الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ نَبِيِّهِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ، لَمْ يُقِرُّوا بِبَعْثَةِ اللَّهِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا إِذْ أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ، وَعَرَّفَهُمْ فَضِيلَتَهُ الَّتِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهَا، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوهُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: “وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ“، فَقَالُوا لَهُ: مَا آيَةُ ذَلِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ؟ “ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ“. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَبِيِّهِمْ، وَمَا كَانَ مِنَ ابْتِدَائِهِمْ نَبِيَّهُمْ بِمَا ابْتَدَءُوا بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ فِي سَبِيلِهِ، وَنَبَأً عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ إِخْلَافِهِمُ الْمَوْعِدَ الَّذِي وَعَدُوا اللَّهَ وَوَعَدُوا رَسُولَهُ، مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ حِينَ اسْتُنْهِضُوا لِحَرْبِ مَنْ اسْتُنْهِضُوا لِحَرْبِهِ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الفِئَةِ، مَعَ تَخْذِيلِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ عَنْ مَلِكِهِمْ وَقُعُودِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لِمَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهَرَانِي مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَرَارِيهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَعْدُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، بَعْدَ مَا كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ اللَّهَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ قَبْلََ رِسَالَتِهِ، وَقَبْلَ بَعْثَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا كَأَسْلَافِهِمْ وَأَوَائِلهمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ شَمْوِيلَ بْنَ بَالِي، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِّيَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الجِهَادِ مَعَ طَالُوتَ لَمَّا ابْتَعَثَهُ اللَّهُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمْ نَبِيَّهُمُ ابْتِعَاثَ مَلِكٍ يُقَاتِلُونَ مَعَهُ عَدُّوَهُمْ وَيُجَاهِدُونَ مَعَهُ فِي سَبِيلِ رَبِّهِمْ، ابْتِدَاءً مِنْهُمْ بِذَلِكَ نَبِيَّهُمْ، وَبَعْدَ مُرَاجَعَةِ نَبِيِّهِمْ شَمْوِيلَ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ وَحَضٍّ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَتَحْذِيرٍ مِنْهُ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي التَّخَلُّفِ عَنْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ لِقَائِهِ الْعَدُوَّ، وَمُنَاهَضَتِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِهِ، عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنْ مَلِكِهِمْ طَالُوتَ إِذْ زَحَفَ لِحَرْبِ عَدُوِّ اللَّهِ جَالُوتَ، وَإِيثَارِهِمُ الدَّعَةَ وَالْخَفْضَ عَلَى مُبَاشَرَةِ حَرِّ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَشَحْذٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مُنَاجَزَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ الْحَرْبَ، وَتَرْكِ تَهَيُّبِ قِتَالِهِمْ أَنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُ أَعْدَائِهِمْ وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ بِقَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 249]، وَإِعْلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّ بِيَدِهِ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ“، فَإِنَّهُ يَعْنِي: لِلْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وَقَوْلُهُ: “إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ“،: إِنَّ عَلَامَةَ مُلْكِ طَالُوتَ الَّتِي سَأَلْتُمُونِيهَا دَلَالَةً عَلَى صِدْقِي فِي قَوْلِي: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ عَلَيْكُمْ مَلِكًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ “ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ“، وَهُوَ التَّابُوتُ الَّذِي كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا لَقُوا عَدُوًّا لَهُمْ قَدَّمُوهُ أَمَامَهُمْ، وَزَحَفُوا مَعَهُ، فَلَا يَقُومُ لَهُمْ مَعَهُ عَدُوٌّ، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى ضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَكَثُرَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، حَتَّى سَلَبَهُمْ آخِرَهَا مَرَّةً فَلَمْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ آخِرَ الْأَبَدِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي سَبَبِ مَجِيءِ التَّابُوتِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ مَجِيئَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ آيَةً لِصِدْقِ نَبِيِّهِمْ شَمْوِيلَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}، وَهَلْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ سُلِبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ جَعَلَ مَجِيئَهُ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا سُلِبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَهُمْ بِهِ ابْتِدَاءً؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى وَهَارُونَ يَتَوَارَثُونَهُ، حَتَّى سَلْبَهُمْ إِيَّاهُ مُلُوكٌ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ. وَقَالَ فِي سَبَبِ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ قَالَ: كَانَ لِعَيْلِي الَّذِي رَبَّى شَمْوِيلَ، ابْنَانِ شَابَّانِ أَحْدَثَا فِي الْقُرْبَانِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. كَانَ مِسْوَطُ الْقُرْبَانِ الَّذِي كَانُوا يَسُوطُونَهُ بِهِ كُلَّابَيْنِ فَمَا أَخْرَجَا كَانَ لِلْكَاهِنِ الَّذِي يَسُوطُهُ، فَجَعَلَهُ ابْنَاهُ كَلَالِيبَ. وَكَانَا إِذَا جَاءَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ فِي الْقُدْسِ يَتَشَبَّثَانِ بِهِنَّ. فَبَيْنَا شَمْوِيلُ نَائِمٌ قِبَلَ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ يَنَامُ فِيهِ عَيْلِي، إِذْ سَمِعَ صَوْتًا يَقُولُ: أشَمْوِيلُ !! فَوَثَبَ إِلَى عَيْلِي فَقَالَ: لَبَّيْكَ! مَا لَكَ! دَعَوْتَنِي؟ فَقَالَ: لَا! ارْجِعْ فَنَمْ! فَرَجَعَ فَنَامَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتًا آخَرَ يَقُولُ: أشَمْوِيلُ !! فَوَثَبَ إِلَى عَيْلِي أَيْضًا، فَقَالَ: لَبَّيْكَ! مَا لَكَ! دَعَوْتِنِي؟ فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ، ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ سَمِعْتَ شَيْئًا فَقُلْ: “لَبَّيْكَ “ مَكَانَكَ، “ مُرْنِي فَأَفْعَلُ “! فَرَجَعَ فَنَامَ، فَسَمِعَ صَوْتًا أَيْضًا يَقُولُ: أشَمْوِيلُ !! فَقَالَ: لَبَّيْكَ أَنَا هَذَا! مُرْنِي أَفْعَلْ! قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى عَيْلِي فَقُلْ لَهُ: “مَنَعَهُ حُبُّ الْوَلَدِ أَنْ يَزْجُرَ ابْنَيْهِ أَنْ يُحْدِثَا فِي قُدْسِي وَقُرْبَانِي، وَأَنْ يَعْصِيَانِي، فَلَأَنْـزِعَنَّ مِنْهُ الْكَهَانَةَ وَمِنْ وَلَدِهِ، وَلَأُهْلِكَنَّهُ وَإِيَّاهُمَا “! فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَهُ عَيْلِي فَأَخْبَرَهُ، فَفَزِعَ لِذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا. فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَدُوٌّ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ، فَأَمَرَ ابْنَيْهِ أَنْ يَخْرُجَا بِالنَّاسِ فَيُقَاتِلَا ذَلِكَ الْعَدُوِّ. فَخَرَجَا وَأَخْرَجَا مَعَهُمَا التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّوْحَانِ وَعَصَا مُوسَى لِيُنْصَرُوا بِهِ. فَلَمَّا تَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ هُمْ وَعَدُوُّهُمْ، جَعَلَ عَيْلِي يَتَوَقَّعُ الْخَبَرَ: مَاذَا صَنَعُوا؟ فَجَاءَهُ رَجُلٌ يُخْبِرُهُ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيِّهِ: إِنَّ ابْنَيْكَ قَدْ قُتِلَا وَإِنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا! قَالَ: فَمَا فَعَلَ التَّابُوتُ؟ قَالَ: ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ! قَالَ: فَشَهِقَ وَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ مِنْ كُرْسِيِّهِ فَمَاتَ. وَذَهَبَ الَّذِينَ سَبَوُا التَّابُوتَ حَتَّى وَضَعُوهُ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِمْ، وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ، فَوَضَعُوهُ تَحْتَ الصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ مِنْ فَوْقِهِ، فَأَصْبَحَ مِنَ الغَدِ وَالصَّنَمُ تَحْتَهُ وَهُوَ فَوْقَ الصَّنَمِ. ثُمَّ أَخَذُوهُ فَوَضَعُوهُ فَوْقَهُ وَسَمَّرُوا قَدَمَيْهِ فِي التَّابُوتِ، فَأَصْبَحَ مِنَ الغَدِ قَدْ تَقَطَّعَتْ يَدَا الصَّنَمِ وَرِجْلَاهُ، وَأَصْبَحَ مُلْقًى تَحْتَ التَّابُوتِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ إِلَهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، فَأَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْتِ آلِهَتِكُمْ! فَأَخْرَجُوا التَّابُوتَ فَوَضَعُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ قَرْيَتِهِمْ، فَأَخَذَ أَهْلَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ الَّتِي وَضَعُوا فِيهَا التَّابُوتَ وَجَعٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَقَالُوا: مَا هَذَا؟! فَقَالَتْ لَهُمْ جَارِيَةٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَزَالُونَ تَرَوْنَ مَا تَكْرَهُونَ مَا كَانَ هَذَا التَّابُوتُ فِيكُمْ! فَأَخْرِجُوهُ مِنْ قَرْيَتِكُمْ! قَالُوا: كَذَبْتِ! قَالَتْ: إِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنْ تَأْتُوا بِبَقَرَتَيْنِ لَهُمَا أَوْلَادٌ لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِمَا نِيرٌ قَطُّ، ثُمَّ تَضَعُوا وَرَاءَهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ تَضَعُوا التَّابُوتَ عَلَى الْعِجْلِ وَتُسَيِّرُوهُمَا وَتَحْبِسُوا أَوْلَادَهُمَا، فَإِنَّهُمَا تَنْطَلِقَانِ بِهِ مُذْعِنَتَيْنِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَتَا مِنْ أَرْضِكُمْ وَوَقَعَتَا فِي أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَسَرَتَا نِيرَهُمَا، وَأَقْبَلَتَا إِلَى أَوْلَادِهِمَا. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَتَا مِنْ أَرْضِهِمْ وَوَقَعَتَا فِي أَدْنَى أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَسَرَتَا نِيرَهُمَا، وَأَقْبَلَتَا إِلَى أَوْلَادِهِمَا. وَوَضَعَتَاهُ فِي خَرِبَةٍ فِيهَا حَصَادٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَزَعَ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، فَجَعْلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ. فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ: اعْتَرِضُوا، فَمَنْ آنَسَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً فَلْيَدْنُ مِنْهُ. فَعَرَضُوا عَلَيْهِ النَّاسَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أُذِنَ لَهُمَا بِأَنْ يَحْمِلَاهُ إِلَى بَيْتِ أُمِّهِمَا، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ. فَكَانَ فِي بَيْتِ أُمِّهِمَا حَتَّى مَلَكَ طَالُوتُ، فَصَلَحَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ أشَمْوِيلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالَ شَمْوِيلُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ؟ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَإِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ وَإِنَّ تَمْلِيكَهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ، فَيَرُدُّ عَلَيْكُمُ الَّذِي فِيهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَهُوَ الَّذِي كُنْتُمْ تَهْزِمُونَ بِهِ مَنْ لَقِيَكُمْ مِنَ العَدُوِّ، وَتَظْهَرُونَ بِهِ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَإِنْ جَاءَنَا التَّابُوتُ فَقَدْ رَضِينَا وَسَلَّمْنَا! وَكَانَ الْعَدُوُّ الَّذِينَ أَصَابُوا التَّابُوتَ أَسْفَلَ مِنَ الجَبَلِ جَبَلِ إِيلِيَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِصْرَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانَ فِيهِمْ جَالُوتُ. وَكَانَ جَالُوتُ رَجُلًا قَدْ أُعْطِيَ بَسْطَةً فِي الْجِسْمِ، وَقُوَّةً فِي الْبَطْشِ، وَشِدَّةً فِي الْحَرْبِ، مَذْكُورًا بِذَلِكَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ التَّابُوتُ حِينَ اسْتُبِيَ قَدْ جُعِلَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا: “أَزْدُودُ“، فَكَانُوا قَدْ جَعَلُوا التَّابُوتَ فِي كَنِيسَةٍ فِيهَا أَصْنَامُهُمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ: مِنْ وَعْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ التَّابُوتَ سَيَأْتِيهِمْ- جَعَلَتْ أَصْنَامُهُمْ تُصْبِحُ فِي الْكَنِيسَةِ مُنَكَّسَةً عَلَى رُؤُوسِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَأْرًا، تُبَيِّتُ الْفَأْرَةُ الرَّجُلَ فَيُصْبِحُ مَيِّتًا، قَدْ أَكَلَتْ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ دُبُرِهِ. قَالُوا: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ، لَقَدْ أَصَابَكُمْ بَلَاءٌ مَا أَصَابَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ مِثْلُهُ، وَمَا نَعْلَمُهُ أَصَابَنَا إِلَّا مُذْ كَانَ هَذَا التَّابُوتُ بَيْنَ أَظْهُرِنَا!! مَعَ أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ أَصْنَامَكُمْ تُصْبِحُ كُلَّ غَدَاةٍ مُنَكَّسَةً، شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يُصْنَعُ بِهَا حَتَّى كَانَ هَذَا التَّابُوتُ مَعَهَا! فَأَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ. فَدَعَوَا بِعَجَلَةٍ فَحَمَلُوا عَلَيْهَا التَّابُوتَ، ثُمَّ عَلَّقُوهَا بِثَوْرَيْنِ، ثُمَّ ضَرَبُوا عَلَى جُنُوبِهِمَا، وَخَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالثَّوْرَيْنِ تَسُوقُهُمَا، فَلَمْ يَمُرَّ التَّابُوتُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا كَانَ قُدْسًا. فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا التَّابُوتُ عَلَى عَجَلَةٍ يَجُرُّهَا الثَّوْرَانِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، وَجَدُّوا فِي حَرْبِهِمْ، وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى طَالُوتَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى طَالُوتَ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ- أَبَوْا أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ الرِّيَاسَةَ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ: “إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ“. فَقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَاءَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ!! وَكَانَ مُوسَى حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ وَرُفِعَ مِنْهَا. فَنَـزَلَ فَجَمَعَ مَا بَقِيَ فَجَعَلَهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الأَلْوَاحِ إِلَّا سُدُسُهَا. قَالَ: وَكَانَتِ الْعَمَالِقَةُ قَدْ سَبَتْ ذَلِكَ التَّابُوتَ- وَالْعَمَالِقَةُ فِرْقَةٌ مِنْ عَادَ كَانُوا بِأَرِيحَا- فَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى التَّابُوتِ، حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: نَعَمْ! فَسَلَّمُوا لَهُ وَمَلَّكُوهُ. قَالَ: وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا حَضَرُوا قِتَالًا قَدَّمُوا التَّابُوتَ بَيْنَ يَدَيْهِمْ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ آدَمَ نَـزَلَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ وَبِالرُّكْنِ. وَبَلَغَنِي أَنَّ التَّابُوتَ وَعَصَا مُوسَى فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالََ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: إِنَّ أَرَمْيَا لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُرِّقَتِ الْكُتُبُ، وَقَفَ فِي نَاحِيَةِ الْجَبَلِ فَقَالَ: {أَنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ}. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ مَنْ رَدَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رَأْسِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ حِينِ أَمَاتَهُ، يُعَمِّرُونَهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً تَمَامَ الْمِئَةِ. فَلَمَّا ذَهَبَتِ الْمِئَةُ، رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ رَوْحَهُ، وَقَدْ عُمِّرَتْ، فَهِيَ عَلَى حَالَتِهَا الْأُولَى. فِلْمًا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ التَّابُوتُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ: إِمَّا دَانْيَالُ وَإِمَّا غَيْرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ يُرْفَعَ عَنْكُمُ الْمَرَضُ، فَأَخْرِجُوا عَنْكُمْ هَذَا التَّابُوتَ! قَالُوا: بِآيَةِ مَاذَا؟ قَالَ: بِآيَةِ أَنَّكُمْ تَأْتُونَ بِبَقَرَتَيْنِ صَعْبَتَيْنِ لَمْ تَعْمَلَا عَمَلًا قَطُّ، فَإِذَا نَطَرَتَا إِلَيْهِ وَضَعَتَا أَعْنَاقَهُمْ لِلنَّيْرِ حَتَّى يُشَدَّ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يُشَدُّ التَّابُوتُ عَلَى عَجَلٍ، ثُمَّ يُعَلَّقُ عَلَى الْبَقَرَتَيْنِ، ثُمَّ يُخَلَّيَانِ فَيَسِيرَانِ حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمَا. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَوَكَّلَ اللَّهُ بِهِمَا أَرْبَعَةً مِنَ المَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، فَسَارَتِ الْبَقَرَتَانِ سَيْرًا سَرِيعًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتَا طَرَفَ الْقُدْسِ كَسَرَتَا نِيرَهُمَا، وَقَطَعَتَا حِبَالَهُمَا، وَذَهَبَتَا. فَنَـزَلَ إِلَيْهِمَا دَاوُدُ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى دَاوُدُ التَّابُوتَ حَجَلَ إِلَيْهِ فَرَحًا بِهِ فَقُلْنَا لِوَهْبٍ: مَا حَجَلَ إِلَيْهِ، قَالَ: شَبِيهٌ بِالرَّقْصِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لَقَدْ خَفِفْتَ حَتَّى كَادَ النَّاسُ يَمْقُتُونَكَ لِمَا صَنَعْتَ! قَالَ: أَتُبَطِّئِينِي عَنْ طَاعَةِ رَبِّي!! لَا تَكُونِينَ لِي زَوْجَةً بَعْدَ هَذَا. فَفَارَقَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ التَّابُوتُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَهُ عِنْدَ فَتَاهُ يُوشِعَ، فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، الْآيَةَ: كَانَ مُوسَى تَرَكَهُ عِنْدَ فَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونَ وَهُوَ بِالْبَرِّيَّةِ، وَأَقْبَلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ فَأَصْبَحَ فِي دَارِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ مُوسَى- فِيمَا ذُكِرَ لَنَا- تَرَكَ التَّابُوتَ عِنْدَ فَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونَ وَهُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ. فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْهُ مِنَ البَرِّيَّةِ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ، فَأَصْبَحَ التَّابُوتُ فِي دَارِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: مِنْ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَ عِنْدَ عَدُوٍّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ سَلَبَهُمُوهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}، و “ الْأَلِفُ وَاللَّامُ “ لَا تَدْخُلَانِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الأَسْمَاءِ إِلَّا فِي مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُتَخَاطِبِينَ بِهِ. وَقَدْ عَرَفَهُ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ. فَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الَّذِي قَدْ عَرِفْتُمُوهُ، الَّذِي كُنْتُمْ تَسْتَنْصِرُونَ بِهِ، فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَابُوتًا مِنَ التَّوَابِيتِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُمْ قَدْرُهُ وَمَبْلَغُ نَفْعِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ تَابُوتٌ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَفْلَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ التَّابُوتَ وَقَدْرَ نَفْعِهِ وَمَا فِيهِ وَهُوَ عِنْدَ مُوسَى وَيُوشَعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى خَطَؤُهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ مُوسَى لَاقَى عَدُوًّا قَطُّ بِالتَّابُوتِ وَلَا فَتَاهُ يُوشَعُ، بَلِ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَأَمْرِ فِرْعَوْنَ مَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ شَأْنِهِمَا، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ وَأَمْرُ الْجَبَّارِينَ. وَأَمَّا فَتَاهُ يُوشَعُ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، زَعَمُوا أَنَّ يُوشَعَ خَلَفَهُ فِي التِّيهِ حَتَّى رُدَّ عَلَيْهِمْ حِينَ مَلَكَ طَالُوتُ. فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفُوهُ، فَأَيُّ الْأَحْوَالِ لِلتَّابُوتِ الْحَالُ الَّتِي عَرَفُوهُ فِيهَا، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الَّذِي قَدْ عَرَفْتُمُوهُ وَعَرَفْتُمْ أَمْرَهُ؟ وَفِي فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِالَّذِي ذَكَرْنَا، أَبْيَنُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، إِذْ لَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ غَيْرُهُمَا. وَكَانَتْ صِفَةُ التَّابُوتِ فِيمَا بَلَغَنَا، كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ وَالْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْنَا وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ عَنْ تَابُوتِ مُوسَى: مَا كَانَ؟ قَالَ: كَانَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “فِيهِ“، فِي التَّابُوتِ “ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ“. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “ السَّكِينَةِ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عُمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَحَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: السَّكِينَةُ، رِيحٌ هَفَّافَةٌ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: رِيحٌ هَفَّافَةٌ لَهَا صُورَةٌ وَقَالَ يَعْقُوبُ فِي حَدِيثِهِ: لَهَا وَجْهٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْعُرَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: السَّكِينَةُ رِيحٌ خَجُوجٌ، وَلَهَا رَأْسَانِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُرْعُرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْعُرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرَّةِ وَجَنَاحَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍوقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: أَقْبَلَتِ السَّكِينَةُ [وَالصَّرَدُ] وَجِبْرِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الشَّأْمِ قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: السَّكِينَةُ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرَّةِ وَجَنَاحَانِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الْهِرَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ رَأْسُ هِرَّةٍ مَيِّتَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: السَّكِينَةُ رَأْسُ هِرَّةٍ مَيِّتَةٍ، كَانَتْ إِذَا صَرَخَتْ فِي التَّابُوتِ بِصُرَاخِ هِرٍّ، أَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ وَجَاءَهُمُ الْفَتْحُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هِيَ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الجَنَّةِ، كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظَهِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الجَنَّةِ، كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، السَّكِينَةُ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ، أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى، وَفِيهَا وَضَعَ الْأَلْوَاحَ. وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ، فِيمَا بَلَغَنَا، مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدَ. وَقَالَ آخَرُونَ: “السَّكِينَةُ“، رُوحٌ مِنَ اللَّهِ تَتَكَلَّمُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْنَا وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فَقُلْنَا لَهُ: السَّكِينَةُ؟ قَالَ: رَوْحٌ مِنَ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَسْكَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “السَّكِينَةُ“، مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الآيَاتِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍٍ عَنْ قَوْلِهِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، الْآيَةَ، قَالَ: أَمَّا السَّكِينَةُ فَمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الآيَاتِ، يَسْكُنُونَ إِلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: “السَّكِينَةُ“، الرَّحْمَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، أَيْ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: “السَّكِينَةُ“، هِيَ الْوَقَارُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، أَيْ وَقَارٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ فِي مَعْنَى “ السَّكِينَةِ“، مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مِنَ الشَّيْءِ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الآيَاتِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا. وَذَلِكَ أَنَّ “ السَّكِينَةَ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ “ الْفَعِيلَةُ“، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “سَكَنَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا وَكَذَا “ إِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَهَدَأَتْ عِنْدَهُ نَفْسُهُ “ فَهُوَ يَسْكُنُ سُكُونًا وَسَكِينَةً“، مِثْلَ قَوْلِكَ: “عَزَمَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ عَزْمًا وَعَزِيمَةً“، و “ قَضَى الْحَاكِمُ بَيْنَ الْقَوْمِ قَضَاءً وَقَضِيَّةً“، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِلَّـهِ قَـبرٌ غَالَهَـا! مَـاذَا يُجِـنُّ *** لَقَـدْ أَجَـنَّ سَـكِينَةً وَوَقَـارَا وَإِذَا كَانَ مَعْنَى “ السَّكِينَةِ “ مَا وَصَفْتُ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ آيَاتٌ كَافِيَاتٌ تَسْكُنُ إِلَيْهِنَّ النُّفُوسُ، وَتُثْلَجُ بِهِنَّ الصُّدُورُ. وَإِذَا كَانَ مَعْنَى “ السَّكِينَةِ “ مَا وَصَفْنَا، فَقَدِ اتَّضَحَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ، الَّتِي كَانَتِ النُّفُوسُ تَسْكُنُ إِلَيْهَا لِمَعْرِفَتِهَا بِصِحَّةِ أَمْرِهَا، إِنَّمَا هِيَ مُسَمَّاةٌ بِالْفِعْلِ وَهِيَ غَيْرُهُ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “وَبَقِيَّةٌ“، الشَّيْءَ الْبَاقِيَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “قَدْ بَقِيَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ بَقِيَّةٌ“، وَهِيَ “ فِعْلِيَّةٌ “ مِنْهُ، نَظِيرَ “ السَّكِينَةِ “ مِنْ “ سَكَنَ“. وَقَوْلُهُ: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، يَعْنِي بِهِ: مِنْ تَرِكَةِ آلِ مُوسَى، وَآلِ هَارُونَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ الْبَقِيَّةِ “ الَّتِي كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ تَرِكَتِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ تِلْكَ “ الْبَقِيَّةُ “ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ دَاوُدُ: وَأَحْسَبُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: فَكَانَ فِي التَّابُوتِ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: الْبَقِيَّةُ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، أَمَّا الْبَقِيَّةُ، فَإِنَّهَا عَصَا مُوسَى وَرُضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، عَصَا مُوسَى وَأُثُورٌ مِنَ التَّوْرَاةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: التَّوْرَاةُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَالْعَصَا قَالَ إِسْحَاقُ، قَالَ وَكِيعٌ: وَرُضَاضُهُ كَسْرُهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تِلْكَ “ الْبَقِيَّةُ “ عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُونَ، وَشَيْءٌ مِنَ الأَلْوَاحِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: كَانَ فِيهِ عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُونَ، وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَالْمَنِّ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: عَصَا مُوسَى، وَعَصَا هَارُونَ، وَثِيَابُ مُوسَى، وَثِيَابُ هَارُونَ، وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: سَأَلْتُ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْبَقِيَّةُ قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْعَصَا وَحْدَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْنَا لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: مَا كَانَ فِيهِ؟ يَعْنِي فِي التَّابُوتِ قَالَ: كَانَ فِيهِ عَصَا مُوسَى وَالسَّكِينَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ، رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَمَا تَكَسَّرَ مِنْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، قَالَ: كَانَ مُوسَى حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ وَرُفِعَ مِنْهَا، فَجُعِلَ الْبَاقِي فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، [قَالَ] الْعِلْمُ وَالتَّوْرَاةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، يَعْنِي بِـ “ الْبَقِيَّةِ“، الْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ قَاتَلُوا مَعَ طَالُوتَ، وَبِذَلِكَ أُمِرُوا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنِ التَّابُوتِ الَّذِي جَعَلَهُ آيَةً لِصِدْقِ قَوْلِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الَّذِي قَالَ لِأُمَّتِهِ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} أَنَّ فِيهِ سَكِينَةً مِنْهُ، وَبَقِيَّةً مِمَّا تَرَكَهُ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ الْبَقِيَّةُ: الْعَصَا، وَكَسْرَ الْأَلْوَاحِ، وَالتَّوْرَاةَ، أَوْ بَعْضَهَا، وَالنَّعْلَيْنِ، وَالثِّيَابَ، وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَلَا اللُّغَةِ، وَلَا يُدْرَكُ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَبَرٍ يُوجَبُ عَنْهُ الْعِلْمُ. وَلَا خَبَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ لِلصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا. وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ تَصْوِيبُ قَوْلٍ وَتَضْعِيفُ آخَرَ غَيْرِهِ، إِذْ كَانَ جَائِزًا فِيهِ مَا قُلْنَا مِنَ القَوْلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ حَمْلِ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ التَّابُوتَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى تَضَعَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ يَعْنِي النَّبِيَّ، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: “وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكََهُ مَنْ يَشَاءُ“. قَالُوا: فَمَنْ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ آتَاهُ هَذَا! مَا هُوَ إِلَّا لِهَوَاكَ فِيهِ! قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ كَذَّبْتُمُونِي وَاتَّهَمْتُمُونِي، فَإِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ: “أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ“، الْآيَةَ. قَالَ: فَنَـزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ نَهَارًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ عَيَانًا، حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَأَقَرُّوا غَيْرَ رَاضِينَ، وَخَرَجُوا سَاخِطِينَ، وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}، قَالُوا: فَإِنَّ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِآيَةٍ أَنَّ هَذَا مَلِكٌ! قَالَ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}. وَأَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ طَالُوتَ، فَآمِنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ، وَسَلِّمُوا مُلْكَ طَالُوتَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}، قَالَ: تَحْمِلُهُ حَتَّى تَضَعَهُ فِي بَيْتِ طَالُوتَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَسُوقُ الْمَلَائِكَةُ الدَّوَابَّ الَّتِي تَحْمِلُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ قَالَ: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى عَجَلَةٍ عَلَى بَقَرَةٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: وُكِّلَ بِالْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَارَتَا بِالتَّابُوتِ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، فَسَارَتِ الْبَقَرَتَانِ بِهِمَا سَيْرًا سَرِيعًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتَا طَرَفَ الْقُدْسِ ذَهَبَتَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: “حَمَلَتِ التَّابُوتَ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ لَهَا فِي دَارِ طَالُوتَ قَائِمًا بَيْنَ أَظْهُرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ“. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ: “تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ“، وَلَمْ يَقُلْ: تَأْتِي بِهِ الْمَلَائِكَةُ. وَمَا جَرَّتْهُ الْبَقَرُ عَلَى عَجَلٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ هِيَ سَائِقَتُهَا، فَهِيَ غَيْرُ حَامِلَتِهِ. لِأَنَّ “ الْحَمْلَ “ الْمَعْرُوفَ، هُوَ مُبَاشَرَةُ الْحَامِلِ بِنَفْسِهِ حَمْلَ مَا حَمَلَ، فَأَمَّا مَا حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ “ حَمَلَهُ “ بِمَعْنَى مَعُونَتِهِ الْحَامِلَ، وَبِأَنَّ حَمْلَهُ كَانَ عَنْ سَبَبِهِ فَلَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ مَا بَاشَرَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ، فِي تَعَارُفِ النَّاسِ إِيَّاهُ بَيْنَهُمْ. وَتَوْجِيهُ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلَى الْأَشْهَرِ مِنَ اللُّغَاتِ، أُولَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْأَنْكَرِ، مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [248] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: أَنَّ نَبِيَّهُ أَشَمْوِيلَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ فِي مَجِيئِكُمُ التَّابُوتِ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ حَامِلَتُهُ الْمَلَائِكَةُ “ لَآيَةٌ لَكُمْ“، يَعْنِي: لَعَلَامَةٌ لَكُمْ وَدَلَالَةٌ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، إِنْ كُنْتُمْ قَدْ كَذَّبْتُمُونِي فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ تَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَيْكُمْ، وَاتَّهَمْتُمُونِي فِي خَبَرِي إِيَّاكُمْ بِذَلِكَ “ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ“، يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَةِ الَّتِي سَأَلْتُمُونِيهَا عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ وَمُلْكِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا كَفَرُوا بِاللَّهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}، بِقَوْلِهِمْ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}، وَفِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ الْآيَةَ عَلَى صِدْقِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كُفْرًا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ: لَكُمْ فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ آيَةٌ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلَا بِرَسُولِهِ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الْآيَةَ عَلَى صِدْقِ خَبَرِهِ إِيَّاهُمْ لِيُقِرُّوا بِصِدْقِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ- عَلَى مَا وَصَفَهُ لَهُمْ- آيَةٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عِنْدَ مَجِيئِهِ كَذَلِكَ مُصَدِّقِيَّ بِمَا قُلْتُ لَكُمْ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مَتْرُوكٌ قَدْ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ عَنْ ذِكْرِهِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فَأَتَاهُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَصَدَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ نَبِيَّهُمْ وَأَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِذَلِكَ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}. وَمَا كَانَ لِيَفْصِلَ بِهِمْ إِلَّا بَعْدَ رِضَاهُمْ بِهِ وَتَسْلِيمِهِمُ الْمُلْكَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَرْهًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “فَصَلَ “ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: شَخَصَ بِالْجُنْدِ وَرَحَلَ بِهِمْ. وَأَصْلُ “ الْفَصْلِ “ الْقَطْعُ، يُقَالُ، مِنْهُ: “فَصَلَ الرَّجُلُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا“، يَعْنِي بِهِ قَطَعَ ذَلِكَ، فَجَاوَزَهُ شَاخِصًا إِلَى غَيْرِهِ، “ يَفْصِلُ فُصُولًا“، وَ“ فَصَلَ الْعَظْمَ وَالْقَوْلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَفْصِلُهُ فَصْلًا“، إِذَا قَطَعَهُ فَأَبَانَهُ، وَ“ فَصَلَ الصَّبِيَّ فِصَالًا“، إِذَا قَطَعَهُ عَنِ اللَّبَنِ. وَ“ قَوْلٌ فَصْلٌ“، يَقْطَعُ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لَا يُرَدُّ. وَقِيلَ: إِنَّ طَالُوتَ فَصَلَ بِالْجُنُودِ يَوْمئِذٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنِ الْفُصُولِ مَعَهُ إِلَّا ذُو عِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ، أَوْ كَبِيرٌ لِهَرَمِهِ، أَوْ مَعْذُورٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِالنُّهُوضِ مَعَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: خَرَجَ بِهِمْ طَالُوتُ حِينَ اسْتَوْثَقُوا لَهُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا كَبِيرٌ ذُو عِلَّةٍ، أَوْ ضَرِيرٌ مَعْذُورٌ، أَوْ رَجُلٌ فِي ضَيْعَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَخَلُّفٍ فِيهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمُ التَّابُوتُ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ، وَسَلَّمُوا مُلْكَ طَالُوتَ، فَخَرَجُوا مَعَهُ وَهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا فَصَلَ بِهِمْ طَالُوتُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ مُخْتَبِرُكُمْ بِنَهْرٍ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ طَاعَتُكُمْ لَهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى “ الِابْتِلَاءِ“، الِاخْتِبَارُ، فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِمَا يَشَاءُ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ طَالُوتَ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، لِأَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَى طَالُوتَ قِلَّةَ الْمِيَاهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ يُجْرِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ نَهْرًا، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ حِينَئِذٍ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: لِمَا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالُوا: إِنَّ الْمِيَاهَ لَا تَحْمِلُنَا، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا يُجْرِي لَنَا نَهْرًا! فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الْآيَةَ. “ وَالنَّهْرُ “ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ طَالُوتُ أَنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيهِمْ بِهِ، قِيلَ: هُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، قَالَ الرَّبِيعُ: ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ غَازِيًا إِلَى جَالُوتَ، قَالَ طَالُوتُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، قَالَ: نَهْرٌ بَيْنَ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنِّ، نَهْرٌ عَذْبُ الْمَاءِ طِيِّبُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ نَهْرُ فِلَسْطِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، فَالنَّهْرُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، نَهْرُ فِلَسْطِينَ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، هُوَ نَهْرُ فِلَسْطِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ طَالُوتَ بِمَا قَالَ لِجُنُودِهِ، إِذْ شَكَوَا إِلَيْهِ الْعَطَشَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيهِمْ بِنَهْرٍ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الِابْتِلَاءَ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، هُوَ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ مَائِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وَلَايَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا مِنَ المُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِلِقَائِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، فَأَخْرَجَ مَنْ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ أَخْلَصَ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ عِنْدَ دُنُوِّهِمْ مِنْ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ بِقَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يَعْنِي: مَنْ لَمْ يَطْعَمِ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ. “ وَالْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ: “فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ“، وَفِي قَوْلِهِ: “وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ“، عَائِدَةٌ عَلَى “ النَّهْرِ“، وَالْمَعْنَى لِمَائِهِ. وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ “ الْمَاءِ “ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِذِكْرِ النَّهْرِ لِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “لَمْ يَطْعَمْهُ“، لَمْ يَذُقْهُ، يَعْنِي: وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مَاءَ ذَلِكَ النَّهْرِ فَهُوَ مِنِّي يَقُولُ: هُوَ مِنْ أَهْلِ وَلَايَتِي وَطَاعَتِي، وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِلِقَائِهِ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ “ مَنْ “ فِي قَوْلِهِ: “وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ“، الْمُغْتَرِفِينَ بِأَيْدِيهِمْ غُرْفَةً، فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْ مَاءَ ذَلِكَ النَّهْرِ، إِلَّا غُرْفَةً يَغْتَرِفُهَا بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ مِنِّي. ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: “إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ“. فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (غَرْفَةً)، بِنَصْبِ “ الْغَيْنِ “ مِنَ “ الْغَرْفَةِ “ بِمَعْنَى الْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ، مِنْ قَوْلِكَ، “ اغْتَرَفْتُ غَرْفَةً“، وَ“ الْغَرْفَةُ“، وَ“ الْغُرْفَةُ “ هِيَ الْفِعْلُ بِعَيْنِهِ مِنَ “ الِاغْتِرَافِ“. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ بِالضَّمِّ، بِمَعْنَى الْمَاءِ الَّذِي يَصِيرُ فِي كَفِّ الْمُغْتَرِفِ. فَـ “ الْغُرْفَةُ “ الِاسْمُ“، وَ“ الْغَرْفَةُ “ الْمَصْدَرُ. وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ إِلَيَّ، ضَمُّ “ الْغَيْنِ “ فِي “ الْغُرْفَةِ“، بِمَعْنَى: إِلَّا مَنْ اغْتَرَفَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ لِاخْتِلَافِ “ غَرْفَةٍ “ إِذَا فُتِحَتْ غَيْنُهَا، وَمَا هِيَ لَهُ مَصْدَرٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَصْدَرَ “ اغْتَرَفَ“، “ اغَتِرَافَةً“، وَإِنَّمَا “ غَرْفَةٌ “ مَصْدَرُ: “غَرَفْتُ“. فَلَمَّا كَانَتْ “ غَرْفَةً “ مُخَالِفَةً مَصْدَرَ “ اغْتَرَفَ“، كَانَتْ “ الْغُرْفَةُ “ الَّتِي بِمَعْنَى الِاسْمِ عَلَى مَا قَدْ وَصَفْنَا، أَشْبَهَ مِنْهَا بِـ “ الْغُرْفَةِ “ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَامَّتَهُمْ شَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَكَانَ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ عَطَشَ، وَمَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً رُوِيَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، فَشَرِبَ الْقَوْمُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِمْ. أَمَّا الْكُفَّارُ فَجَعَلُوا يَشْرَبُونَ فَلَا يَرْوُونَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَغْتَرِفُ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَتَجْزِيهِ وَتَرْوِيهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، قَالَ: كَانَ الْكُفَّارُ يَشْرَبُونَ فَلَا يَرْوُونَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْتَرِفُونَ غُرْفَةً فَيَجْزِيهِمْ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْقَوْمُ كَثِيرًا، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. كَانَ أَحَدُهُمْ يَغْتَرِفُ الْغُرْفَةَ فَيَجْزِيهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: قَالَ لَمَّا أَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ طَالُوتَ، آمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ، وَسَلَّمُوا مُلْكَ طَالُوتَ، فَخَرَجُوا مَعَهُ وَهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا، فَخَرَجَ يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيِ الْجُنْدِ، وَلَا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ حَتَّى يَهْزِمَ هُوَ مَنْ لَقِيَ. فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، فَشَرِبُوا مِنْهُ هَيْبَةً مِنْ جَالُوتَ، فَعَبَرَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَرَجَعَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، فَمِنْ شَرِبَ مِنْهُ عَطَشَ، وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ إِلَّا غُرْفَةً رُوِيَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ طَالُوتَ حِينَ فَصَلَ بِالْجُنُودِ، فَقَالَ: لَا يَصْحَبُنِي أَحَدٌ إِلَّا أَحَدٌ لَهُ نِيَّةٌ فِي الْجِهَادِ. فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مُؤْمِنٌ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ مُنَافِقٌ، .. رَجَعُوا كُفَّارًا، لِكَذِبِهِمْ فِي قِيلِهِمْ إِذْ قَالُوا: “لَنْ نَمَسَّ هَذَا الْمَاءَ غُرْفَةً وَلَا غَيْرَ “ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: “إِنْ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ“، الْآيَةَ، فَقَالُوا: لَنْ نَمَسَّ مِنْ هَذَا، غُرْفَةً وَلَا غَيْرَ غُرْفَةٍ قَالَ: وَأَخَذَ الْبَقِيَّةُ الْغُرْفَةَ فَشَرِبُوا مِنْهَا حَتَّى كَفَتْهُمْ، وَفَضَلَ مِنْهُمْ. قَالَ: وَالَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْغُرْفَةَ أَقْوَى مِنَ الذِينَ أَخَذُوهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، فَشَرِبَ كُلُّ إِنْسَانٍ كَقَدْرِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ. فَمَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً وَأَطَاعَهُ، رُوِيَ لِطَاعَتِهِ. وَمَنْ شَرِبَ فَأَكْثَرَ، عَصَى فَلَمْ يُرْوَ لِمَعْصِيَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، وَكَانَ-فِيمَا يَزْعُمُونَ- مَنْ تَتَابَعَ مِنْهُمْ فِي الشُّرْبِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ لَمْ يَرَوْهُ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ إِلَّا كَمَا أُمِرَ: غُرْفَةٌ بِيَدِهِ، أَجَزَاهُ وَكَفَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ“، فَلَمَّا جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ. “ وَالْهَاءُ “ فِي “ جَاوَزَهُ “ عَائِدَةٌ عَلَى “ النَّهْرِ“، وَ“ هُوَ “ كِنَايَةُ اسْمِ طَالُوتَ وَقَوْلُهُ: “وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ“، يَعْنِي: وَجَاوَزَ النَّهْرَ مَعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ مَنْ جَاوَزَ النَّهْرَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: “لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ عِدَّتُهُمْ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ: ثَلَاثُمِئَةِ رَجُلٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهْرَ مَعَهُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ: ثَلَاثَمِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ كَعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ، ثَلَاثَمِئَةٍ رَجُلٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهْرَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ مَنْ جَازَ مَعَهُ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ جَاوَزُوا النَّهْرَ، وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ إِلَّا مُسْلِمٌ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَعَّرُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: (أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِي). وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَثَامِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: مَحَّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ النَّهْرِ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِئَةٍ، وَفَوْقَ الْعَشْرَةِ وَدُونَ الْعِشْرِينَ، فَجَاءَ دَاوُدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكْمَلَ بِهِ الْعِدَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ جَاوَزَ مَعَهُ النَّهْرَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَإِنَّمَا خَلُصَ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، حِينَ لَقُوا جَالُوتَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَبَرَ مَعَ طَالُوتَ النَّهْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَنَظَرُوا إِلَى جَالُوتَ، رَجَعُوا أَيْضًا وَقَالُوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}. فَرَجَعَ عَنْهُ أَيْضًا ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِئَةٍ وَبِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَخَلُصَ فِي ثَلَاثَمِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قَالَ الَّذِينَ شَرِبُوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ ; وَهُوَ أَنَّهُ جَاوَزَ النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ مِنَ النَّهْرِ إِلَّا الْغُرْفَةَ، وَالْكَافِرُ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ الْكَثِيرُ. ثُمَّ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ جَالُوتَ وَلِقَائِهِ، وَانْخَزَلَ عَنْهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وَمَضَى أَهْلُ الْبَصِيرَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى بَصَائِرِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَقَالُوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَفْلَةٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَاوَزَ النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنَ النَّهْرِ إِلَّا الْغُرْفَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ، عَلَى مَا رُوِيَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ لَوْ كَانُوا جَاوَزُوا النَّهْرَ كَمَا جَاوَزَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ، لَمَا خَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ الْفَرِيقَانِ- أَعْنِي فَرِيقَ الْإِيمَانِ وَفَرِيقَ الْكُفْرِ جَاوَزُوا النَّهْرَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاوَزَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الذِينَ جَاوَزُوهُ مَعَ مَلِكِهِمْ وَتَرَكَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ جَاوَزُوا النَّهْرَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ “ {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}، هُمُ الَّذِينَ قَالُوا عِنْدَ مُجَاوَزَةِ النَّهْرِ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، دُونَ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَّاقُو اللَّهِ- وَأَنَّ “ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَّاقُو اللَّهِ“، هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: “لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ“. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُضَافَ الْإِيمَانُ إِلَى مَنْ جَحَدَ أَنَّهُ مُلَاقِي اللَّهَ، أَوْ شَكَّ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [249] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَمْرِ هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي الْقَائِلِينَ: “لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ“، وَالْقَائِلِينَ: “كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ“، مَنْ هُمَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَرِيقُ الَّذِينَ قَالُوا: “لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ“، هُمْ أَهْلُ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَنِفَاقٍ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ شَهِدَ قِتَالَ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، لِأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا عَنْ طَالُوتَ وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ لِقِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ جَالُوتَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ اللَّهِ لِشُرْبِهِمْ مِنَ النَّهْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ آنِفًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}، الَّذِينَ اغْتَرَفُوا وَأَطَاعُوا، الَّذِينَ مَضَوْا مَعَ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُونَ، وَجَلَسَ الَّذِينَ شَكُّوا. وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ أَهْلَ إِيمَانٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَرِبَ مِنَ المَاءِ إِلَّا غُرْفَةً، بَلْ كَانُوا جَمِيعًا أَهْلَ طَاعَةٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ أَصَحَّ يَقِينًا مِنْ بَعْضٍ. وَهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}. وَالْآخَرُونَ كَانُوا أَضْعَفَ يَقِينًا. وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وَيَكُونُ [وَاللَّهِ] الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ جَدًّا وَعَزْمًا مِنْ بَعْضٍ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ: ثَلَاثَمِئَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْغُرْفَةَ أَقْوَى مِنَ الذِينَ أَخَذُوا، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. وَيَجِبُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ إِلَّا عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ- أَنْ يَكُونَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَهُمَا اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمَا بِهِ، أَمْرُهُمَا عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ فِيهِمَا قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ آنِفًا. وَأَمَّاتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: قَالَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَيَسْتَيْقِنُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ “ {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}، الَّذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قَالَ الَّذِينَ يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ وَيُصَدِّقُونَ بِالْمَرْجِعِ إِلَى اللَّهِ، لِلَّذِينِ قَالُوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} “ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ“، يَعْنِي بِـ “ كَمْ“، كَثِيرًا، غَلَبَتْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ “ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ“، يَعْنِي: بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ “ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ“، يَقُولُ: مَعَ الْحَابِسِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى رِضَاهُ وَطَاعَتِهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ وُجُوهِ “ الظَّنِّ“، وَأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيهِ: الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ، بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ. وَأَمَّا “ الْفِئَةُ“، فَإِنَّهُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ مِثْلُ “ الرَّهْطِ “ وَ“ النَّفَرِ“، يُجْمَعُ “ فِئَاتٍ“، وَ“ فِئُونَ “ فِي الرَّفْعِ، وَ“ فِئِينَ “ فِي النَّصْبِ وَالْخَفْضِ، بِفَتْحِ نُونِهَا فِي كُلِّ حَالٍ. وَ“ فِئِينَ “ بِالرَّفْعِ بِإِعْرَابِ نُونِهَا بِالرَّفْعِ وَتَرْكِ الْيَاءِ فِيهَا، وَفِي النَّصْبِ “ فِئِينًا“، وَفِي الْخَفْضِ “ فِئِينٍ“، فَيَكُونُ الْإِعْرَابُ فِي الْخَفْضِ وَالنَّصْبِ فِي نُونِهَا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ مُقَرَّةٌ فِيهَا “ الْيَاءُ “ عَلَى حَالِهَا. فَإِنْ أُضِيفَتْ قِيلَ: “هَؤُلَاءِ فِئِينُكَ“، بِإِقْرَارِ النُّونِ وَحَذْفِ التَّنْوِينِ، كَمَا قَالَ الَّذِينَ لُغَتُهُمْ: “هَذِهِ سِنِينَ“، فِي جَمْعِ “ السَّنَةِ“: “هَذِهِ سِنِينُكَ“، بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَإِعْرَابِهَا وَحَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْهَا لِلْإِضَافَةِ. وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي كُلِّ مَنْقُوصٍ مِثْلَ “ مِئَةٍ “ وَ“ ثُبَةٍ “ وَ“ قُلَةٍ “ و “ عِزَةٍ“: فَأَمَّا مَا كَانَ نَقْصُهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَإِنَّ جَمْعَهُ بِالتَّاءِ، مِثْلَ “ عِدَةٍ وَعِدَاتٍ“، وَ“ صِلَةٍ وَصِلَاتٍ“. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَاللَّهُ مُعِينُ الصَّابِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَظُهُورِهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، الْمُخَالِفِينَ مِنْهَاجَ دِينِهِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِكُلِّ مُعِينٍ رَجُلًا عَلَى غَيْرِهِ: “هُوَ مَعَهُ“، بِمَعْنَى هُوَ مَعَهُ بِالْعَوْنِ لَهُ وَالنُّصْرَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [250] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وَلِمَا بَرَزَ طَالُوتُ وَجُنُودُهُ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “بَرَزُوا “ صَارُوا بِالْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَاسْتَوَى. وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْقَاضِي حَاجَتَهُ: “تَبَرَّزَ“، لِأَنَّ النَّاسَ قَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا كَانُوا يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْبَرَازِ مِنَ الأَرْضِ. وَذَلِكَ كَمَا قِيلَ: “تَغَوَّطَ“، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي “ الْغَائِطِ “ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْهَا، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ: “تَغَوَّطَ “ أَيْ صَارَ إِلَى الْغَائِطِ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا“، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ طَالُوتَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، يَعْنِي أَنْـزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا. وَقَوْلُهُ: “وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا“، يَعْنِي: وَقَوِّ قُلُوبَنَا عَلَى جِهَادِهِمْ، لِتَثْبُتَ أَقْدَامُنَا فَلَا نُهْزَمُ عَنْهُمْ “ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ“، الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ فَجَحَدُوكَ إِلَهًا وَعَبَدُوا غَيْرَكَ، وَاتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ أَرْبَابًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “فَهَزَمُوهُمْ“، فَهَزَمَ طَالُوتُ وَجُنُودُهُ أَصْحَابَ جَالُوتَ، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، فَأَفْرَغَ عَلَيْهِمْ صَبْرَهُ وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ “ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ “ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: “فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ“، عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَابَ دُعَاءَهُمُ الَّذِي دَعَوْهُ بِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ“، فَلُّوهُمْ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. يُقَالُ مِنْهُ: “هَزَمَ الْقَوْمَ الْجَيْشُ هَزِيمَةً وَهِزِّيمَى“. “ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ“. وَدَاوُدُ هَذَا هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَى، نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ إِيَّاهُ، كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يُحَدِّثُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ أَوْ قَالَ: لَمَّا بَرَزَ طَالُوتُ لِجَالُوتَ، قَالَ جَالُوتُ: أَبْرِزُوا إِلَيَّ مَنْ يُقَاتِلُنِي، فَإِنْ قَتَلَنِي فَلَكُمْ مُلْكِي، وَإِنْ قَتَلْتُهُ فَلِيَ مُلْكُكُمْ! فَأُتِيَ بِدَاوُدَ إِلَى طَالُوتَ، فَقَاضَاهُ إِنْ قَتَلَهُ أَنْ يُنْكِحَهُ ابْنَتَهُ، وَأَنْ يُحَكِّمَهُ فِي مَالِهِ. فَأَلْبَسُهُ طَالُوتُ سِلَاحًا، فَكَرِهَ دَاوُدُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِسِلَاحٍ، وَقَالَ: إِنِ اللَّهُ لَمْ يَنْصُرْنِي عَلَيْهِ، لَمْ يُغْنِ السِّلَاحُ! فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِالْمِقْلَاعِ، وَبِمِخْلَاةٍ فِيهَا أَحْجَارٌ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ. قَالَ لَهُ جَالُوتُ: أَنْتَ تُقَاتِلُنِي!! قَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ! قَالَ: وَيْلَكَ! مَا خَرَجْتَ إِلَّا كَمَا تَخْرُجُ إِلَى الْكَلْبِ بِالْمِقْلَاعِ وَالْحِجَارَةِ! لَأُبَدِّدَنَّ لَحْمَكَ، وَلَأُطْعِمَنَّهُ الْيَوْمَ الطَّيْرَ وَالسِّبَاعَ! فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: بَلْ أَنْتَ عَدُوَّ اللَّهِ شَرٌّ مِنَ الكَلْبِ! فَأَخَذَ دَاوُدُ حَجَرًا وَرَمَاهُ بِالْمِقْلَاعِ، فَأَصَابَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حَتَّى نَفَذَ فِي دِمَاغِهِ، فَصُرِعَ جَالُوتُ وَانْهَزَمَ مَنْ مَعَهُ، وَاحْتَزَّ دَاوُدُ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى طَالُوتَ، ادَّعَى النَّاسُ قَتْلَ جَالُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالسَّيْفِ، وَبِالشَّيْءِ مِنْ سِلَاحِهِ أَوْ جَسَدِهِ، وَخَبَّأَ دَاوُدُ رَأْسَهُ. فَقَالَ طَالُوتُ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسِهِ فَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ! فَجَاءَ بِهِ دَاوُدُ، ثُمَّ قَالَ لِطَالُوتَ: أَعْطِنِي مَا وَعَدْتَنِي! فَنَدِمَ طَالُوتُ عَلَى مَا كَانَ شَرَطَ لَهُ، وَقَالَ: إِنَّ بَنَاتِ الْمُلُوكِ لَا بُدَّ لَهُنَّ مِنْ صَدَاقٍ وَأَنْتَ رَجُلٌ جَرِيءٌ شُجَاعٌ، فَاحْتَمِلْ صَدَاقَهَا ثَلَاثَمِئَةِ غُلْفَةً مِنْ أَعْدَائِنَا. وَكَانَ يَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ يُقْتَلَ دَاوُدُ. فَغَزَا دَاوُدُ وَأَسَرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِئَةٍ وَقَطَعَ غُلَفَهُمْ، وَجَاءَ بِهَا. فَلَمْ يَجِدْ طَالُوتُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُزَوِّجَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ النَّدَامَةُ. فَأَرَادَ قَتْلَ دَاوُدَ حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ إِلَى الْجَبَلِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ طَالُوتُ فَحَاصَرَهُ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ سُلِّطَ النَّوْمُ عَلَى طَالُوتَ وَحَرَسِهِ، فَهَبَطَ إِلَيْهِمْ دَاوُدُ فَأَخْذَ إِبْرِيقَ طَالُوتَ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ وَيَتَوَضَّأُ، وَقَطَعَ شَعَرَاتٍ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَيْئًا مِنْ هُدَبِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ رَجَعَ دَاوُدُ إِلَى مَكَانِهِ فَنَادَاهُ: أَنْ [قَدْ نِمْتَ وَنَامَ] حَرَسُكَ، فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَقْتُلُكَ الْبَارِحَةَ فَعَلْتُ، فَإِنَّهُ هَذَا إِبْرِيقُكَ، وَشَيْءٌ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِكَ وَهُدَبِ ثِيَابِكَ! وَبَعَثَ [بِهِ] إِلَيْهِ، فَعَلِمَ طَالُوتُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ قَتَلَهُ، فَعَطَفَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَمَّنَهُ، وَعَاهَدَهُ بِاللَّهِ لَا يَرَى مِنْهُ بَأْسًا. ثُمَّ انْصَرَفَ. ثُمَّ كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِ طَالُوتَ أَنَّهُ كَانَ يَدُسُّ لِقَتْلِهِ. وَكَانَ طَالُوتُ لَا يُقَاتِلُ عَدُوًّا إِلَّا هُزِمَ، حَتَّى مَاتَ قَالَ بَكَّارٌ: وَسُئِلَ وَهْبٌ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَنَبِيًّا كَانَ طَالُوتُ يُوحَى إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَأْتِهِ وَحْيٌ، وَلَكِنْ كَانَ مَعَهُ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ أَشَمْوِيلَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَ طَالُوتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ النَّبِيُّ وَإِخْوَةٌ لَهُ أَرْبَعَةٌ، مَعَهُمْ أَبُوهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَتَخَلَّفَ أَبُوهُمْ، وَتَخَلَّفَ مَعَهُ دَاوُدُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ فِي غَنَمِ أَبِيهِ يَرْعَاهَا لَهُ، وَكَانَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ. وَخَرَجَ إِخْوَتُهُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ طَالُوتَ، فَدَعَاهُ أَبُوهُ وَقَدْ تَقَارَبَ النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ دَاوُدُ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: رَجُلًا قَصِيرًا أَزْرَقَ، قَلِيلَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَكَانَ طَاهِرَ الْقَلْبِ نَقِيَّهُ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّا قَدْ صَنَعْنَا لِإِخْوَتِكَ زَادًا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَاخْرُجْ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِمْ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ سَرِيعًا! فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَخَرَجَ وَأَخَذَ مَعَهُ مَا حَمَلَ لِإِخْوَتِهِ، وَمَعَهُ مِخْلَاتُهُ الَّتِي يَحْمِلُ فِيهَا الْحِجَارَةَ، وَمِقْلَاعُهُ الَّذِي كَانَ يَرْمِي بِهِ عَنْ غَنَمِهِ. حَتَّى إِذَا فَصَلَ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ، فَمَرَّ بِحَجَرٍ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ ! خُذْنِي فَاجْعَلْنِي فِي مِخْلَاتِكَ تَقْتُلُ بِي جَالُوتَ، فَإِنِّي حَجْرُ يَعْقُوبَ! فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، وَمَشَى. فَبَيْنَا هُوَ يَمْشِي إِذْ مَرَّ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ ! خُذْنِي فَاجْعَلْنِي فِي مِخْلَاتِكَ تَقْتُلُ بِي جَالُوتَ، فَإِنِّي حَجْرُ إِسْحَاقَ! فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، ثُمَّ مَضَى. فَبَيْنَا هُوَ يَمْشِي إِذْ مَرَّ بِحَجَرٍ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ ! خُذْنِي فَاجْعَلْنِي فِي مِخْلَاتِكَ تَقْتُلُ بِي جَالُوتَ، فَإِنِّي حَجْرُ إِبْرَاهِيمَ! فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ. ثُمَّ مَضَى بِمَا مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَوْمِ، فَأَعْطَى إِخْوَتَهُ مَا بُعِثَ إِلَيْهِمْ مَعَهُ. وَسَمِعَ فِي الْعَسْكَرِ خَوْضَ النَّاسِ بِذِكْرِ جَالُوتَ وَعِظَمِ شَأْنِهِ فِيهِمْ، وَبِهَيْبَةِ النَّاسِ إِيَّاهُ، وَبِمَا يُعَظِّمُونَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُعَظِّمُونَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْعَدُوِّ شَيْئًا مَا أَدْرِي مَا هُوَ!! وَاللَّهِ إِنِّي لَوْ أَرَاهُ لَقَتَلْتُهُ! فَأَدْخِلُونِي عَلَى الْمَلِكِ. فَأُدْخِلَ عَلَى الْمَلِكِ طَالُوتَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي أَرَاكُمْ تُعَظِّمُونَ شَأْنَ هَذَا الْعَدُوِّ! وَاللَّهِ إِنِّي لَوْ أَرَاهُ لِقَتَلْتُهُ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! مَا عِنْدَكَ مِنَ القُوَّةِ عَلَى ذَلِكَ؟ وَمَا جَرَّبْتَ مِنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْأَسَدُ يَعْدُو عَلَى الشَّاةِ مِنْ غَنَمِي فَأُدْرِكُهُ، فَآخُذُ بِرَأْسِهِ، فَأَفُكُّ لِحْيَيْهِ عَنْهَا، فَآخُذُهَا مِنْ فِيهِ، فَادْعُ لِي بِدِرْعٍ حَتَّى أُلْقِيَهَا عَلَيَّ. فَأُتِيَ بِدِرْعٍ فَقَذَفَهَا فِي عُنُقِهِ، وَمَثَّلَ فِيهَا مَلْءَ عَيْنِ طَالُوتَ وَنَفْسِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ طَالُوتُ: وَاللَّهِ، لَعَسَى اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَهُ بِهِ! فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَجَعُوا إِلَى جَالُوتَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ دَاوُدُ: أَرُونِي جَالُوتَ! فَأَرَوْهُ إِيَّاهُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، فَلَمَّا رَآهُ جَعَلَتِ الْأَحْجَارُ الثَّلَاثَةَ تَوَاثَبُ مِنْ مِخْلَاتِهِ، فَيَقُولُ هَذَا: خُذْنِي! وَيَقُولُ هَذَا: خُذْنِي! وَيَقُولُ هَذَا: خُذْنِي! فَأَخَذَ أَحَدَهَا فَجَعَلَهُ فِي مِقْذَافِهِ، ثُمَّ فَتَلَهُ بِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَصَكَّ بِهِ بَيْنَ عَيْنَيْ جَالُوتَ فَدَمَغَهُ، وَتَنَكَّسَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَقَتَلَهُ. ثُمَّ انْهَزَمَ جُنْدُهُ، وَقَالَ النَّاسُ: قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ! وَخُلِعَ طَالُوتُ وَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى دَاوُدَ مَكَانَهُ، حَتَّى لَمْ يُسْمَعْ لِطَالُوتَ بِذِكْرٍ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى انْصِرَافَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْهُ إِلَى دَاوُدَ، هَمَّ بِأَنْ يَغْتَالَ دَاوُدَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ دَاوُدَ، وَعَرَفَ خَطِيئَتَهُ، وَالْتَمَسَ التَّوْبَةَ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ. وَقَدّ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي أَمْرِ طَالُوتَ وَدَاوُدَ قَوْلٌ خِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَهُوَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ قَالَ: لَمَّا سَلَّمَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمُلْكَ لِطَالُوتَ، أُوحِيَ إِلَى نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ قُلْ لِطَالُوتَ فَلْيَغْزُ أَهْلَ مَدْيَنَ، فَلَا يَتْرُكْ فِيهَا حَيًّا إِلَّا قَتَلَهُ، فَإِنِّي سَأُظْهِرُهُ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ بِالنَّاسِ حَتَّى أَتَى مَدْيَنَ، فَقَتَلَ مَنْ كَانَ فِيهَا إِلَّا مَلِكَهُمْ فَإِنَّهُ أَسَرَهُ، وَسَاقَ مَوَاشِيَهُمْ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَشَمْوِيلَ: أَلَّا تَعْجَبَ مِنْ طَالُوتَ إِذْ أَمَرْتُهُ بِأَمْرِي فَاخْتَلَّ فِيهِ، فَجَاءَ بِمَلِكِهِمْ أَسِيرًا، وَسَاقَ مَوَاشِيَهُمْ! فَالْقَهُ. فَقُلْ لَهُ: لَأَنْـزَعَنَّ الْمُلْكَ مِنْ بَيْتِهِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَأُهِينُ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي! فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ!! لِمَ جِئْتَ بِمَلِكِهِمْ أَسِيرًا، وَلِمَ سُقْتَ مَوَاشِيَهُمْ؟ قَالَ: إِنَّمَا سُقْتُ الْمَوَاشِيَ لِأُقَرِّبَهَا. قَالَ لَهُ أَشَمْوِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَـزَعَ مِنْ بَيْتِكَ الْمُلْكَ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَشَمْوِيلَ: أَنِ انْطَلِقْ إِلَى إِيشَى، فَيَعْرِضُ عَلَيْكَ بَنِيهِ، فَادَّهِنِ الَّذِي آمُرُكَ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، يَكُنْ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى إِيشَى فَقَالَ: اعْرِضْ عَلَيَّ بَنِيكَ! فَدَعَا إِيشَى أَكْبَرَ وَلَدِهِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ جَسِيمٌ حَسَنُ الْمَنْظَرِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَشَمْوِيلُ أَعْجَبَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَبَصِيرٌ بِالْعِبَادِ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ عَيْنَيْكَ يُبْصِرَانِ مَا ظَهَرَ، وَإِنِّي أَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ، لَيْسَ بِهَذَا! فَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا، اعْرِضْ عَلَيَّ غَيْرَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ سِتَّةً فِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَيْسَ بِهَذَا. فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ وَلَدٍ غَيْرِهِمْ؟ فَقَالَ: بَلَى! لِي غُلَامٌ أَمْغَرُ، وَهُوَ رَاعٍ فِي الْغَنَمِ. فَقَالَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ دَاوُدُ، جَاءَ غُلَامٌ أَمْغَرُ، فَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ وَقَالَ لِأَبِيهِ: اكْتُمْ هَذَا، فَإِنَّ طَالُوتَ لَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ قَتَلَهُ. فَسَارَ جَالُوتُ فِي قَوْمِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَسْكَرَ، وَسَارَ طَالُوتُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَسْكَرَ، وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ. فَأَرْسَلَ جَالُوتُ إِلَى طَالُوتَ: لِمَ يُقْتَلُ قَوْمِي وَقَوْمُكَ؟ ابْرُزْ لِي، أَوْ أَبْرِزْ لِي مَنْ شِئْتَ، فَإِنْ قَتَلْتُكَ كَانَ الْمُلْكُ لِي، وَإِنْ قَتَلْتَنِي كَانَ الْمُلْكُ لَكَ. فَأَرْسَلَ طَالُوتُ فِي عَسْكَرِهِ صَائِحًا: مَنْ يَبْرُزُ لِجَالُوتَ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَإِنَّ الْمَلِكَ يُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ، وَيُشْرِكُهُ فِي مُلْكِهِ. فَأَرْسَلَ إِيشَى دَاوُدَ إِلَى إِخْوَتِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ، هُوَ أِيشَى، وَلَكِنْ قَالَ الْمُحَدِّثُ: إِشَى وَكَانُوا فِي الْعَسْكَرِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَزَوِّدْ إِخْوَتَكَ، وَأَخْبِرْنِي خَبَرَ النَّاسِ مَاذَا صَنَعُوا؟ فَجَاءَ إِلَى إِخْوَتِهِ وَسَمِعَ صَوْتًا: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ: مَنْ يَبْرُزُ لِجَالُوتَ! فَإِنْ قَتَلَهُ أَنْكَحَهُ الْمَلِكُ ابْنَتَهُ. فَقَالَ دَاوُدُ لِإِخْوَتِهِ: مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يَبْرُزُ لِجَالُوتَ فَيَقْتُلُهُ وَيَنْكِحُ ابْنَةَ الْمَلِكِ؟ فَقَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ أَحْمَقُ! وَمَنْ يُطِيقُ جَالُوتَ، وَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْجَبَّارِينَ!! فَلَمَّا لَمْ يَرَهُمْ رَغِبُوا فِي ذَلِكَ قَالَ: فَأَنَا أَذْهَبُ فَأَقْتُلُهُ! فَانْتَهَرُوهُ وَغَضِبُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا غَفَلُوا عَنْهُ ذَهَبَ حَتَّى جَاءَ الصَّائِحُ فَقَالَ: أَنَا أَبْرُزُ لِجَالُوتَ! فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: لَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ إِلَّا غُلَامٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هُوَ هَذَا! قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ تَبْرُزُ لِجَالُوتَ فَتُقَاتِلُهُ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَهَلْ آنَسْتَ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ رَاعِيًا فِي الْغَنَمِ فَأَغَارَ عَلَيَّ الْأَسَدُ، فَأَخَذْتُ بِلِحْيَيْهِ فَفَكَكْتُهُمَا. فَدَعَا لَهُ بِقَوْسٍ وَأَدَاةٍ كَامِلَةٍ، فَلَبِسَهَا وَرَكِبَ الْفَرَسَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهُمْ قَرِيبًا، ثُمَّ صَرَفَ فَرَسَهُ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ الْمَلِكُ وَمَنْ حَوْلَهُ: جَبُنَ الْغُلَامُ! فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ دَاوُدُ: إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ اللَّهُ لِي، لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا الْفَرَسُ وَهَذَا السِّلَاحُ! فَدَعْنِي فَأُقَاتِلُ كَمَا أُرِيدُ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ. فَأَخَذَ دَاوُدُ مِخْلَاتَهُ فَتَقَلَّدَهَا، وَأَلْقَى فِيهَا أَحْجَارًا، وَأَخَذَ مِقْلَاعَهُ الَّذِي كَانَ يَرْعَى بِهِ، ثُمَّ مَضَى نَحْوَ جَالُوتَ. فَلَمَّا دَنَا مِنْ عَسْكَرِهِ قَالَ: أَيْنَ جَالُوتُ يَبْرُزُ لِي؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ السِّلَاحُ كُلُّهُ، فَلَمَّا رَآهُ جَالُوتُ قَالَ: إِلَيْكَ أَبْرُزُ؟! قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَأَتَيْتَنِي بِالْمِقْلَاعِ وَالْحَجَرِ كَمْا يُؤْتَى إِلَى الْكَلْبِ! قَالَ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: لَا جَرَمَ أَنِّي سَوْفَ أُقَسِّمُ لَحْمَكَ بَيْنَ طَيْرِ السَّمَاءِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ! قَالَ دَاوُدُ: أَوْ يُقَسِّمُ اللَّهُ لَحْمَكَ! فَوَضَعَ دَاوُدُ حَجَرًا فِي مِقْلَاعِهِ ثُمَّ دَوَّرَهُ فَأَرْسَلَهُ نَحْوَ جَالُوتَ، فَأَصَابَ أَنْفَ الْبَيْضَةِ الَّتِي عَلَى جَالُوتَ حَتَّى خَالَطَ دِمَاغَهُ، فَوَقَعَ مِنْ فَرَسِهِ. فَمَضَى دَاوُدُ إِلَيْهِ فَقَطَعَ رَأْسَهُ بِسَيْفِهِ، فَأَقْبَلَ بِهِ فِي مِخْلَاتِهِ، وَبِسَلْبِهِ يَجُرُّهُ، حَتَّى أَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ، فَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا. وَانْصَرَفَ طَالُوتُ، فَلَمَّا كَانَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ سَمِعَ النَّاسَ يَذْكُرُونَ دَاوُدَ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ. فَجَاءَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: أَعْطِنِي امْرَأَتِي! فَقَالَ: أَتُرِيدُ ابْنَةَ الْمَلِكِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: مَا اشْتَرَطْتَ عَلَيَّ صَدَاقًا، وَمَا لِي مِنْ شَيْءٍ!! قَالَ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا مَا تُطِيقُ، أَنْتَ رَجُلٌ جَرِيءٌ، وَفِي جِبَالِنَا هَذِهِ جَرَاجِمَةٌ يَحْتَرِبُونَ النَّاسَ، وَهُمْ غُلْفٌ، فَإِذَا قَتَلْتَ مِنْهُمْ مِئَتَيْ رَجُلٍ فَأْتِنِي بِغُلُفِهِمْ. فَجَعَلَ كُلَّمَا قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلَا نَظَمَ غُلْفَتَهُ فِي خَيْطٍ، حَتَّى نَظَمَ مِئَتَيْ غُلْفَةً. ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ إِلَى طَالُوتَ فَأَلْقَى بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ: ادْفَعْ إِلَيَّ امْرَأَتِي، قَدْ جِئْتُ بِمَا اشْتَرَطْتَ. فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ ذِكْرَ دَاوُدَ، وَزَادَهُ عِنْدَ النَّاسِ عَجَبًا. فَقَالَ طَالُوتُ لِابْنِهِ: لَتَقْتُلَنَّ دَاوُدَ ! قَالَ: سُبْحَانَ اللَّه، لَيْسَ بِأَهْلِ ذَلِكَ مِنْكَ! قَالَ: إِنَّكَ غُلَامٌ أَحْمَقُ! مَا أَرَاهُ إِلَّا سَوْفَ يُخْرِجُكَ وَأَهْلَ بَيْتِكَ مِنَ المُلْكِ! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ انْطَلَقَ إِلَى أُخْتِهِ فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ خِفْتُ أَبَاكِ أَنْ يَقْتُلَ زَوْجَكِ دَاوُدَ، فَمُرِيهِ أَنْ يَأْخُذَ حِذْرَهُ وَيَتَغَيَّبَ مِنْهُ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ ذَلِكَ، فَتَغَيَّبَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ طَالُوتُ مَنْ يَدْعُو لَهُ دَاوُدَ، وَقَدْ صَنَعَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى فِرَاشِهِ كَهَيْئَةِ النَّائِمِ وَلَحَّفَتْهُ. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ طَالُوتَ قَالَ: أَيْنَ دَاوُدُ؟ لِيُجِبِ الْمَلِكَ! فَقَالَتْ لَهُ: بَاتَ شَاكِيًا وَنَامَ الْآنَ، تَرَوْنَهُ عَلَى الْفِرَاشِ. فَرَجَعُوا إِلَى طَالُوتَ فَأَخْبَرُوهُ ذَلِكَ، فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: هُوَ نَائِمٌ لَمْ يَسْتَيْقِظْ بَعْدُ. فَرَجَعُوا إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا! فَجَاءُوا إِلَى الْفِرَاشِ فَلَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ أَحَدًا، فَجَاءُوا الْمَلِكَ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَتِهِ فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ تَكْذِبِينِ؟ قَالَتْ: هُوَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَخِفْتُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ أَمْرَهُ أَنْ يَقْتُلَنِي! وَكَانَ دَاوُدُ فَارًّا فِي الْجَبَلِ حَتَّى قُتِلَ طَالُوتُ وَمَلَكَ دَاوُدُ بَعْدَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍوقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ طَالُوتُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ، فَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ لِطَالُوتَ: مَاذَا لِي فَأَقْتُلُ جَالُوتَ؟ قَالَ: لَكَ ثُلُثُ مُلْكِي، وَأُنْكِحُكَ ابْنَتِي. فَأَخَذَ مِخْلَاتَهُ، فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرْوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّى حِجَارَتَهُ تِلْكَ: “إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ“، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ! فَخَرَجَ عَلَى “ إِبْرَاهِيمَ“، فَجَعَلَهُ فِي مَرْجَمَتِهِ، فَخَرَقَتْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ، وَقَتَلَتْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ وَرَائِهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَبَرَ يَوْمئِذٍ النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ أَبُو دَاوُدَ فِيمَنْ عَبَرَ، مَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا لَهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَصْغَرَ بَنِيهِ. فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، مَا أَرْمِي بِقَذَّافَتِيْ شَيْئًا إِلَّا صَرَعْتُهُ! فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ! فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ رِزْقَكَ فِي قَذَّافَتِكَ. ثُمَّ أَتَاهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، لَقَدْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْجِبَالِ فَوَجَدْتُ أَسَدًا رَابِضًا، فَرَكِبْتُ عَلَيْهِ فَأَخَذْتُ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يُهِجْنِي! قَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ! فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ يُعْطِيكَهُ اللَّهُ. ثُمَّ أَتَاهُ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ إِنِّي لَأَمْشِي بَيْنَ الْجِبَالِ فَأُسَبِّحُ، فَمَا يَبْقَى جَبَلٌ إِلَّا سَبَحَ مَعِي! فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ! فَإِنَّ هَذَا خَيْرٌ أَعْطَاكَهُ اللَّهُ. وَكَانَ دَاوُدُ رَاعِيًا، وَكَانَ أَبُوهُ خَلْفَهُ يَأْتِي إِلَيْهِ وَإِلَى إِخْوَتِهِ بِالطَّعَامِ. فَأَتَى النَّبِيُّ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] بِقَرْنٍ فِيهِ دُهْنٌ، وسِنَّوْرٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى طَالُوتَ فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمُ الَّذِي يَقْتُلُ جَالُوتَ يُوضَعُ هَذَا الْقَرْنُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَغْلِي حَتَّى يَدْهُنَ مِنْهُ، وَلَا يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، يَكُونُ عَلَى رَأْسِهِ كَهَيْئَةِ الْإِكْلِيلِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا السِّنَّوْرِ فَيَمْلَأُهُ. فَدَعَا طَالُوتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَرَّبَهُمْ بِهِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَلَمَّا فَرَغُوا، قَالَ طَالُوتُ لِأَبِي دَاوُدَ: هَلْ بَقِيَ لَكَ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَشْهَدْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ! بَقِيَ ابْنِي دَاوُدُ، وَهُوَ يَأْتِينَا بِطَعَامٍ. فَلَمَّا أَتَاهُ دَاوُدُ، مَرَّ فِي الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَكَلَّمْنَهُ وَقُلْنَ لَهُ: خُذْنَا يَا دَاوُدُ تَقْتُلُ بِنَا جَالُوتَ! قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ فَجَعَلَهُنَّ فِي مِخْلَاتِهِ. وَكَانَ طَالُوتُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي وَأَجْرَيْتُ خَاتَمَهُ فِي مُلْكِي. فَلَمَّا جَاءَ دَاوُدُ، وَضَعُوا الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ فَغَلَى حَتَّى ادَّهَنَ مِنْهُ، وَلَبِسَ السِّنَّوْرَ فَمَلَأَهُ وَكَانَ رَجُلًا مِسْقَامًا مُصْفَارًّا وَلَمْ يَلْبَسْهُ أَحَدٌ إِلَّا تَقَلْقَلَ فِيهِ. فَلَمَّا لَبِسَهُ دَاوُدُ تَضَايَقَ الثَّوْبُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنَقَّضَ. ثُمَّ مَشَى إِلَى جَالُوتَ وَكَانَ جَالُوتُ مِنْ أَجْسَمِ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى دَاوُدَ قُذِفَ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا فَتَى! ارْجِعْ، فَإِنِّي أَرْحَمُكَ أَنْ أَقْتُلَكَ! قَالَ دَاوُدُ: لَا بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ! فَأَخْرَجَ الْحِجَارَةَ فَجَعَلَهَا فِي الْقَذَّافَةِ، كُلَّمَا رَفَعَ حَجَرًا سَمَّاهُ، فَقَالَ: هَذَا بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيم، وَالثَّانِي بَاسِمِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالثَّالِثُ بَاسِمِ أَبِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ أَدَارَ الْقَذَّافَةَ فَعَادَتِ الْأَحْجَارُ حَجَرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَصَكَّ بِهِ بَيْنَ عَيْنَيْ جَالُوتَ، فَنَقَبَتْ رَأْسَهُ فَقَتَلَتْهُ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تَقْتُلُ كُلَّ إِنْسَانٍ تُصِيبُهُ، تَنْفُذُ مِنْهُ حَتَّى لَمْ يَكُنْ يَحْيَا لَهَا أَحَدٌ. فَهَزَمُوهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَرَجَعَ طَالُوتُ، فَأَنْكَحَ دَاوُدَ ابْنَتَهُ، وَأَجْرَى خَاتَمَهُ فِي مُلْكِهِ. فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ فَأَحَبُّوهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ طَالُوتُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَحَسَدَهُ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ. فَعَلِمَ بِهِ دَاوُدُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ، فَسَجَّى لَهُ زِقَّ خَمْرٍ فِي مَضْجَعِهِ، فَدَخَلَ طَالُوتُ إِلَى مَنَامِ دَاوُدَ وَقَدْ هَرَبَ دَاوُدُ، فَضَرَبَ الْزِّقَ ضَرْبَةً فَخَرَقَهُ، فَسَالَتِ الْخَمْرُ مِنْهُ، فَوَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي فِيهِ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ ! مَا كَانَ أَكْثَرَ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ!! ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ مِنَ القَابِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَوَضَعَ سَهْمَيْنِ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ سَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ نَـزَلَ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَالُوتُ بَصُرَ بِالسِّهَامِ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ دَاوُدَ ! هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ظَفِرْتُ بِهِ فَقَتَلْتُهُ، وَظَفَرَ بِي فَكَفَّ عَنِّي! ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَوَجَدَهُ يَمْشِي فِي الْبَرِّيَّةِ وَطَالُوتُ عَلَى فَرَسٍ، فَقَالَ طَالُوتُ: الْيَوْمَ أَقْتُلُ دَاوُدَ ! وَكَانَ دَاوُدُ إِذَا فَزِعَ لَا يُدْرَكُ فَرَكَضَ عَلَى أَثَرِهِ طَالُوتُ، فَفَزِعَ دَاوُدُ فَاشْتَدَّ فَدَخَلَ غَارًا، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْعَنْكَبُوتِ فَضَرَبَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا. فَلَمَّا انْتَهَى طَالُوتُ إِلَى الْغَارِ، نَظَرَ إِلَى بِنَاءِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ دَخَلَ هَاهُنَا لَخَرَقَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ!! فَخُيِّلَ إِلَيْهِ، فَتَرَكَهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ دَاوُدَ حِينَ أَتَاهُمْ كَانَ قَدْ جَعَلَ مَعَهُ مِخْلَاةً فِيهَا ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ. وَإِنَّ جَالُوتَ بَرَزَ لَهُمْ فَنَادَى: أَلَّا رَجُلٌ لِرَجُلٍ! فَقَالَ طَالُوتُ: مَنْ يَبْرُزُ لَهُ؟ وَإِلَّا بَرَزْتُ لَهُ؟ فَقَامَ دَاوُدُ فَقَالَ: أَنَا! فَقَامَ لَهُ طَالُوتُ فَشَدَّ عَلَيْهِ دِرْعَهُ، فَجَعَلَ يَرَاهُ يَشْخُصُ فِيهَا وَيَرْتَفِعُ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ طَالُوتُ، فَشَدَّ عَلَيْهِ أَدَاتَهُ كُلَّهَا وَإِنَّ دَاوُدَ رَمَاهُمْ بِحَجَرٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ، فَأَصَابَ فِي الْقَوْمِ، ثُمَّ رَمَى الثَّانِيَةَ بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ فِيهِمْ، ثُمَّ رَمَى الثَّالِثَةَ فَقَتَلَ جَالُوتَ. فَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَصَارَ هُوَ الرَّئِيسَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْطَوْهُ الطَّاعَةَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ: إِنَّ فِي وَلَدِ فُلَانٍ رَجُلًا يَقْتُلُ اللَّهُ بِهِ جَالُوتَ، وَمِنْ عَلَامَتِهِ هَذَا الْقَرْنُ تَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَفِيضُ مَاءً. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّ فِي وَلَدِكَ رَجُلًا يَقْتُلُ اللَّهُ بِهِ جَالُوتَ! فَقَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَمْثَالَ السَّوَارِي، وَفِيهِمْ رَجُلٌ بَارِعٌ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى الْقَرْنِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، فَيَقُولُ لِذَلِكَ الْجَسِيمِ: ارْجِعْ! فَيُرَدِّدُهُ عَلَيْهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّا لَا نَأْخُذُ الرِّجَالَ عَلَى صُوَرِهِمْ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُهُمْ عَلَى صَلَاحِ قُلُوبِهِمْ. قَالَ: يَا رَبِّ، قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَدُ غَيْرُهُ! فَقَالَ: كَذَبَ! فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي قَدْ كَذَّبَكَ! وَقَالَ: إِنَّ لَكَ وَلَدًا غَيْرَهُمْ! فَقَالَ: صَدَقَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، . لِي وَلَدٌ قَصِيرٌ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، فَجَعَلْتُهُ فِي الْغَنَمِ! قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، مِنْ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَ الْوَادِيَ قَدْ سَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَ يُرِيحُ إِلَيْهَا، قَالَ: وَوَجَدَهُ يَحْمِلُ شَاتَيْنِ يُجِيزُ بِهِمَا وَلَا يَخُوضُ بِهِمَا السَّيْلَ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: هَذَا هُوَ لَا شَكَّ فِيهِ! هَذَا يَرْحَمُ الْبَهَائِمَ، فَهُوَ بِالنَّاسِ أَرْحَمُ! قَالَ: فَوَضَعَ الْقَرْنَ عَلَى رَأْسِهِ فَفَاضَ. فَقَالَ لَهُ: ابْنَ أَخِي! هَلْ رَأَيْتَ هَاهُنَا مِنْ شَيْءٍ يُعْجِبُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا سَبَّحْتُ، سَبَّحَتْ مَعِيَ الْجِبَالُ، وَإِذَا أَتَى النَّمِرُ أَوِ الذِّئْبُ أَوِ السَّبُعُ أَخَذَ شَاةً، قُمْتُ إِلَيْهِ فَأَفْتَحُ لِحْيَيْهِ عَنْهَا فَلَا يُهِيجُنِي! قَالَ: وَأَلْفَى مَعَهُ صُفْنَهُ. قَالَ: فَمَرَّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يُنْتَزَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقُولُ: أَنَا الَّذِي يَأْخُذُ! وَيَقُولُ هَذَا: لَا! بَلْ إِيَّايَ يَأْخُذُ! وَيَقُولُ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ جَمِيعًا فَطَرَحَهُنَّ فِي صُفْنِهِ. فَلَمَّا جَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجُوا، قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}، فَكَانَ مِنْ قِصَّةِ نَبِيِّهِمْ وَقِصَّتِهِمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. قَالَ: وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ وَكَانُوا جَمِيعًا، وَقَرَأَ: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وَبَرَزَ جَالُوتُ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ أَبْلَقَ، فِي يَدِهِ قَوْسُ نُشَّابٍ، فَقَالَ: مَنْ يَبْرُزُ؟ أَبْرِزُوا إِلَيَّ رَأْسَكُمْ! قَالَ: فَفَظِعَ بِهِ طَالُوتُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْفِينِي الْيَوْمَ جَالُوتَ؟ فَقَالَ دَاوُدُ: أَنَا. فَقَالَ: تَعَالَ! قَالَ: فَنَـزَعَ دِرْعًا لَهُ، فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهَا. قَالَ: وَنَفَخَ اللَّهُ مِنْ رُوحِهِ فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ. قَالَ: فَرَمَى بِنَشَّابَةٍ فَوَضَعَهَا فِي الدِّرْعِ. قَالَ: فَكَسَرَهَا دَاوُدُ وَلَمْ تَضُرُّهُ شَيْئًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: خُذِ الْآنَ! فَقَالَ دَاوُدُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجَرًا وَاحِدًا. قَالَ: وَسَمَّى وَاحِدًا إِبْرَاهِيمَ، وَآخَرَ إِسْحَاقَ، وَآخَرَ يَعْقُوبَ. قَالَ: فَجَمَعَهُنَّ جَمِيعًا فَكُنَّ حَجَرًا وَاحِدًا. قَالَ: فَأَخَذَهُنَّ وَأَخَذَ مِقْلَاعًا، فَأَدَارَهَا لِيَرْمِيَ بِهَا فَقَالَ: أَتَرْمِينِي كَمَا يُرْمَى السَّبُعُ وَالذِّئْبُ؟ ارْمِنِي بِالْقَوْسِ! قَالَ: لَا أَرْمِيكَ الْيَوْمَ إِلَّا بِهَا! فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ: نَعَمْ! وَأَنْتَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الذِّئْبِ! فَأَدَارَهَا وَفِيهَا أَمْرُ اللَّهِ وَسُلْطَانُ اللَّهِ. قَالَ: فَخَلَّى سَبِيلَهَا مَأْمُورَةً. قَالَ: فَجَاءَتْ مِظَلَّةً فَضَرَبَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، ثُمَّ قَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِهِ وَرَاءَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَزَمَهُمُ اللَّه. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا قَطَعُوا ذَلِكَ يَعْنِي النَّهْرَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ طَالُوتَ لِجُنُودِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} وَجَاءَ جَالُوتُ، وَشَقَّ عَلَى طَالُوتَ قِتَالُهُ، فَقَالَ طَالُوتُ لِلنَّاسِ: لَوْ أَنَّ جَالُوتَ قُتِلَ، أَعْطَيْتُ الَّذِي يَقْتُلُهُ نِصْفَ مُلْكِي، وَنَاصَفْتُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ! فَبَعَثَ اللَّهُ دَاوُدَ وداودُ يَوْمئِذٍ فِي الْجَبَلِ رَاعِي غَنَمٍ، وَقَدْ غَزَا مَعَ طَالُوتَ تِسْعَةُ إِخْوَةٍ لِدَاوِدَ، وَهُمْ أَبَدُّ مِنْهُ، وَأَغْنَى مِنْهُ، وَأَعْرَفُ فِي النَّاسِ مِنْهُ، وَأَوْجَهُ عِنْدَ طَالُوتَ مِنْهُ، فَغَزَوْا وَتَرَكُوهُ فِي غَنَمِهِمْ فَقَالَ دَاوُدُ حِينَ أَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا أَلْقَى، وَأَكْرَمَهُ: لَأَسْتَوْدِعَنَّ رَبِّي غَنَمِي الْيَوْمَ، وَلَآتِيَنَّ النَّاسَ، فَلَأَنْظُرَنَّ مَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ قَوْلِ الْمَلِكِ لِمَنْ قَتَلَ جَالُوتَ! فَأَتَى دَاوُدُ إِخْوَتَهُ، فَلَامُوهُ حِينَ أَتَاهُمْ، فَقَالُوا: لِمَ جِئْتَ؟ قَالَ: لِأَقْتُلَ جَالُوتَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ أَقْتُلَهُ. فَسَخِرُوا مِنْهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ بَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَأَخَذَ مِخْلَاةً فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرْوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّاهُنَّ “ إِبْرَاهِيمَ “ وَ“ إِسْحَاقَ “ وَ“ يَعْقُوبَ “ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالُوا: وَهُوَ ضَعِيفٌ رَثٌّ الْحَالِ، فَمَرَّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَقُلْنَ لَهُ: خُذْنَا يَا دَاوُدُ فَقَاتِلْ بِنَا جَالُوتَ! فَأَخَذَهُنَّ دَاوُدُ وَأَلْقَاهُنَّ فِي مِخْلَاتِهِ. فَلَمَّا أَلْقَاهُنَّ سَمِعَ حَجَرًا مِنْهُنَّ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا حَجْرُ هَارُونَ الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الثَّانِي: أَنَا حَجْرُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ بِي مَلِكَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الثَّالِثُ: أَنَا حَجَرُ دَاوُدَ الَّذِي أَقْتُلُ جَالُوتَ! فَقَالَ الْحَجَرَانِ: يَا حَجَرَ دَاوُدَ، نَحْنُ أَعْوَانٌ لَكَ! فَصِرْنَ حَجَرًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْحَجَرُ: يَا دَاوُدُ، اقْذِفْ بِي، فَإِنِّي سَأَسْتَعِينُ بِالرِّيحِ وَكَانَتْ بَيْضَتُهُ، فِيمَا يَقُولُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِيهَا سِتُّمِئَةِ رِطْلٍ فَأَقَعُ فِي رَأْسِ جَالُوتَ فَأَقْتُلُهُ! قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّى وَاحِدًا إِبْرَاهِيمَ، وَالْآخِرَ إِسْحَاقَ، وَالْآخِرَ يَعْقُوبَ، وَقَالَ: بِاسْمِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ! وَجَعَلَهُنَّ فِي مِرْجَمَتِهِ- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَانْطَلَقَ حَتَّى نَفَذَ إِلَى طَالُوتَ فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ لِمَنْ قَتَلَ جَالُوتَ نِصْفَ مُلْكِكَ وَنِصْفَ كُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ! أَفَلِيَ ذَلِكَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! وَالنَّاسُ يَسْتَهْزِئُونَ بِدَاوُدَ، وَإِخْوَةُ دَاوُدَ أَشَدُّ مَنْ هُنَالِكَ عَلَيْهِ. وَكَانَ طَالُوتُ لَا يُنْتَدَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْتُلُ جَالُوتَ إِلَّا أَلْبَسَهُ دِرْعًا عِنْدَهُ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قَدْرًا عَلَيْهِ نَـزَعَهَا عَنْهُ. وَكَانَتْ دِرْعًا سَابِغَةً مِنْ دُرُوعِ طَالُوتَ، فَأَلْبَسَهَا دَاوُدَ، فَلَمَّا رَأَى قَدْرَهَا عَلَيْهِ أَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ. فَتَقَدَّمَ دَاوُدُ، فَقَامَ مَقَامًا لَا يَقُومُ فِيهِ أَحَدٌ، وَعَلَيْهِ الدِّرْعُ. فَقَالَ لَهُ جَالُوتُ: وَيَحَكَ! مَنْ أَنْتَ؟ إِنِّي أَرْحَمُكَ! لِيَتَقَدَّمَ إِلَيَّ غَيْرُكَ مِنْ هَذِهِ الْمُلُوكِ! أَنْتَ إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ مِسْكِينٌ! فَارْجِعْ. فَقَالَ دَاوُدُ: أَنَا الَّذِي أَقْتُلُكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَلَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَقْتُلَكَ! فَلَمَّا أَبَى دَاوُدُ إِلَّا قِتَالَهُ، تَقَدَّمَ جَالُوتُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ بِيَدِهِ مُقْتَدِرًا عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ الْحَجَرَ مِنَ المِخْلَاةِ، فَدَعَا رَبَّهُ وَرَمَاهُ بِالْحَجَرِ، فَأَلْقَتِ الرِّيحُ بَيْضَتَهُ عَنْ رَأْسِهِ، فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي رَأْسِ جَالُوتَ حَتَّى دَخَلَ فِي جَوْفِهِ فَقَتَلَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا رَمَى جَالُوتُ بِالْحَجَرِ خَرَقَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ، وَقَتَلَتْ مِنْ وَرَائِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ“. فَقَالَ دَاوُدُ لِطَالُوتَ: فِ لِي بِمَا جَعَلْتَ. فَأَبَى طَالُوتُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ. فَانْطَلَقَ دَاوُدُ فَسَكَنَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى مَاتَ طَالُوتُ. فَلَمَّا مَاتَ عَمَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى دَاوُدَ فَجَاءُوا بِهِ فَمَلَّكُوهُ، وَأَعْطَوْهُ خَزَائِنَ طَالُوتَ، وَقَالُوا: لَمْ يَقْتُلْ جَالُوتَ إِلَّا نَبِيٌّ! قَالَ اللَّهُ: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَأَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ “ وَالْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ: “وَآتَاهُ اللَّهُ“، عَائِدَةٌ عَلَى دَاوُدَ “ وَالْمُلْكَ “ السُّلْطَانُ “ وَالْحِكْمَةُ“، النُّبُوَّةُ. وَقَوْلُهُ: “وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ“، يَعْنِي: عَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَالتَّقْدِيرَ فِي السَّرْدِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 80]. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}، أَنَّ اللَّهَ آتَى دَاوُدَ مُلْكَ طَالُوتَ وَنُبُوَّةَ أَشَمْوِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: مُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَمَا قَتَلَ طَالُوتَ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}، قَالَ: الْحِكْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ، آتَاهُ نُبُوَّةَ شَمْعُونَ وَمُلْكَ طَالُوتَ.
|