الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]. وقَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]. يقال: عكف يعكف ويعكف بكسر الكاف وضمها في المستقبل. وأما في الشرع: فـ (الاعتكاف): هو اللبث في المسجد على وجه القربة، وهو اسم منقول من اللغة إلى الشرع بنقصان، وهو عبادة مسنونة لا تجب إلا بالنذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يعتكف.. فليعتكف العشر الأواخر»، يعني: من شهر رمضان، فعلقه بالإرادة. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلى أن قبضه الله تعالى».
فأما الكافر: فلا يصح اعتكافه، أصلياً كان أو مرتداً، كما لا يصح منه الصلاة ولا الصوم. وأما المجنون والمبرسم: فلا يصح منهما؛ ليسا من أهل العبادات، فلم يصح منهما، كالكافر، ويصح الاعتكاف من الصبي المميز، كما تصح منه الصلاة والصوم.
ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه، لأن منافعه ملك لمولاه، فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن اعتكفت المرأة بإذن زوجها، أو العبد بإذن مولاه، وكان تطوعاً.. جاز للزوج وللسيد إخراجهما منه. وقال أبو حنيفة: (للسيد أن يخرج عبده، وليس للزوج أن يخرج زوجته). وقال مالك: (ليس للزوج إخراج زوجته، ولا للسيد إخراج عبده). دليلنا على إخراج الزوجة: ما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لعائشة وحفصة وزينب أمهات المؤمنين في الاعتكاف، ثم منعهن من ذلك بعد أن دخلن فيه». ولأن من ملك منع غيره من الاعتكاف، فإذا أذن له في الشروع فيه - وكان تطوعا كان له منعه منه، كما لو لم يشرع فيه. وإن أذن الزوج لزوجته بنذر الاعتكاف، أو أذن السيد لعبده بنذر الاعتكاف، فنذراه.. نظرت: فإن كان غير متعلق بزمان بعينه.. لم يجز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج والسيد على الفور. وإن كان متعلقاً بزمان بعينه.. جاز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه تعين عليه فعله بالإذن. فإن أذن لأحدهما بالدخول في الاعتكاف في نذر لا يتعلق بزمان بعينه، فدخل فيه.. فهل يجوز له إخراجه منه؟ ينظر فيه: فإن كان الاعتكاف متتابعاً.. لم يجز له إخراجه منه؛ لأنه لا يجوز له إبطال عبادته الواجبة، وقد صح اعتكافه، فلو جوزنا له إخراجه منه.. لبطل ما قد فعله، وذلك لا يجوز، كما نقول في الصلاة المفروضة. وإن كان الاعتكاف غير متتابع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه وجب بإذنه، ودخل فيه بإذنه، فهو كما لو كان متتابعاً. والثاني: يجوز؛ لأنه يجوز له الخروج منه، فجاز إخراجه منه، كالتطوع، بخلاف المتتابع.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز). وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن عليه أن يكتسب، ويحصل النجوم، وذلك يبطل بالاعتكاف، وهذا ليس بشيء؛ لأن منافعه غير مملوكة لسيده فجاز له الاعتكاف بغير إذن السيد، كالحر. وأما من نصفه حر ونصفه مملوك، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. فلا يجوز له أن يعتكف إلا بإذن سيده، لتعلق حق سيده من كل جزء في اليوم، وإن كان بينهما مهايأه.. جاز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لنفسه بغير إذن سيده؛ لأنه لا حق لسيده في منفعته فيه، ولا يجوز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لسيده إلا بإذنه؛ لأن منفعته له.
أحدهما: وهو قوله في الجديد - (أنه لا يصح). والثاني: قال في القديم: (يصح). وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه موضع فضيلة صلواتها، فكان موضع اعتكافها، كالمسجد في حق الرجل، والأول أصح؛ لأنه موضع يجوز للجنب اللبث فيه، فلم يصح الاعتكاف فيه، كالصحراء. وأما الرجل: فهل يصح اعتكافه في مسجد بيته الذي جعله لصلاته؟ إذا قلنا في المرأة: لا يصح.. فالرجل أولى ألا يصح، وإن قلنا في المرأة: يصح.. ففي الرجل وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\166]، الأصح: لا يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يستحب له الاستتار، بخلاف المرأة. قال ابن الصباغ: فأما إذا جعل الرجل أو المرأة في داره مسجداً.. جاز له الاعتكاف فيه، وعلى سطحه؛ لأن السطح من جملة المسجد، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه.
وقال علي بن أبي طالب، وحماد: (لا يصح إلا في المسجد الحرام) وقال عطاء: لا يصح إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة. وقال حذيفة: (لا يصح إلا في المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى) وقال الزهري: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة. وحكى الشيخ أبو حامد: أن ذلك قول للشافعي في القديم. وليس بمشهور. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة). دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. فعم المساجد ولم يخص؛ ولأنه مسجد بني للصلاة، فجاز الاعتكاف فيه، كالمنفق عليه.
ولو نذر أن يصوم في يوم معين.. لم يجز له أن يصوم في غيره من الأيام، والفرق بينهما: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره، فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الاعتكاف، فإنه لم يجب بأصل الشرع في موضع بعينه. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وحكى الخراسانيون من أصحابنا في المسجد المعين وجهين: أحدهما: لا يتعين عليه، كما لو نذر الصلاة فيه. والثاني: يتعين عليه الاعتكاف بذلك المسجد؛ لأن للمسجد تأثيراً في الاعتكاف، هو: أنه لا يصح إلا في مسجد، فتعين بالنذر، كالصوم بخلاف الصلاة، فإنها تصح في غير مسجد، قال أصحابنا البغداديون: قال ابن القاص: ولا يتعين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة إلا في موضعين: أحدهما: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً، ثم يشرع فيه في مسجد، فلا يجوز له الانتقال إلى غيره؛ لأن خروجه للانتقال يقطعه، وذلك لا يجوز. والثاني: أن ينذر اعتكاف سبعة أيام، وما زاد متتابعاً، فلا يجوز، إلا في المسجد الذي تقام فيه الجمعة. وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام.. تعين عليه الاعتكاف فيه، ولا يسقط هذا النذر بالاعتكاف بغيره من المساجد؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أوف بنذرك»، ولأنه يختص بوقوع النسك فيه، وهو الطواف، فتعين الاعتكاف فيه بالنذر. إذا ثبت هذا: فالذي تبين لي أنه لا يسقط النذر إلا بالاعتكاف في الكعبة، أو فيما في الحجر من البيت، دون مسجد مكة، وقد مضى الدليل عليه في استقبال القبلة. وإن نذر اعتكافاً في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، فأراد الاعتكاف عن هذا النذر في المسجد الحرام.. صح لأنه أفضل منهما وإن أراد الاعتكاف عن ذلك في غير ذلك من المساجد.. ففيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بالنذر، كسائر المساجد: المسجد. والثاني: لا يصح، وهو قول أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»
وذهبت طائفة إلى: أن من شرط صحة الاعتكاف الصوم، ولا يصح في الأيام التي نهي عن الصوم فيها، ولا بالليل دون النهار، فإن اعتكف وهو صائم، فأفسد صومه.. فسد اعتكافه، ذهب إليه في الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن ابتدأ الاعتكاف ليلا.. جاز، وكان تبعاً للنهار) دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «أوف بنذرك». ولو كان الصوم شرطاً فيه.. لم يصح اعتكافه بالليل. فإن نذر أن يعتكف يوماً بصوم، فاعتكف من غير صوم.. ففيه وجهان: أحدهما قال أبو علي الطبري: يصح اعتكافه، وعليه أن يصوم يوماً آخر، كما لو نذر أن يعتكف مصلياً، أو قارئاً، فاعتكف بغير صلاة ولا قراءة. والثاني: لا يصح اعتكافه، وهو المنصوص؛ لأن الصوم صفة مقصودة بالاعتكاف، فإذا أخل به.. لم يصح اعتكافه، كالتتابع. قال أبو المحاسن من أصحابنا: فإن نذر أن يعتكف شهراً بصوم، فاعتكف شهراً صائماً عن قضاء لم يجزه خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أنه التزم بنذره اعتكافه بصفة وهو أن يكون صائما عن نذره فلم يجزه إذا صامه عن القضاء كما لو اعتكف من غير صوم. وإن نذر أن يعتكف شهر رمضان، فمضى الشهر، ولم يعتكف فيه.. قال الصيدلاني: اعتكف شهراً آخر بغير صوم؛ لأن الصوم لم يلزمه لرمضان من ناحية النذر، لكن من ناحية الشرع.
وليس لأقل الاعتكاف حد عندنا، فإن نذر أن يعتكف، وأطلق.. جاز أن يعتكف ما شاء من الزمان. قال الصيدلاني: ولا بد من مكث في المسجد، فأما أن يدخل ويخرج فلا يجزئه. وبه قال أحمد. وقال مالك: (لا يصح الاعتكاف أقل من يوم). وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: رواها عنه الحسن، كقول مالك. والثانية: رواها محمد في " الأصول "، كقولنا. دليلنا: أنه لبث في مكان مخصوص.. فأجزأ ما يقع عليه الاسم، كالوقوف بعرفة. فإن دخل المسجد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة.. صح اعتكافه على المذهب. وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق\166] وجها آخر: أنه لا يصح؛ لأن عادة الإنسان قد جرت هكذا: يدخل المسجد ساعة، ويخرج أُخرى. والصحيح هو الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اعتكف فواق ناقة.. فكأنما أعتق نسمة» قال: وأصل الوجهين هاهنا الوجهان فيمن نذر اعتكاف يوم، ففرقه بساعات من أيام.
وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور: (يدخل فيه أول نهار الحادي والعشرين). دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواسط من شهر رمضان، فلما كان عاماً.. أراد أن يعتكف العشر الأواخر، فصعد المنبر في الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه، فخطب، وقال: «من أراد أن يعتكف العشر الأواخر معنا.. فليلبث في معتكفه» ولأن كل ليلة حكمها حكم اليوم الذي يليها. إذا ثبت هذا: فإنه يخرج من اعتكافه بآخر جزء من الشهر، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأن العشر اسم لما بين العشرين، وأول الشهر. وإن نذر أن يعتكف عشرة أيام في آخر الشهر.. لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من يوم الحادي والعشرين بلحظة؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، وإنما يدخل الليل بينهما تبعاً، ويفارق العشر، فإنه اسم لليل والنهار، فإن نقص الشهر.. لزمه أن يعتكف يوماً آخر؛ لأنه عبارة أيام آحاد، بخلاف العشر.
فإن كان قد نذر اعتكافه متتابعاً.. لزمه التتابع في القضاء، وحكى صاحب "الإبانة" [ق\167] وجهاً آخر: أنه لا يلزمه التتابع في القضاء؛ لأن التتابع في الأداء لتعين الوقت، كما لو فاته أيام من رمضان، فإنه لا يلزمه التتابع في قضائها. وهذا ليس بشيء؛ لأن التتابع لزمه بالنذر. وإن أطلق النذر.. جاز أن يقضيه متتابعاً أو متفرقاً. وقال أحمد: (يلزمه أن يقضيه متتابعاً، كالأداء). دليلنا: أن التتابع في الأداء بحكم الوقت، فإذا فات.. سقط التتابع، كقضاء شهر رمضان.
فإن نذر اعتكاف شهر غير معين، فإن اعتكف شهراً بالهلال.. جاز، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. جاز، فإن شرط التتابع فيها.. لزمه التتابع بالنذر. وإن أطلق، أو قال: متفرقا، فإن اعتكف متتابعاً.. أجزأه، وإن اعتكف متفرقاً.. فالمنصوص: (أنه يصح). وقال أبو حنيفة: (لا يصح). وهو قول متخرج لنا، حكاه أبو العباس بن سريج. دليلنا: أنه نذر علقه بمدة مطلقة، فلم يكن من شرطه التتابع، كما لو نذر أن يصوم شهراً.. فإنه يصح أن يأتي به متفرقاً، ووافقنا عليه أبو حنيفة. وإن نذر اعتكاف يوم.. دخل فيه قبل طلوع الفجر بلحظة، وخرج منه بعد غروب الشمس؛ ليستوفي الفرض بيقين، فإن فرقه في ساعات من أيام.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والثاني: يجزئه، كما لو نذر اعتكاف شهر.. فإنه يجزئه أن يأتي به من أشهر.
أحدهما: لا يلزمه اعتكاف الليلة التي بينهما؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار دون الليل. والثاني: يلزمه أن يعتكف اليومين والليلة التي بينهما؛ لأنه لو شرط التتابع.. لزمه اعتكاف الليلة التي بينهما، والتتابع صفة لا تقتضي الزيادة، فعلم أنها لزمته بإطلاق النذر. وحكى الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" وجها ثالثاً، واختاره: أنه لا يلزمه اعتكاف تلك الليلة، سواء شرط التتابع أو أطلق؛ لأنه لم يتناولها النذر، فلم يلزمه اعتكافها، كالليلة التي قبل اليومين، والليلة التي بعدهما. وقال أبو حنيفة: (إذا نذر اعتكاف يومين.. لزمه أن يعتكف يومين وليلتين). دليلنا: أن اليوم اسم لبياض النهار، فلا تلزمه الليلة التي بينهما، كسائر الليالي. وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وإن نذر التتابع أو نواه.. لزمه اعتكاف الأيام والليالي، وجهاً واحداً، وإن أطلق.. لزمه اعتكاف الأيام، وفي الليالي وجهان، وقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": هل يلزمه اعتكاف الليالي؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه، كليالي العشر. والثاني: لا يلزمه لأنه لم يسمها. والثالث: إن شرط التتابع.. لزمه اعتكافها، وإن لم يشرط التتابع.. لم يلزمه اعتكافها.
قال الشيح أبو إسحاق: فإن كان الاعتكاف فرضا.. لزمه تعيين الفرض؛ ليتميز عن التطوع، فإن دخل فيه، ثم نوى الخروج منه.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل، كما لو نوى الخروج من الصلاة. والثاني: لا يبطل؛ لأنه قربة تتعلق بمكان، فلم تبطل بنية الخروج منه، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة، فإنها لا تتعلق بمكان.
قالت: «كنت أغسل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حائض». ففي هذا الخبر فوائد: منها: أن إخراج بعض البدن لا يبطل الاعتكاف. ومنها: أن يد الحائض ليست بنجسة. ومنها: أن يد المرأة ليست بعورة؛ لأن المسجد لا يخلو من ناسٍ. ومنها: أن للمعتكف أن يتزين؛ لأن الترجيل من التزين، بخلاف المحرم. ومنها: أن المسجد شرط في الاعتكاف. ومنها: أن الخروج لحاجة الإنسان لا يبطل الاعتكاف.
قال الشيخ أبو حامد: لا أعرف هذه اللفظة للشافعي، وينبغي أن يراعى بعد لا يتفاحش، فإن كان بعداً يتفاحش.. لم يخرج إليه، وهكذا قال الصيدلاني: إذا كان داره بعيداً.. بطل اعتكافه بالخروج إليه؛ لأن أكثر زمانه في غير الاعتكاف. وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق\168] وجهاً آخر: أنه لا يبطل، كما لو كان داره قريباً. وإن كان له منزلان، أحدهما أقرب إلى المسجد من الآخر.. فهل له أن يمضي إلى الأبعد لقضاء الحاجة.. فيه وجهان: أحدهما: وهو الأظهر -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، فهو كما لو خرج إلى غير الغائط والبول. والثاني: يجوز؛ لأنه خروج لحاجته إلى بيته، فهو كما لو لم يكن له بيت سواه. وهل له أن يخرج إلى البيت للأكل؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج، ومالك، وأبي حنيفة -: (ليس له ذلك)؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد. والثاني: -وهو المنصوص -: (أن له أن يأكل في البيت)؛ لأن عليه مشقة في الأكل بالمسجد؛ لأن الأكل في المسجد ترك مروءة، وقد يحتاج أن يخفي جنس قوته، وقد يكون في المسجد غيره، فيشق عليه الأكل دونه، وقد لا يكفي الطعام لأكل الجميع، فكان ذلك كله عذرا في جواز الأكل في البيت. |