الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال ابن عطية وهو يعني {كلا} نعت للآلهة قال: وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني {كلا} بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه {سيكفرون} تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه.وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نونًا وتشبيهه بقواريرًا ليس بجيد لأن قواريرًا اسم رجع به إلى أصله، فالتنوين ليس بدلًا من ألف بل هو تنوين الصرف. وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز؟ قولان، ومنقول أيضًا أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة.وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في {سيكفرون} عائد على أقرب مذكور محدث عنه. فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال: {وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} وفي آخرها {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} وتكون {آلهة} هنا مخصوصًا بمن يعقل، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكًا تنكر به عبادة عابديه. ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} لكن قوله: {ويكونون} يرجح القول الأول لاتساق الضمائر لواحد، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في {سيكفرون} للمشركين وفي {يكونون} للآلهة. ومعنى {ضدًا} أعوانًا قاله ابن عباس. وقال الضحاك: أعداءً. وقال قتادة: قرناء. وقال ابن زيد: بلاءً. وقال ابن عطية: معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أمّلوه فيؤول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد. وقال الزمخشري: والضد العون وحد توحيد وهم يد على من سواهم لإتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم، ومعنى كونهم عونًا عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم.{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}.{أرسلنا} معناه سلطنًا أو لم نحل بينهم وبينهم مثل قوله: {نقيض له شيطانًا} وتعديته بعلى دليل على أنه تسليط و{تؤزهم} تحركهم إلى الكفر. وقال قتادة: تزعجهم. وقال ابن زيد: تشليهم. وقال الزمخشري: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات، والمعنى خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة من الكفار وأقاويلهم. عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلاّ أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ونحوه قوله تعالى: {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار} انتهى. وقيل {نعد} أعمالهم لنجازيهم. وقيل: آجالهم فإذا جاء أحللنا العقوبة بهم. وقيل: أيامهم التي سبق قضاؤنا أن نمهلهم إليها. وقيل: أنفاسهم، وانتصب {يوم} باذكر أو احذر مضمرة أو على تقدير يكون ذلك جوابًا لسؤال مقدر تقديره متى يكون ذلك أو سيكفرون بعبادتهم أو بيكونون عليهم ضدًا أو معنى بعدًا، وتضمن العدّ والإحصاء معنى المجازاة، أو {يوم نحشر} ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو بلا يملكون، وكلها مقول في نصب {يوم} والأوجه الأخير. اهـ.
أي يتبينُ أني لم تلدني لئيمة، أو سننتقم منه انتقامَ مَنْ كتب جريمةَ الجاني وحفِظها عليه، فإن نفسَ الكَتَبة لا تكاد تتأخر عن القول، كقوله عز وعلا: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فمبنى الأولِ تنزيلُ إظهارِ الشيءِ الخفيِّ منزلةَ إحداثِ الأمرِ المعدومِ بجامع أن كلًا منهما إخراجٌ من الكمُون إلى البروز فيكون استعارةً تبعيةً مبنية على تشبيه إظهارِ الكتابةِ على رؤوس الأشهاد بإحداثها، ومدارُ الثاني تسميةُ الشيء باسم سببِه فإن كتابةَ جريمةِ المجرمِ سببٌ لعقوبته قطعًا {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا} مكانَ ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أي نطوّل له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكُفره وافترائِه على الله سبحانه وتعالى واستهزائِه بآياته العِظام، ولذلك أُكّد بالمصدر دَلالةً على فرط الغضب.{وَنَرِثُهُ} بموته {مَا يَقُولُ} أي مسمَّى ما يقول ومصداقَه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد، وفيه إيذانٌ بأنه ليس لما يقوله مصداقٌ موجودٌ سوى ما ذكر أي ننزِع عنه ما آتيناه {وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْدًا} لا يصحبه مالٌ ولا ولدٌ كان له في الدنيا فضلًا أن يؤتى ثمةَ زائدًا، وقيل: نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث، وقيل: المرادُ بما يقول نفسُ القول المذكور لا مسمّاه، والمعنى إنما يقول هذا القولَ ما دام حيًا فإذا قبضناه حُلْنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضًا له منفردًا عنه، وأنت خبير بأن ذلك مبنيٌّ على أن صدورَ القول المذكورِ عنه بطريق الاعتقادِ وأنه مستمرٌّ على التفوّه به راجٍ لوقوع مضمونِه، ولا ريب في أن ذلك مستحيلٌ ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليقِ أداءِ دَيْنه بالمُحال.{واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} حكايةٌ لجناية عامةٍ للكل مستتبِعةٌ لضدّ ما يرجُون ترتّبه عليها إثرَ حكاية مقالةِ الكافرِ المعهودِ واستتباعِها لنقيض مضمونِها، أي اتخذوا الأصنامَ آلهةً متجاوزين الله تعالى {لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} أي ليُعزَّزوا بهم بأن يكونوا لهم وصلةً إليه عز وجل وشفعاءَ عنده.{كَلاَّ} ردعٌ لهم عن ذلك الاعتقادِ وإنكارٌ لوقوع ما علّقوا به أطماعَهم الفارغة {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} أي ستجحد الآلهةُ بعبادتهم لها بأن يُنطِقَها الله تعالى وتقولَ: ما عبدتمونا، أو سينكر الكفرةُ حين شاهدوا سوءَ عاقبة كفرهم عبادتَهم لها كما في قوله تعالى: {والله رَبّنَا مَا كُنا مُشْرِكِينَ} ومعنى قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} على الأول تكون الآلهةُ التي كانوا يرجون أن تكون عِزًا ضدًّا للعز أي ذلًا وهُونًا، أو تكون عونًا عليهم وآلةً لعذابهم حيث تُجعل وَقودَ النار وحصَبَ جهنم، أو حيث كانت عبادتُهم لها سببًا لعذابهم، وإطلاقُ الضدِّ على العَون لما أن عَونَ الرجل يُضادُّ عدوَّه وينافيه بإعانته له عليه، وعلى الثاني يكون الكفرةُ ضدًا وأعداءً للآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبُدونها. وتوحيدُ الضدِّ لوَحدة المعنى الذي عليه تدور مُضادّتُهم فإنهم بذلك كشيء واحدٍ كما في قوله عليه السلام: «وهم يدٌ على مَنْ سواهم» وقرئ {كَلًا} بفتح الكاف والتنوين على قلب الألفِ نونًا في الوقف قلْبَ ألفِ الإطلاق في قوله: أو على معنى كَلَّ هذا الرأيُ كلًا، وقرئ كلاّ على إضمار فعل يفسّره ما بعده أي سيجحدون، كلاّ سيكفرون إلخ.{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين}.تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرةِ الغُواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ، والتمادي في الغي، والانهماكِ في الضلال، والإفراطِ في العِناد، والتصميمِ على الكفر من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم، والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية، وتنبيه على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن مسوِّغًا ما في الجملة، ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقييضُهم لهم، وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به، بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} فإنه إما حالٌ مقدّرةٌ من الشياطين أو استئنافٌ وقع جوابًا عما نشأ من صدر الكلامِ، كأنه قيل: ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ؟ فقيل: تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا بأنواع الوساوسِ والتسويلات، فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج.{فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مَظِنّةً لوقوع المنهيِّ مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} تعليلٌ لموجب النهي ببيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عدًا. اهـ.
وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب، وأنشدوا له قوله: والحق أنه ورد في كلام العرب مفردًا وجمعًا وكلاهما صحيح هنا.وقرأ عبد الله، ويحيى بن يعمر {وَلَدًا} بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك، وقوله تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب} رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها، فالجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إنها في محل نصب واقعة موقع مفعول ثان لأرأيت على أنه بمعنى أخبرني وهو كما ترى، والهمزة للاستفهام، والأصل أأطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفًا، وقرئ {أَطَّلَعَ} بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها كما في قوله: والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والإيصال، والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحوه أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالًا وولد وأقسم عليه، وعن ابن عباس أن المعنى أنظر في اللوح المحفوظ {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} قال لا إله إلا الله يرجو بها ذلك، وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد الله تعالى عليه الثواب، فالمعنى أعلم الغيب أم عمل عملًا يرجو ذلك في مقابلته. وقال بعضهم: العهد على ظاهره. والمعنى أعلم الغيب أم أعطاه الله تعالى عهدًا وموثقًا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة. ونقل هذا عن الكلبي، وهذه مجاراة مع اللعين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك، والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه. {كَلاَّ} ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة، وفي ذلك تنبيه على خطئه. وهذا مذهب الخليل، وسيبويه، والأخفش، والمبرد، وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير إليها إن شاء الله تعالى، وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعًا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع.
|