الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {يرى} فاعله حاضر والقيامة، أي يراه الله ومن شاهد الأمر، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة». وفي قوله: {ثم يجزاه الجزاء الأوفى} وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين. و: {المنتهى} يحتمل أن يريد به الحشر، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار، ويحتمل أن يريد ب {المنتهى}: الجنة أو النار، فهو منتهى على الإطلاق، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته.وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} لا فكرة في الرب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر الرب فانتهوا». وقال أبو هريرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إلى أصحابه فقال: «فيم أنتم» قالوا: نتفكر في الخالق، فقال: «تفكروا في الخلق، لا تتفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة» الحديث، وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافًا كثيرة من الناس، إذ الواحدة دليل السرور، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة، فنبه تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده، وقال مجاهد المعنى: {أضحك} الله أهل الجنة {وأبكى} أهل النار. وحكى الثعلبي في هذا أقوالًا استعارية كمن قال: {أضحك} الأرض بالنبات، {وأبكى} السماء بالمطر، ونحوه: و{أمات وأحيا}. وحكى الثعلبي قولا إنه أحيا بالإيمان وأمات بالكفر. و{الزوجين} في هذه الآية يريد به المصطحبين من الناس من الرجل والمرأة وما ضارع من الحيوان، والخنثى متميز ولا بد لأحد الجهتين. والنطفة في اللغة: القطعة من الماء كانت يسيرة أو كثيرة. ويراد بها هاهنا ماء الذكران.وقوله: {تمنى} يحتمل أن يكون من قولك: أمنى الرجل: إذا خرج منه المني، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الشيء: إذا خلقه، فكأنه قال: إذا تخلق وتقدر، و: {النشأة الأخرى} هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلي في التراب. وقرأ الناس: {النشْأة} بسكون الشين والهمز والقصر، وقرأ أبو عمرو والأعرج: {النشآة} ممدودة.{وأقنى} معناه: أكسب، يقال: قنبت المال، أي كسبته، ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة، وقد يعدى بالتضعيف، ومنه قول الشاعر: البسيط:
وعبر المفسرون عن {أقنى} بعبارات مختلفة. وقال بعضهم: {أقنى} معناه: أكسب ما يقتني، وقال مجاهد معناه: أغنى وأرضى. وقال حضرمي معناه: أغنى عن نفسه {وأقنى} أفقر عباده إليه. وقال الأخفش: {أقنى} أفقر، وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة، والوجه فيها بحسب اللغة أكسب ما يقتني. وقال ابن عباس: {أقنى} قنع. والقناعة خير قنية، والغنى عرض زائل، فلله در ابن عباس. و: {الشعرى} نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو من زمر الجوزاء وهم شعريان، إحداهما: الغميصاء، والأخرى العبور، لأنها عبرت المجرة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه {الشعرى}، ومنهم أبو كبشة، ذكره الزهراوي واسمه عبد العزى، فلذلك خصت بالذكر، أي وهو رب هذا المعبود الذي لكم.وعاد: هم قوم هود، واختلف في معنى وصفها ب {الأولى}، فقال ابن زيد والجمهور: ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة، وقال الطبري: سميت أولى، لأن ثم عادًا أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال.قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أبين، لأن هذا الأخير لم يصح. وقال المبرد عادًا الأخيرة هي ثمود، والدليل قول زهير: الطويل: ذكره الزهراوي، وقيل الأخيرة: الجبارون.وقرأ ابن كثير وعاصم، وابن عامر وحمزة، والكسائي {عاد الأولى} منونة وبهمز. وقرأ نافع فيما روي عنه: {عادا الأولى} بإزالة التنوين والهمز. وهذا كقراءة من قرأ {أحد الله} وكقول الشاعر أبو الأسود الدؤلي: المتقارب: وقرأ قوم: {عادًا الأولى} والنطق بها {عادن الأولى}. واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء، ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز. وقرأ نافع أيضًا وأبو عمرو بالوصل والإدغام {عاد الولى} بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام. وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة، وقال: إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل أن تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال هاهنا {عادًا الولى}، قال أبو علي: والقراءة سائغة، وأيضًا فمن العرب من يقول: لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون، وقرأ نافع فيما روي عنه {عادًا الأولى} بهمز الواو، ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة، وكذلك فعل من قرأ: {على سؤقه}، وكما قال الشاعر جرير: الوافر: وهي لغة. وقرأ الجمهور: {وثمودًا} بالنصب عطفًا على عاد. وقرأ عاصم وحمزة والحسن وعصمة {وثمود} بغير صرف، وهي في مصحف ابن مسعود بغير ألف بعد الدال.وقوله: {فما أبقى} ظاهره: {فما أبقى} عليهم، وتأول ذلك بعضهم {فما أبقى} منهم عينًا تطرف، وقد قال ذلك الحجاج حين سمع قول من يقول إن ثقيفًا من ثمود فأنكر ذلك وقال: إن الله تعالى قال: {وثمودًا فما أبقى}. وهؤلاء يقولون بقي منهم باقية.{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)}.نصب {قوم نوح} عطفًا على {ثمود} وقوله: {من قبل} لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض، و{نوح} أول الرسل، وجعلهم {أظلم وأطغى}: لأنهم سبقوا إلى التكذيب دون اقتداء بأحد قبلهم، وأيضًا فإنهم كانوا في غاية من العتو، وكان عمر نوح قد طال في دعائهم، فكان الرجل يأتي إليه مع ابنه فيقول: أحذرك من هذا الرجل فإنه كذاب، ولقد حذرني منه أبي وأخبرني أن جدي حذره منه، فمشت على ذلك أخلافهم ألفًا إلا خمسين عامًا.و {المؤتفكة} قرية قوم لوط بإجماع من المفسرين، ومعنى {المؤتفكة}: المنقلبة لأنها أفكت فائتفكت، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق كذبًا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {والمؤتفكات أهوى} على الجمع. و{أهوى} معناه: طرحها من هواء عال إلى أسفل، هذا ما روي من أن جبريل عليه السلام اقتلعها بجناحه حتى بلغ بها قرب السماء ثم حولها قلبها فهبط الجميع واتبعوا حجارة وهي التي غشاها الله تعالى.وقوله: {فبأي ألاء ربك تتمارى} مخاطبة للإنسان الكافر، كأنه قيل له: هذا هو الله الذي له هذه الأفاعيل، وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم، ففي أيها تشك. و: {تتمارى} معناه: تتشكك. وقرأ يعقوب {ربك تتمارى} بتاء واحدة مشددة. وقال أبو مالك الغفاري إن قوله: {ألا تزر} [النجم: 38] إلى قوله: {تتمارى} هو في صحف إبراهيم وموسى.وقوله: {هذا نذير} يحتمل أن يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول قتادة وأبي جعفر ومحمد بن كعب القرظي، ويحتمل أن يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، وقال أبو مالك: الإشارة بهذا النذير إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم. و: {نذير} يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل، ويحتمل أن يكون مصدرًا، ونذر جمع نذير. وقال: {الأولى} بمعنى أنه في الرتبة والمنزلة والأوصاف من تلك المتقدمة، والأشبه أن تكون الإشارة إلى محمد.وقوله: {أزفت} معناه: قربت القريبة. و: {الآزفة} عبارة عن القيامة بإجماع من المفسرين. وأزف معناه: قرب جدًا، قال كعب بن زهير: البسيط: وقوله: {كاشفة} يحتمل أن يكون صفة لمؤنث، التقدير: حالة {كاشفة}، أو منة {كاشفة}. قال الرماني أو جماعة، ويحتمل أن يكون مصدرًا كالعاقبة و{خائنة الأعين} [غافر: 19]. ويحتمل أن يكون بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة، كما قال: {فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8] وأما معنى {كاشفة} فقال الطبري والزجاج: هو من كشف السر، أي ليس من دون الله من يكشف وقتها ويعلمه. وقال الزهراوي عن منذر بن سعيد: هو من كشف الضر ودفعه، أي ليس من يكشف خطبها وهولها.وقرأ طلحة: {ليس لها} مما تدعون {من دون الله كاشفة} وهي على الظالمين سوءات الغاشية، وهذا الحديث هو القرآن.وقوله: {أفمن} توقيف وتوبيخ. وفي حرف أبيّ وابن مسعود: {تعجبون} {تضحكون} بغير واو العطف، وفي قوله عز وجل: {ولا تبكون} حض على البكاء عند سماع القرآن. وروى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن أنزل يخوف، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» ذكره الثعلبي، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسر ابن عباس وغيره من المفسرين. وقال الشاعر هذيلة بنت بكر: مجزوء الكامل: وسمد بلغة حمير غنى، وهو معنى كله قريب من بعض، وأسند الطبري عن أبي خالد الوالي قال: خرج علينا عليّ ونحن قيام ننتظر الصلاة فقال: ما لي أراكم سامدين.قال القاضي أبو محمد: يشبه أنه رآهم في أحاديث ونحوه مما يظن أنه غفلة ما. وقد قال إبراهيم كانوا يكرهون أن ينتظروا خروج الإمام قيامًا، وفي الحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني».ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيرًا وتخويفًا، وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح، وليس يراها مالك رحمه الله، وقال زيد بن وثاب إنه قرأ بها عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد. اهـ. .قال أبو حيان في الآيات السابقة: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)}.{أفرأيت} الآية، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس إليه ووعظه، فقرب من الإسلام، وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم إنه عاتبة رجل من المشركين، فقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال.فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عن ما هم به من الإسلام، وضل ضلالًا بعيدًا، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشح.وقال الضحاك: هو النضر بن الحارث، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه.وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل السهمي، كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.وقال محمد بن كعب: في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق.وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه؛ كان يتصدق، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحوًا من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به.وذكر القصة بتمامها الزمخشري، ولم يذكر في سبب النزول غيرها.قال ابن عطية: وذلك كله عندي باطل، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله. انتهى.وأفرأيت هنا بمعنى: أخبرني، ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي: {أعنده علم الغيب}.و {تولى}: أي أعرض عن الإسلام.وقال الزمخشري: {تولى}: ترك المركز يوم أحد. انتهى.لما جعل الآية نزلت في عثمان، فسر التولي بهذا.وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان.{وأعطى قليلًا وأكدى}، قال ابن عباس: أطاع قليلًا ثم عصى.وقال مجاهد: أعطى قليلًا من نفسه بالاستماع، ثم أكدى بالانقطاع.وقال الضحاك: أعطى قليلًا من ماله ثم منع.وقال مقاتل: أعطى قليلًا من الخير بلسانه ثم قطع.{أعنده علم الغيب}: أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره، أم هو جاهل؟ وقال الزمخشري: {فهو يرى}: فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق.وقيل: يعلم حاله في الآخرة.وقال الزجاج: يرى رفع مأثمه في الآخرة.وقيل: فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل.وقال الكلبي: أنزل عليه قرآن، فرأى ما منعه حق.وقيل: {فهو يرى}: أي الأجزاء، واحتمل يرى أن تكون بصرية، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة.{أم لم ينبأ}: أي بل ألم يخبر؟ {بما في صحف موسى}، وهي التوراة.{وإبراهيم}: أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام.قيل: لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده.فأول من خالفهم إبراهيم، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى صلى الله عليه وسلم عليهما، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره.{الذي وفى}، قرأ الجمهور: {وفى} بتشديد الفاء.وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي: بتخفيفها، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقًا له، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة، والصبر على ذبح ولده، وعلى فراق اسماعيل وأمه، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه.وكان يمشي كل يوم فرسخًا يرتاد ضيفًا، فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم.وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفى به.
|