الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.حجة الوداع: ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمسة ليال بقين من ذي العقدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل عريا ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ولقيه علي بن أبي طالب بصدقات نجران فحج معه وعلم صلى الله عليه وسلم الناس بمناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا! أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كان ربا فهو موضوع ولكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا إن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم في الجاهلية موضوع كله وأن أول دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني الليث فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدا من دم الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه إلى فيحلوا ما حرم الله ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان أما بعد أيها الناس فإن لكم على أن نسائكم حقا ولهن عليكم حقا لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلغت قولي وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه أيها الناس اسمعوا قولي واعلموا إن كل مسلم أخو المسلم وإن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم ألا هل بلغت فذكر أنهم قالوا: اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد» وكانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وكان قد حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشر..العمال على النواحي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمره على جميع مخاليفها ولم يشرك معه فيها أحدا حتى مات وبلغه موته وهو منصرف من حجة الوداع فقسم عمله على جماعة من أصحابه فولى على صنعاء ابنه شهر بن باذان وعلى مأرب أبا موسى الأشعري وعلى الجند يعلي بن أمية وعلي همدان عامر بن شهر الهمداني وعلى عك والأشعر بين الطاهر بن أبي هالة وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد بن سعيد بن العاص وعلى نجران عمر وبن حزم وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر بن أبي أمية واشتكى المهاجر فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن وحضرموت وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عدي بن حاتم على صدقة طيء وأسد ومالك بن نوبرة على صدقات بني حنظلة وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوفاه من حجة الوداع كما مر..خبر العنسي: كان الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب ولقبه ذو الخمار وكان كاهنا مشعوذا يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه وكانت داره كهف حنار بها ولد ونشأ وادعى النبوة وكاتب مذحجا عامة فأجابوه ووعدوه نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص وأقاموه في عملها ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد فأجلوه وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعاء فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى أعمال الطائف إلى البحرين من قبل عدن وجعل يطير استطارة الحريق وعامله المسلمون بالتقية وارتد كثير من أهل اليمن وكان عمرو بن معدي كرب مع خالد بن سعيد العاص فخالفه واستجاب للأسود فسار إليه خالد ولقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها ونزل عمرو عن فرسه وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي وأمر الأبناء إلى فيروز ودادويه وتزوج امرأة شهر بن باذان واستفحل أمره.وخرج معاذ بن جبل هاربا ومر بأبي موسى في مأرب فخرج معه ولحقا بحضرموت ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك ولحق عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بالمدينة وأقام الطاهر بن أبي هالة عك حيال صنعاء فلما ملك الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه وكانت ابنة عم قيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد وبلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب مع وبر بن يحنس إلى الأبناء وأبي موسى ومعاذ الطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا في أمر الأسود بالغيلة أو المصادمة ويبلغ منه من يروم عنده دينا أو نجدة وأقام معاذ والأبناء فداخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شهر الهمداني وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي أمران وذي ظليم من أهل ناحيته وإلى أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان واحد وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهم بهم ففروا إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فيبيتوه ففعلوا ذلك ودخل فيروز ومعه قيس فقتل عنقه ثم ذبحه فنادى بالأذان عند طلوع الفجر ونادى دادويه بشعار الإسلام وأقام وبر بن يحنس الصلاة واهتاج الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض واختطف الكثير من أصحابه صبيانا من أبناء المسلمين وبرزوا وتركوا كثيرا من أبنائهم ثم تراسلوا في رد كل ما بيده وأقاموا يترددون فيما بين صنعاء ونجران وخلصت صنعاء والجنود وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء ثم اتفقوا على معاذ فصلى بهم وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر وكان قد أتى خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها: قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز ثم قدمت الرسل وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم.
|