الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله: {ويوم يحشرهم} وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى {اءنت قلت للناس} [المائدة: 116] {قالوا سبحانك} ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة {بل كانوا يعبدون الجن} حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، أو كانوا يدخلون في أجواب الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا {أكثرهم بهم مؤمنون} وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار. وأيضًا أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله: {لا يملك بعضكم} للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه: أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضًا بهذا التأويل، وعلى الأول يكون قوله: {ونقول للذين ظلموا} إفرادًا للكفرة بالذكر، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيدًا لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئًا وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال هاهنا {عذاب النار التي كنتم بها تكذبون} وفي السجدة {عذاب النار الذي كنتم به} [الآية: 20] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [الآية: 20] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة} [البقرة: 80] وههنا لم يروا النار.وقيل: لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله: {وإذا تتلى} الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها} فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك {وكذب الذين من قبلهم} كعاد وثمود {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون: معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟. وقال بعضهم: اراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثنم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله: قوله: {فكذبوا رسلي} بعد قوله: {وكذب الذين من قبلهم} تخصيص بعد تعميم كأنه قيل: وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله: {وما بلغوا معشار ما} كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت: فعلى هذا تكون الفاء للسببية، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ {فكيف كان نكير} للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريرًا للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل: فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك: فعلت كذا وكذا، فإذا فعلت ذلك فتربص.وبعد تقرير الأصول الثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله: {قل إنما أعظكم بواحدة} أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله: {أن تقوموا} على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيُّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله: {مثنى وفرادى} إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال: أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله: {ثم تتفكروا} يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعدما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما اقول بعده، وهو الرسالة المشار إليها بقوله: {ما بصاحبكم من جنة} والحشر المشار إليه بقوله: {بين يدي عذاب شديد} قيل: وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال: ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد.فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله: الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها اصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصًا متفرقين اثنين اثنين وواحدًا واحدًا، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفه حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان: مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاتفاق أرجح النتاس عقلًا وأصدقهم قولًا وأوفرهم حياء وأمانة، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله: {ما بصاحبكم} إما أن يكون كلامًا مستأنفًا فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد: ثم تتفكروا فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أن تكون ما استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيًا ذكر وجهًا آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله: {ما سألتكم من أجر} الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود هاهنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله: {فهو لكم} نفي سؤال الآخر رأسًا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئًا فخذه وهو لم يعطه شيئًا. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله: {لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودّة في القربى} [الشورى: 23] وقوله: {ما أسألكم عليه من أجر الا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا} [الفرقان: 57] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم. {وهو على كل شيء شهيد} يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله: {يقذف بالحق} اي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه {علام الغيوب} يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت.وفي قوله: {علام الغيوب} إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه.وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده. وقيل: السيف. وقوله: {وما يبدئ الباطل وما يعيده} مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدئ فعلًا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتًا في نفسه بينًا لمن نظر إليه كان جائيًا، وحين كان ماأتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل: إنه لا يبدئ ولا يعيد أي لا يعيد شيئًا لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل: الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشيء خلقًا ولا يعيد وإنما المنشيء والباعث هو الله. وعن الحسن: لا يبدئ لأهله خيرًا ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: ما استفهامية والمعنى أي شيء ينشيء إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي} يعني كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله: هذا حكم عام لكل مكلف، والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به {إنه سميع قريب} يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راء من مآل حال أهل العناد بقوله: {ولو ترى} وجواب محذوف أي لرأيت أمرًا عظيمًا. والأفعال الماضية التي هي {فزعوا} {وأخذوا} {وقالوا} {وحيل} كلها من قبيل {ونادى} [الأعراف: 48] {وسيق} [الزمر: 73] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفًا أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء {فلا فوت} أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار، أو من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض.وجوّز جار الله أن يعطف {وأخذوا} على {لافوت} على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه سولم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله: {وأنى لهم التناوش} وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولًا سهلًا لا تعب فيه، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو: التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت فلي أجوه. وقيل: التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب المدخل في تفسير القرآن والضمير في قوله: {وقد كفروا} عائد إلى ما يعود إليه في قوله: {آمنا به}.قوله: {ويقذفون بالغيب} فيه وجوه أحدها: أنه قولهم في رسول الله صلى الله عيله وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيهاك أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها: أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها: قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا. وخامسها: قالوا {ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا} [السجدة: 12] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا {كما فعل باشياعهم} أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله و {مريب} موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود. اهـ.
.قال الخطيب الشربيني: ولما سلب تعالى عن شركائهم أن يملكوا شيئًا من الأكوان، وأثبت جميع الملك له وحده، وأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقررهم بما يلزم منه ذلك بقوله تعالى: {قل من يرزقكم من السموات} أي: بالمطر {والأرض} أي: بالنبات، وأفرد الأرض لأنهم لا يعلمون غيرها، ثم أمره تعالى أن يتولى الإجابة بقوله تعالى: {قل الله} أي: إن لم يقولوا رازقنا الله تعالى فقل أنت: إن رازقكم الله وذلك للإشعار بأنهم يقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن من صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله تعالى رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض}. {أم من يملك السمع والأبصار}.حتى قال: {فسيقولون الله}.ثم قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال}.فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ومرة يتلعثمون عنادًا وفرارًا وحذرًا من إلزام الحجة ونحوه قوله عز وجل {قل من رب السموات والأرض قل الله أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا}.وأمر بأن يقول لهم بعد لاإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وإنا أو إياكم} أي: أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة {لعلى هدى} أي: في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه {أو في ضلال} عن الحق {مبين} أي: بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال، وهذا ليس على طريق الشك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك أنه على هدى ويقين، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير، ويسميه أهل البيان الاستدراج، وهو أن يذكر لمخاطبه أمرًا يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم: أخزى الله الكاذب مني ومنك، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان:مع العلم لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم خير خلق الله كلهم.تنبيه:ذكر تعالى في الهدى كلمة على، وفي الضلال كلمة في، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي: وقال بعضهم: أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول: وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. {قل} أي: لهم {لا تسألون} أي: من سائل ما {عما أجرمنا} أي: لا تؤاخذون به {ولا نسأل} أي: في وقت من الأوقات من سائل ما {عما تعملون} أي: من الكفر والتكذيب وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين، وقيل: المراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل الكفر والمعاصي العظام. {قل} أي: لهم {يجمع بيننا ربنا} أي: يوم القيامة {ثم يفتح} أي: يحكم {بيننا بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه وهو العدل والفضل من غير ظلم ولا ميل، فيدخل المحقين الجنة والمبطلين النار {وهو الفتاح} أي: الحاكم الفاصل في القضايا المغلقة البليغ الفتح لما انغلق فلا يقدر أحد على فتحه {العليم} أي: البليغ العلم بكل دقيق وجليل فلا تخفى عليه خافية.
|