الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكأنَّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية.والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم.فإن قلت: إذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشْمَلُ من استغراق المجموع، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب الكشاف في هذا الموضع من تفسيره إذ قال: إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحًا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه. اهـ.فاعتمدها صاحب المفتاح وتناقلها العلماء ولم يفصِّلوا بيانها.ولعل سائلًا يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنيًا غناءها فأقول: إن أل المُعَرِّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مرادًا به الماهية وللجنس مرادًا به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا} [العصر: 2، 3] {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران: 119] {والمَلَكُ على أرجائها} [الحاقة: 17] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحَفُّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد.ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالبًا تعين أن تعريفها للاستغراق نحو: {واللَّهُ يحب المحسنين} [آل عمران: 134] لئلا يتوهم أن الحديث على مُحسن خاص نحو قولها: {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} [يوسف: 52] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق.وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من مغني اللبيب أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولًا مطلقًا لا مفعولًا به فنحو: {عملوا الصالحات} مفعول مطلق ونحو: {خلق الله السماوات} [العنكبوت: 44] كذلك، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في شرح المفصل زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله، وقد رده ابن هشام نفسه.والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه.والجنات جمع جنة، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لاسيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى: {وجنات ألفافًا} [النبأ: 16].والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي، ويطلق مجازًا على سَيْل الماء سَيْلًا متكررًا متعاقبًا وأحسن الماء ما كان جاريًا غير قار لأنه يكون بذلك جديدًا كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نَهَر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيرًا وصغيرًا.وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرًا بديعًا وشيئًا لذيذًا.وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنًا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها.والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى: {وأتوا به متشابهًا}.ومعنى {من تحتها} من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير: البيتين.وقد أورد صاحب الكشاف توجيهًا لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير {جنات} إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام، وهذا معنى قوله، أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بأل العهدية عهدًا تقديريًا واختير الثاني تفاديًا من كلفة الإضافة وتنبيهًا على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعًا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى: {فإن الجحيم هي المأوى} [النازعات: 39] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحًا في كل موضع على أني أرى مذهب الكوفيين مقبولًا وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي.وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعًا بسورة التعريف.وقوله: {من تحتها} يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه: والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزحرف: 51] فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات.{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ متشابها وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون}.جملة: {كلما رزقوا} يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات، ويجوز أن تكون خبرًا عن مبتدأ محذوف وهو ضمير {الذين آمنوا} فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شئون الذين آمنوا، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة {أن لهم جنات} فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة.و{كلما} ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقًا على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما.والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانًا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها.وإذ كانت كلما نصًا في عموم الأزمان تعين أن قوله: {من قبل} المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة.وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم.ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري.ويحتمل أن في ذلك تعجيبًا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر.وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق.ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة، ومعنى {من قبل} في المرة الأولى من دخول الجنة.ومن المفسرين من حمل قوله: {من قبل} على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا، ووجهه في الكشاف: بأن الإنسان بالمألوف آنس وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مرادًا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه.وقوله: {وأتوا به متشابهًا} ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا.ثم مَنّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة.والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفردًا زوجًا وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري: «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة» يعني عائشة وقال الفرزدق: وقوله: {وهم فيها خالدون} احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب: وقوله: {مطهرة} هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرًا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد. اهـ.
|