الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
.تفسير الآيات (104- 115): {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} أي ولتكونوا أُمة من صلة، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان}، [الحج: 30] ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله: {وَلْتَكُن} لام الأمر. {يَدْعُونَ إِلَى الخير}: الإسلام {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون}، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعنا ابن الزبير يقرأ: {ولتكن منكم أُمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم}. وروي مثله عن عثمان [..........].فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:روى حسان بن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه».وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «أَأْمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله تعالى، وأوصلهم لأرحامه».عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ ائتمرنا به، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلاّ انتهينا عنه، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فقال: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله».الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأساً فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا».وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين؛ فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له».وقال أبو الدرداء: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم.وقال حذيفة اليماني: يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.وقال الثوري: إذا كان الرجل مُحبّباً في جيرانه محموداً عند القوم فاعلم أنه مداهن.{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} الآية قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى.وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأُمّة. عن عبد الله بن شدّاد قال: وقف أبو أُمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار، كلاب النار مرتين أو ثلاثة شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. قيل: أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هو من جل رأي رأيته، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات ما حدثت به. فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك. قال: هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} إلى قوله: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ثم قال: هم الحرورية.وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كمقامي فيكم ثم قال: «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد».{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، {يَوْمَ} نصب على الظرف، أي في يوم، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب {تِبيض وتِسود} بكسر التاءين على لغة تميم. وقرأ الزهري: {تبياض وتسواد}. فأما الذين اسوادت.و المعنى تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين. وقيل: يوم تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين.وقال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115]، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئاً مما رفع لهم، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعاً مؤمناً، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضاً، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزناً شديداً واسودت وجوههم فيقولون: ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا فوالله ربنا ما كنا مشركين؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كيف كذبوا على أنفسهم.وقال أهل المعاني: ابيضاض الوجوه: إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عز وجل، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] الآية وقوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة: 22]، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24].ثم بين حالهم ومآلهم فقال: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ}، فيه اختصار يعني: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ واختلفوا فيه؛ فروى الربيع عن أبي العالية عن أُبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يوم الميثاق.قال الحسن: هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم. وقال يونس بن أبي مسلم: سألت عكرمة عن هذه الآية فقال: لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام، ولكني سأُجمل لك: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، ولما بعث كفروا به، فذلك قوله: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.وقال الآخرون: هم من أهل ملتنا.قال الحارث الأعور: سمعت علياً رضي الله عنه على المنبر يقول: «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به الجنة، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به النار». ثمّ قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية.ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان أكفرتم، يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على أُمتي زمان يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا».وقال أبو أُمامة الباهلي: هم الخوارج. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم.ودليل هذه التأويلات قوله: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».{وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ} هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده، {فَفِي رَحْمَةِ الله}: جنّة الله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إلى {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} فيعاقبهم بلا جرم.{وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور * كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} الآية قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.وروى جويبر عن الضحاك قال: هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.وعن عمر بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى من رآني».الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه».وقال آخرون: هم جمع المؤمنين من هذه الأُمة وقوله: {كُنْتُمْ} يعني أنتم كقوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] أي من هو في المهد. وإدخال {كان} واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد، كقوله: {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: 86] وقال في موضع آخر: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26].وقال محمد بن جرير: هذا بمعنى التمام، وتأويله: خلقتم ووجدتم خير أُمة.وقال: معنا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} عند الله في اللوح المحفوظ، {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال قوم: للناس من صلة قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ}: يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أُمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أُمة أُخرجت للناس.مقاتل بن حيان: ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضاً، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر؛ فأُمّة محمد صلى الله عليه وسلم خير أُمم الناس.وقال آخرون: قوله: {لِلنَّاسِ} من صلة قوله: {أُخْرِجَتْ} ومعناه ما أخرج الله للناس أُمّة خيراً من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم فهم خير أُمة أقامت وأُخرجت للناس، وعلى هذا تتابعت الأخبار.روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: «إنكم تتمّون سبعين أُمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل».وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومئة صف، منها ثمانون من هذه الأُمة».نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أُمة إلاّ وبعضها في النار، وبعضها في الجنّة، وأُمتي كلّها في الجنة».ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أُمتي مثل المطر؛ لا يُدرى أوله خير أم آخره».وعن أنس قال: «أتى رسولَ الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأُمم كانوا يمنعون على الصراط [..........] حتى أتت أُمة محمد صلى الله عليه وسلم غرّاً محجلين قال: فقلت: من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا: لا، قلت: مرسلون؟ قالوا: لا، فقلت: ملائكة؟ قالوا: لا، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: أُمة محمد صلى الله عليه وسلم غرّاً محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم».عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأُمم حتى تدخلها أُمتي».وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أُمتي أُمة مرحومة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأُمة رجلا من الكفّار فيقول: هذا فداؤك من النار».وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بصوت يجيء من شعب، قال: «يا أنس، انطلق فانظر ما هذا الصوت»، قال: فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول: «اللهم اجعلني من أُمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها». فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمته ذلك فقال: «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: من أنت؟». فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أقرئ منّي رسول الله السلام وقل له: أخوك الخضر يقول أسألك أن يجعلني من أُمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها».وقيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله، هل بعد هذه الأُمة أُمة؟ قال: «علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا اله إلاّ الله».وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لِم لم تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتاباً مختوماً، وقال: لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر رضي الله عنه قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أُمة محمد صلى الله عليه وسلم سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنّة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أُمّهاتهم.وقال يحيى بن معاذ: هذه الآية مدحة لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ليمدح قوماً ثم يعذبهم.ثم ذكر مناقبهم فقال: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إلى {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} الآية قال مقاتل: إنّ رؤوس اليهود كعباً وعدياً والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه: فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلاّ أذى باللسان يعني وعيداً وطعناً. وقيل: دعاء إلى الضلالة. وقيل: كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها {يُوَلُّوكُمُ الأدبار} منهزمين، وهو جزم بجواب الجزاء، {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} استأنف لأجل رؤوس الآي لأنها على النون، كقوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. تقديرها: ثم هم لا ينصرون.وقال في موضع آخر: و{لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36]؛ إذ لم يكن رأس آية. قال الشاعر:أي فهو ينطق. قال الأخفش: قوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} استثناء خارج من أول الكلام، كقول العرب: ما اشتكى شيئاً إلاّ خيراً، قال الله تعالى {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ: 25] ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذىً.{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا}: حيثما وجدوا ولقوا، يعني: حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون {إِلاَّ بِحَبْلٍ}: عهد من الله {وَحَبْلٍ مِّنَ الناس}: محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، يعني: إلاّ أن يعتصموا بحبل، كقول الشاعر: أي أقبلت بحبليها.وقال آخر: يعني: رآني مقيد بقيد.{وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} إلى {لَيْسُواْ سَوَآءً} الآية: قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود: ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم ديناً غيره، فأنزل الله تعالى {لَيْسُوا سَوَآءً} وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعداً، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم: في الكلام إضمار تقديره: ليسوا سواء. {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب: أراد: أرشد أم غيّ، فحذفه لدلالة الكلام عليه.وهذا قول مجموع مقدم كقولهم: (أكلوني البراغيث) و(ذهبوا أصحابك). وقال: تمام القول عند قوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً} وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ثم قال: {لَيْسُواْ سَوَآءً} يعني المؤمنين والفاسقين، ثم وصف الفاسقين فقال: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}، ثم وصف المؤمنين فقال: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} الآية فهو مردود على أول الكلام، وهو مختار محمد بن جرير والزجاج، قال: وإن شئت جعلت قوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} ابتداءً لكلام آخر؛ لأنّ ذكر الفريقين قد جرى، ثمّ قال: ليس هذان الفريقان سواءً وهم، ثمّ ابتدأ فقال: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.قال ابن مسعود: معناها لا يستوي اليهود وأُمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس: أُمّة قائمة مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد: عادلة، السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل: قائمة في الصلاة. قال الأخفس أُمة قائمة أي ذو أُمّة قائمة، والأُمّة: الطريقة، من قولهم: أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة: وهل يأتمن ذو أُمّة وهو طائع.أي ذو طريقة.ومعنى الآية ذوا طريقة مستقيمة.{يَتْلُونَ آيَاتِ الله} يقرؤون كتاب الله. قال مجاهد: يتبعون، يقال: تلاه، أي اتّبعه. قال الشاعر: إني لم أُردهما [...].أي تستتبعني.{آنَآءَ الليل}، أي ساعاته، وإحداها إنْيٌ مثل نحْي وأنحاء وإنىً مثل معىً.قال الشاعر: أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر.قال الراجز في اللغة الأخرى: وقال السدي: آناء الليل جوفه. الأوزاعي عن حسان عطية قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم».{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يصلون؛ لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] أي يصلّون وفي القرآن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} [الفرقان: 60] أي صلوا، وقوله: {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} [النجم: 62]. واختلفوا في نزول الآية ومعناها؛ فقال بعضهم: هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال: إنا نجد كلاماً من كلام الرب أيحسب راعي إبل وغنم، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل.ابن مسعود: هو في صلاة العتمة، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها. عاصم عن رزين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل هذه الساعة غيركم»، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسُواْ سَوَآءً} حتى بلغ قوله: {والله عَلِيمٌ بالمتقين}.وروى الثوري عن منصور قال: بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.وقال عطاء في قوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} الآية تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة بن أنس، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه.{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ}، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف: بالياء فيهما، اخبار عن الأُمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعاً: الياء والتاء.ومعنى الآية {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ}: فلن يقدروا ثوابه، ولن يُجحدوا جزاءه بل يُشكر لهم ويجازون عليه، {والله عَلِيمٌ بالمتقين}: المؤمنين.
|