الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.فائدة: قد يسمى الشرط يمينا.قال ابن جني فِي كِتَابِ (الْقَدِّ): يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ جُمْلَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى أُخْرَى وَقَدْ جَرَتِ الْجُمْلَتَانِ مَجْرَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ!.الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ: وَهُمَا جُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْأَسَالِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّأْكِيدِ وَالْقَسَمُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالِالْتِزَامُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ أَوْ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْمُضِيَّ أَوِ الِاسْتِقْبَالَ وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ الْجَوَابِ عِنْدَ السَّامِعِ وتأكده ليزول عنه التردد فيه..الأمر: الْأَمْرُ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ بِغَيْرِ الْحَرْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {ادخلوا مساكنكم} {اخرجوا من دياركم} {كلوا من ثمره}.وَجَاءَ بِالْحَرْفِ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ بعضهم: {فبذلك فلتفرحوا} وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ فَكَأَنَّهُ لَا غَائِبٌ وَلَا حَاضِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا} فِيهِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ كَخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فَكَأَنَّهُمَا اتَّحَدَا فِي الْحُكْمِ وَوُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاتِّبَاعِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى فَأَتَى بِاللَّامِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ قَوْمًا غُيَّبًا وَبِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ حُضُورًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الآية: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} الْآيَةَ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ مُخَاطَبِينَ ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبرحمته} فبذلك يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُمْ فَصَارُوا مُخَاطَبِينَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.وَنَظِيرُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ فِي كَلِمَتَيْنِ وَحَالَتَيْنِ وهذا في كلمة وَاحِدَةٍ.وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.ومنها قوله تعالى: {ليقض علينا ربك}..النَّفْيُ: هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا إِثْبَاتٌ أَوْ نَفْيٌ وَفِيهِ قَوَاعِدُ:الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ كَانَ النَّافِي صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ مَا نَفَاهُ كَانَ جَحْدًا فَالنَّفْيُ أَعَمُّ لِأَنَّ كُلَّ جَحْدٍ نَفْيٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْجَحْدُ نَفْيًا لِأَنَّ النَّفْيَ أَعَمُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّفْيُ جَحْدًا.فَمِنَ النَّفْيِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}.ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} أَيْ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.وَكَذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ عَمَّنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} فأكذبهم اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}.وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا} فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}.قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْتُهُ.الثَّانِيَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ صِحَّةَ اتِّصَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ.الشَّيْءِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وما كان ربك نسيا} {لا تأخذه سنة ولا نوم} {وهو يطعم ولا يطعم} وَنَظَائِرُهُ.وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَنَفْيُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ.الثَّالِثَةُ: الْمَنْفِيُّ مَا وَلِيَ حَرْفَ النَّفْيِ فَإِذَا قُلْتَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا كُنْتَ نَافِيًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَإِذَا قُلْتَ: مَا أَنَا ضَرْبَتُهُ كُنْتَ نَافِيًا لِفَاعِلِيَّتِكَ لِلضَّرْبِ فَإِنْ قُلْتَ: الصُّورَتَانِ دَلَّتَا عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟قُلْتُ: مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أن الأولى نفت ضربا خاص وَهُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ ضرب غيرك ولا عدمه إذا نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَلَا ثُبُوتَهُ وَالثَّانِيَةُ نَفَتْ كَوْنَكَ ضَرَبْتَهُ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَكَ ضَرَبَهُ بِالْمَفْهُومِ.الثَّانِي: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ ضَرْبِكِ لَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالثَّانِيَةَ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِهِ بِوَاسِطَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}.الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَامًّا وَنَفَيْتَهُ فَإِنْ تَقَدَّمَ حَرْفُ النَّفْيِ أَدَاةَ الْعُمُومِ كَانَ نَفْيًا لِلْعُمُومِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِثْبَاتَ الْخَاصَّ فَإِذَا قُلْتَ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّ ذَا بَلْ بَعْضَهُ اسْتَقَامَ وَإِنْ تَقَدَّمَ صِيغَةُ الْعُمُومِ عَلَى النَّفْيِ فَقُلْتَ: كُلُّ ذَا لَمْ أَفْعَلْهُ كَانَ النَّفْيُ عَامًّا وَيُنَاقِضُهُ الْإِثْبَاتُ الْخَاصُّ.وَحَكَى الْإِمَامُ فِي (نِهَايَةِ الْإِيجَازِ) عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهُ قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ كَمَا لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ لَا يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ.الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَأَصْلُهَا (لا) و: (ما) لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا وَ: (لَا) أَخَفُّ مِنْ (مَا) فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ.ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: مَا، لَمْ، لَنْ، لَا.وأما (إن) و: (لما) فليسا بأصليين.فـ: (ما) و: (لا) في الماضي والمستقبل متقابلان و: (لم) و: (لن) فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ وَ: (لَمْ) كَأَنَّهُ مأخوذ من (لا) و: (ما) لِأَنَّ (لَمْ) نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ (لَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمِيمَ مِنْ (مَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمَاضِي وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي (لَمِ) الْمُسْتَقْبَلَ وَالْمَاضِيَ وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَا هُوَ أَصْلُ النَّفْيِ وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَلَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا.أَمَّا (لَمَّا) فتركيب بعد تركيب كأنه قال: (لم) و: (ما) لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا وَلِهَذَا تُفِيدُ لَمَّا الِاسْتِمْرَارَ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا قُلْتَ نَدِمَ زِيدٌ وَلَمْ يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ لَمْ يَنْفَعْهُ وَإِذَا قُلْتَ: نَدِمَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ وَاسْتَمَرَّ عَدَمُ نَفْعِهِ.قُلْتُ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا نُفِيَ بِهَا الْفِعْلُ اخْتَصَّتْ بِنَفْيِ الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُتَّسَعَ فِيهَا فَيُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ نَحْوُ: مَا قَامَ وَمَا قَعَدَ.قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ بِلَمْ وَمَا أَنَّ النَّفْيَ بِمَا كَقَوْلِكَ: مَا قَامَ زَيْدٌ مَعْنَاهُ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ هَذَا الْوَقْتُ وَهُوَ إِلَى الْآنِ مَا فَعَلَ فَيَكُونُ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي وأن النفي بلم كَقَوْلِكَ: لَمْ يَقُمْ تَجْعَلُ الْمُخْبِرَ نَفْسَهُ بِالْعَرْضِ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَلِأَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ أَنَا أُخْبِرُكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَعَلَى هَذَا فَتَأَمَّلِ السِّرَّ في قوله تعالى: {لم يتخذ ولدا} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ ولد} لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَقَامِ طَلَبِ الذِّكْرِ وَالتَّشْرِيفِ بِهِ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا بِالنَّفْيِ عَنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيا} وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فَإِنَّ مَرْيَمَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي تَفَكَّرْتُ فِي أَزْمِنَةِ وُجُودِي وَمَثَّلْتُهَا فِي عَيْنِي: (لَمْ أَكُ بَغِيًّا) فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا تَنْفِي نَفْيًا كُلِّيًّا مَعَ أَنَّهَا نَسِيَتْ بَعْضَ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَأَمَّا هُمْ لَمَّا قَالُوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} مَا كَانَ يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ تَصَوَّرْنَا كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِ أُمِّكِ وَنَنْفِي عَنْ كُلِّ واحد منها كونها بغيا لأن أحد لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ فَيَعْلَمَ كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا لَهَا إِنَّ أُمَّكِ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى حَكَمُوا عَلَيْهَا حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا أَنَّهَا مَا بَغَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وأهلها غافلون} وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يبعث في أمها رسولا} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {بِظُلْمٍ} كَانَ سَبَبُ حُسْنِ الْهَلَاكِ قَائِمًا وَأَمَّا الظُّلْمُ فَكَانَ يُتَوَقَّعُ فِي كُلِّ زَمَنِ الْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانُوا غَافِلِينَ أَمْ لَا لَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ يُمْسِكُ عَنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَافَقَتْهُ غَفْلَتُهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وَإِنْ جَدَّ الظُّلْمُ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ سَبَبًا مَعَ الْإِصْلَاحِ فَبَقِيَ النَّفْيُ الْعَامُّ بِعَدَمِ تَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى فِي كُلِّ زَمَانٍ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الظُّلْمُ لَمْ يُتَوَقَّعِ الْهَلَاكُ فَلَمْ يَبْقَ مُتَكَرِّرًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم} وقوله: {وما كان الله معذبهم} ذُكِرَ عِنْدَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ قال تعالى: {وما كان الله معذبهم} نَفْيًا وَاحِدًا عَامًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَذَابِ وَيَتَكَرَّرَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لَا لِلْمِنَّةِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ.وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قلبين في جوفه} وَقَالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سميا} وقال تعالى: {ولم يجعلني جبارا شقيا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سترا} فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ مَا حَصَّلَ الْمَذْكُورُ أُمُورًا لَا يُتَوَقَّعُ تَجَدُّدُهَا وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَحْصُلْ تَوَقُّعُ تَجَدُّدِ الْمَذْكُورِ.فَاسْتَمْسِكْ بِمَا ذَكَرْنَا وَاجْعَلْهُ أَصْلًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ..النوع السادس والأربعون: في أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ الْبَلِيغَةِ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بَيْتُ الْقَصِيدَةِ وَأَوَّلُ الْجَرِيدَةِ وَغُرَّةُ الْكَتِيبَةِ وَوَاسِطَةُ الْقِلَادَةِ وَدُرَّةُ التَّاجِ وَإِنْسَانُ الْحَدَقَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِلْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ.اعْلَمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ شَرِيفُ الْمَحَلِّ عَظِيمُ الْمَكَانِ قَلِيلُ الطُّلَّابِ ضَعِيفُ الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ وَلَا ذَوُو بَصِيرَةٍ تَسْتَقْصِيهِ وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَهْوَلُ مِنَ الْبَحْرِ وَأَعْجَبُ مِنَ السِّحْرِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكَافِلُ بِإِبْرَازِ إِعْجَازِ النَّظْمِ الْمُبِينِ مَا أُودِعَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَبَرَاعَةِ التَّرْكِيبِ وَمَا تَضَمَّنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ وَجَلَّلَهُ فِي رَوْنَقِ الطَّلَاوَةِ مَعَ سُهُولَةِ كَلِمِهِ وَجَزَالَتِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَسَلَاسَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَرْجِعُ الْحُسْنُ إِلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى.وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَعُدَّ الْأَسَالِيبَ الْبَلِيغَةَ وَالْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ مَجْمُوعُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إِذِ اللَّفْظُ مَادَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ يَتَأَلَّفُ وَمَتَى أُخْرِجَتِ الْأَلْفَاظُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعًا خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْمُعْتَبَرَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلَّا بها.وَهَا أَنَا أُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ مَا يَقْضِي لَهُ الْبَلِيغُ عَجَبًا وَيَهْتَزُّ بِهِ الْكَاتِبُ طَرَبًا.فَمِنْهُ التَّوْكِيدُ بِأَقْسَامِهِ وَالْحَذْفُ بِأَقْسَامِهِ الْإِيجَازُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْقَلْبُ الْمُدْرَجُ الِاقْتِصَاصُ التَّرَقِّي التَّغْلِيبُ الِالْتِفَاتُ التَّضْمِينُ وَضْعُ الْخَبَرِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ وَضْعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ وَضْعُ جُمْلَةِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثُ الْمُذَكِّرِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَكْسُهُ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى النَّحْتُ الْإِبْدَالُ الْمُحَاذَاةُ قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ وَالصِّفَاتِ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ الْهَدْمُ التَّوَسُّعُ الِاسْتِدْرَاجُ التَّشْبِيهُ الِاسْتِعَارَةُ التَّوْرِيَةُ التَّجْرِيدُ التَّجْنِيسُ الطِّبَاقُ الْمُقَابَلَةُ إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ التَّقْسِيمُ التَّعْدِيدُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا تَارَةً وَمُفْرَدًا أُخْرَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى فِي الضَّمَائِرِ قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ الْخِطَابُ بِالِاسْمِ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ قَاعِدَةٌ فِي ذِكْرِ الْمَوْصُولَاتِ وَالظَّرْفِ تَارَةً وَحَذْفِهَا أُخْرَى قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ وَدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ وَمِلَاكُ ذَلِكَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ:
|