الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَمِنْهُ قَوْلُ كَمَالِ الدَّيْنِ بْنِ النَّبِيهِ الشَّاعِرِ فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْعَقِيمِ: وَلَكِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَصْدُقُ بِالْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَا يَظْهَرُ فِي الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَصَحَّ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا أَوَّلًا أَنَّ الْخَيْطَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا النَّهَارُ وَاللَّيْلُ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وَلَمْ يَنْزِلْ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدُ {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ بِاسْتِبْعَادِ تَأَخُّرِ نُزُولِ هَذَا الْبَيَانِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْآيَاتِ. وَالْعُمْدَةُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَضَحِكَ وَقَالَ: «أَنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ» وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ «إِنَّ وِسَادَكَ لِعَرِيضٌ طَوِيلٌ» وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَدِيٍّ فِي الْآيَةِ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى عِلْمِهِ بِنُزُولِهَا لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ عَنْهُ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَضِّحُ هَذَا؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ قَالَ لَهُ: «فَكُلْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» قَالَ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ إِلَخِ الْحَدِيثِ.قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ سَهْلٍ مِنَ الْفَتْحِ: وَمَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدُ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ: الْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ اللَّيْلُ وَبِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَالْخَيْطُ: اللَّوْنُ. ثُمَّ قَالَ: وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ طُلُوعُ الْفَجْرِ، فَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَنَزَعَ تَمَّ صَوْمُهُ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ لَمْ يَفْسَدْ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّبَيُّنُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللهُ لَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا شَكَكْتَ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السُّحُورِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كُلْ حَتَّى لَا تَشُكَّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا، كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى لَا تَشُكَّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ صَارَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْصِي.وَقَالَهُ ابْنُ بُزَيْزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَحْرُمُ الْأَكْلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بِتَبَيُّنِهِ عِنْدَ النَّاظِرِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَمْ لَا؟ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ. اهـ.وَيَعْنِي الْحَافِظُ بِالْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانَيْهِمِا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا. اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ الرِّوَايَاتِ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي السُّنَنِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ النَّهَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الصِّيَامُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ ثُمَّ قَالَ:وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ بِهِ الْأَعْمَشُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ إِلَى جَوَازِ السُّحُورِ إِلَى أَنْ يَتَّضِحَ الْفَجْرُ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَاللهِ النَّهَارُ غَيْرَ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ. وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ مَنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مَنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ حَتَّى لَا يَرَى الْفَجْرَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحُ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ حِينَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَبَيُّنِ بَيَاضِ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ أَنْ يَنْتَشِرَ الْبَيَاضُ فِي الطُّرُقِ وَالسِّكَكِ وَالْبُيُوتِ، ثُمَّ حَكَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ. وَرَوَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ وَلَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: قَدِ ابْيَضَّ وَسَطَعَ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ؟ فَنَظَرْتُ فَقُلْتُ: قَدِ اعْتَرَضَ، فَقَالَ: الْآنَ أَبْلَغَنِي شَرَابِي.وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا الشُّهْرَةُ لَصَلَّيْتُ الْغَدَاةَ ثُمَّ تَسَحَّرْتُ. قَالَ إِسْحَاقُ: هَؤُلَاءِ رَأَوْا جَوَازَ الْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لَكِنْ لَا أَطْعَنُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ الرُّخْصَةَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي وَلَا أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً قلت: وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى الْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَعْمَشُ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.أَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَنُوطًا بِمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ بَدْوِهِمْ وَحَضَرِهِمْ بِالْحِسِّ كَمَوَاقِيتِ صَلَوَاتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَثُبُوتِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ وَإِلَّا فَبِإِكْمَالِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ- فَإِنَّ لَنَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَدْءِ الصِّيَامِ بَحْثَيْنِ:أَحَدُهُمَا مَا بَسَطْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي اتِّحَادِ أَوَّلِ وَقْتِهِمَا، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ بَدْءَ الصِّيَامِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِمَا، وَهُمُ الْجُمْهُورُ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْفَجْرِ الصَّادِقِ انْتِشَارَ الضَّوْءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ النَّهَارُ.وَهَاهُنَا يَأْتِي الْبَحْثُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ ظُهُورَ الصُّبْحِ لِعَامَّةِ النَّاسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّيَالِي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ؛ فَإِنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ لَا يَظْهَرُ، وَيُرَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ بَلْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الْعِبَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْفَجْرِ وَتَبَيُّنِ النَّهَارِ لَا بِحِسَابِ الْمُوَقِّتِينَ وَالْفَلَكِيِّينَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى تَوَلُّدِ الْهِلَالِ وَوُجُودِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَا يَعْمَلُ أَحَدٌ بِحِسَابِهِمْ حَتَّى الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِصِحَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَلَوْ إِجْمَالِيًّا، وَمَنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ لِحِسَابَاتِهِمُ الدَّقِيقَةِ فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْفَجْرِ وَمَسْأَلَةِ الْقَمَرِ، فَلِمَاذَا يَتَّبِعُ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَضَرِ الْمَدَنِيِّ حِسَابَهُمْ فِي الْفَجْرِ دُونَ الْهِلَالِ؟إِنَّ نَصَّ الْآيَةِ يَنُوطُ بَدْءَ الصِّيَامِ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَيَاضُ النَّهَارِ نَاصِلًا مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ وَجَّهَ نَظَرَهُ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ. وَقِيلَ: بِحَيْثُ يَرَوْنَهُ فِي طُرُقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ، فَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْأَذَانَيْنِ «فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. اهـ. وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ لَهُ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وَيَظْهَرُ النَّهَارُ لَهُمْ، لَا أُنَاسٌ يَرْصُدُونَ الْفَجْرَ مِنْ مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى أَوَّلِ مَا يَرَوْنَهُ فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ مِنِ انْتِشَارِ الضَّوْءِ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي يُسَمَّى الْفَجْرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَظْهَرُ كَذَنَبِ السَّرْحَانِ الذِّئْبِ ثُمَّ اسْتَطَارَتُهُ- مُعْتَرِضًا- الَّتِي حَدَّدُوا بِهَا الْفَجْرَ الصَّادِقَ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الرَّاصِدُ الْمُرَاقِبُ لِلْأُفُقِ دُونَ الْجُمْهُورِ الَّذِي خَاطَبَهُ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} إِلَخْ فَجَعَلَ لَهُمْ بَدْءَ صِيَامِهِمْ وَقْتًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمُتَنَبِّي بِقَوْلِهِ: وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَمِيلَ بَعْضُ أَفْرَادِهِمْ بِطَبْعِهِ إِلَى التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُونَ فِي الْوَسَطِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي تَحْدِيدِ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي الصِّيَامِ، هَلْ هُوَ أَوَّلُ مَا يُسَمَّى الْفَجْرُ الصَّادِقُ أَوْ تَبَيُّنُ بَيَاضِ النَّهَارِ لِلنَّاسِ مِنْهُ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ الْمُبِيحَيْنِ لِلْفِطْرِ. وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ كُلُّهَا يُسْرٌ لَا عُسْرَ وَلَا حَرَجَ فِيهَا، وَلَا فِي مَعْرِفَتِهَا وَثُبُوتِهَا وَحُدُودِهَا، وَأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ إِفْرَاطِ الْغُلَاةِ الْمُشَدِّدِينَ، وَتَفْرِيطُ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَسَاهِلِينَ، وَمِنْ مُبَالَغَةِ الْخَلَفِ فِي تَحْدِيدِ الظَّوَاهِرِ مَعَ التَّفْرِيطِ فِي إِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَنَّهُمْ حَدَّدُوا أَوَّلَ الْفَجْرِ وَضَبَطُوهُ بِالدَّقَائِقِ وَزَادُوا عَلَيْهِ فِي الصِّيَامِ إِمْسَاكَ عِشْرِينَ دَقِيقَةً قَبْلَهُ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ تَبَيُّنَ بَيَاضِ النَّهَارِ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ إِلَّا بَعْدَهُ بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً تَقْرِيبًا، وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ التَّامِّ خَمْسَ دَقَائِقَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيهِ ظُهُورَ بَعْضِ النُّجُومِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اعْتِدَاءِ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ اجْتِهَادٌ لَا تَعَمُّدَ، وَالثَّابِتُ فِي السُّنَّةِ نَدْبُ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ.وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ وَقْتَ بَدْءِ الصِّيَامِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَأَخْذُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَّبَعَةِ أَضْبُطُ وَأَحْوَطُ وَأَوْفَى بِحَاجَةِ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَجِبُ إِعْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّرُوسِ الدِّينِيَّةِ وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّحُفِ الْمُنَشَّرَةِ أَيْضًا بِأَنَّ وَقْتَ الْإِمْسَاكِ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي التَّقَاوِيمِ النَّتَائِجِ وَالصُّحُفِ إِنَّمَا وُضِعَ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى قُرْبِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ بَدْءُ الصِّيَامِ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ لِيَتَعَجَّلَ الْمُتَأَخِّرُ فِي سُحُورِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ بِإِتْمَامِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلصَّلَاةِ، وَلاسيما الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُ، وَلَوْ بِدَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ صِيَامَهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صِيَامُهُ، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ الِاحْتِيَاطُ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ لِيَتَيَسَّرَ التَّغْلِيسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ.
|