الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَالسِّرُّ فِي التَّجَوُّزِ هُوَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللهِ؛ أَيْ: أَنْزَلَ اللهُ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ يُشْعِرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللهُ دُونَ آرَاءِ الْبَشَرِ وَظُنُونِهِمُ الَّتِي لَا تَرِدُ إِلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ.{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ النَّاسَ بِحُكْمِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَضَرُورَةِ اشْتِبَاكِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ عُرْضَةٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ جَامِعَتَهُمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي الْمَآبِ، فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي {فِيهِ} إِلَى الْحَقِّ فَلَا يُقَالُ وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْحَقِّ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ قَبْلَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ الْأُولَى، وَلَا أَعْجَبَ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ النَّقْصَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَمَّا فَيِمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ، فَكَأَنَّ رَذِيلَةَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ لَمْ تَقَعْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَّا بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَوْلُ بِمِثْلِهِ مِنْ أَغْرَبِ مَا يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ دِينٍ مَا، فَمَا بَالُكَ بِهِ إِذَا صَدَرَ عَنْ مُسْلِمٍ!وَالْحُقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} يَعُودُ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عَسَاهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي جَامِعَتِهِمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّخَالُفِ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ إِذَا تُرِكَتْ وَحْدَهَا، وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْ هِدَايَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ؛ لِيَكُونُوا قُوَّادًا لِلْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَا بَالُ النَّاسِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَرْتَفِعُ مِنْ بَيْنِهِمْ ذَلِكَ الْخِلَافُ الَّذِي كَانَ يُخْشَى مِنْهُ إِفْسَادُ جَمَاعَتِهِمْ وَهَلَاكُ خَاصَّتِهِمْ؟ فَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالتَّوَسُّعِ فِي مَطَالِبِ الشَّهَوَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ لَدَيْهِمْ فِي ذَلِكَ آلَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَيْلِ مَطْلَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ سِوَى الْقُوَّةِ أَوِ الْحِيلَةِ، وَبَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ قَدِ انْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْآلَاتِ آلَةٌ أُخْرَى رُبَّمَا كَانَتْ أَقْوَى مِنْ سِوَاهَا وَهِيَ آلَةُ الْإِقْنَاعِ بِالْكِتَابِ، فَيَتَّخِذُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً مِنَ الْكِتَابِ أَوْ أَثَرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ وَسِيلَةً إِلَى تَسْخِيرِ غَيْرِهِ لِمَا يُرِيدُ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْأَثَرِ عَنْ بَقِيَّةِ مَا جَاءَ بِالْكِتَابِ وَالْآثَارِ الْأُخْرَى، وَلَيِّ اللِّسَانِ بِهِ وَتَأْوِيلِهِ بِغَيْرِ مَا قُصِدَ مِنْهُ، وَمَا هَمُّ الْمُؤَوِّلِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا يَقْصِدُ هُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَطْلَبٍ لِشَهْوَتِهِ، أَوْ عَضُدٍ لِسَطْوَتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْهِ هُدِمَتْ أَحْكَامُ اللهِ أَوْ قَامَتْ، وَاعْوَجَّتِ السَّبِيلُ أَوِ اسْتَقَامَتْ، ثُمَّ يَأْتِي ضَالٌّ آخَرُ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ هَذَا مَا نَالَ هَذَا مِنْ غَيْرِهِ، فَيُحَرِّفُ وَيُؤَوِّلُ حَتَّى يَجِدَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ وَيَتَّخِذَهُمْ عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ الْخَادِعِ الْأَوَّلِ، فَيَقَعُ الْخِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَآلَةُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْكِتَابُ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْغَابِرَةِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَبَيْنَ مَنْ سَبَقَهُمْ، وَبَيْنَ النَّصَارَى، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَمْ حُرُوبٌ وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَصَمَتْ ظُهُورَهُمْ، وَدَمَّرَتْ مَا كَانَ مِنْ قُوَاهُمْ، وَمَا كَانَ آلَةُ الْمُبْطِلِينَ فِي تِلْكَ الْمَشَاغِبِ إِلَّا دَعْوَى الدِّينِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَإِنَّهُمْ لَخَاطِئُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَلِمَةُ الدِّينِ وَدَعْوَى تَأْيِيدِ الْكِتَابِ إِلَّا وَسَائِلُ لِإِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ وَتَمْكِينِ الظَّالِمِ مِنَ السَّطْوَةِ.ثُمَّ هُنَاكَ دَاعٍ آخَرُ لِلْخِلَافِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْقَوْمِ فِي فَهْمِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ، فَكَلٌّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُعْتَقَدَ كَذَا، وَرُبَّمَا كَانَ حَسَنَ النِّيَّةِ فِيمَا يَقُولُ، وَيُعِدُّ الْمُخَالِفَ مُخْطِئًا فِيمَا يَزْعُمُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْهُمُ التَّعَصُّبُ لِرَأْيهِ، فَيَذْهَبُ حُسْنُ النِّيَّةِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى تَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ، وَتَقْرِيرِ الْمَشْرَبِ، بِدُونِ رِعَايَةٍ لِلدَّلِيلِ وَلَا نَظَرَ إِلَى الْبُرْهَانِ، فَلَمْ يَسْتَفِدِ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنُزُولِ الْكُتُبِ إِلَّا حُدُوثَ سَبَبٍ جَدِيدٍ لِلْخِلَافِ لَمْ يَكُنْ، وَإِلَّا مَوْضُوعًا لِلشِّقَاقِ كَانَ الْعَالَمُ فِي سَلَامَةٍ مِنْهُ، فَمَا فَائِدَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكَيْفَ يَمُنُّ اللهُ عَلَى النَّاسِ بِأَمْرٍ لَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا شَقَاءً، وَلَمْ يُكْسِبْ بَصَائِرَهُمْ إِلَّا عَمَاءً؟!أَرَادَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ فِيهِ فَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} إِلَخْ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ غَرَائِزَ الْبَشَرِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَوْجِيهِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَلابد لَهُمْ مِنْ هِدَايَةٍ أُخْرَى تَعْلِيمِيَّةٍ تَتَّفِقُ مَعَ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ لِنَوْعِهِمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، تِلْكَ الْهِدَايَةُ التَّعْلِيمِيَّةُ هِيَ هِدَايَةُ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَالْكُتُبِ الَّتِي يُنَزِّلُهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى عِصْمَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْكَذِبِ، وَعِصْمَةِ الْكُتُبِ مِنَ الْخَطَأِ، فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ وَالْعِصْمَةِ أَوَّلًا، وَسُطُوعُ الْأَدِلَّةِ يَحْمِلُ الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ حَتْمًا، فَإِذَا عَقَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَعْدِلُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَنْهُ، ذَلِكَ كَمَا وَهَبَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لِيَهْتَدُوا بِهِمَا إِلَى مَا يُوَفِّرُ لَهُمُ الْفَوَائِدَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْغَوَائِلَ، وَيَتَّقُوا بِهِمَا الْوُقُوعَ فِي الْمَكَارِهِ، وَكَمَا وَهَبَ لَهُمُ الْعَقْلَ لِيَهْتَدُوا بِهِ فِيمَا يَتْبَعُ الْأَعْمَالَ مِنَ الْعَوَاقِبِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى جُمْلَتِهَا وَمَجْمُوعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْهَا، لَا يُقْصِرُونَ نَظَرَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَغُضُّونَ بَصَرَهُمْ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ، ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حِكْمَةِ اللهِ فِي تَشْرِيعِ شَرِيعَتِهِ، وَوَضْعِ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَحِيدُونَ عَنْ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا كُتُبُهُ، بَلْ صَرَّحَتْ بِهَا نُصُوصُهَا لَا يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، حَتَّى يَتِمَّ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ بِهَا، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَمَلِ غَفْلَةٌ عَنْ فَائِدَتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ فَائِدَتِهِ انْصِرَافٌ عَنْ رُوحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا، غَيْرَ أَنَّ عَامَّةَ الْخَاطِئِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَصِلُوا إِلَى كُلِّ ذَلِكَ بِأَفْهَامِهِمْ عَلَى قِصَرِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْخَاصَّةِ الَّذِينَ قَدَّمَهُمُ الرُّسُلُ لِلنِّيَابَةِ عَنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوهُ، وَأَعْطَاهُمُ اللهُ الْكِتَابَ عَلَى أَنْ يُقَرِّرُوا مَا فِيهِ، وَيُرَاقِبُوا انْطِبَاقَ سَيْرِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِصْمَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَصْمَةِ إِثَارَةِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا لِإِسْعَادِ النَّاسِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ، لَا لِإِشْقَائِهِمْ وَتَمْزِيقِ شَمْلِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، فَلابد أَنْ يَكُونَ فَهْمُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مُرْتَبِطًا بِفَهْمِ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، وَعَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِنَّمَا كَانَتْ إِلَى جُمْلَتِهِ، لَا إِلَى الْأَنْقَاضِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَتَعَدِّيًا لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَقَامَهَا حَوَاجِزَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْخِلَافُ دَاعِيَةُ الْبَغْيِ. إِنَّ الْحَبْرَ أَوِ الْكَاهِنَ أَوِ الْعَالِمَ أَوِ الرَّئِيسَ أَوْ أَيَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تُسَمِّيهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الدِّينِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهِ، الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الرُّسُلِ فِي حِفْظِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى صِيَانَتِهِ، الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَرَى الرَّأْيَ وَيَفْهَمُ الْفَهْمَ وَيَأْخُذُ الْحُكْمَ مَنْ نَصٍّ يَقِفُ عِنْدَهُ ذِهْنُهُ، أَوْ أَثَرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَآخَرُ يَرَى غَيْرَ مَا يَرَى، وَيَزْعُمُ وُصُولَ أَثَرٍ غَيْرِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّمْحِيصِ، وَتَخْلِيصِ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ هَوًى سِوَى الْمَيْلِ إِلَى تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَتَطْبِيقِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمَا ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يَسْتَمِرَّ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْخَاصَّةِ وَيَسُودَ بِهِمْ بَيْنَ الْعَامَّةِ.لَكِنْ قَدْ يَشُوبُ طَلَبُ الْحَقِّ شَيْءٌ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي عِزَّةِ الرِّيَاسَةِ أَوْ مَيْلٍ مَعَ أَرْبَابِهَا أَوْ خَوْفٍ مِنْهُمْ أَوْ شَهْوَةٍ خَفِيَّةٍ فِي مَنْفَعَةٍ أُخْرَى فَيَلِجُ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الرَّأْيِ حَتَّى يَكُونَ شِقَاقٌ، وَيَحْدُثَ افْتِرَاقٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الشَّوْبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَلْحُوظٍ لِصَاحِبِهِ، بَلْ دَخَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فَهُوَ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى حَقِّ اللهِ فِي عِبَادِهِ أَوَّلًا، وَالْبَغْيِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّذِينَ جَاءَ الْكِتَابُ لِتَعْزِيزِ الْوِفَاقِ بَيْنَهُمْ ثَانِيًا، وَأَمَّا الْعَامَّةُ مِنَ النَّاسِ فَلَا جَرِيمَةَ لَهُمْ فِي هَذَا؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَإِذَا كَانَ الرُّؤَسَاءُ قَدْ جَنَوْا هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ وَعَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ الْبَغْيِ الْخَاصِّ بِهِمْ، فَهَلْ هَذَا يَقْدَحُ فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ إِلَى مَا يَتَّفِقُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَيَرْتَفِعُ بِهِ النِّزَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؟ كَلَّا؛ فَقَدْ رَأَيْنَا كُلَّ دِينٍ فِي بَدْءِ نَشْأَتِهِ يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ وَيَجْمَعُ الْمُتَشَتَّتَ وَيَلِمُّ الشَّعَثَ وَيَمْحَقُ أَسْبَابَ الْخِلَافِ مِنَ النُّفُوسِ وَيُقَرِّرُ بَيْنَ الْآخِذِينَ بِهِ أُخُوَّةً لَا تُدَانِيهَا أُخُوَّةُ النَّسَبِ فِي شَيْءٍ، وَهَلْ يُؤْثِرُ الْأَخُ فِي النَّسَبِ أَخَاهُ بِمَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ؟ وَهَلْ يَبْذُلُ الْأَخُ النَّسَبِيُّ رُوحَهُ دُونَ أَخِيهِ وَيُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا آثَرَهُ بِالْمَالِ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَبْطَالِ؟ هَذَا شَأْنُ الدِّينِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ، مَعْرُوفٌ بِحَقِيقَتِهِ لِأَهْلِهِ، تُبَيِّنُهُ لِلنَّاسِ رُؤَسَاؤُهُ، وَيَمْشِي بِنُورِهِ فِيهِمْ عُلَمَاؤُهُ، لَا خِلَافَ وَلَا اعْتِسَافَ، وَلَا طُرُقَ وَلَا مَشَارِبَ، وَلَا مُنَازَعَاتٍ فِي الدِّينِ وَلَا مَشَاغِبَ.هَذَا هُوَ الدِّينُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي قَدَّرَ اللهُ أَنْ يَكُونَ هِدَايَةً لِلْبَشَرِ فَوْقَ الْهِدَايَاتِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُمْ مِنَ الْحَوَاسِّ وَالْعُقُولِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدِ بِهَا الَّذِينَ أُوتُوهَا وَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ، وَبَغَوْا بِالتَّأْوِيلِ، وَكَثْرَةِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، فَهَلْ يَمَسُّ ذَلِكَ جَانِبَهَا بِعَيْبٍ؟ مَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْتِيهِمُ اللهُ الْعَقْلَ ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا أُوتِيَ لِأَجْلِهِ؟ هَلْ تَنْقُصُ حَالُهُمْ هَذِهِ مِنْ مَنْزِلَةِ الْعَقْلِ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ؟ مَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ أَبْصَارٌ وَأَسْمَاعٌ وَلَكِنْ يَخْبِطُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي سَيْرِهِ فَلَا يَسْتَعْمِلُ بَصَرَهُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَسِيرُ فِيهَا، أَوْ فِي وِقَايَةِ رِجْلَيْهِ مِنَ الشَّوْكِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، أَوِ التَّبَاعُدِ عَنْ حُفْرَةٍ يَتَرَدَّى فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ نَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ تَقِيهِ مِنَ التَّهْلُكَةِ لَوْ وَجَّهَهَا نَحْوَهَا، وَقَدْ يَسْمَعُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُ بِالْخَطَرِ الْقَرِيبِ مِنْهُ ثُمَّ لَا يُبَالِي بِمَا يَسْمَعُ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا لَيْسَ لَهُ مَدْفَعٌ، فَهَلْ تُحَطُّ حَالُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ مِنْ قِيمَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ؟هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ وَتَعْلُو بِهِ إِلَى أَرْفَعِ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْهِدَايَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَطَاعِنَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ تَغْشَى أَعْيُنَهُمْ حُجُبُ الظَّوَاهِرِ، فَتَقِفُ بِهِمْ دُونَ مَعْرِفَةِ السَّرَائِرِ، يُنَادِيهِمُ الْحَقُّ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا صَدَى صَوْتِ الْبَاطِلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ النَّصَّ الْكَرِيمَ مَقَامَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيُحِلُّهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ أَعْلَى عِلِّيِّينَ، إِذْ يَقُولُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ جِنَايَةَ أَهْلِ الْخِلَافِ: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الْإِذْنُ هُنَا التَّيْسِيرُ وَالتَّوْفِيقُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ فِي كُلِّ دِينٍ، أَوْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى كُلٍّ فَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ يُخْبِرُنَا- وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ- بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ لِمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ؛ أَيْ: يَصِلُونَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَخْتَلِفُ مَزَاعِمُ النَّاسِ فِيهِ، فَيَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِمَّا بَعِيدٌ عَنْهُ بَعْدَ الْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَإِمَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى زَعْمِهِ إِنَّمَا هُوَ الْهَوَى وَالْمَيْلُ إِلَى الشِّقَاقِ، وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ لَا تُعَدُّ هِدَايَةً إِلَيْهِ.الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ لَهُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي الْعُقُولِ فَيَهْدِيهَا فِي ظُلُمَاتِ الشَّبَهِ وَيُضِيءُ لَهَا السَّبِيلَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ، فَيُسَهِّلُ عَلَيْهَا أَنْ تُمِيطَ كُلَّ أَذًى يَتَعَثَّرُ فِيهِ السَّالِكُ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِهِ فِي مُهَاوٍ مِنَ الْمَهَالِكِ، الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ لَا يَسْمَحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِيهِ، وَيُمَحِّصَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ نَافِعٌ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، وَلَا يَدَعْ أَمْرًا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ الْبُرْهَانُ أَوِ الْعِيَانُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ بِحُكْمِ إِيمَانِهِ، الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ يَجْعَلُ مِنْ نَفْسِ صَاحِبِهِ رَقِيبًا عَلَيْهَا فِي كُلِّ خَطَرَةٍ تَمُرُّ بِبَالِهِ، وَكُلِّ نَظْرَةٍ تَقَعُ مِنْهُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، لَا يَطِيرُ الْخَيَالُ بِصَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ إِلَّا إِلَى صُوَرٍ مِنَ الْحَقِّ تَنْزِلُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْعِبَارَةِ مِنْ مَعْنَاهَا، فَهُوَ إِذَا اعْتَقَدَ فَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ مَا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِذَا تَخَيَّلَ فَإِنَّمَا يَتَخَيَّلُ صُوَرًا تُمَثِّلُ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَتُجْلِيهِ فِي أَقْوَى مَظَاهِرِهِ، بِهَذَا يَكُونُ تَيْسِيرُ اللهِ لَهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ، فَهُوَ مُطَمْئِنٌ سَاكِنُ الْقَلْبِ، وَهُمْ فِي اضْطِرَابٍ وَحَرْبٍ، تَوَلَّوْا عَنْ هِدَايَةِ اللهِ فَحُرِمُوا تَوْفِيقَهُ، وَكَفَرُوا بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِفُشُوِّ الشَّرِّ وَفَسَادِ الْأَمْرِ، وَاللهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [6: 159] و{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [42: 13] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحَسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [2: 137، 138] هَذِهِ آيَاتُ اللهِ لَا يُعْرِضُ عَنْهَا إِلَّا بَعِيدٌ عَنِ اللهِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.هَذَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُنَاكَ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُمَا سَابِقًا، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَمَا يَعْمَلُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفَاءَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلابد لِبَيَانِ مَا رَمَى إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَيَانٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْجِنَانُ.مَا جَاءَنَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ وَمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ آثَارِهِمْ وَمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ حَالِ بَعْضِهِمُ الْيَوْمَ يَشْهَدُ شَهَادَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ أُدِّيَتْ إِلَيْهُ أَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَارَتْ بِالْإِنْسَانِ فِي جَمَاعَتِهِ كَمَا سَارَتْ بِهِ فِي أَفْرَادِهِ، يَخْلُقُ اللهُ الْفَرْدَ مِنَ الْبَشَرِ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ فَاقِدَ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [16: 78] ثُمَّ أَبَوَاهُ أَوْ مَنْ يَكْفُلُهُ سِوَاهُمَا يَقُومُ عَلَيْهِ يُقَوِّي بِنْيَتَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا عَسَاهُ يَهْدِمُهَا، وَيُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَسْمَعُ وَكَيْفَ يَنْظُرُ وَكَيْفَ يَتَّقِي بِبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ مَا تُخْشَى عَاقِبَةُ وَقْعِهِ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ حَدًّا مَعْلُومًا يَكُونُ فِيهِ الْحِسُّ قَدْ أَعَدَّهُ لِاسْتِعْمَالِ قُوَّةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَا تَزَالُ قَاصِرَةً فِيهِ وَهِيَ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ فِيمَا مَضَى وَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَ؛ لِيَعْرِفَ مِنْهَا كَيْفَ يَسْلُكُ فِي عَمَلِهِ لِمَا يَسْتَقْبِلُ، فَكَمَالُ اسْتِعْدَادِ الْعَقْلِ لِلنَّظَرِ فِي شُئُونِ الشَّخْصِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ، كَمَا أَنَّ وُصُولَ الْبِنْيَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمَعْرُوفِ فِي السِّنِّ الْمَعْلُومَةِ هُوَ مُنْتَهَى نُمُوِّ الْبَدَنِ، تِلْكَ السِّنُّ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِسِنِّ الرُّشْدِ.لَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَنَاوَلِ قُوَّةِ الصَّبِيِّ فِي زَمَنِ الصِّبَا الْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ الْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا وَضَعَ اللهُ فِيهَا مِنَ الرَّوَابِطِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا بِنْيَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَوْقِ مَدَارِكِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ هَذَا الْكَوْنَ الْمَحْسُوسَ لِتَصِلَ إِلَى مَعْرِفَةِ مُكَوِّنِهِ، وَيُشْرِقُ عَلَيْهَا نُورُ وُجُودِهِ الْبَاهِرُ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلُّ هَمِّ الصَّبِيِّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَغْذِيَةِ جِسْمِهِ وَرِيَاضَةِ قُوَاهُ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ لَمْ يَتَمَثَّلْهَا ذِهْنُهُ إِلَّا فِي صُوَرٍ مِنَ الْخَيَالِ هِيَ إِلَى الْبَاطِلِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الْحَقِّ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ طِفْلًا ثُمَّ صَارَ صَبِيًّا ثُمَّ بَلَغَ سِنًّا عَرَفَ نَفْسَهُ فِيهَا رَجُلًا عَاقِلًا، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْإِطَالَةِ فِيهِ.عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ قَادَتِ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ جَمَاعَةَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ قَضَتْ بِأَنْ يَحْيَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَجَلِهِ الْمَحْدُودِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ نَوْعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا لَا مَنَاصَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، هَذِهِ الْجَمَاعَةُ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى أُمَّةً كَمَا عَرَفْتَ، وَيُمْكِنُكَ أَنْ تُسَمِّيَهَا بِنْيَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَتُسَمِّيَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ تِلْكَ الْبِنْيَةِ، فَكَمَا يَنْشَأُ الْفَرْدُ قَاصِرًا فِي جَمِيعِ قُوَاهُ ضَعِيفًا فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، كَذَلِكَ نَشَأَتِ الْجَمْعِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ السَّذَاجَةِ لَا تَبْلُغُ بِهَا إِلَى تَنَاوُلِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْمَعَارِفِ السَّامِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي يُرَبِّي الْفَرْدَ وَيَسُوسُ قُوَاهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رُشْدَهُ هُوَ الْأَبَوَانِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَالَّذِي يَكْفُلُ الْجَمْعِيَّةَ وَيُرَبِّي قُوَاهَا وَيَشُدُّ بِنَاهَا، إِنَّمَا هُوَ الْكَوْنُ وَمَا يَمَسُّهَا مِنْ حَوَادِثِهِ، وَالْحَاجَاتُ وَوَقْعُهَا، وَالضَّرُورَاتُ وَلَذْعُهَا، وَكَمَا يُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ أَبَوَاهُ يُؤَدِّبُ الْجَمَاعَةَ شِدَّةُ وَقْعِ الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا هَمَّ لَهَا إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى بِنْيَتِهَا الْجِسْمِيَّةِ، وَحَاجَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنَ الزَّمَنِ مَا تَتَفَرَّغُ فِيهِ لِأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطِّفْلِ فِي صِبَاهُ.وَالْآثَارُ الَّتِي عَثَرَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُونَ فِي مَبَادِئِ ظُهُورِ الصِّنَاعَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهَا مِنْ أَدْنَى الْأَعْمَالِ إِلَى مَا يَظُنُّهُ النَّاظِرُ أَعْلَاهَا الْيَوْمَ، تَشْهَدُ شَهَادَةً كَافِيَةً بِأَنَّ الْبَشَرَ كَانُوا فِي بَدْءِ أَمْرِهِمْ مِنْ قُصُورِ الْقُوَى عَلَى حَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْأَفْرَادِ، فَقَدْ كَانُوا فِي بَعْضِ أَطْوَارِهِمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى اصْطِنَاعِ الْمَعَادِنِ الْقَابِلَةِ لِلطَّرْقِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، وَأَنَّ آلَاتِهِمْ لِلدِّفَاعِ وَنَحْوِهِ كَانَتْ مِنَ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا إِلَى اسْتِعْمَالِ النُّحَاسِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كَانَ رُقِيُّ مَعَارِفِهِمْ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الصَّنْعَةِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَنْظُرَ كَيْفِ ابْتَدَءُوا وَضْعَ حُرُوفِ الْكِتَابَةِ مِنَ الْخَطِّ الْمِسْمَارِيِّ ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَرْتَقُونَ فِيهِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى مَا تَعْرِفُ الْيَوْمَ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْجَمَاعَةِ هِيَ بِعَيْنِهَا سُنَّتُهُ فِي الْفَرْدِ مِنْهَا مِنَ التَّدَرُّجِ بِهِ مِنْ ضَعْفٍ إِلَى قُوَّةٍ وَمِنْ قُصُورٍ إِلَى كَمَالٍ.كَانُوا فِي طَوْرِ الْقُصُورِ مُنْغَمِسِينَ فِي الْحِسِّ وَالْمَحْسُوسِ، فَإِذَا تَخَلَّصُوا مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تَخَلَّصُوا إِلَى وَهْمٍ يُثِيرُهُ الْحِسُّ، وَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ يَظُنُّ شَيْئًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذَا عَجِبُوا كَيْفَ يَمُوتُ الْمَيِّتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى فَهْمِ مَعْنَى الْمَوْتِ ظَنُّوا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهُمْ غَيْبَةً وَلَكِنْ لَا يَزَالُ يَتَعَهَّدُهُمْ بِمَا يُؤْذِيهِمْ، كَأَنَّ الْمَوْتَ يُحْدِثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةً، فَظَنُّوا أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادِيَاتِ الضَّارَّاتِ، الْمُعَيَّنَاتِ النَّافِعَاتِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يُعِدُّونَ لَهَا مَا يُرْضِيهَا، وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَهَا، وَإِذَا سَمِعُوا رَعْدًا أَوْ رَأَوْا بَرْقًا أَوْ أَمْطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَوْ ذَعَرَتْهُمُ الْأَعَاصِيرُ، تَخَيَّلُوا أَشْبَاحًا مِثْلَهُمْ تُرْسِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْهَبُ بِهِمُ الْخَيَالُ فِيهَا إِلَى مَا شَاءَ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ. وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالنُّجُومِ، إِذَا اسْتَعْظَمُوا مِنْهَا شَيْئًا لِعِظَمِ مَضَرَّتِهِ أَوْ لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِ، تَوَهَّمُوا فِيهَا مَا شَاءُوا مِنْ قُدْرَةٍ تَفُوقُ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَةٍ تَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ.وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، وَالتَّجَارُبُ تَكْشِفُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيمَا يَتَوَهَّمُونَ؛ وَالْحَوَادِثُ تَأْتِيهِمْ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ، حَتَّى عَقَلُوا كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ اجْتِمَاعِهِمْ وَكَشَفُوا شَيْئًا مِنْ عَنَاصِرِ بِنْيَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَوَصَلُوا إِلَى مَنْزِلَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَنْ يَفْهَمُوا بَاطِنَ مَا عَقَلُوا وَسِرَّ مَا عَرَفُوا، وَلِأَنْ يَخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ إِلَى عَالَمٍ رُوحَانِيٍّ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي طَلَبِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.هُنَالِكَ تَهَيَّأَ لَهُمْ أَنْ يَنْتَقِلُوا مَنْ طَوْرِ قُصُورِ الصِّبَا إِلَى أَوَّلِ سِنِّ الرُّشْدِ، فَجَاءَتْهُمُ النُّبُوَّةُ تَهْدِيهِمْ إِلَى مَا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ الْجَدِيدِ، طَوْرٍ يَكُونُ وَاضِعُ النِّظَامِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ هُوَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ، وَيَكُونُ الْمُحَدِّدُ لِصِلَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ تَعَالَتْ أَسْمَاؤُهُ هُوَ الرَّحِيمُ بِهِمُ الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحَدِّدُهُ عُقُولُهُمْ، وَلَا تَسْمُوا إِلَى اكْتِنَاهِ ذَاتِهِ مَعَارِفُهُمْ، هَذِهِ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوهَا وَهُمْ فِي قُصُورِ الطَّوْرِ الْأَوَّلِ، قَدِ انْتَهَوْا إِلَيْهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي الطَّوْرِ الثَّانِي.فَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ: إِنَّ الْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ هِيَ الْأُمَّةُ الْآخِذَةُ فِي اعْتِقَادِهَا وَعَمَلِهَا بِالْعَقْلِ وَمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّاتِ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِقَبُولِهَا طَوْرٌ مِنَ الْأَطْوَارِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ إِلَّا بَعْدَ التَّدَرُّجِ فِي طَرِيقٍ طَوِيلَةٍ تَنْتَهِي غَايَتُهَا إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ.الِاسْتِعْدَادُ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ وَقَبُولِ دَعْوَتِهَا مَرْحَلَةٌ مِنَ الْمَرَاحِلِ الَّتِي تَسِيرُ فِيهَا الْجَمْعِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ عِنْدَمَا تَبْلُغُ الْعُقُولُ مَنْزِلَةً مِنَ الْقُوَّةِ وَمَقَامًا مِنَ السُّلْطَةِ، وَتَبْلُغُ النُّفُوسُ مِنْ قُوَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ مَا يُخْشَى مَعَهُ مِنْ ضَلَالِهَا أَنْ يُوقِعَهَا فِي خَبَالِهَا، عِنْدَمَا تُعَظِّمُ مَطَامِعَ الْعُقُولِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَتَّسِعُ مَجَالَاتُهَا وَتَبْعُدُ مَطَامِحُهَا، هُنَالِكَ يُخْشَى عَلَى الْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهَا أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا، كَمَا يُخْشَى مَنْ قُوَى الشَّابِّ أَنْ تُهْلِكَهُ عِنْدَمَا تَبْلُغُ الْبِنْيَةُ حَدَّ النُّمُوِّ وَتَبْدُو لَهُ الشَّهَوَاتُ فِي أَجْلَى صُوَرِهَا، فَكَمَا كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ أَنْ يَهَبَ الشَّابَّ قُوَّةَ الْعَقْلِ عِنْدَ بُلُوغِ السِّنِّ الَّتِي تَعْظُمُ فِيهَا الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِيهَا الْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَوْفِيرِ الرَّغَائِبِ، حَتَّى يَقُودَهُ فِي تِلْكَ الْغِمَارِ، كَذَلِكَ فَعَلَ اللهُ بِالْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَمَا بَلَغَتْ بِمَعَارِفِ أَفْرَادِهَا ذَلِكَ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَهَبَهَا تِلْكَ الْهِدَايَةَ الْجَدِيدَةَ، وَأَيَّدَهَا بِالدَّلَائِلِ الَّتِي بَلَغَ مِنْ قُوَّةِ الْعُقُولِ أَنْ تُدْرِكَهَا، وَأَنْ تَصِلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا إِلَى نَتَائِجِهَا، تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَى اخْتِلَافِ أَزْمَانِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، جَاءَتْ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا يُلَائِمُ حَالَتَهَا النَّفْسِيَّةَ وَمَكَانَتَهَا الْعَقْلِيَّةَ، فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْأُمَمِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْبَدَنِ. جَاءُوهُمْ يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَيُبَشِّرُونَهُمْ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ لِكَاسِبِهِ، وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ مَسَالِكَ السُّوءِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ لِصَاحِبِهِ.وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ يَتَفَاوَتُ فِي الْأُمَمِ، كَانَتْ أُمَّةٌ أَوْلَى مِنْ أُمَّةٍ بِتَقَدُّمِ عَهْدِ النُّبُوَّاتِ فِيهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ إِمَامًا لِلْأُمَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ.هَذَا الطَّوْرُ النُّورَانِيُّ الْجَدِيدُ- طَوْرُ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ- هُوَ طَوْرُ خَيْرٍ وَسَعَادَةٍ، طَوْرُ هِدَايَةٍ وَرَشَادٍ وَأُخُوَّةٍ بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ فِيهِ، وَسَدَادٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَنُزُوعٍ إِلَى تَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا كَمُلَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَإِضَاءَةِ مَا أَظْلَمَ مِنْ جَوِّ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا ضَاءَ بِهِ جَوُّهُمْ، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ مَا قَامُوا عَلَى فَهْمِ مَا جَاءَ إِلَيْهِمْ، وَمَا قَيَّدُوا عُقُولَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ بِالْحُدُودِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ، وَمَا وَقَفُوا عَلَى سِرِّ مَا حُمِلُوا عَلَيْهِ، وَلَزِمُوا رُوحَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، وَمَا حَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ لِيَرُدَّهُ إِذَا زَاغَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعَبَّدَةِ، وَيُقِيمَهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فَقَدْ قَطَعَ الْإِنْسَانُ فِي سَيْرِهِ إِلَى الْكَمَالِ مَرْحَلَةً أُولَى انْتَهَتْ إِلَى ظُهُورِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ هُوَ يَسِيرُ فِي هَذِهِ مَرْحَلَةً أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَا لَلْأَسَفِ لَيْسَ بِالْمَنْزِلِ الْمُرْتَضَى.ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَبَعُدَ النَّاسُ عَنْ مَبْعَثِ نُورِهَا، وَيَنْبُوعِ نَمِيرِهَا، قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَنْفُسُ، وَغَلَبَتِ الشَّهَوَاتُ، فَضَعُفَ الْعِلْمُ بِسِرِّ الدَّعْوَةِ، وَأَهْمَلَتِ الْجَمْعِيَّةُ تَقْوِيمَ الطَّرِيقَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالدِّينِ نُصُوصَ الدِّينِ فِيمَا يُضَيِّعُ حِكْمَةَ الدِّينِ، وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ فِي النَّاسِ، فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَيَنْقَلِبُ سَبَبُ السَّعَادَةِ الْأُولَى عَامِلًا لِلشَّقَاءِ فِي الْأُخْرَى، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ شَيْطَانِ الرِّئَاسَةِ، وَالِانْقِيَادِ لِغِوَايَاتِ السِّيَاسَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.هَذَا طَوْرٌ ثَالِثٌ لِلْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَرْحَلَةٌ تَسِيرُ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَسِيرَ حَتَّى تَذَوُّقَ وَبَالَ أَمْرِهَا، وَحَتَّى تُبْصِرَ عَوَاقِبَ الْخِلَافِ بِمَا كَانَ مِنْ فَوَائِدِ الْأُلْفَةِ، وَحَتَّى تَرُدَّهَا الضَّرُورَاتُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا أَغْمَضَتْ عَنْهُ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا خَرَجَتْ مِنْهُ، فَتَعُودَ إِلَى مَحْوِ مَا عَرَضَ مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ مَنْ رَدِيءِ الْمَلَكَاتِ، فَتُشْرِقَ لَهَا شَمْسُ الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَتَقُومَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَمْثَلِ، وَتَعُودَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى النُّفُوسِ، وَيَتَسَاوَى فِي الْحَقِّ الرَّئِيسُ وَالْمَرْءُوسُ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَيَتَّحِدُونَ عَلَى صَحِيحِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}.تِلْكَ الْأَطْوَارُ الَّتِي لابد لِلْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَمُرَّ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ كَمَالَهَا، وَتَنَالَ تَفْصِيلَهَا وَإِجْمَالَهَا، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُضَايِقُ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَلَا يَبْعُدُ عَمَّا قَرَّرْنَاهُ، وَمَكَانَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرِّسَالَةِ لَا تُزْعِجُ صَاحِبَ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَا تُلْصِقُ بِهِ شُذُوذًا أَبْعَدَ مِنْ شُذُوذِ مَنْ قَالَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى الْحَقِّ مُتَّفِقِينَ، ثُمَّ كَانَ الْخِلَافُ إِثْرَ بِعْثَةِ النَّبِيِّينَ، وَلَا شُذُوذِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ هُمْ آدَمُ كَمَا عَلِمْتَ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ رِسَالَةَ آدَمَ لَمْ تُعْلَمْ بِمَ كَانَتْ؟ وَإِلَى مَنْ كَانَتْ؟ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِأُمُورٍ تَتَّفِقُ مَعَ تِلْكَ السَّذَاجَةِ الْأُولَى إِلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَبْنَائِهِ، ثُمَّ نُسِيَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ بَلَغَهُ، وَجُهِلَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [2: 30] مِنْ رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُنَاسٍ مَعَهُ مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَ فِيهَا عُمَّارٌ يَعْمَلُونَ فِيهَا مَا يَعْمَلُ بَنُو آدَمَ، يُسْمَحُ لِصَاحِبِ التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَنِيهِ كَانُوا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ كَوَلَدِ نُوحٍ، وَإِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلِهِ بِأَقْوَامٍ فِيهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ ثُمَّ انْقَرَضُوا وَخَلَفَهُمْ آدَمُ، كَمَا تَنْقَرِضُ أُمَّةٌ وَتَخْلُفُهَا أُمَّةٌ، يُهْلِكُ اللهُ صِنْفًا وَيُنْشِئُ آخَرَ، وَالنَّوْعُ وَاحِدٌ، وَلَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَتْرُكُ أَثَرًا لِلْبَاقِي يُحْدِثُ فِيهِ فِكْرَةً، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِهِ عِبْرَةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ سُلَّمًا لَهُ إِلَى رُقِيٍّ كَانَ مِنْ قَبْلُ دُونَهُ، وَأَنَّ مِثَالَ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ ضُرُوبًا مِنْ إِنْكَارِ الْمَشْهُودِ لِقَوْلِ قَائِلٍ إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لَا تَقِفُ دُونَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ خُصُوصًا عُلَمَاءُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، الَّذِي لَمْ يُحَدِّدْ تَارِيخًا خَاصًّا يَبْتَدِئُ مِنْهُ الْوُجُودُ الْإِنْسَانِيُّ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، فَهُمْ أَحْرَارٌ فِيمَا يَنْظُرُونَ مَا دَامُوا لَمْ يُخَالِفُوا نَصًّا قَاطِعًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ، وَلَا سُنَّةً خَلَا نَقْلُهَا مِنَ الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا أَوْدَعَ كِتَابَهُ مِنْ أَسْرَارٍ وَحِكْمَةٍ، نَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا هَذِهِ النِّعْمَةَ، فَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ انْتَهَى مَا كَتَبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْآيَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا عَنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ وَأَطْوَارِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا عَلَيْهِ وَيَتَّفِقُ مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جُمْلَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً؛ أَيْ: لِوَحْدَةِ مَدَارِكِهِمْ وَحَاجَاتِ مَعِيشَتِهِمْ وَقِلَّةِ رَغَائِبِهِمْ وَسُهُولَةِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَى مَطَالِبِهِمْ، وَلَكِنْ عَرَضَ لَهُمُ الِاخْتِلَافُ بِالتَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ إِلَى عَشَائِرَ فَقَبَائِلَ فَشُعُوبٍ تَخْتَلِفُ حَاجَاتُهَا وَتَتَعَدَّدُ رَغَائِبُهَا، وَيُلْجِئُهَا ذَلِكَ إِلَى تَعَاوُنِ كُلِّ عَشِيرَةٍ فَقَبِيلَةٍ فَشَعْبٍ فِيمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَفْرَادُهَا أَوْ تَخْتَلِفُ هِيَ وَغَيْرُهَا. فَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى تَشْرِيعٍ رَبَّانِيٍّ وَهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ يُذْعِنُ لَهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ فِيهِمْ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالسَّعَادَةِ وَالثَّوَابِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الْمُفَصِّلَ لِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ بِالْحَقِّ، لِيَحْكُمَ تَعَالَى فِيهِ- أَوْ لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ نَفْسُهُ، بِمَعْنَى يُبَيِّنُ الْحُكْمَ- بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ- أَيِ: الْكِتَابِ- بَعْدَ الْإِنْعَامِ بِهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، وَفِي تَنْفِيذِ نَبِيِّهِمْ لَهُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ مُصْلِحُونَ يَهْدِيهِمُ اللهُ بِإِيمَانِهِمْ لِلْمَخْرَجِ مِمَّا اخْتَلَفُوا مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ حَذَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [57: 16] وَهُمُ الْآنَ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا الْإِصْلَاحِ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ مَضَى.هَذَا الْمَعْنَى الْمُجْمَلُ لَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ فِي شَيْءٍ، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ نَصَّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ حُقِّقَتْ مَسْأَلَةُ نُبُوَّةِ آدَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. اهـ.
|