الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة السادسة:اعلم أنه لا هلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بمتواتر السنة واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد، وخلافهم فيه هذه المسائل معروف.وممن قال: بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله.قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي- والله تعالى أعلم- هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر. لأن الميع وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدي باستقبال بيت الله الحرام. فإن استقبال بيت المقدس أولًا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. الآية، ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة، ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة، وسورة الخلع وسورة الحفد: هما القنوت في الصبح عند المالكية، وقد أوضح صاحب {الدر المنثور} وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله لم نسختا.وقد قدمنا {في سورة الأنعام} أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وانه لا معارضة بينهما. لأن المتواتر حق، والسنة الورادة بعده إنما بنيت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما.فقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. الآية.يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية.لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قلبه بسنين. لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح.فالتحقيق إن شاء الله- هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا لجمهور صاحب المراقي بقوله:والنسخ بالآحاد للكتاب ليس بواقع على الصواب ومن هنا تعلم- أنه لا دليل على بطلان قول من قال: إن الوصية للوالدين الأقربين منسوخة بحديث {لا وصية لوارث} والعلم عند الله تعالى.المسألة السابعة:اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل. فإن قيل: ما الفائدة في تشريع الحكم أولًا إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله؟فالجواب- أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال، ويوضح هذا-أن الله إبراهيم أن يذبح ولده، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل، وبين أن الحكمة في ذلك: الابتلاء بقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 106-107]، ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل: نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف، وقد أشار إلى هذا المسألة في مراقي السعود بقوله:
المسألة الثامنة:اعلم أن التحقيق: أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخًا، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله. بل الزيادة على النص قسمان:قسم مخالف النص المذكور قبله، وهذه الزيادة تكون نسخًا على التحقيق. كزيادة تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مثلًا، على المحرمات الأربعة المذكورة في آية: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. الاية. لأن الحمر الأهلية وحوها لم يسكت عن حكمه في الآية، بل مقتضى الحصر بالنفي والإثبات في قوله: {لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. الآية- صريح في إباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها. فكون زيادة تحريمها نسخًا أمر ظاهر.وقسم لا تكون الزيادة فيه مخالفة للنص، بل زيادة شيء سكت عنه النص الأول، وهذا لا يكون نسخًا، بل بيان حكم شيء كان مسكوتًا عنه. كتغريب الزاني البكر، وكالحكم بالشاهد، واليمين في الأموال. فإن القرآن في الأول أوجب الجلد وسكت عما سواه، فزاد النَّبي حكمًا كان مسكوتًا عنهن وهو التغريب. كما أن القرآن في الثاني فيه {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} [البقرة: 282]. الآية، وسكت عن حكم الشاهد واليمين، فزاد النَّبي صلى الله عليه وسلم حكمًا مسكوتًا عنه، وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله: وقد قدمنا {في الأنعام} في الكلام على قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية.قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق} الآية.أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية- أنه نزل عليه روح القدس من ربه جل وعلا. فليس مفتريًا له، وروح القدس: جبريل، ومعناه الروح المقدس. أي الطاهر من كل ما لا يليق.وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 97]. الآية، وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192-195]، وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، وقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 16-18]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ. .قال ابن عاشور: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}.استمرّ الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصدّ عن متابعته.ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله، وبيان فضله وهديه فابتدىء فيها بآية {ينزل الملائكة بالروح من أمره} [سورة النحل: 2]، ثم قفِّيت بما اختلقه المشركون من الطّعن فيه بعد تنقلات جاء فيها {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [سورة النحل: 24]، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأُعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه} [سورة النحل: 64]. ثم قوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [سورة النحل: 89].وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [سورة النحل: 90]، فلما استقرّ ما يقتضي تقرّر فضل القرآن في النفوس نبّه على نفاسته ويمنه بقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [سورة النحل: 98]، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقًا مموّهًا بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [سورة النحل: 24].ذلك الاختلاق هو تعمّدهم التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفًا لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام.والمغايرة باللين والشدّة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محاملهُ مغامز يتشدّقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطرابًا من القول ويزعمونه شاهدًا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما.وبعض ذلك ناشىء عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه، وبعضه ناشىء عن تعمّد للتجاهل تعلّقًا بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون}، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.روي عن ابن عباس أنه قال: كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغدًا ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه اهـ.وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية.فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ {بدلنا} مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.والمرد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى: {والله أعلم بما ينزل}.فيشمل التبديلُ نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}.[سورة الإسراء: 110]. بقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [سورة الحجر: 94].وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية، وأما نسخُ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضًا ويؤوّل بعضه بعضًا، كقوله تعالى: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض} في سورة الشورى (5) مع قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} في سورة المؤمن (7)، فيأخذون بعموم {ويستغفرون لمن في الأرض} [سورة الشورى: 5]. فيجعلونه مكذّبًا لخصوص {ويستغفرون للذين آمنوا} [سورة غافر: 7]. فيزعمونه إعراضًا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.وكذلك قوله تعالى: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا} [سورة المزمل: 10]. يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.وكذلك قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [سورة الأحقاف: 9]. مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.وكذلك قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [سورة الإسراء: 15]. مع قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [سورة النحل: 25]، ومن هذا ما يبدو من تخالف بادىء الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض {ثم استوى إلى السماء} في [سورة فصلت: 11]. مع قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} من سورة النازعات (30)، فيحسبونه تناقضًا مع الغفلة عن محمل بعد ذلك من جعل {بعد} بمعنى {مع} وهو استعمال كثير، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوَحَدات الثماني المقرّرة في المنطق.فالتبديل في قوله تعالى: {بدلنا} هو التعويض ببدل، أي عوض.والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض بفتح الواو بل يقتضي أن يجعل شيء عوضًا عن شيء.وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض بفتح الواو جعل عِوضًا عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابًا لأن مثله قد كان بُدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض.وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: {ائت بقرآن غيرِ هذا أو بدّله} في سورة يونس (15).ومكان آية منصوب على الظرفية المكانية بأن تأتي آية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة، فالمكان هنا مكان مجازي، وهو حالة الكلام والخطاب، كما يسمّى ذلك مقامًا، فيقال: هذا مقام الغضب، فلا تأت فيه بالمزح.وليس المرَاد مكانَها من ألواح المُصْحَف ولا بإبدالها مَحوُها منه.وجملة {والله أعلم بما ينزل} معترضة بين شرط {إذا} وجوابها.والمقصود منها تعليم المسلمين لا الردّ على المشركين، لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان.والمعنى: أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمللِ كلتيهما، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار.وقرأ الجمهور: {بما ينزل} بفتح النون وتشديد الزاي.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي.وحكاية طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة قصر الموصوف على الصّفة، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء، وهو قصر إضافي، أي لستَ بمرسل من الله.وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصورًا على كونه مفتريًا لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء.وأصل الافتراء: الاختراع، وغَلَب على اختراع الخبر، أي اختلاقه، فساوَى الكذب في المعنى، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا، وقد يطلق مقترنًا بالكذب كقوله الآتي: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون} [سورة النحل: 105]. إرجاعًا به إلى أصل الاختراع فيجعل له مفعول هو آيل إلى معناه فصار في معنى المفعول المطلق.وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في [سورة العقود: 103].و{بل} للإضراب الإبطالي على كلامهم، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة.وضمير {أكثرهم} للذين قالوا إنما أنت مفتر، أي ليس كما قالوا ولكن أكثر القائلين ذلك لا يعلمون، أي لا يفهمون وضع الكلام مواضعه وحَمله محامله.وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلًا منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء ولكنهم يقولون ذلك تلبيسًا وبهتانًا ولا يعلمون أن التّنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرّفق.ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدّم في هذه السورة.{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}.جواب عن قولهم: {إنما أنت مفتر} [سورة النحل: 101]. فلذلك فصل فعل {قل} لوقوعه في المحاورة، أي قل لهم: لسْت بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزّله روح القدس من الله.وفي أمره بأن يقول لهم ذلك شدّ لعزمه لكيلا يكون تجاوزه الحدّ في البهتان صارفًا إيّاه عن محاورتهم.فبعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النّقض أمر رسوله أن يبيّن لهم ماهيّة القرآن.وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى: {من ربك} الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بأن يقوله، لأن مقتضى الظاهر أن يقول: من ربي، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيسًا للنبيء صلى الله عليه وسلم بزيادة توغّل الكلام معه في طريقة الخطاب.
|