الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز} قوله تعالى{فلما جاء أمرنا} أي عذابنا. }نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا} تقدم. }ومن خزي يومئذ} أي ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي من فضيحته وذلته. وقيل: الواو زائدة؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع }لما} و}حتى} لا غير. وقرأ نافع والكسائي }يومئذ} بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة }يوم} إلى }إذ} وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ }ومن خزي يومئذ} أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في }يومئذ}. قال النحاس: الذي يرويه النحويون: مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا: الإخفاء؛ فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي. {وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} قوله تعالى{وأخذ الذين ظلموا الصيحة} أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحة جبريل. وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة؛ وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا{وأخذ الذين ظلموا الصيحة} وقال في الأعراف {كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} قوله تعالى{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} هذه قصة لوط عليه السلام؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. (وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام)؛ قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدي: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذو وضاءة وجمال بارع. }بالبشري} قيل: بالولد. وقيل: بإهلاك قوم لوط. وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. }قالوا سلاما} نصب بوقوع الفعل عليه؛ كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله قوله تعالى{فما لبث أن جاء} }أن} بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين؛ حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء. وقيل{أن} في موضع نصب بسقوط حرف الجر؛ التقدير: فما لبث عن أن جاء؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل؛ فلما حذف حرف الجر بقي }أن} في محل النصب. وفي }لبث} ضمير اسم إبراهيم. و}ما} نافية؛ قال سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي ما أبطأ مجيئه؛ فأن في موضع رفع، ولا ضمير في }لبث}، و}ما} نافية؛ ويصح أن تكون }ما} بمعنى الذي، وفي }لبث} ضمير إبراهيم و}أن جاء} خبر }ما} أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و}حنيذ} مشوي. وقيل: هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ؛ فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب من المدينة. وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: (حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ)؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال. في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في }البقرة} وليست بواجبة عند عامة أهل العلم؛ اختلف العلماء فيمن يخاطب بها؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ من أين علم أنه قليل؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم؛ وعجل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه. السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم }نكرهم وأوجس منهم خيفة} أي أضمر. وقيل: أحس؛ والوجوس الدخول؛ قال الشاعر: {خيفة} خوفا؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا؛ فقالت الملائكة }لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط} من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبدالملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟ ! والله لا أكلت معك. قلت: وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} قوله تعالى{قلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} يقول: أنكرهم؛ تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته؛ قال الشاعر: فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك. {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} قوله تعالى{وامرأته قائمة} ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود }وامرأته قائمة وهو قاعد}. }فضحكت} قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة؛ تحقيقا للبشارة؛ وأنشد على ذلك اللغويون: وقال آخر: والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة؛ أخذ من قولهم: (ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت). وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه؛ فقيل: هو ضحك التعجب؛ قال أبو ذؤيب: وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة؛ وإنما هو كناية. وروي أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله{وامرأته قائمة} أي قائمة في خدمتهم. ويقال{قائمة} لروع إبراهيم }فضحكت} لقولهم{لا تخف} سرورا بالأمن. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير؛ المعنى: فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيت فلانا ضاحكا؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك؛ أي مشرقة. قاله الجوهري: ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن؛ فقال لهم{ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره} فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة. ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدري ما الله؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى؟ فأخبره بالأمر؛ فقال: هذا رب كريم، آمنت؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا. قوله تعالى{فبشرناها بإسحاق} لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. }ومن وراء إسحاق يعقوب} قرأ حمزة وعبدالله بن عامر }يعقوب} بالنصب. ورفع الباقون؛ فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في }من} كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون }يعقوب} في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض؛ قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما فرقت بين الجار والمجرور؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو. {قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب} قوله تعالى{يا ويلتا} قال الزجاج: أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و}أألد} استفهام معناه التعجب. }وأنا عجوز} أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا. قوله تعالى{وهذا بعلي شيخا} }وهذا بعلي} أي زوجي. }شيخا} نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. }وهذا بعلي} ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفي قراءة ابن مسعود وأبي }وهذا بعلي شيخ} قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون }هذا} مبتدأ }وزيد قائم} خبرين؛ وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عرضت بقولها{وهذا بعلي شيخا} أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. }إن هذا لشيء عجيب} أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب. {قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} قوله تعالى{قالوا أتعجبين من أمر الله} لما قالت{وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا} وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه. وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في }الصافات} إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{رحمة الله وبركاته} مبتدأ، والخبر }عليكم}. وحكى سيبويه }عليكم} بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. }أهل البيت} نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء. هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام }وبركاته} كما أخبر الله عن صالحي عباده }رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}. والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: (إن السلام انتهى إلى البركة). {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} قوله تعالى{فلما ذهب عن إبراهيم الروع} أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة: {وجاءته البشرى} أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. }يجادلنا} أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا قوله تعالى{يا إبراهيم أعرض عن هذا} أي دع عنك الجدال في قوم لوط. }إنه قد جاء أمر ربك} أي عذابه لهم. }إنهم آتيهم} أي نازل بهم. }عذاب غير مردود} أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع. {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب} قوله تعالى{ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم. }سيء بهم} أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت{سي بهم} مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. }وضاق بهم ذرعا} أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. }وقال هذا يوم عصيب} أي شديد في الشر. وقال الشاعر: وقال آخر: ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق. {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد} قوله تعالى{وجاءه قومه يهرعون إليه} في موضع الحال. }يهرعون} أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل: وقال آخر: وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان. وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا }يهرعون} أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: (}يهرعون} يهرولون). الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى. وقال الحسن: مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة. قوله تعالى{ومن قبل} أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط. }كانوا يعملون السيئات} أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال{هؤلاء بناتي} ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله{هؤلاء بناتي} فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله{بناتي} إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. قوله تعالى{هن أطهر لكم} ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: (كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته). وليس ألف }أطهر} للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قوله تعالى{فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان: مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة: وقال آخر: وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر: ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله{أليس منكم رجل رشيد} أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل{رشيد} أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم. {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} قوله تعالى{قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى{قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. }وإنك لتعلم ما نريد} إشارة إلى الأضياف. {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} قوله تعالى{قال لو أن لي بكم قوة} لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. }لو أن لي بكم قوة} أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و}أن} في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في }أن} التابعة لـ }لو}. وجواب }لو} محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. }أو آوي إلى ركن شديد} أي ألجأ وأنضوي. وقرئ }أو آوي} بالنصب عطفا على }قوة} كأنه قال{لو أن لي بكم قوة} أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار }أن}. ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} قوله تعالى{قالوا يا لوط إنا رسل ربك} لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. }لن يصلوا إليك} أي بمكروه }فأسر بأهلك} قرئ }فاسر} بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى وقال آخر: وقد قيل{فأسر} بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد: وقال عبدالله بن رواحة: {بقطع من الليل} قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع من الليل. وكلها متقاربة؛ وقيل: إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر: فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى }بقطع من الليل}؟ فالجواب: أنه لو لم يقل{بقطع من الليل} جاز أن يكون أوله. }ولا يلتفت منكم أحد} أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. }إلا امرأتك} بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود }فأسر بأهلك إلا امرأتك} فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} قوله تعالى{فلما جاء أمرنا} أي عذابنا. }جعلنا عاليها سافلها} وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة. مقاتل. أهلكت أربعة، ونجت ضعوه. وقيل: غير هذا، والله أعلم. قوله تعالى{وأمطرنا عليها حجارة من سجيل} دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في }الأعراف}. وفي التفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال: مطرت السماء وأمطرت: حكاه الهروي. واختلف في }السجيل} فقال النحاس: السجيل الشديد الكثير؛ وسجيل وسجين اللام والنون أختان. وقال أبو عبيدة: السجيل الشديد؛ وأنشد: قال النحاس: ورد عليه هذا القول عبدالله بن مسلم وقال: هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به؟! قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم؛ لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى؛ وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى؛ وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا؛ لأنه لا يقال: حجارة من شديد؛ لأن شديدا نعت. وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل. وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء. وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل. ويقال: سنك وكيل؛ بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا. وقيل: هو من لغة العرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين بدليل قوله وقال أهل المعاني: السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب؛ قال ابن مقبل: {منضود} قال ابن عباس: متتابع. وقال قتادة: نضد بعضها فوق بعض. وقال الربيع: نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا. وقال عكرمة: مصفوف. وقال بعضهم مرصوص؛ والمعنى متقارب. يقال: نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد؛ قال: وقال أبو بكر الهذلي: معد؛ أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. }مسومة} أي معلمة، من السيما وهي العلامة؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر: و{مسومة} من نعت حجارة. و}منضود} من نعت }سجيل}. وفي قوله{عند ربك} دليل على أنها ليست من حجارة الأرض؛ قاله الحسن. }وما هي من الظالمين ببعيد} يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد. {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} قوله تعالى{وإلى مدين أخاهم شعيبا} أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم بنو مدين بن إبراهيم؛ فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة؛ وقد تقدم في }الأعراف} هذا المعنى وزيادة. }قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} تقدم. }ولا تنقصوا المكيال والميزان} كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا له بغاية ما يقدرون؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. }إني أراكم بخير} أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم. وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. }وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد؛ أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب؛ فقيل: هو عذاب النار في الآخرة. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: غلاء السعر؛ روي معناه عن ابن عباس. {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} قوله تعالى{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. }بالقسط} أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. }ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. }ولا تعثوا في الأرض مفسدين} بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في }الأعراف} زيادة لهذا، والحمد لله. {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} قوله تعالى{بقية الله خير لكم} أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره. وقال مجاهد{بقية الله خير لكم} يريد طاعته. وقال الربيع: وصية الله. وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. }إن كنتم مؤمنين} شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. }وما أنا عليكم بحفيظ} أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم. {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} قوله تعالى{قالوا يا شعيب أصلواتك} وقرئ }أصَلاتُك} من غير جمع. }تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} }أن} في موضع نصب؛ قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء. وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. }أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس }أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء} بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس{أو أن} على هذه القراءة معطوفة على }أن} الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم. وقيل: معنى. }أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!. }إنك لأنت الحليم الرشيد} يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} قوله تعالى{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. مسألة: قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم. مسألة: قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك. مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبدالرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يرد إليه؛ فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء؛ فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى. قوله تعالى{ورزقني منه رزقا حسنا} أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل: المعنى }أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى }أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه. }وما أريد أن أخالفكم} في موضع نصب بـ }أريد}. }إلى ما أنهاكم عنه} أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. }إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال{ما استطعت} لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و}ما} مصدرية؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. }وما توفيقي} أي رشدي، والتوفيق الرشد. }إلا بالله عليه توكلت} أي اعتمدت. }وإليه أنيب} أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل: إليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو. {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} قوله تعالى{ويا قوم لا يجرمنكم} وقرأ يحيى بن وثاب }يُجْرِمَنَّكُمْ}. لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. }شقاقي} في موضع رفع. }أن يصيبكم} في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة. وقيل: لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى }يجرمنكم} في }المائدة} و}الشقاق} في }البقرة} وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل: وقال الحسن البصري: إضراري. وقال قتادة: فراقي. }وما قوم لوط منكم ببعيد} وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم. {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} قوله تعالى{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه} تقدم. }إن ربي رحيم ودود} اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب }الأسنى في شرح الأسماء الحسنى}. قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} قوله تعالى{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول} أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. }وإنا لنراك فينا ضعيفا} قيل: إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له: مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و}ضعيفا} نصب على الحال. }ولولا رهطك} رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى }لرجمناك} لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى }لرجمناك} لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي: والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم. }وما أنت علينا بعزيز} أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع. {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط} قوله تعالى{قال يا قوم أرهطي} }أرهطي} رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم }أعز عليكم من الله} وأعظم وأجل وهو يملككم. }واتخذتموه وراءكم ظهريا} أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في }البقرة}، }إن ربي بما تعملون} أي من الكفر والمعصية. }محيط} أي عليم. وقيل: حفيظ. {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب} قوله تعالى{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون} تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في }الأنعام}. }من يأتيه عذاب يخزيه} أي يهلكه. و}من} في موضع نصب، مثل {وارتقبوا إني معكم رقيب} أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة. {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} قوله تعالى{ولما جاء أمرنا} قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم }وأخذت الذين ظلموا الصيحة} أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح{وأخذ الذين ظلموا الصيحة} فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. }فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ }كما بعدت ثمود} بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من }بعدت} فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني. {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} قوله تعالى{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة }بآياتنا} أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. }وسلطان مبين} أي حجة بينة؛ يعني العصا. وقد مضى في }آل عمران} معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. }إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون} أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. }وما أمر فرعون برشيد} أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل{برشيد} أي بمرشد إلى خير. {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} قوله تعالى{يقدم قومه يوم القيامة} يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. }فأوردهم النار} أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي؛ والمعنى فيوردهم النار؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. }وبئس الورد المورود} أي بئس المدخل المدخول؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك. والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد؛ وهو بمعنى المفعول. {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} قوله تعالى{وأتبعوا في هذه لعنة} أي في الدنيا. }ويوم القيامة} أي ولعنة يوم القيامة؛ وقد تقدم هذا المعنى. }بئس الرفد المرفود} حكى الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفدا؛ أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد؛ أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم؛ قاله الجوهري، والتقدير: بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي: أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب؛ حكى ذلك عن الأصمعي؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل: إن الرفد الزيادة؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار؛ قاله الكلبي. {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} قوله تعالى{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} }ذلك} رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء؛ والمعنى: ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. }منها قائم وحصيد} قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر، والحصيد الخراب؛ قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد؛ قال الشاعر: وقال آخر: قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض؛ قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى. }وما ظلمناهم} أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم في }البقرة} مستوفى. }ولكن ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه }فما أغنت} أي دفعت. }عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون. }وما زادوهم غير تتبيب} أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد: والتباب الهلال والخسران؛ وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة. {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} قوله تعالى{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف }وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى} وعن الجحدري أيضا }وكذلك أخذ ربك} كالجماعة }إذ أخذ القرى}. قال المهدوي من قرأ{وكذلك أخذ ربك إذ أخذ} فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم؛ والمعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر؛ والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل }وهي ظالمة} أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل قوله تعالى{إن في ذلك لآية} أي لعبرة وموعظة. }ذلك يوم} ابتداء وخبر. }مجموع} من نعته. قوله تعالى{له الناس} اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع }الناس} بالابتداء، والخبر }مجموع له} فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير؛ لأن }له} يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم. }وذلك يوم مشهود} أي يشهده البر والفاجر؛ ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب }التذكرة} وبيناهما والحمد الله.
|