الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذا، وقد سلط اللّه على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم إلياس، وقد نبأ اللّه اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به، قال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك {إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} من الإهلاك الذي حل بقومه {إِلَّا عَجُوزًا} هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية 78 من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية 79 من سورة الأعراف في ج 1 {فِي الْغابِرِينَ} الباقين في العذاب {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا {وَإِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} عند ما تسافرون إلى الشام {مُصْبِحِينَ} نهارا {وَبِاللَّيْلِ} أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء {أَ فَلا تَعْقِلُونَ} كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا، قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى أهل نينوى من قبل اللّه تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا، واذكر لقومك قصته يا محمد {إِذْ أَبَقَ} هرب من قومه حين رفع اللّه عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} المملوء، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، ثم جاء ذئب وأخذ ابنه الآخر وبقي فريدا، فجاء مركب آخر فركبه، فقال الملاح إن فيكم عاصيا عبدا آبقا من سيده إذ لا موجب لوقوف المركب غير هذا، فانظروا من هو، فاقترعوا لمعرفة ذلك الآبق فيما بينهم، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له بعد الاعتراف بأنه آبق من سيده وعنى بذلك ربه لابد من رميك في البحر، لأن العادة المطردة عندنا كذلك، ولئن يغرق واحد خير من أن يغرق الكل، فاستسلم فأخذوه وزجوه بالماء، وذلك قوله تعالى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} المغلوبين في القرعة {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} لبقي في جوف الحوت {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية 87 من سورة الأنبياء الآتية: {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وهذا هو الذي نجاه، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده اللّه من المسبحين، وجاء في الحديث اذكروا اللّه في الرخاء يذكركم بالشدة {فَنَبَذْناهُ} أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه {بِالْعَراءِ} الأرض الخالية من النبات والشجر {وَهُوَ سَقِيمٌ} عليل البدن من حرارة بطن الحوت، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر اللّه فيها قبل، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة؟ قال هو ذاك، قال فيشفعون له، فأمر اللّه الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة، فعلى هذا يكون ركوبه في نهر دجلة الواقع عليها بلد نينوى التي بعث لأهلها وقد التقمه الحوت الذي أمره اللّه بأن يأتي من البحر إلى محل ركوبه وسبح به حتى أدخله البحر وطاف به ما شاء اللّه من البحار حتى ألهمه ذلك التسبيح العظيم فعاد به إلى قرب المحل الذي التقمه من أرض نصيبين قالوا وذلك بعد ثلاثة أيام، قال تعالى: {وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف، والحكمة من اختيار اللّه تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه، لذلك لطف اللّه به فأنبت عليه هذه الشجرة، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره، فنام ذات ليلة تحت ظلالها، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا، وذلك قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم {فَآمَنُوا} به وكان إيمانهم باللّه تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية 97 من سورة يونس المارة، قال تعالى: {فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا، هذا وإنما لم يختم اللّه تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية 49 من سورة نون في ج 1 فراجعها، ثم التفت جل جلاله إلى رسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلم وخاطبه بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} عطف على قوله أول السورة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} وذلك بعد أن بين اللّه معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد {أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ} اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن {وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الذين يرغبون فيهم ويتفاخرون ويتباهون وهذه الآية على حد قوله تعالى: {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} الآية 11 من سورة والنجم المارة في ج 1، وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} الآية 57 من سورة النحل الآتية، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ} على ذلك حتى يسمونهم بنات {كلا} يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد اللّه بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شيء.{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ} اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} على اللّه هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس {أَ فَلا تَذَكَّرُونَ} بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة {أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ} على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء {فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ}.الذي فيه هذا {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} بقولكم، قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} إذ قالوا إن اللّه تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة.
.مطلب في الجن ونصرة اللّه تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية: أخرج ابن إلياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات اللّه، تعالى اللّه عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم.ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.والحق أن الجن فصيلة على حدة لقوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} الآية 27 من سورة الحجر المارة، وقد نسب اللّه تعالى إليهم إبليس بقوله: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الآية 50 من سورة الكهف الآتية، وقدمنا ما يتعلق بالجن في الآية الأولى من سورة الجن في ج 1 فراجعه تعلم أن خلقهم كان قبل آدم وألمعنا لهذا البحث في الآية 28 من سورة الحجر المارة بأنهم ليسوا من الملائكة وأنهم سكنوا الأرض قبل آدم وأفسدوا فأهلكهم اللّه وشتتهم راجع الآية 30 من سورة البقرة في ج 3، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} بتعليم اللّه إياهم {إِنَّهُمْ} قائلي هذا القول {لَمُحْضَرُونَ} في الآخرة بالموقف العظيم ومزجوجون في نار الجحيم، فلو كانوا مناسبين اللّه أو أصهاره أو شركاءه تعالى اللّه عن ذلك كله لما عذبهم، وقد أخبر واخباره حق بأنه محاسبهم على إفكهم هذا ومعاقبهم عليه ومجازيهم على بهتهم في النار، ثم إنه نزه نفسه المنزهة بقوله: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} حضرة الربوبية ويفترون عليه من نسبة الولد والزوجة لذاته المبرأة عن ذلك، ثم أخبر جل إخباره بأن كلا من الجن والإنس القائلين بحق اللّه ما لا يليق محضرون ومحاسبون على ما تفوهوا به ونائلهم جزاء عملهم القبيح {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} عملهم إليه منهما فهم ناجون وإن إخلاصهم يوصلهم الجنة ويتنعمون بها واعلموا أيها المشركون {فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ} من دون اللّه {ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} على الذات المقدسة بما تصمونها به {بِفاتِنِينَ} مضلين ومفسدين أحدا من خلقه، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة {إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ} حذفت الياء من {صال} وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد، أما كلمة {صالُوا} الواردة في الآية 59 من سورة ص المارة في ج 1 فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم اللّه وقدر له دخول النار.هذا، وقد جاء في هذه الآيات من الإخبار بسخط اللّه العظيم على هؤلاء الكفرة المتجارئين على اللّه والإنكار الفظيع لأقاويلهم الكاذبة والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وسخافة أفهامهم مع الاستهزاء بعقولهم والسخرية بأشخاصهم ما لا يخفى على المتأمل.ثم حكى اللّه عن ملائكته فقال: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} عند اللّه وهذا اعتراف منهم بالعبودية له جل شأنه وقد تمثل بهذا القول سيدنا جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عند مفارقته لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم حينما صعد للقاء ربه كما مر في الآية الأولى من الإسراء في ج 1 وقال له في مثل هذا المكان يترك الخليل خليله أو الحبيب حبيبه، فأجابه {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} أي في القرب والمعرفة والمشاهدة لا يمكن أن يتعداه خضوعا لعظمة الإله وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله.هذا، ومن قال إن المراد بالجنّة هنا الملائكة جعل هذه الجملة من قولهم على الاتصال بكلامهم السابق إلى من قوله سبحان اللّه عما يصفون إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} حول العرش في عبادة ربنا كصفوف الإنس في الصلاة أمامه وقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} له العابدون ولسنا المعبودين ولا منسوبين لحضرته بالمعنى الذي ذكره قومك يا محمد {وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ} {لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} وذلك أنهم يقولون قبل نزول القرآن على رسولهم محمد لو أن عندنا كتابا من كتب الأقدمين مثل اليهود والنصارى {لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} له العبادة واتبعنا ما فيه وانقدنا لأوامره ونواهيه ولما أتاهم هذا الكتاب الجامع لكل الكتب والذي فيه أحسن الذكر على لسان أكمل البشر {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} غب كفرهم وعاقبة أمرهم، وهذه الآية على حد قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} الآية 156 من سورة الأنعام المارة، ويقرب منها بالمعنى {وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى} الآية 133 من سورة طه في ج 1، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ} التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} الآية 21 من سورة المجادلة في ج 3 وحروفها بحساب الجمل عن السنة الشمسية 1958 {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على من خالفهم وناوأهم لأنهم جندناَ {إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} على غيرهم من جميع الأخبار، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل 1360 وحروف الأولى 644 فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين 172- 173 بحسب السنة الشمسية أيضا 2004 وحروف الآية 173 وحدها على حساب السنة القمرية 1360 والآية 103 من سورة يونس المارة 1468 أيضا فنسأل اللّه تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد سمى اللّه هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى: {إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} الآية 100 من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلَّا} وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى اللّه عليه وسلم عن لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه بكلمة أيضا.هذا، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها اللّه علينا، قال تعالى يا أكرم الرسل {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ {وَأَبْصِرْهُمْ} إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر.ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا: ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد؟فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه {أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ} كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم {فَإِذا نَزَلَ} العذاب {بِساحَتِهِمْ} فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور {فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} بئس الصباح صباحهم وساء المساء مساؤهم، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غزا خيبر فلما دخل القرية قال: اللّه أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، وقد فتح اللّه عليه ففتحها، قال تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} يا حبيبي {حَتَّى حِينٍ} انقضاء الأجل المقدر لنصرتك عليهم {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كررت هذه الجملة تسلية لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم على تسليته الأولى وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيده الأول وقيل لا تكرار لأن الآية الأولى في عذاب الدنيا وهذه في الآخرة والأول أولى، ثم نزه ذاته الكريمة ثانيا وهي أهل للتنزيه في كل لحظة فقال: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} الغلبة والعظمة والقدرة والجبروت {عَمَّا يَصِفُونَ} هؤلاء الكفرة ربهم وخالقهم ومالك أمرهم ومربيهم مما لا يليق بجنابه العظيم هذا.{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} جميعهم من آدم إلى محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية، وجاء في سورة يونس المارة الآية 10 {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.هذا واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اهـ.
|