الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (110): {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}قلت: {إن} الثانية: تأكيد، والخبر للأول.يقول الحقّ جلّ جلاله: {ثم إِن ربك للذين هاجروا} من دار الكفر إلى المدينة {من بعد ما فُتنوا} أي: عُذبوا على الإسلام؛ كعمار بن ياسر، وأشباهه؛ من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر: {فتنوا}؛ بفتح التاء، أي: فتنوا المسلمين وعذبوهم، فتكون فيمن عذب المسلمين، ثم أسلم وهاجر وجاهد، كعامر بن الحضرمي، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق، {إِن ربك من بعدها}؛ من بعد الهجرة والجهاد والصبر، {لغفور رحيم} أي: لغفور لما مضى قبلُ، رحيم؛ يجازيهم على ما صنعوا بعدُ.الإشارة: من نزلت به قهرية، أو حصلت له فترة، حتى رجع عن طريق القوم، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله؛ {إن ربك من بعدها لغفور رحيم}؛ يغفر له ما مضى من فترته، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق..تفسير الآية رقم (111): {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}قلت: {يوم}: منصوب باذكر، أو بغفور رحيم.يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم تأتي كلُّ نفس تُجادِلُ عن نفسها}؛ عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها؛ {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34-36]، {وتُوفَّى كلُّ نفس} جزاء {ما عملت} على التمام، {وهم لا يُظلمون}: لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.الإشارة: النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى ما عَمِلَتْ من خير أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة. وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله؛ فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليه حساب؛ إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون. أو تقول: هي في عداد من يلقى الله بالله، فليس لها شيء سوى الله، فحجته، يوم تجادل النفوس، هو الله. كما قال الشاعر:وبالله التوفيق. .تفسير الآيات (112- 113): {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}قلت: {قرية}: بدل من: {مثلاً}.يقول الحقّ جلّ جلاله: {وضرب اللهُ مثلاً}، ثم فسره بقوله: {قريةً}: مكة، وقيل: غيرها. {كانت آمنة} من الغارات، لا تُهَاجُ، {مطمئنة} لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، {يأتيها رزقها}: أقواتها {رغدًا}: واسعًا {من كل مكان} من نواحيها، {فكفرتُ بأنعُم الله}؛ بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، {فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف}، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره؛ يقول الشاعر:فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء؛ لما يلقى عليه، والمعنى: أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.{ولقد جاءهم رسولٌ منهم}، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم. {فكذَّبوه فأخذهم العذاب}: الجوع والقحط، ووقعة بدر، {وهم ظالمون}؛ ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.الإشارة: ضرب الله مثلاً؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق. .تفسير الآيات (114- 118): {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}قلت: {الكذب}: مفعول بتقولوا، و{هذا حلال وهذا حرام}: بدل منه، أي: لا تقولوا الكذب، وهو قولكم: {هذا حلال وهذا حرام}، و{ما} في قوله: {لما تصف}؛ ويجوز أن ينتصب الكذب ب {تصف}، ويكون {ما} مصدرية. ويكون قوله: {هذا حلال وهذا حرام} معمولاً لتقولوا، أي: لا تقولوا: هذا كذا وهذا كذا؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.يقول الحقّ جلّ جلاله: {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا}، أمرهم بأكل ما أحل لهم، وشُكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم؛ صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي: {واشكروا نعمتَ الله}؛ لتدوم لكم {إن كنتم إياه تعبدون} فلا تنسبوا نعمه إلى غيره، كشفاعة الأصنام وغيرها. {إنما حرّم عليكم الميتةَ والدمَ ولحم الخنزيرِ وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم}، تقدم تفسيرها في البقرة والمائدة. قال البيضاوي: أمرهم بتناول ما أحل لهم، وعدد عليهم محرماته، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله: {ولا تقولوا لما تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام} لما لم يحله الله ولم يحرمه، كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا...} [الأنعام: 139] الآية. اهـ. تقولون ذلك؛ {لتفتروا على الله الكذب} بنسبة ذلك إليه. {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} أبدًا؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم، فحُرموا فلاح الآخرة، ولذلك قال: {متاع قليل} أي: لهم تمتع في الدنيا قليل، يفنى ويزول. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.{وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصَصنَا عليك من قبل} في سورة الأنعام بقوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية، {وما ظلمناهم} بالتحريم، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين، وما حرم على اليهود؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.الإشارة: يقول الحق- جلّ جلاله-، لمن بقي على العهد؛ من شكر النعم؛ بالإقرار بفضل الواسطة: {فكلوا مما رزقكم الله} من قوت اليقين وفواكه العلوم، {واشكروا نعمة الله} إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم..تفسير الآية رقم (119): {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}يقول الحقّ جلّ جلاله: {ثم إن ربك للذين عملوا السُّوء}؛ كالشرك، والافتراء على الله، وغير ذلك، {بجهالةٍ} أي: ملتبسين في حال العمل بجهالة، كالجهل بالله وبعقابه، وعدم التدبر في عواقبه؛ لغلبة الشهوة عليه، {ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} عملهم، {إن ربك من بعدها} أي: التوبة، أو الجهالة، {لغفور} لذلك السوء، {رحيمٌ} بهم؛ يثيبهم على الإنابة.الإشارة: كل من أساء الأدب، ثم تاب وأناب، التحق بالأحباب. قال بعضهم: «كل سوء أدب يثمر أدبًا فهو أدب». والتوبة تتبع المقامات؛ فتوبة العوام: من الهفوات، وتوبة الخواص: من الغفلات، وتوبة خواص الخواص: من الفترات عن شهود الحضرات. وبالله التوفيق..تفسير الآيات (120- 123): {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنَّ إِبراهيم كان أُمةً} أي: إمامًا قدوة؛ قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، قال ابن مسعود: الأُمة: معلّم الناس الخيرَ، أو أمة وحده، اجتمع فيه ما افترق في غيره، فكان وحده أمة من الأمم؛ لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا في أشخاص كثيرة، كقول الشاعر:وهو رئيس الموحدين، وقدوة المحققين، جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة. ولذلك عقَّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو: لأنه كان وحده مؤمنًا وسائر الناس كفارًا. قاله البيضاوي. وكان {قانتًا لله}؛ مطيعًا قائمًا بأوامره، {حنيفًا}؛ مائلاً عن الباطل، {ولم يَكُ من المشركين}، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه، وأنتم مشركون.وكان {شاكرًا لأنعُمِه}، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة، {اجتباه}: اختاره للنبوة والرسالة والخلة. {وهداه إلى صراط مستقيم}؛ التي توصل إلى حضرة النعيم، ودعا إليها، {وآتيناه في الدنيا حسنة}؛ بأن حببناه إلى كافة الخلق، ورزقناه الثناء الحسن في الملل كلها، حتى إِنَّ أرباب الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادًا طيبة، وعمرًا طويلاً في الطاعة والمعرفة، ومالاً حلالاً. {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لحضرتنا، المقربين عندنا، الذين لهم الدرجات العلا؛ كما سأله ذلك بقوله: {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الشُّعَرَاء: 83].{ثم أوحينا إليك} يا محمد {أن اتبعْ ملةَ إِبراهيم}؛ دينه ومنهاجه في التوحيد، والدعوة إليه بالرفق، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل واحد بحسب فهمه. وكان {حنيفًا}؛ مائلاً عما سوى الله، {وما كان من المشركين}، بل كان قدوة الموحدين. كرره؛ ردًا على اليهود والنصارى والمشركين في زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. والله تعالى أعلم.الإشارة: كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم: كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. .تفسير الآية رقم (124): {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنما جُعِل السبتُ} أي: فُرض تعظيمه وإفراده للعبادة، {على الذين اختلفوا فيه} على نبيهم، وهم: اليهود؛ أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا وقالوا: نريد يوم السبت؛ لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض، فألزمهم الله السبت، وشدَّد عليهم فيه. وقيل: لما أمرهم بيوم الجمعة، قَبِلَ بعضهم، وأبى أكثرهم، فاختلفوا فيه. وقيل: اختلافهم: هو أن منهم من حرَّم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا: إنما جعل وبال السبت- وهو المسخ-، {على الذين اختلفوا}؛ فأحلوا فيه الصيد تارة، وحرموه أخرى، أو أحله بعضهم، وحرمه بعضهم، وذكرهم هنا؛ تهديدًا للمشركين، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله، {وإِن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}؛ فيجازي كل فريق بما يستحقه، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي.الإشارة: الاختلاف على الأكابر؛ كالشيوخ والعلماء، والتقدم بين أيديهم بالرأي والكلام، من أقبح المساوئ، وسوء الأدب يوجب لصاحبه العطب؛ كالقطع عن الله، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم: إذا جالست الكبراء؛ فدع ما تعلم لما لا تعلم؛ لتفوز بالسر المكنون. والله تعالى أعلم..تفسير الآية رقم (125): {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}يقول الحقّ جلّ جلاله: {ادْعُ} يا محمد الناسَ {إلى سبيل ربك}؛ إلى طريقه الموصل إليه، وهو: الإسلام والإيمان، والإحسان؛ لمن قدر عليه، {بالحكمة}؛ بسياسة النبوة، أو بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة، {والموعظة الحسنة}؛ مواعظ القرآن ورقائقه، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة، {وجادلهم} أي: جادل معاندتهم {بالتي هي أحسن}؛ بالطرق التي هي أحسن طرق المجادلة؛ من الرفق واللين، وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر؛ فإن ذلك أنفع في تليين لهبهم، وتبيين شغبهم، فالأولى: لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية: لدعوة عوامهم، والثالثة: لدعوة معاندهم.قال ابن جزي: الحكمة هي: الكلام الذي يظهر جوابه، والموعظة: هي: الترغيب والترهيب. والجدال هو: الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل، وهذه الآية تقتضي مهادنة نُسخت بالسيف. وقيل: إن الدعاء بهذه الطريقة، من التلطف والرفق، غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار، وأما العصاة فهي في حقهم مُحكمة إلى يوم القيامة باتفاق. اهـ.{إِنَّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي: إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي للجميع.الإشارة: الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال، يكون من أهل الحق والتحقيق؛ لأهل الصدق والتصديق. والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق، يكون لأهل التردد في سلوك الطريق. والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذِكْرُ بيانِ الطريق، وفضيلة علم التحقيق، يكون لأهل الإنكار؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل: أن الدعاء بالحكمة؛ لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة: لأهل التردد في الطريق. والدعاء بالمجادلة: لأهل الإنكار؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت: الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع في واحد؛ إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير.
|