَا وَعَلَى شَرِيكِهَا، كَمَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا.
قَالَ: (وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِ الْمُفَاوِضِ) لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ.
قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: كُنْت كَاتَبْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ؛ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ، وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ لِلْإِنْشَاءِ، وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَإِنْشَاءِ مُكَاتَبَتِهِ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرُدَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُكَاتَبًا، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاتَبَ فِي الْمُفَاوَضَةِ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الشَّرِكَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُ يَصِحُّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَلَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِحْلَافِ الْآخَرِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي حَالِ بَقَاءِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَنْفُذْ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ.
قَالَ: (فَإِنْ تَفَرَّقَا وَأَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَدْ كُنْت أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ وَقَدْ دَخَلَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا تَرَتَّبَ إلَيْك مَرَّةً، فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي عِتْقِهِ وَقَالَ: كُنْت اخْتَرْت اسْتِسْقَاءَ الْعَبْدِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ) لِأَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّ حَقِّهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ إبْطَالَ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ نِصْفِ الْعَبْدِ عَرَفْنَاهُ حَقًّا لَهُ، وَالْمُقِرُّ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّهِ بِمَا ذَكَرُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَذَلِكَ مُوجَبُ بَرَاءَةِ الْمُعْتَقِ عَنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ.
قَالَ: (فَإِنْ قَالَ: قَدْ كُنْت اخْتَرْت ضَمَانَك؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ) لِأَنَّهُ حَقُّهُ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ بِزَعْمِهِ، وَبَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَ مُبَرِّئًا شَرِيكَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ.
وَإِنْ قَالَ: مَا كُنْت اخْتَرْت شَيْئًا فَأَنَا عَلَى خِيَارِي؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ، وَالِاخْتِيَارُ حَادِثٌ مِنْ قِبَلِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الشَّرِيكَ لِأَجْلِ الْبَرَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَقَرَّرَ ضَمَانُ نَصِيبِهِ فِي ذِمَّتِهِ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ؛ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقِيلَ: تَقَرُّرُ الضَّمَانِ لَأَنْ يَسْتَفِيدَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ أَوْلَى.
وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ تَعَيَّنَ فِي اسْتِسْقَاءِ الْعَبْدِ- كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُ- وَإِنْ أَقَامَ الْمُقِرُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اخْتَارَ ضَمَانَهُ جُعِلَ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَبْرَأُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ.
وَإِنْ قَالَ الشَّرِيكُ: لَمْ يُعْتِقْهُ إلَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَادِثٌ، فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِي الْإِسْنَادِ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُعْتَقُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَضَمِنَ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَاخْتَارَ سِقَايَةَ الْعَبْدِ؛ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُعْتَقِ، وَبَرِئَ هُوَ وَالْعَبْدُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَيِّنَتَهُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي الْإِعْتَاقِ، وَأَبْقَى مَا لَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِهِ، وَالشَّرِيكَ بِبَيِّنَتِهِ يَبْغِي ذَلِكَ- وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ- فَيَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الشَّرِكَةِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَمَاتَ الْعَبْدُ؛ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا بَرِئْت إلَيْك مِنْهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ كَاتَبْته بَعْدَ الْفُرْقَةِ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ، فَلَا يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، فَإِذَا حَلَفَ يَأْخُذُ نِصْفَ الْأَلْفِ مِنْ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ، وَقَدْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ الْمُكَاتِبُ: كَاتَبْتُهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَأَنَا وَارِثُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَاتَبْته فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْنُ وَارِثَاهُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَرُدَّ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا بَعْدُ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي نِصْفِ الْمُكَاتَبِ كَانَ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي نِصْفِ الْكَسْبِ، فَالشَّرِيكُ بِمَا قَالَ يَدَّعِي بِمِلْكِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ مَاتَ فَيَأْخُذَانِ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ.
قَالَ: لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُمَا.
قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ الْمُتَفَاوِضَانِ وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، ثُمَّ وَجَدُوا مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: كَانَ هَذَا فِي قَسْمِنَا؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ، فَدَعْوَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْيَمِينُ.
فَإِذَا حَلَفُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ صُدِّقُوا إنْ كَانُوا قَدْ أَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اخْتِصَاصِهِمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ قَدْ ظَهَرَ، وَهُوَ الْإِشْهَادُ بِالْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ مَا يَحْلِفُ الْآخَرُونَ مَا دَخَلَ هَذَا فِي قَسْمِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْيَدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْ فِيهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، بَلْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ دَعْوَى الْبَعْضِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ.
وَبَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مُطْلَقًا، فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ.
قَالَ: (وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَالٌ فَقَالُوا: هَذَا لِأَبِينَا قَبْلَ الْمُفَاوَضَةِ؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَوْ ادَّعَى الْمُوَرِّثُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ نِصْفَيْنِ- كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ- فَكَذَلِكَ دَعْوَى الْوَرَثَةِ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ ثُمَّ أَقَرُّوا بِهَذَا، وَلِلْفَرِيقِ الْآخَرِ نِصْفه؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَكَانَ حُكْمُ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ كَمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا.
قَالَ: (وَكُلُّ مَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ التِّجَارَةِ، وَغَيْرِهَا فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ) إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي كِسْوَتِهِ وَكِسْوَةِ عِيَالِهِ وَقُوتِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَاصَّةً- دُونَ شَرِيكِهِ- لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا جَمِيعًا، وَالْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ فَقَالَ: هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَضِيَّةِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ شَارَكَ صَاحِبَهُ كَانَ عَالِمًا بِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُفَاوَضَةِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ عِيَالِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالشِّرَاءِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنِيًا هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ تَصَرُّفِهِ كَمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ كَالِاسْتِثْنَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ شَرْعًا فِيمَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوِقَايَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا سِوَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ.
فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ لَهُ خَاصَّةً، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَاشَرَ سَبَبَ الِالْتِزَامِ، وَالْآخَرُ كَفَلَ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ بِالشِّرَاءِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ.
فَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ رَجَعَ الْمُؤَدِّي عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَدْ قُضِيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْأَشْيَاءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَجَحَدَ الْمُفَاوَضَةَ؛ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِجُحُودِهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَجُحُودُهُ يَكُونُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِالْجُحُودِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى.
وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا- كَالْمُودَعِ إذَا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ-.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَيِّتِ أَمَانَةٌ، فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا.
فَإِنْ مَاتَا وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى رَجُلٍ فَوَصِيُّ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِمَا وَلَّى مُوصِيهِ مُبَايَعَتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِهِمَا، وَلَا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ.
فَإِذَا قَبَضَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِالْمُفَاوَضَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَصِّي قَبَضَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ، كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جَارِيَةً لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لِيَطَأَهَا: فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ؛ فَهِيَ بَيْنَهُمَا) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ مَا صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُعْلَمُ وُقُوعُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الشَّرِكَةِ؛ فَيَقَعُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ- وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ- وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَيَحْتَسِبَانِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ حِصَّةِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ.
(وَذُكِرَ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَأَيُّهُمَا نَقَدَ الثَّمَنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّيَا الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ.
فَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ قَوْلُهُمَا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِهَا بِالشِّرَاءِ فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ- كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ-؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِ الشَّرِيكِ لِيَصِيرَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الْتَحَقَ بِالْمُسْتَثْنَى بِدُونِ إذْنِهِ- وَهُوَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ- وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: صَارَ مُشْتَرِيًا الْجَارِيَةَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَقَدْ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.
كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مَعَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلَكِنَّ تَأْثِيرَ إذْنِ شَرِيكِهِ فِي تَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشْتَرَى بَعْدَ الشَّرِكَةِ، فَيَكُونُ وَاهِبًا لِنَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ.
وَلَوْ أَنَّهُمَا اشْتَرَيَا جَارِيَةً ثُمَّ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَهُ خَاصَّةً يَطَؤُهَا، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا مِثْلُهُ.
يُقَرِّرُهُ: أَنَّ إذْنَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمَا مُعْتَبَرٌ فِيمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ إذْنِهِ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ بِدُونِ إذْنِ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى يَكُونُ لَهُمَا، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ إذْنِ الشَّرِيكِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِهِ فِي الْقَرَارِ الْمُشْتَرَى بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ: إمَّا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِهِبَةِ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ، وَيُجْعَلُ هَذَا الطَّرِيقَ الْمُتَعَيَّنَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا كَتَصْرِيحِهِمَا بِهِ- بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ- لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، فَكَانَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً بِعَقْدِ الشِّرَاءِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَوَطِئَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَقْدِ أَيَّهُمَا شَاءَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ- وَهُوَ الشِّرَاءُ- فَإِنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقْرِ عَلَيْهِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ حَتَّى يُعْتَقَ.
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا جَارِيَةً مِنْ تِجَارَتِهِمَا بِنَسِيئَةٍ؛ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ كَفِعْلِهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا بَائِعٌ وَالْآخَرُ تَبَعٌ لَهُ، وَمَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ؛ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَقْدِ.
وَإِنْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ؛ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرَى عَنْ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَانَ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يَجُزْ إبْرَاؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ هَذَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْإِبْرَاءَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ جَازَ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ، فَيَجُوزُ إسْقَاطُ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي.
فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الْبَائِعِ: الشَّرِيكُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا عَاقِدٍ؛ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ، وَإِنْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ مِنْ الْمُفَاوِضِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عَنَانٍ.
قَالَ: (وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ؛ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِنَسِيئَةٍ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَفِعْلُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَفِعْلِهِمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا عِينَةً عِينَةً، وَصُورَةُ الْعِينَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لِيَبِيعَهُ بِقِيمَتِهِ بِالنَّقْدِ، فَيَحْصُلَ لَهُ الْمَالُ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ بِفِعْلِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِيهِ كَفِعْلِهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ بِالنَّسِيئَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جِنْسُ ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَشِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَوِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ لَا تُسْتَفَادُ بِشَرِكَةِ الْعَنَانِ، وَتُسْتَفَادُ بِالْمُفَاوَضَةِ.
قَالَ: (وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَأْسَ مَالٍ أَسْلَمَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي طَعَامٍ؛ كَانَ جَائِزًا عَلَى شَرِيكِهِ)؛ لِأَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
(فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا، وَالتَّوْكِيلُ بِقَبُولِ السَّلَمِ لَا يَصِحُّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ (قُلْنَا): هَذَا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ هَكَذَا، فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ تِجَارَةٍ- وَقَبُولُ السَّلَمِ مِنْ التِّجَارَةِ- يُوَضِّحُهُ: أَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ تَبَعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالْتِزَامُ ضَمَانِ مَا فِي الذِّمَّةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعَمَلٍ- مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ نَحْوِهَا-.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ الْمُفَاوَضِ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ.
فَكَذَلِكَ قَبُولُ السَّلَمِ.
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ مَاتَ؛ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، فَإِنَّمَا تَبْقَى وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ وَالْخُصُومَةِ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ أَوْ إلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ وَارِثٍ، وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ؛ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ مِلْكُهُ إذَا قَبَضَهُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، فَإِذَا دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ بِنَفْسِهِ؛ بَرِئَ اسْتِحْسَانًا- كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ اسْتِحْسَانًا.
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِنْ الشَّرِكَةِ لِيَقْطَعَهُ؛ جَازَ) لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ مُقَيَّدٌ، فَإِنَّ الثَّوْبَ قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْعِ يَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا لِكِسْوَتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَالشِّرَاءُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا كَانَ صَحِيحًا- كَالْمَوْلَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ لِنَفْسِهِ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ كَانَ صَحِيحًا-.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ جَارِيَةً لِيَطَأَهَا، أَوْ طَعَامًا يَجْعَلُهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ؛ فَهَذَا الْبَيْعُ مُقَيَّدٌ يَجِبُ بِهِ الثَّمَنُ)، ثُمَّ نِصْفُ الثَّمَنِ لَهُ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِلتِّجَارَةِ؛ كَانَ بَاطِلًا) لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَالْعَقْدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الشَّرْعِيَّةَ أَسْبَابٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْفَائِدَةِ، فَإِذَا خَلَتْ مِنْهَا كَانَتْ لَغْوًا، وَاللَّغْوُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَبْدٌ مِيرَاثٌ فَاشْتَرَاهُ الْآخَرُ لِلتِّجَارَةِ؛ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الْمُفَاوَضَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَلَا يُفْسِدُ الْمُفَاوَضَةَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمِلْكِ الدَّيْنِ، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَقَدْ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ، فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ.
(وَكَذَلِكَ) إنْ كَانَتْ أَمَةً لِأَحَدِهِمَا مِيرَاثًا، اشْتَرَاهَا الْآخَرُ مِنْهُ لِيَطَأَهَا.
قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُقَسِّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ إذَا فَقَدَ مَوْتَهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى، وَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ كَانَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ؛ فَلَا تُقْطَعُ الشَّرِكَةُ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ لِصَاحِبِهِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَلَحَاقِهِ، مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ.
فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا؛ فَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا قَدْ انْقَطَعَتْ بِتَمْوِيتِ الْقَاضِي إيَّاهُ حِينَ قَضَى بِلَحَاقِهِ.
وَفِي رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ اخْتِلَافٌ وَكَلَامٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَلْتَحِقْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عِنْدَهُ، وَيَبْطُلُ إذَا قُتِلَ- كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ شَرِيكَ الْعَنَانِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا: شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ، فَكَذَلِكَ تَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَتُوقَفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا إذَا بَاشَرَهُ ابْتِدَاءً.
وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَوَقَّفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا تِلْكَ الزِّيَادَةُ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ.
وَإِنَّمَا بَقِيَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ بَيْنَهُمَا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ.
قَالَ: (وَبَيْعُ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَشِرَاؤُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ) وَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا بِدَيْنٍ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَتَوَقَّفَ أَمْرُ الْمُرْتَدِّ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُسْلِمُ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ إلَّا أَنَّ أَصْلَهُ إقْرَار الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا قُتِلَ بَطَلَ- كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ- وَأَصْلُ إقْرَارِ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ عَلَى إسْلَامِهِ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ بَطَلَ ذَلِكَ، وَيَبْقَى الْمُسْلِمُ مُطَالَبًا بِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَتَاعًا ثُمَّ افْتَرَقَا، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِافْتِرَاقِهِمَا؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ كُلَّهُ) لِأَنَّ بَيْعَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ مُثْبَتٌ عَلَى حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِصَاحِبِهِ؛ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا، مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى إذَا قَضَى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْفُرْقَةِ؛ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى أَحَدِهِمَا، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا مَا لَمْ يَعْلَم بِهِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى شَرِيكِهِ، فَهُمَا بِالِافْتِرَاقِ قَصَدَا عَزْلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَعَزْلُ الْوَكَالَةِ قَصْدًا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، حَتَّى إذَا عَلِمَ بِالْفُرْقَةِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ الْمَالِ إلَّا إلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَزْلِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ؛ لَمَّا عَلِمَ بِهِ؛ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا؛ لِتَحَوُّلِ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ،- بِخِلَافِ مَا إذَا عَزَلَهُ قَصْدًا-.
قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرَى بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ إلَّا الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ خَاصَّةً ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَاقِدُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ كَانَ وَكِيلًا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ.
قَالَ: (وَلَوْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَحُكِمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، أَوْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ، ثُمَّ افْتَرَقَا؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ، فَصَارَ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ.
فَافْتِرَاقُهُمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَنْ مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
قَالَ: (وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْد بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَقَدْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَهَا؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَوْقُوفًا، فَيَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْمُسْتَحَقِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ.
فَأَمَّا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَحِيحًا إلَى وَقْتِ الرَّدِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْآخَرَ.
قَالَ: (رَجُلٌ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِلْخَيَّاطِ شَرِيكٌ فِي الْخِيَاطَةِ مُفَاوَضَةً؛ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ مَا بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا.
(فَإِنْ قِيلَ): عَمَلُ الْخِيَاطَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ الْكَفِيلِ عَنْهُ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ؛ لَمْ تَجُزْ كَفَالَةُ الْغَيْرِ عَنْهُ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِهِ؛ (قُلْنَا): مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ؛ فَلَا تَظْهَرُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَلَا جَرَمَ إذَا تَفَرَّقَا أَوْ مَاتَ الَّذِي قَبَضَ الثَّوْبَ؛ لَمْ يُؤَاخَذْ الْآخَرُ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاتِّحَادِ هُوَ الشَّرِكَةُ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ؛ فَكَانَ الشَّرْطُ عَلَى الْخَيَّاطِ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ.
وَإِذَا مَاتَ الَّذِي قَبِلَ؛ بَطَلَ هَذَا التَّقَبُّلُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْخِيَاطَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ بِمَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ صَحِيحٌ، وَبِمَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ بَاطِلٌ.
وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ هَذَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهَذَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ؛ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ.
وَبَعْدَ صِحَّتِهَا: إذَا مَاتَ الْخَيَّاطُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كِرَاءِ الْإِبِلِ، إذَا مَاتَ الْجَمَّالُ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كُرُّ حِنْطَةٍ، وَكُرُّ شَعِيرٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبَيْعِهِ، فَاسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً، فَحَمَلَ عَلَيْهَا الْآخَرُ الشَّعِيرَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ كَانَ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ، وَلِحِصَّةِ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ)؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ وَلِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الشَّعِيرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّابَّةِ، وَنَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ إذَا تَلِفَتْ بِحَمْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَشَرِيكِ الْعَنَانِ وَالْمُفَاوَضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَمْلِ، كَمَا أَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا.
ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ فِي الْأَصْلِ بِمَا إذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا، أَوْ يَعْمَلَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الشَّرِكَةِ، كَالْعَنَانِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْعَنَانِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَفِي التَّقَبُّلِ يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ، وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ: لَا فَرْقَ.
وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ اشْتَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي التَّقَبُّلِ، فَأَمَّا مَعَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ؛ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا.
وَفِي النَّوَادِرِ أَيْضًا أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ لَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ فِي التَّقَبُّلِ هُمَا تَابِعَانِ لِلْعَمَلِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْعَمَلِ، فَيَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ.
فَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ: هُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، فَمَعَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا شَرْطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ.
وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، فَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَتَقَوَّمُ بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ، بِخِلَافِ عَيْنِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَحَدِهِمَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ، وَلَا ضَمَانٍ.
وَإِذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْآخَرَ مُطَالَبٌ بِذَلِكَ.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُطْلَقَةً؛ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ- قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا- فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُطَالَبُ إلَّا مَنْ تَقَبَّلَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَنَانٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ لَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقَبُّلَ مَقْصُودٌ بِالشَّرِكَةِ، فَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا: إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا؛ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَجْرِ- اسْتِحْسَانًا- لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِهِمَا.
وَبَيَانُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا: أَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذَا- بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فِي الدَّيْنِ-.
وَذَكَرَ الشَّارِحُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا- اسْتِحْسَانًا أَيْضًا- وَأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ فِيهِ، فَأَقَرَّ بِهِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ- أَيْضًا اسْتِحْسَانًا- وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ، فَيَقُولُ: إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ، وَمَا يَتْلَفُ بِجِنَايَةٍ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِهِ وَاسْتِهْلَاكِهِ، وَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ مَا جَنَتْ يَدُهُ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ، وَمَا فِي الْعَمَلِ كَالْمُتَفَاوِضِينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ إلَى أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَحَلَّ الْعَمَلِ، وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُهُمَا عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.